جعفر صادق الحسيني
04-11-2019, 09:44 PM
العفّة النسائيّة مسألة بالغة الأهميّة
ما من شكّ في أنّ الأديان جاءت لسعادة البشر وهداية الأنام لما فيه الصلاح والخير لهم، ولتخليتهم من الخصال الرذيلة وتزكيتهم من الصفات الذميمة، وتحليتهم بمكارم الأخلاق وجميل الطباع ومحامد الفعال، وليس هذا فحسب، وإنّما هناك فيها قضايا شرعيّة كثيرة تستهوي الضمائر الحيّة وتلامس القلوب الطيبّة وتخاطب الفطرة السليمة.
أجل، ومن تلك القضايا التي تستثير الوجدان اليقظ وتستميل الجوانح النقيّة في المجتمعات السويّة مسألة العفّة النسائيّة.
إنّ المناخ النظيف والمكان اللطيف والبيت العفيف والأجواء المماثلة تشعرك بالارتياح والأمان وتعطيك البهجة والاطمئنان، وهذه قضيّة لا غبار عليها ولا يحسن مطّ الكلام فيها، فقد جبلت النفوس الطاهرة عليها، لكن الشيطان وأعوانه لا يسرّهم هذا الطابع من الحياة ولا يرضيهم هذا اللون من العيش، لأنّ أصحاب العيوب يحبّون إشاعة معايب النّاس، ليتّسع لهم العذر في معايبهم كما ورد في الحِكم. راجع: عيون الحكم والمواعظ للشيخ الواسطي:257/ب9/ف1، وميزان الحكمة للشيخ الريشهري:3/2330/ب400/3132.
ولذا حاول اللعين - كما فعل من قبل في الأجيال الأُخرى - بواسطة أتباعه المنحرفين من أبالسة الأنس إلى تزيين المنكر بعيون أجيالنا ونشر الأباطيل بين أسرنا وفرض وسائل الهدم والانحلال في داخل بيوتنا، ومع الأسف استجاب لمكرهم وانقاد لخبثهم ووقع في أسرهم طائفة من أبناء وبنات جلدتنا، فانوجد في مجتمعاتنا المعاصرة الكثير الكثير ممّن تخطّى الثوابت وقفز على المسلّمات وانحرف عن الصواب ومال إلى قذارة الأحزاب ودنس الأذناب.
إنّ ممّا يحزّ في قلب الغيور الشريف ويوجع ضمير النجيب العفيف هو ما آلت إليه مجتمعاتنا من انحدار في قيمها وتفكّك في علاقاتها وتخبطّ في أفكارها وتساهل في ترك فروضها واستسهال بتقليد خصومها في الممنوعات ومحاكاة أعدائها في المحرمّات.
والذي ينكأ الجرح بصورة أكبر ويزيد من حدّة نزيفه هو تجاوز الكثير من نسائنا، سامحهنّ الله، قضيّة العفّة والستر والحياء المطلوب بعد ما ساق مترفو العصر مجموعة من الكلمات المعسولة الغشاشة ونثر قادة الفكر الغربي مواكب تنوير زائفة وبَذَرَ زُمر الاستكبار قوافل من المفردات اللذيذة الخدّاعة للتأثير على مدرسة الأجيال وحاضنة الأطفال وراعية الزوج والعيال ومن ثمّ تعطيل طاقاتها الخيّرة وتوقيف حصانتها الآسرة، فكان لهم ما أرادوا، فقد نمى ذلك وعاد عليهم بريع جسيم وفتح عظيم، ونجحوا في التمويه على عقول النّاس والضرب على الوتر الحسّاس، وانطلت اللعبة على الكثير من بناتنا وأخواتنا، ويا حسرة عليهنّ، فقد هرعن بشغف إلى استماع جوقة إبليس اللعين وطربن على إيقاع شياطين الأنس والجنّ، وصدّقن دعواتهم ووثقن بأخبارهم واستحسن خطاباتهم، فنزعن خمار الستر، وخلعن جلباب الحياء، وتخطّين حدود الحكيم البرّ، وطفقن يحتضنّ فكر هذا المعسكر، وسرن خلفهم سير الجند خلف قائده والأسير وراء آسره، واتّبعن رموزهم اتّباع الفصيل لأمّه، هذا فضلاً عن اندفاع بعضهن في الدفاع عن أفكارهم الآسنة وتحمّسهن في ترويج بضاعتهم المتعفّنة، والغريب أنّنا لم نجد الكثير منهنّ خاضعات هكذا ومسلّمات لثوابت الإسلام المعروفة وفروضه المقرّرة المعلومة، فوقعن - من حيث يشعرن أو لا يشعرن - في مصائدهم الغدّارة وحبائلهم الغرارة ومزالقهم الجرّارة.
وليتهنّ، غفر الله لهن، أخذن من الغرب ما يتوافق مع دينهن ويتطابق مع شرعهن، ويدعن ما يخالف مرضاة خالقهن ويصادم عقيدتهن ويضرّ بإلتزامهن.
عموماً لم يكتف هؤلاء الطغاة الفجرة والشرذمة الوسخة الداعرة بما تقدّمت الإشارة إليه، فقد صحب ذلك تجنيد السواعد وتحشيد الهمم وإنشاء المراكز الهدّامة والمؤسّسات التخريبيّة لهذا الغرض اللئيم والهدف الخبيث، وأخفت خلف دعاياتها البرّاقة ظاهراً حقيقة نواياها الرديئة والسيئّة باطناً، وافتعلت قضايا غريبة، وضخّمت مسائل حسّاسة، فأبرزت شارة مظلوميّة المرأة والتحضّر وأظهرت شعار المدنيّة والإنسانيّة، وتحت هذه العناوين نماذج أخرى غُلّفت بداعي الموضة وبذريعة التحرّر وبحجّة التجديد، وما إلى ذلك.
ومن المعلوم أنّ هذه الشعارات المقنّعة المستوردة والمبادئ الوافدة علينا أفكار ضالّة ونظريّات زائغة وأطروحات باطلة.
ومن ههنا بدأت مسألة العفّة عندنا في مجتمعاتنا تتهاوى وقضيّة الحياء تتداعى.
ولا يخفى عليكم أنّ العفّة قضيّة مطلوبة من الرجال والنساء سواء، وقد مُدحت المرأة الصالحة في القرآن المجيد لمّا أعطت صورة مشرقة ومواقف بطوليّة مثلما مُدح الرجل الصالح، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ سورة التوبة:72، وقال عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ سورة الأحزاب:35.
ولكن كلامنا هنا مخصّص عن العنصر الأكثر تأثيراً وإثارة، وأعني بذلك العنصر النسوي، فهو بالإضافة إلى كونه نصف شرائح المجتمع فإنّه مربيّ الأجيال ومصنع المستقبل وسند الرجال. على أنّ الكثير من النقاط التي سنذكرها في هذا المقال تنطبق أيضاً على العنصر الذكوري بلا أدنى خلاف.
