مصطفى الهادي
16-05-2021, 02:26 PM
(وكفلها زكريا).من الذي تكفل مريم؟ زكريا أو يوسف النجار.
مصطفى الهادي.
لم يرد ذكر يوسف النجار في القرآن بل ورد أن زكريا زوج اليصابات خالة مريم هو الذي كفل مريم وهو الذي افرد لها مكانا في المعبد تتعبد فيه. ولكن الإنجيل يحكي قصة أخرى يقول فيها بأن يوسف النجار هو الذي كفل مريم عن طريق الزعم أنها خطيبته.
الإنجيل لم يُعالج لنا بموضوعية وإنصاف قصة مريم فلم يذكر لنا خلفياتها وتربيتها فقد بدأ مباشرة بقوله : (كانت مريم مخطوبة). وكأنها خرجت لنا من العدم، فلا تاريخ ولا سيرة، بل أن سيرتها الشخصية في الإنجيل مجهولة ، وحتى النصوص التي تُذكر فهي نصوص مضطربة جدا تكاد لا تعرف ماذا تريد أن تخبرنا.
فعلى سبيل المثال نقرأ : (لما كانت مريم أمهُ مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا ، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا، ولم يشا أن يشهرها، أراد تخليتها سرا).(1) النص مضطرب جدا حول بداية السيدة مريم العذراء ، حيث يقول في بدايته بأن يوسف وجدها حبلى من الروح القدس ، ولكن يوسف شك بها واتهمها بفعل المنكر وهذا يلوح من خلال قوله : (لم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سرا). يعني أنه تستر عليها ، هكذا كان نصيب السيدة العذراء من يوسف النجار الذي تزعم الأناجيل أنه كان حاميها وخطيبها.
ولو رجعنا إلى ما يقصه القرآن لنا من خبر السيدة مريم ، لرأينا توقيرا واحتراما وبدايات طيبة لهذه القديسة الملائكية . فبينما الإنجيل يتكلم بغموض وعدم وعي ويُبهم لنا طفولة مريم او ما قبلها ويبدأ معها في سن السادسة عشر، نرى القرآن يُسهب في ذكر ما قبل طفولة مريم وهذا ما نراه يلوح على لسان امها (حنة).(2)
كما يخبرنا القرآن فإن مباركة مريم كانت قبل الولادة : (إذ قالت امرأةُ عمران رب إني نذرتُ لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم).(3) وبعد ولادتها رفعت ام مريم يدها للسماء لتطلب من الله أن يحفظها : (أني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).(4) استمع الله تعالى لدعاء هذه الأم : (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا).(5)
وبعد ولادتها ونظرا لمركز عائلتها الاجتماعي اختصم القوم في من يرعاها ويكفلها وذلك أن والدها عمران كان وجيها في قومه ومعلمهم الاكبر.يقول تعالى : (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفلُ مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون).(6) وهكذا فاز برعايتها زوج خالتها (النبي زكريا). كما يقول تعالى : (وكفلها زكريا).(7)
ثم يحكي لنا القرآن وبكل وقار جوانب من التربية والإعداد الإلهي لها فلم تكن تأكل من طعام البشر بل كان الله تعالى يُنزل عليها من طعام الجنة : (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريمُ أنى لك هذا. قالت : هو من عند الله).(8) ثم يُضيف لنا القرآن بعدا آخر على شخصية مريم وهي اتصالها بالعالم الآخر ، فبعد أن انقطعت عن الدنيا في جوف محرابها (فاتخذت من دونهم حجابا). ارسل لها الله تعالى الملائكة تُسليها وتُكلمها : (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهرك واصطفاك على نساء العالمين).(9)
ثم ينتقل بنا القرآن إلى المرحلة الثانية من حياة مريم بعد ولادتها فيحكي لنا جانبا من معاناتها وبراءتها على يد ابنها الرضيع عليه السلا فيقول : (وجعلناها وابنها آية للعالمين).(10) ومريم هي الوحيدة التي سُميت سورة باسمها وهي الوحيدة ايضا التي ذكرها الله باسمها. ولم يكن قبل ولادة فاطمة الزهراء (ع) أيّ سيدة للنساء سوى مريم، فقد كانت سيّدة نساء زمانها.(11)
هذا باختصار ما حكاه القرآن عن سيرة مريم العذراء من قبل الولادة وحتى بعد ولادتها لعيسى عليه السلام، ناهيك عن كم هائل من الأحاديث التي تُشيد بشخصيتها.