قلنا أنّ العفّة تمزّقت عند الكثير من نسائنا وأصبحت في خبر كان، فقد تأثّرت هذه النسوة بتلك الدعوات الهدّامة واستُغفلت، فأسرت عناوينها لبّها وسحرت قلبها وأُعجبت بها أيّما إعجاب، ووصل تمرّد بعضهن على القيم الصالحة واستهتارهن بالأعراف المستطابة إلى ترك مهمّات بيتها ورعاية أسرتها، ومالت إلى الحضور في محافل الغناء والطرب، ومشاهدة البرامج والمسلسلات الهابطة المفسدة، وإظهار ما على وجهها من مساحيق التجميل، وذهبت إلى المسابح ومقاهي النرجيلة وصالات الألعاب الرياضيّة المختلطة بلباس مُجسّم لمفاتنها أو فاضح عمّا تحته وكاشف عن محاسنها، ثمّ وصل التمادي ببعضهن في السنوات الأخيرة بشرب الترياق والمنكر، ونفخ المواضع المثيرة في جسدها وتوشيم الأعضاء المغرية وتضخيم المواطن الساخنة لأجل استمالة القلوب وإلفات الأنظار وإيقاع الفتنة وإلهاب المشاعر، فاستجاب لهنّ البعض فلاحقتها العيون الوقحة واشتهتها القلوب المريضة، وربّما لامستها الأيادي الأثيمة.
لقد لعب الشيطان الرجيم وجلاوزته في تلك الأجواء الملوّثة ببراعة وسجّل أرقاماً قياسيّة في تحطيم حواجز الورع والتقوى والخوف والرضوخ للشرع، فأصبح أدب وقداسة الزهراء وعفاف خديجة وحشمة مريم وطهارة زينب ونقاوة آسيا ونزاهة أم البنين وصفاء ونظافة زوجات أنبياء الله الصالحات وأوليائه ( عليهنّ جميعاً سلام الله وبركاته ) عند الكثير من النساء من القضايا الهامشيّة والمسائل الجانبية التي لا تلامس واقعهن ولا تعني لهنّ في حياتهن الكثير. ولذلك ضعف الرادع وكثر تفشّي الفساد الخلقي والإغواء الإبليسي، والتصرّف الصبياني، فانتشرت خيانة الأزواج واللعب من وراء ظهورهم، وتكوين العلاقات غير الشرعيّة بواسطة توفّر مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج الهاتف النقّال، واقتدى الصغير بفعل الطائش الكبير، وقلّد اليافع البالغ، وحاكى الفجّ الناضج، وتأثرّ بذلك القريب والغريب بشكل عجيب، فانزلق الكثير وجنح الجم الغفير، وتداول هذا النشاط والفعل الخسيس بين الأجيال، واعتادت عليه الكثير من العوائل، فدارت عجلة الإفساد هكذا دواليك، فأصبح هذا الجمع والمكوّن مصداقاً للتعاون على الإثم والعدوان والتهتّك والتفكّك.
نعم، بذلك تمّ تمييع القيم الصالحة والوعي وتقليل استشعار الاهتمام بها، وتخفيض نسبة الاكتراث بالمبادئ الحقّة وتسفيه مسألة اعتناقها، فلم تعد آيات فرض الحجاب، وعدم التبرّج، والنهي عن الخضوع بالقول، والزجر عن ترقيق الصوت بقصد، والمنع عن ضرب الأرض بالأرجل للإعلام والإلفات، وغضّ البصر عمّا حُرّم، وغيرها من الآيات المتعلّقة بهذه النواحي، ذات شأن عند هذه الثلّة التائهة المراهقة المستغوية ولا تحظى بالأهميّة المطلوبة عند تلك العصبة الساهيّة المستغربة.
حقاً إنّ هذه أحد المصائب الفظيعة، والحالات المزريّة الشنيعة، فبدل أن تكون الريحانة ( المرأة ) بذلك المستوى الرائع الذي يسهم في رفعة الجماهير ونهضة البلد وتحصين المجتمع، وبالأخص المجتمع الصغير ( الأسرة )، ضد الانحطاط والانحراف عن الصراط، تهبط إلى هذا المستوى المتدنّي وتنزلق في مضمار حقير واطي وتتدنّى لتصل إلى وضع رديّ، فقدت فيه آلة الضبط وأداة التمييز بأنّ هذا يقلّل من قيمتها ويحطّ من شأنها وخصوصيّتها، ويفقدها مكانها الطبيعي ووظيفتها الأساس ووزنها الاجتماعي.
والأفظع يا أُحبّتي أنّ هذا الوضع البائس والهزيل لا يقتصر على العنصر النسوي، فلو رجعنا إلى واقعنا لرأينا أفعال أكثر النّاس وتصرّفهم تسجّل خيبة عظيمة، وتدلّ على جناية فظيعة، وتُشعر بتلاشي تأكيدات الربّ المتعالي وإلزاماته وتهديداته ووعيده، وتنّم عن عدم وجود حساب وكتاب وكأنّه ليس هناك آخرة ومجازات وعقاب، فانظروا رحمكم الله إلى الجمع الغفير فسترونه سادراً في لهوه وغيّه وسائراً وراء ملذّاته ونزواته الباطلة لاهثاً خلف غرائزه وشهواته المحرّمة إلّا من رحم الله سبحانه وتعالى.
أبمثل هذه الأعمال تريدون مجاورة ربّكم.
ولا بدّ أن ندرك أنّه لا يصحّ تعليق هذا البلاء الذي يعمّ البلاد ويشمل العباد، نستجير بالله منه، على عاتق الاستكبار والطغاة والفجّار، فما كان الوضع ليكون هكذا إلّا بسبب آخر ينبغي عدم إغفاله وهو معاصينا وتساهلنا في أداء وظائفنا، حيث إنّ المجتمع بدأ في التفسّخ والتهتّك، ورفض القيم الأصيلة، ونبذ الأخلاق النبيلة، وتذمّر من مبادئه الجليلة، ورضي بفعل العصاة ولم يسخط جناياتهم ولم يمتعض من جرائمهم، فحلّ بنا ما حلّ.
أجل، هذه الكوارث العظمى التي تحلّ بنا أحد أسبابها جناية أيدينا وجريرة قياداتنا، وبالتالي فإنّ نقض العهود وتهاوي المبادئ واندثار القيم بالإضافة إلى ضعف الرقابة والإخلال بالمسؤوليّة أو غيابها تؤدي بشرائح المجتمع العريض إلى الانهيار والسقوط في الحضيض.
نعم، الرقابة والرعاية من العوامل الفائقة الأهميّة، التي يفترض أن لا تقتصر على تزويد الأبناء بالمال لتلبية حاجاتهم الضروريّة، فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيتّه، وقال الحقّ سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ سورة التحريم:6.
وبالتالي فإنّ مسؤوليّة تربية النشء تقع على عاتق الوالدين بالدرجة الأولى وعلى عاتق الدعاة ( العلماء ) والدولة ( السلطة ) بالدرجة الثانية.
وقد ورد في المأثور الإسلامي إيضاح ما لهذين الصنفين ( الفقهاء والأمراء ) من فاعليّة كبيرة في إصلاح المجتمع أو فساده، فقد روي أنّهما إذا صلحا صلحت الأمّة، وإذا فسدا فسدت الأمّة. راجع: الخصال للشيخ الصدوق:1/37/ب2/12، والجامع الصغير للشيخ السيوطي:2/101/حرف الصّاد/5047.
أخواتنا الفاضلات وبناتنا العزيزات لا يغيب عنكن أنّنا بأمسّ الحاجة لعفّتكن وحياءكن والأدب الرفيع والخلق الثمين المنبعث منكن، ونقول بلسان صادق وقلب يتحرّق حزناً لما آلت إليه أحوال الكثير منكن: عليكن بدينكن وعفّتكن، فالعفاف يصون النفس وينزّهها عن الدّنايا كما ورد في ميزان الحكمة:3/2006/ب 360/2756. بل جاء في نفس المصدر بأسلوب التحضيض على العفاف أنّه أفضل شيم الأشراف.
والحقيقة أنّه طالما أنّكن لا تتحلّين بالعفّة ولا تلتمسن التدرّع بأزياء الحشمة ولا تفتقدن خلع ثوب الحياء - مع أنّ الحياء قرين العفاف كما جاء في عيون الحكم والمواعظ:40/ب1/ف1، وروي أنّ قلّة الحياء من قلّة الدّين كما في كشف الخفاء للشيخ العجلوني:2/100/حرف القاف/1889، وهو ما كانت تتحلّى به ابنة نبيّ الله شعيب كما يصفها القرآن - فإنّ شبابنا وشيوخنا عرضة للوقوع في المحرّمات يستسهل حينها الفواحش ويستمرئ المنكرات، وتمسي حينئذٍ ديارنا هدفاً للخراب وواقعنا ينكفئ على الأعقاب، وقد حذّر النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديثه المسلمين ممّا هو قادم من فساد النساء وفسق الشباب. راجع: الكافي للشيخ الكليني:5/59/كتاب الجهاد/باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/14. ونحوه في المعجم الأوسط للشيخ الطبراني:9/129.
لقد عرف خبثاء الغرب أنّ تحطيم الحضارات يتمّ عن طريق هدم الأسرة والبدء بإفساد العنصر الأنثوي فيها، وتقويض التعليم، وإسقاط الرموز الشريفة والقدوة الصالحة.
ولم يكن تسليط الضوء من قبلهم على المرأة إلّا لكونها عنصراً فاعلاً واعتبارها ركناً هاماً في بناء الإنسان والأسرة، فإذا تخلخل الركن وتزعزع الأساس تضعضع البناء ومن ثمّ يؤول إلى الإندراس.
أعاذكم الله وإيّانا يا أبناء آدم وحواء من الفساد ومضلّات الفتن والفجور، ولذا نطلب من المرأة العاقلة بلطف وبلا أمر أن لا يكن همّك الملابس والمساحيق وشغفك الإكسسوارات والسفر، ولا تغترّي بجمالك ونضارتك وشبابك يا حواء، فإنّ زكاة الجمال العفاف كما ورد في ميزان الحكمة:3/2006/ب 360/2756، وكما قيل في بعض الحكم العربية: أنّ جمال المرأة في حيائها.
ولا ريب أن كلّ ذلك ( الجمال والشباب والرونق ) زائل، وأنّ صيت العفاف باق، بل العفاف والحياء أطهر لقلوبنا وقلوبكن وأسلم لديننا ودينكن، وأنتنّ لباس لنا ونحن لباس لكنّ.
ومن هذا المنطلق الذي يمجّد العفّة والحياء ندعو أخواتنا إلى طرح الأسئلة ذات الخصوصيّة الشديدة بالمرأة والتي قد تخدش حيائها أو تتحرّج منها أو يتحرّج المقابل منها، فلتطرحها على بنات جنسها من المتفقّهات لا على رجل الدّين مباشرة، وكذلك نفضّل أن يذهبن في ولاداتهن وعلاج بعض الأمراض الخاصّة إلى النساء المتمرّسات المتخصّصات لا إلى الأطباء الرجال رأساً.
وبالطبع فإنّ هناك حالات استثنائيّة يمكن معرفة حكمها من فقهاء الطائفة أو من خلال رسائل الأحكام الشرعيّة.
ونشدّ على أيديكن يا شقائقنا أن تتحلّين بالوعي المطلوب، والحجاب الصحيح الذي يشمل حجاب الجوانح وحجاب الجوارح، وأن لا تتوانين في المسارعة إلى طلب التوبة من الله العزيز الحكيم قبل حلول نقمته وتغيير نعمته، وثبن إلى رشدكن، وعدن إلى مجدكن، وترفّعن يا واعيات عن سفاسف الأمور والمثالب، وابتغين المعالي والمناقب، وتوجّهن إلى جوانب الحياة المشرقة وتطلّعن صوب الجهات المشعّة، لتغدين غداً إن شاء الله من الخيرات الحسان، ذلك أزكى لنا ولكنّ.
وأُذكّر الرجل الغيور وأُنبّه الرجل الصالح على ما جاء في المروي عن المعصوم من أنّه قال: ( عفّوا عن نساء النّاس تعفّ نساؤكم ). ميزان الحكمة:3/2006/ب 360/2756.
وممّا ينسجم مع هذا ما جاء من أنّ دليل غيرة الرجل عفّته كما في عيون الحكم والمواعظ:249/ب8/ف1، وميزان الحكمة:3/2008/ب 360/2758.
نعم، علينا أن نتوجّه بصدق إلى الخالق العظيم في طلب المغفرة وسداد أحوالنا والعون في ثبات أقدامنا كي لا تزلّ قدم بعد ثبوتها، فإنّ حسن الخاتمة هي الغاية التي نرجو أن نلاقي الله الرحمن الرحيم بها.
وغير خاف عليكم أيّها الأعزّة أنّ الملك المتعالي لم يُعجلّ بمؤاخذتنا بما كسبنا، ولم يغلق على أمثالنا من عباده الخاطئين أبواب رحمته، بل ترك باب التوبة مفتوحاً إلى أن يقترب ملك الموت رضي الله عنه لنزع الروح من جسدنا، وقطعاً هو سبحانه لم يتركه مفتوحاً إلّا وهو يريد أن يغفر لعباده، ويحبّذ لهم التوبة، ولكن بلا تسويف ولا مماطلة وتأجيل، لكون موعد الموت مجهول.
إذن فلنبادر إلى طرق باب التوبة قبل فوات الأوان، ولنعجّل بذلك لنلج إلى سعة الرحمة والرضوان.
ونجد من المناسب مع ما تقدّم نعني: قضيّة ( رحمة الله الواسعة ) طرح حديث العابد مع الشيطان، نذكر لكم خبره بصورة مجملة، روي أنّه كان هناك عابد في بني إسرائيل لم يُقارف من أمر الدّنيا شيئاً، أتاه أحد جنود اللعين إبليس إزاء موضعه وأخذ يتعبّد بصلاته رياء، فاستصغر العابد عمله، فطلب العابد منه طريقة يقوى بها على الصلاة مثله، فدلاه على امرأة بغيّة في المدينة لينال منها حاجته الجنسيّة، فذهب العابد إلى المدينة بثياب العبّاد يسأل عن منزلها فأرشده النّاس وظنّوا أنّه يريد وعظها، فالتقى بها وطلب مواقعتها، فأدخلته بيتها، ولكن لفتتها هيئة ملابسه فدعته لأن يُعلمها خبره، فأخبرها بأمره، فنصحته بترك الذنب، لأنّه أهون من طلب التوبة، وأخبرته أنّه ليس كلّ من طلب التوبة وجدها، وحذّرته من هذا الخبيث، وامتنعت عن مضاجعته، وطلبت منه الانصراف، فانصرف، وماتت هي من ليلتها، فأمر الله أحد أنبيائه بالصلاة عليها، وغفر سبحانه ذنبها وأوجب لها الجنّة بتثبيط عبده عن المعصية. راجع: روضة الكافي للكليني:8/384-385/ح584.
هذا، ولا يفوتنا ههنا تذكير الأبناء بما يتطلّب منهم فعله تجاه الوالدين وبما يستلزم القيام به لهما، فعليهم أن لا ينسوا معاناتهما في تربيتهم وتوفير لقمة معيشتهم وتهيئة وسائل راحتهم.
كما أنّه بدل أن نسمعهما كلمات غير لائقة ونجرح مشاعرهما بتصرّفات غير منضبطة ونتعالى عليهما لضعف شهادتهما مقارنة بشهادتنا ونتنكّر لخبرتهما ونشطب معرفتهما ونشجب نصائحهما، فإنّه يجب أن نستحضر مفردة البّر بهما وكبر سنّهما ونتذكّر عطفهما ونشكر حسن صنيعهما ونشفق عليهما ونسعى لمرضاتهما ونجاهد لحسن صحبتهما ومساعدتهما وخصوصاً في مرحلة الشيخوخة وتقبيل أياديهما المعطاءة. وليكن شعار أحدنا في هذه الدار الزائلة والدّنيا الفانية: حبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تركه لها.
وليعلم بناتي وأبنائي أنّ أيّ تقصير متعمّد في حقّهما قد يجلب علينا الشقاء والنكد وعدم التوفيق والسعادة، إنّها سنن وقوانين، يصعب القفز عليها، تطال خلق الله بمشيئته جلّ وعلا، فلنحذرها، فكما ندين ندان، وما نزرعه اليوم نحصده غداً.
كما نذكّر الرجال بما يجب عليهم من حسن المعاشرة بالمعروف مع زوجاتهم، وأن يكونوا على قدر المسؤوليّة في بيوتهم، وأن يراعوا حقوق القوارير ومن بكفالتهم، ويضعوا أحكام الله ووصياه فيها نصب أعينهم. الله الله في نسائكم وبناتكم، فنحن ملاقوا الله وإليه راجعون وسنسأل عمّا استرعانا البارئ عليهم ممّن هم تحت أيدينا.
ويجب أن نعلم أنّ هذا التذكير بالإضافة إلى أنّ فيه مرضاة الله سبحانه، فإنّه من الناحية العمليّة عامل مساعد في تفويت هجوم دعاة تحرّر المرأة وحفظ حقوقها المهضومة، كما أنّه باعث ضروري في نقض إشكالات وعّاظ ما يُسمّى بتنوير الفكر ومن يتصيّد بالماء العكر.
بقي شيء لا يمكن التغاضي عن خلله ونقده وهو أنّ مشكلة الكثير منّا أنّه يترك القضايا الأهم والرئيسيّة ويتشبّث بالمهمة أو الثانويّة، فتراه يقرأ القرآن كثيراً، وربّما كلّ يوم يقرأ منه بعض الآيات، أو يستمع إلى تلاوته، وقد يفعل مثل هذا بمطالعة الكتب التفسيريّة والحديثيّة والمفيدة، لكنّه لم يلحظ كم طبّق من مبادئها وأحكامها في يوميّاته، وكم أثّرت التلاوة والقراءة في أخلاقيّاته وغيّرت من سلوكيّاته.
وينبغي التأني في قراءة المطالب والتفكّر في مفرداتها، ولا يكون همّ أحدنا الوصول إلى نهاية السورة - ورد أنّه لا يكونن همّ أحدكم آخر السورة. راجع: الكافي:2/614/كتاب فضل القرآن/باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن/1، وتفسير الدّرّ المنثور للشيخ السيوطي:6/277، وكنز العمّال للشيخ المتّقي الهندي:2/318/4117- وختم القرآن والكتاب النافع كيفما كان ليقال عنه قارئ جيد فيلتذّ بإطرائهم وينتعش بمدحهم وكسب حظوة عندهم، وإنّما يلزم أن يكون جلّ اهتمامنا من ذلك هو التدبّر في مضامينها الوحيانيّة وتفهّم معانيها ومقدار ما ينطبع من مواعظها بدواخلنا، وكميّة ما تغرس من حكمها فينا، ونسبة ما ينعكس من هديها ورشادها على سلوكيّاتنا وتعاملنا، ومن ثمّ حجم التقويم لما في عقولنا من أفكار معوجّة وإثراء ألبابنا بالمادّة الصحيحة وإمدادها بالعناصر الصالحة.
وفي ذيل المقال يجدر بنا القول أنّ الصراع بين أهل الحقّ وأهل الباطل مستمرّ، وجولات أهل الحق ضدّ خصومهم لن تنتهي إلى إن يشاء الله سبحانه وتعالى، وهم ( أهل الحقّ ) وإن كانوا قلّة في أغلب العصور، لكن لا تخلو الدهور من طائفة منهم، وينبغي أن نكون مع هذه الشريحة وضمن هذه الطبقة المحتسبة الممتحنة الصابرة. فإنّ البشر، كما تعلمون، في امتحان ما داموا في الحياة الدّنيا، وهو بعد مغربل لحقيقة مزاعمهم، والمواقف كاشفة عن نوع معادنهم، والصبر وسيلة ناجعة ودعامة مانعة من السقوط، وقد روت المنابع الإسلاميّة في فضله الثواب الجزيل، وبيّنت عظمته من حيث إنّه أجود مؤازر في الشدائد والنكبات وأفضل عون على ضغط الشهوات وخير معاضد للوقوف بوجه الانفلات، وأوضحت بعض المرويّات تقسيماته وأعطت الصبر عن المعصية مزية على غيره ودرجة أسمى لفضله. راجع: الكافي:2/91/كتاب الإيمان والكفر/باب الصبر/15، الجامع الصغير للشيخ السيوطي:2/114/حرف الصّاد/فصل في المحلّى بأل من حرف الصّاد/5137.
وقد جاء ذكر الصبر في أواخر سور القرآن الكريم في سورة العصر وحثّ نصّها على التواصي به، كما دلّ على أنّه حرزاً من الخسران وطوق نجاة للمتمسّكين به، وبالتالي فلنولي هذا الأمر أهميّة قصوى ولنرفع من سقف عزيمتنا لأجل نيل درجاته العليا فنكون بإذن الله تقدّس اسمه من الصابرين حقيقة وصدقاً، وبتوفيق الملك الوهّاب من الذين يوفّون أجرهم بغير حساب.
في الختام يعجبني أن أهدي إليك يا ريحانة الدّنيا وزهرة الآخرة هذه الأبيات التي قيلت على لسان أحد الشعراء:
صوني جمالك بالحجاب الداني
ودعي الثياب طويلة الأردان
يًضفي عليك الاحتشام مهابة
فخُذي المواعظ من ذوي العرفان
لا تُخدعي إنّ التبرّج خدعة
للنيل منك فتُهجري وتُهاني
وتستّري أُختاه إنّك درّة
لا تُشترين بأبخس الأثمان
كوني كلؤلؤة نغوص لصيدها
في البحر عن شغف بكلّ تفاني
سيري مُحجّبة وليس يضرّنا
أن تعملي لمصالح الأوطان
سيري مُحجّبة وليس يضيرك
إن قيل ذا رجعيّة وتواني
ليس التقدّم بابتكار ملابس
قُصّرت وقد ضاقت على الأبدان
ليس التحضّر أن تكون نساؤنا
عريانة كشفت عن السيقان
إنّ التقدّم لا يعوق ركابه
ثوب يطول لحشمة النسوان
هذه وريقات تعبّر عن غيرة رجل عراقي على بنات المعمورة يتمنّى لهن الصلاح والفلاح.
أرجو أن أكون ممّن نصح ونفع، ووقعت كلماته عند قارئها موقع المؤثّر الوازع وبمثابة الضمير الرادع، ولو بمقدار عدد الأصابع، ولا أستبعد ذلك بتوفيق المقتدر الأعلى، فربّ كلمة أحيت سامعها وأغنت مقتنيها، وأملي أن نكون أجمعين من الذين يتّعظون ويستمعون القول فيتّبعون أحسنه، لا من الذين لا يحبّون الناصحين.
وصلّ اللّهم وسلم وبارك على نبيّك وحبيبك الخاتم الأمين وأهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى أنبيائك ورسلك الطيّبين ومن والاهم بإحسان إلى يوم الدّين.
وشكر خاص للأخ العزيز سيد عبد الإله الحصون لما بذله من مراجعة وتدقيق.
جعفر صادق البصري
ما من شكّ في أنّ الأديان جاءت لسعادة البشر وهداية الأنام لما فيه الصلاح والخير لهم، ولتخليتهم من الخصال الرذيلة وتزكيتهم من الصفات الذميمة، وتحليتهم بمكارم الأخلاق وجميل الطباع ومحامد الفعال، وليس هذا فحسب، وإنّما هناك فيها قضايا شرعيّة كثيرة تستهوي الضمائر الحيّة وتلامس القلوب الطيبّة وتخاطب الفطرة السليمة.
أجل، ومن تلك القضايا التي تستثير الوجدان اليقظ وتستميل الجوانح النقيّة في المجتمعات السويّة مسألة العفّة النسائيّة.
إنّ المناخ النظيف والمكان اللطيف والبيت العفيف والأجواء المماثلة تشعرك بالارتياح والأمان وتعطيك البهجة والاطمئنان، وهذه قضيّة لا غبار عليها ولا يحسن مطّ الكلام فيها، فقد جبلت النفوس الطاهرة عليها، لكن الشيطان وأعوانه لا يسرّهم هذا الطابع من الحياة ولا يرضيهم هذا اللون من العيش، لأنّ أصحاب العيوب يحبّون إشاعة معايب النّاس، ليتّسع لهم العذر في معايبهم كما ورد في الحِكم. راجع: عيون الحكم والمواعظ للشيخ الواسطي:257/ب9/ف1، وميزان الحكمة للشيخ الريشهري:3/2330/ب400/3132.
ولذا حاول اللعين - كما فعل من قبل في الأجيال الأُخرى - بواسطة أتباعه المنحرفين من أبالسة الأنس إلى تزيين المنكر بعيون أجيالنا ونشر الأباطيل بين أسرنا وفرض وسائل الهدم والانحلال في داخل بيوتنا، ومع الأسف استجاب لمكرهم وانقاد لخبثهم ووقع في أسرهم طائفة من أبناء وبنات جلدتنا، فانوجد في مجتمعاتنا المعاصرة الكثير الكثير ممّن تخطّى الثوابت وقفز على المسلّمات وانحرف عن الصواب ومال إلى قذارة الأحزاب ودنس الأذناب.
إنّ ممّا يحزّ في قلب الغيور الشريف ويوجع ضمير النجيب العفيف هو ما آلت إليه مجتمعاتنا من انحدار في قيمها وتفكّك في علاقاتها وتخبطّ في أفكارها وتساهل في ترك فروضها واستسهال بتقليد خصومها في الممنوعات ومحاكاة أعدائها في المحرمّات.
والذي ينكأ الجرح بصورة أكبر ويزيد من حدّة نزيفه هو تجاوز الكثير من نسائنا، سامحهنّ الله، قضيّة العفّة والستر والحياء المطلوب بعد ما ساق مترفو العصر مجموعة من الكلمات المعسولة الغشاشة ونثر قادة الفكر الغربي مواكب تنوير زائفة وبَذَرَ زُمر الاستكبار قوافل من المفردات اللذيذة الخدّاعة للتأثير على مدرسة الأجيال وحاضنة الأطفال وراعية الزوج والعيال ومن ثمّ تعطيل طاقاتها الخيّرة وتوقيف حصانتها الآسرة، فكان لهم ما أرادوا، فقد نمى ذلك وعاد عليهم بريع جسيم وفتح عظيم، ونجحوا في التمويه على عقول النّاس والضرب على الوتر الحسّاس، وانطلت اللعبة على الكثير من بناتنا وأخواتنا، ويا حسرة عليهنّ، فقد هرعن بشغف إلى استماع جوقة إبليس اللعين وطربن على إيقاع شياطين الأنس والجنّ، وصدّقن دعواتهم ووثقن بأخبارهم واستحسن خطاباتهم، فنزعن خمار الستر، وخلعن جلباب الحياء، وتخطّين حدود الحكيم البرّ، وطفقن يحتضنّ فكر هذا المعسكر، وسرن خلفهم سير الجند خلف قائده والأسير وراء آسره، واتّبعن رموزهم اتّباع الفصيل لأمّه، هذا فضلاً عن اندفاع بعضهن في الدفاع عن أفكارهم الآسنة وتحمّسهن في ترويج بضاعتهم المتعفّنة، والغريب أنّنا لم نجد الكثير منهنّ خاضعات هكذا ومسلّمات لثوابت الإسلام المعروفة وفروضه المقرّرة المعلومة، فوقعن - من حيث يشعرن أو لا يشعرن - في مصائدهم الغدّارة وحبائلهم الغرارة ومزالقهم الجرّارة.
وليتهنّ، غفر الله لهن، أخذن من الغرب ما يتوافق مع دينهن ويتطابق مع شرعهن، ويدعن ما يخالف مرضاة خالقهن ويصادم عقيدتهن ويضرّ بإلتزامهن.
عموماً لم يكتف هؤلاء الطغاة الفجرة والشرذمة الوسخة الداعرة بما تقدّمت الإشارة إليه، فقد صحب ذلك تجنيد السواعد وتحشيد الهمم وإنشاء المراكز الهدّامة والمؤسّسات التخريبيّة لهذا الغرض اللئيم والهدف الخبيث، وأخفت خلف دعاياتها البرّاقة ظاهراً حقيقة نواياها الرديئة والسيئّة باطناً، وافتعلت قضايا غريبة، وضخّمت مسائل حسّاسة، فأبرزت شارة مظلوميّة المرأة والتحضّر وأظهرت شعار المدنيّة والإنسانيّة، وتحت هذه العناوين نماذج أخرى غُلّفت بداعي الموضة وبذريعة التحرّر وبحجّة التجديد، وما إلى ذلك.
ومن المعلوم أنّ هذه الشعارات المقنّعة المستوردة والمبادئ الوافدة علينا أفكار ضالّة ونظريّات زائغة وأطروحات باطلة.
ومن ههنا بدأت مسألة العفّة عندنا في مجتمعاتنا تتهاوى وقضيّة الحياء تتداعى.
ولا يخفى عليكم أنّ العفّة قضيّة مطلوبة من الرجال والنساء سواء، وقد مُدحت المرأة الصالحة في القرآن المجيد لمّا أعطت صورة مشرقة ومواقف بطوليّة مثلما مُدح الرجل الصالح، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ سورة التوبة:72، وقال عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ سورة الأحزاب:35.
ولكن كلامنا هنا مخصّص عن العنصر الأكثر تأثيراً وإثارة، وأعني بذلك العنصر النسوي، فهو بالإضافة إلى كونه نصف شرائح المجتمع فإنّه مربيّ الأجيال ومصنع المستقبل وسند الرجال. على أنّ الكثير من النقاط التي سنذكرها في هذا المقال تنطبق أيضاً على العنصر الذكوري بلا أدنى خلاف.
قلنا أنّ العفّة تمزّقت عند الكثير من نسائنا وأصبحت في خبر كان، فقد تأثّرت هذه النسوة بتلك الدعوات الهدّامة واستُغفلت، فأسرت عناوينها لبّها وسحرت قلبها وأُعجبت بها أيّما إعجاب، ووصل تمرّد بعضهن على القيم الصالحة واستهتارهن بالأعراف المستطابة إلى ترك مهمّات بيتها ورعاية أسرتها، ومالت إلى الحضور في محافل الغناء والطرب، ومشاهدة البرامج والمسلسلات الهابطة المفسدة، وإظهار ما على وجهها من مساحيق التجميل، وذهبت إلى المسابح ومقاهي النرجيلة وصالات الألعاب الرياضيّة المختلطة بلباس مُجسّم لمفاتنها أو فاضح عمّا تحته وكاشف عن محاسنها، ثمّ وصل التمادي ببعضهن في السنوات الأخيرة بشرب الترياق والمنكر، ونفخ المواضع المثيرة في جسدها وتوشيم الأعضاء المغرية وتضخيم المواطن الساخنة لأجل استمالة القلوب وإلفات الأنظار وإيقاع الفتنة وإلهاب المشاعر، فاستجاب لهنّ البعض فلاحقتها العيون الوقحة واشتهتها القلوب المريضة، وربّما لامستها الأيادي الأثيمة.
لقد لعب الشيطان الرجيم وجلاوزته في تلك الأجواء الملوّثة ببراعة وسجّل أرقاماً قياسيّة في تحطيم حواجز الورع والتقوى والخوف والرضوخ للشرع، فأصبح أدب وقداسة الزهراء وعفاف خديجة وحشمة مريم وطهارة زينب ونقاوة آسيا ونزاهة أم البنين وصفاء ونظافة زوجات أنبياء الله الصالحات وأوليائه ( عليهنّ جميعاً سلام الله وبركاته ) عند الكثير من النساء من القضايا الهامشيّة والمسائل الجانبية التي لا تلامس واقعهن ولا تعني لهنّ في حياتهن الكثير. ولذلك ضعف الرادع وكثر تفشّي الفساد الخلقي والإغواء الإبليسي، والتصرّف الصبياني، فانتشرت خيانة الأزواج واللعب من وراء ظهورهم، وتكوين العلاقات غير الشرعيّة بواسطة توفّر مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج الهاتف النقّال، واقتدى الصغير بفعل الطائش الكبير، وقلّد اليافع البالغ، وحاكى الفجّ الناضج، وتأثرّ بذلك القريب والغريب بشكل عجيب، فانزلق الكثير وجنح الجم الغفير، وتداول هذا النشاط والفعل الخسيس بين الأجيال، واعتادت عليه الكثير من العوائل، فدارت عجلة الإفساد هكذا دواليك، فأصبح هذا الجمع والمكوّن مصداقاً للتعاون على الإثم والعدوان والتهتّك والتفكّك.
نعم، بذلك تمّ تمييع القيم الصالحة والوعي وتقليل استشعار الاهتمام بها، وتخفيض نسبة الاكتراث بالمبادئ الحقّة وتسفيه مسألة اعتناقها، فلم تعد آيات فرض الحجاب، وعدم التبرّج، والنهي عن الخضوع بالقول، والزجر عن ترقيق الصوت بقصد، والمنع عن ضرب الأرض بالأرجل للإعلام والإلفات، وغضّ البصر عمّا حُرّم، وغيرها من الآيات المتعلّقة بهذه النواحي، ذات شأن عند هذه الثلّة التائهة المراهقة المستغوية ولا تحظى بالأهميّة المطلوبة عند تلك العصبة الساهيّة المستغربة.
حقاً إنّ هذه أحد المصائب الفظيعة، والحالات المزريّة الشنيعة، فبدل أن تكون الريحانة ( المرأة ) بذلك المستوى الرائع الذي يسهم في رفعة الجماهير ونهضة البلد وتحصين المجتمع، وبالأخص المجتمع الصغير ( الأسرة )، ضد الانحطاط والانحراف عن الصراط، تهبط إلى هذا المستوى المتدنّي وتنزلق في مضمار حقير واطي وتتدنّى لتصل إلى وضع رديّ، فقدت فيه آلة الضبط وأداة التمييز بأنّ هذا يقلّل من قيمتها ويحطّ من شأنها وخصوصيّتها، ويفقدها مكانها الطبيعي ووظيفتها الأساس ووزنها الاجتماعي.
والأفظع يا أُحبّتي أنّ هذا الوضع البائس والهزيل لا يقتصر على العنصر النسوي، فلو رجعنا إلى واقعنا لرأينا أفعال أكثر النّاس وتصرّفهم تسجّل خيبة عظيمة، وتدلّ على جناية فظيعة، وتُشعر بتلاشي تأكيدات الربّ المتعالي وإلزاماته وتهديداته ووعيده، وتنّم عن عدم وجود حساب وكتاب وكأنّه ليس هناك آخرة ومجازات وعقاب، فانظروا رحمكم الله إلى الجمع الغفير فسترونه سادراً في لهوه وغيّه وسائراً وراء ملذّاته ونزواته الباطلة لاهثاً خلف غرائزه وشهواته المحرّمة إلّا من رحم الله سبحانه وتعالى.
أبمثل هذه الأعمال تريدون مجاورة ربّكم.
ولا بدّ أن ندرك أنّه لا يصحّ تعليق هذا البلاء الذي يعمّ البلاد ويشمل العباد، نستجير بالله منه، على عاتق الاستكبار والطغاة والفجّار، فما كان الوضع ليكون هكذا إلّا بسبب آخر ينبغي عدم إغفاله وهو معاصينا وتساهلنا في أداء وظائفنا، حيث إنّ المجتمع بدأ في التفسّخ والتهتّك، ورفض القيم الأصيلة، ونبذ الأخلاق النبيلة، وتذمّر من مبادئه الجليلة، ورضي بفعل العصاة ولم يسخط جناياتهم ولم يمتعض من جرائمهم، فحلّ بنا ما حلّ.
أجل، هذه الكوارث العظمى التي تحلّ بنا أحد أسبابها جناية أيدينا وجريرة قياداتنا، وبالتالي فإنّ نقض العهود وتهاوي المبادئ واندثار القيم بالإضافة إلى ضعف الرقابة والإخلال بالمسؤوليّة أو غيابها تؤدي بشرائح المجتمع العريض إلى الانهيار والسقوط في الحضيض.
نعم، الرقابة والرعاية من العوامل الفائقة الأهميّة، التي يفترض أن لا تقتصر على تزويد الأبناء بالمال لتلبية حاجاتهم الضروريّة، فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيتّه، وقال الحقّ سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ سورة التحريم:6.
وبالتالي فإنّ مسؤوليّة تربية النشء تقع على عاتق الوالدين بالدرجة الأولى وعلى عاتق الدعاة ( العلماء ) والدولة ( السلطة ) بالدرجة الثانية.
وقد ورد في المأثور الإسلامي إيضاح ما لهذين الصنفين ( الفقهاء والأمراء ) من فاعليّة كبيرة في إصلاح المجتمع أو فساده، فقد روي أنّهما إذا صلحا صلحت الأمّة، وإذا فسدا فسدت الأمّة. راجع: الخصال للشيخ الصدوق:1/37/ب2/12، والجامع الصغير للشيخ السيوطي:2/101/حرف الصّاد/5047.
أخواتنا الفاضلات وبناتنا العزيزات لا يغيب عنكن أنّنا بأمسّ الحاجة لعفّتكن وحياءكن والأدب الرفيع والخلق الثمين المنبعث منكن، ونقول بلسان صادق وقلب يتحرّق حزناً لما آلت إليه أحوال الكثير منكن: عليكن بدينكن وعفّتكن، فالعفاف يصون النفس وينزّهها عن الدّنايا كما ورد في ميزان الحكمة:3/2006/ب 360/2756. بل جاء في نفس المصدر بأسلوب التحضيض على العفاف أنّه أفضل شيم الأشراف.
والحقيقة أنّه طالما أنّكن لا تتحلّين بالعفّة ولا تلتمسن التدرّع بأزياء الحشمة ولا تفتقدن خلع ثوب الحياء - مع أنّ الحياء قرين العفاف كما جاء في عيون الحكم والمواعظ:40/ب1/ف1، وروي أنّ قلّة الحياء من قلّة الدّين كما في كشف الخفاء للشيخ العجلوني:2/100/حرف القاف/1889، وهو ما كانت تتحلّى به ابنة نبيّ الله شعيب كما يصفها القرآن - فإنّ شبابنا وشيوخنا عرضة للوقوع في المحرّمات يستسهل حينها الفواحش ويستمرئ المنكرات، وتمسي حينئذٍ ديارنا هدفاً للخراب وواقعنا ينكفئ على الأعقاب، وقد حذّر النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديثه المسلمين ممّا هو قادم من فساد النساء وفسق الشباب. راجع: الكافي للشيخ الكليني:5/59/كتاب الجهاد/باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/14. ونحوه في المعجم الأوسط للشيخ الطبراني:9/129.
لقد عرف خبثاء الغرب أنّ تحطيم الحضارات يتمّ عن طريق هدم الأسرة والبدء بإفساد العنصر الأنثوي فيها، وتقويض التعليم، وإسقاط الرموز الشريفة والقدوة الصالحة.
ولم يكن تسليط الضوء من قبلهم على المرأة إلّا لكونها عنصراً فاعلاً واعتبارها ركناً هاماً في بناء الإنسان والأسرة، فإذا تخلخل الركن وتزعزع الأساس تضعضع البناء ومن ثمّ يؤول إلى الإندراس.
أعاذكم الله وإيّانا يا أبناء آدم وحواء من الفساد ومضلّات الفتن والفجور، ولذا نطلب من المرأة العاقلة بلطف وبلا أمر أن لا يكن همّك الملابس والمساحيق وشغفك الإكسسوارات والسفر، ولا تغترّي بجمالك ونضارتك وشبابك يا حواء، فإنّ زكاة الجمال العفاف كما ورد في ميزان الحكمة:3/2006/ب 360/2756، وكما قيل في بعض الحكم العربية: أنّ جمال المرأة في حيائها.
ولا ريب أن كلّ ذلك ( الجمال والشباب والرونق ) زائل، وأنّ صيت العفاف باق، بل العفاف والحياء أطهر لقلوبنا وقلوبكن وأسلم لديننا ودينكن، وأنتنّ لباس لنا ونحن لباس لكنّ.
ومن هذا المنطلق الذي يمجّد العفّة والحياء ندعو أخواتنا إلى طرح الأسئلة ذات الخصوصيّة الشديدة بالمرأة والتي قد تخدش حيائها أو تتحرّج منها أو يتحرّج المقابل منها، فلتطرحها على بنات جنسها من المتفقّهات لا على رجل الدّين مباشرة، وكذلك نفضّل أن يذهبن في ولاداتهن وعلاج بعض الأمراض الخاصّة إلى النساء المتمرّسات المتخصّصات لا إلى الأطباء الرجال رأساً.
وبالطبع فإنّ هناك حالات استثنائيّة يمكن معرفة حكمها من فقهاء الطائفة أو من خلال رسائل الأحكام الشرعيّة.
ونشدّ على أيديكن يا شقائقنا أن تتحلّين بالوعي المطلوب، والحجاب الصحيح الذي يشمل حجاب الجوانح وحجاب الجوارح، وأن لا تتوانين في المسارعة إلى طلب التوبة من الله العزيز الحكيم قبل حلول نقمته وتغيير نعمته، وثبن إلى رشدكن، وعدن إلى مجدكن، وترفّعن يا واعيات عن سفاسف الأمور والمثالب، وابتغين المعالي والمناقب، وتوجّهن إلى جوانب الحياة المشرقة وتطلّعن صوب الجهات المشعّة، لتغدين غداً إن شاء الله من الخيرات الحسان، ذلك أزكى لنا ولكنّ.
وأُذكّر الرجل الغيور وأُنبّه الرجل الصالح على ما جاء في المروي عن المعصوم من أنّه قال: ( عفّوا عن نساء النّاس تعفّ نساؤكم ). ميزان الحكمة:3/2006/ب 360/2756.
وممّا ينسجم مع هذا ما جاء من أنّ دليل غيرة الرجل عفّته كما في عيون الحكم والمواعظ:249/ب8/ف1، وميزان الحكمة:3/2008/ب 360/2758.
نعم، علينا أن نتوجّه بصدق إلى الخالق العظيم في طلب المغفرة وسداد أحوالنا والعون في ثبات أقدامنا كي لا تزلّ قدم بعد ثبوتها، فإنّ حسن الخاتمة هي الغاية التي نرجو أن نلاقي الله الرحمن الرحيم بها.
وغير خاف عليكم أيّها الأعزّة أنّ الملك المتعالي لم يُعجلّ بمؤاخذتنا بما كسبنا، ولم يغلق على أمثالنا من عباده الخاطئين أبواب رحمته، بل ترك باب التوبة مفتوحاً إلى أن يقترب ملك الموت رضي الله عنه لنزع الروح من جسدنا، وقطعاً هو سبحانه لم يتركه مفتوحاً إلّا وهو يريد أن يغفر لعباده، ويحبّذ لهم التوبة، ولكن بلا تسويف ولا مماطلة وتأجيل، لكون موعد الموت مجهول.
إذن فلنبادر إلى طرق باب التوبة قبل فوات الأوان، ولنعجّل بذلك لنلج إلى سعة الرحمة والرضوان.
ونجد من المناسب مع ما تقدّم نعني: قضيّة ( رحمة الله الواسعة ) طرح حديث العابد مع الشيطان، نذكر لكم خبره بصورة مجملة، روي أنّه كان هناك عابد في بني إسرائيل لم يُقارف من أمر الدّنيا شيئاً، أتاه أحد جنود اللعين إبليس إزاء موضعه وأخذ يتعبّد بصلاته رياء، فاستصغر العابد عمله، فطلب العابد منه طريقة يقوى بها على الصلاة مثله، فدلاه على امرأة بغيّة في المدينة لينال منها حاجته الجنسيّة، فذهب العابد إلى المدينة بثياب العبّاد يسأل عن منزلها فأرشده النّاس وظنّوا أنّه يريد وعظها، فالتقى بها وطلب مواقعتها، فأدخلته بيتها، ولكن لفتتها هيئة ملابسه فدعته لأن يُعلمها خبره، فأخبرها بأمره، فنصحته بترك الذنب، لأنّه أهون من طلب التوبة، وأخبرته أنّه ليس كلّ من طلب التوبة وجدها، وحذّرته من هذا الخبيث، وامتنعت عن مضاجعته، وطلبت منه الانصراف، فانصرف، وماتت هي من ليلتها، فأمر الله أحد أنبيائه بالصلاة عليها، وغفر سبحانه ذنبها وأوجب لها الجنّة بتثبيط عبده عن المعصية. راجع: روضة الكافي للكليني:8/384-385/ح584.
هذا، ولا يفوتنا ههنا تذكير الأبناء بما يتطلّب منهم فعله تجاه الوالدين وبما يستلزم القيام به لهما، فعليهم أن لا ينسوا معاناتهما في تربيتهم وتوفير لقمة معيشتهم وتهيئة وسائل راحتهم.
كما أنّه بدل أن نسمعهما كلمات غير لائقة ونجرح مشاعرهما بتصرّفات غير منضبطة ونتعالى عليهما لضعف شهادتهما مقارنة بشهادتنا ونتنكّر لخبرتهما ونشطب معرفتهما ونشجب نصائحهما، فإنّه يجب أن نستحضر مفردة البّر بهما وكبر سنّهما ونتذكّر عطفهما ونشكر حسن صنيعهما ونشفق عليهما ونسعى لمرضاتهما ونجاهد لحسن صحبتهما ومساعدتهما وخصوصاً في مرحلة الشيخوخة وتقبيل أياديهما المعطاءة. وليكن شعار أحدنا في هذه الدار الزائلة والدّنيا الفانية: حبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تركه لها.
وليعلم بناتي وأبنائي أنّ أيّ تقصير متعمّد في حقّهما قد يجلب علينا الشقاء والنكد وعدم التوفيق والسعادة، إنّها سنن وقوانين، يصعب القفز عليها، تطال خلق الله بمشيئته جلّ وعلا، فلنحذرها، فكما ندين ندان، وما نزرعه اليوم نحصده غداً.
كما نذكّر الرجال بما يجب عليهم من حسن المعاشرة بالمعروف مع زوجاتهم، وأن يكونوا على قدر المسؤوليّة في بيوتهم، وأن يراعوا حقوق القوارير ومن بكفالتهم، ويضعوا أحكام الله ووصياه فيها نصب أعينهم. الله الله في نسائكم وبناتكم، فنحن ملاقوا الله وإليه راجعون وسنسأل عمّا استرعانا البارئ عليهم ممّن هم تحت أيدينا.
ويجب أن نعلم أنّ هذا التذكير بالإضافة إلى أنّ فيه مرضاة الله سبحانه، فإنّه من الناحية العمليّة عامل مساعد في تفويت هجوم دعاة تحرّر المرأة وحفظ حقوقها المهضومة، كما أنّه باعث ضروري في نقض إشكالات وعّاظ ما يُسمّى بتنوير الفكر ومن يتصيّد بالماء العكر.
بقي شيء لا يمكن التغاضي عن خلله ونقده وهو أنّ مشكلة الكثير منّا أنّه يترك القضايا الأهم والرئيسيّة ويتشبّث بالمهمة أو الثانويّة، فتراه يقرأ القرآن كثيراً، وربّما كلّ يوم يقرأ منه بعض الآيات، أو يستمع إلى تلاوته، وقد يفعل مثل هذا بمطالعة الكتب التفسيريّة والحديثيّة والمفيدة، لكنّه لم يلحظ كم طبّق من مبادئها وأحكامها في يوميّاته، وكم أثّرت التلاوة والقراءة في أخلاقيّاته وغيّرت من سلوكيّاته.
وينبغي التأني في قراءة المطالب والتفكّر في مفرداتها، ولا يكون همّ أحدنا الوصول إلى نهاية السورة - ورد أنّه لا يكونن همّ أحدكم آخر السورة. راجع: الكافي:2/614/كتاب فضل القرآن/باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن/1، وتفسير الدّرّ المنثور للشيخ السيوطي:6/277، وكنز العمّال للشيخ المتّقي الهندي:2/318/4117- وختم القرآن والكتاب النافع كيفما كان ليقال عنه قارئ جيد فيلتذّ بإطرائهم وينتعش بمدحهم وكسب حظوة عندهم، وإنّما يلزم أن يكون جلّ اهتمامنا من ذلك هو التدبّر في مضامينها الوحيانيّة وتفهّم معانيها ومقدار ما ينطبع من مواعظها بدواخلنا، وكميّة ما تغرس من حكمها فينا، ونسبة ما ينعكس من هديها ورشادها على سلوكيّاتنا وتعاملنا، ومن ثمّ حجم التقويم لما في عقولنا من أفكار معوجّة وإثراء ألبابنا بالمادّة الصحيحة وإمدادها بالعناصر الصالحة.
وفي ذيل المقال يجدر بنا القول أنّ الصراع بين أهل الحقّ وأهل الباطل مستمرّ، وجولات أهل الحق ضدّ خصومهم لن تنتهي إلى إن يشاء الله سبحانه وتعالى، وهم ( أهل الحقّ ) وإن كانوا قلّة في أغلب العصور، لكن لا تخلو الدهور من طائفة منهم، وينبغي أن نكون مع هذه الشريحة وضمن هذه الطبقة المحتسبة الممتحنة الصابرة. فإنّ البشر، كما تعلمون، في امتحان ما داموا في الحياة الدّنيا، وهو بعد مغربل لحقيقة مزاعمهم، والمواقف كاشفة عن نوع معادنهم، والصبر وسيلة ناجعة ودعامة مانعة من السقوط، وقد روت المنابع الإسلاميّة في فضله الثواب الجزيل، وبيّنت عظمته من حيث إنّه أجود مؤازر في الشدائد والنكبات وأفضل عون على ضغط الشهوات وخير معاضد للوقوف بوجه الانفلات، وأوضحت بعض المرويّات تقسيماته وأعطت الصبر عن المعصية مزية على غيره ودرجة أسمى لفضله. راجع: الكافي:2/91/كتاب الإيمان والكفر/باب الصبر/15، الجامع الصغير للشيخ السيوطي:2/114/حرف الصّاد/فصل في المحلّى بأل من حرف الصّاد/5137.
وقد جاء ذكر الصبر في أواخر سور القرآن الكريم في سورة العصر وحثّ نصّها على التواصي به، كما دلّ على أنّه حرزاً من الخسران وطوق نجاة للمتمسّكين به، وبالتالي فلنولي هذا الأمر أهميّة قصوى ولنرفع من سقف عزيمتنا لأجل نيل درجاته العليا فنكون بإذن الله تقدّس اسمه من الصابرين حقيقة وصدقاً، وبتوفيق الملك الوهّاب من الذين يوفّون أجرهم بغير حساب.
في الختام يعجبني أن أهدي إليك يا ريحانة الدّنيا وزهرة الآخرة هذه الأبيات التي قيلت على لسان أحد الشعراء:
صوني جمالك بالحجاب الداني
ودعي الثياب طويلة الأردان
يًضفي عليك الاحتشام مهابة
فخُذي المواعظ من ذوي العرفان
لا تُخدعي إنّ التبرّج خدعة
للنيل منك فتُهجري وتُهاني
وتستّري أُختاه إنّك درّة
لا تُشترين بأبخس الأثمان
كوني كلؤلؤة نغوص لصيدها
في البحر عن شغف بكلّ تفاني
سيري مُحجّبة وليس يضرّنا
أن تعملي لمصالح الأوطان
سيري مُحجّبة وليس يضيرك
إن قيل ذا رجعيّة وتواني
ليس التقدّم بابتكار ملابس
قُصّرت وقد ضاقت على الأبدان
ليس التحضّر أن تكون نساؤنا
عريانة كشفت عن السيقان
إنّ التقدّم لا يعوق ركابه
ثوب يطول لحشمة النسوان
هذه وريقات تعبّر عن غيرة رجل عراقي على بنات المعمورة يتمنّى لهن الصلاح والفلاح.
أرجو أن أكون ممّن نصح ونفع، ووقعت كلماته عند قارئها موقع المؤثّر الوازع وبمثابة الضمير الرادع، ولو بمقدار عدد الأصابع، ولا أستبعد ذلك بتوفيق المقتدر الأعلى، فربّ كلمة أحيت سامعها وأغنت مقتنيها، وأملي أن نكون أجمعين من الذين يتّعظون ويستمعون القول فيتّبعون أحسنه، لا من الذين لا يحبّون الناصحين.
وصلّ اللّهم وسلم وبارك على نبيّك وحبيبك الخاتم الأمين وأهل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى أنبيائك ورسلك الطيّبين ومن والاهم بإحسان إلى يوم الدّين.
وشكر خاص للأخ العزيز سيد عبد الإله الحصون لما بذله من مراجعة وتدقيق.
جعفر صادق البصري