أما الإنجيل فقد ذكر لنا قصة مريم فجأة ومن دون مقدمات ولا سيرة ولا تاريخ. فزعم أنها كانت مخطوبة ليوسف النجار كما يقول : (كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس).(12) فكيف تكون مخطوبة وهي منقطعة في محرابها لا ترى بشرا. واستمرت رعاية يوسف لمريم حسب ما يقوله الإنجيل حتى زمن بعثة عيسى كما نقرأ : (ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يُظن ابن يوسف).(13)
إن الظن لا يغني من الحق شيئا يضاف إلى ذلك إذا كان عيسى ــ على ما يُظن ــ ابن يوسف النجار ، فلماذا ثار هذا اللغط بين معاصريه حول ولادته واتهام أمه بالزنا؟ اليس يوسف النجار ابوه على ما يظنه الناس.
لم يكن اختيار يوسف النجار كفيلا لمريم وأبا للسيد المسيح اعتباطيا ، فقد كانت خطة مدروسة بعناية من قبل اليهود الذين كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وحدهم، ومن أجل أن لا يُنسب السيد المسيح إلى الله مباشرة فيكون أبنه، عمدوا إلى وضع يوسف النجار في سلسلة نسب السيد المسيح ليرجعوا بنسبه إلى نبي الله داود عليه السلام وليكسبوا بذلك شرف تربيته وإعداده. (14)
وهكذا تم ربط المسيح بالنبي داود فجعلوا عيسى نبيا من أنبيائهم المحليين، ولم يعترفوا برسالته المستقلة، ولم يؤمنوا به. ففي بداية الأمر اعتقد اليهود أن السيد المسيح هو (المُسيّا) الموعود الذي ينتظرونه كما يقولون في تفسير قول الانجيل في نسب المسيح : (المسيح ابن داود). (هو داود الملك كما ذكرت النبوات. وكان هذا الأمر معروفا عند جميع اليهود أن المسيا المنتظر سيأتي من نسل داود).(15) ولكن الغريب أن السيد المسيح رفض رفضا قاطعا أن ينسبوه إلى داود عن طريق يوسف النجار وهذا ما نراه يلوح في محاورته مع اليهود كما نقرأ : (وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلا: ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له : ابن داود. قال لهم : فإن كان داود يدعوه ربا ، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة).(16)
يتفق الإنجيل والقرآن في بعض الأمور المتعلقة برعاية وكفالة مريم ولكن الإنجيل يتميز بعدم الوضوح وبتناقض عجيب، لأنه بعدما زعموا أن يوسف هو من كفل مريم وتظاهر أنه خطيبها ليحميها ، ولم يُبينوا لنا كيف اصبح يوسف كفيلا لمريم، ولما كانت الأناجيل تشكو من فراغ في هذا الجانب عمد الكهنة إلى الاختلاق فوضعوا اسطورة وهمية لكيفية اختيار يوسف لرعاية مريم . فكما نعرف فإن القرآن يقول بأن الكهنة اجتمعوا لرعاية مريم واختلفوا وقرروا ان يُلقوا اقلامهم في النهر وأي قلم وقف سيكون صاحبه هو الكفيل لمريم ، فوقف قلم زكريا . ولكن الإنجيل يقول بأن كهنة اليهود فكروا في اختيار شخص لكفالة مريم (يأخذها ويرعاها في بيته ، فجمعوا عصي بعض الشيوخ المعروفين بالتقوى ووضعوها في الهيكل وظلوا يصلّون، وفي يوم من الأيام جاءت حمامة ووقفت على عصا يوسف النجار ثم طارت ووقفت على رأسه). وبهذه القصة اصبح يوسف النجار هو الكفيل لمريم.(17)
الإنجيل كما اسلفنا يُغالط نفسه فمرة يقول ان مريم كانت عند يوسف النجار ولكنه في نص آخر يقول بأن مريم ذهبت عند زكريا وخالتها اليصابات كما نقرأ : (فقامت مريم وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلمت على اليصابات).(18)
والقرآن يتفق مع الإنجيل في تكلم السيد المسيح في المهد ففي القرآن قال : (فأشارت إليه قالوا كيف نُكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا).(19) وهذا ما أشار له الإنجيل من أن السيد المسيح كان مباركا كما نقرأ (المسيح الكائن على الكل مباركا إلى الأبد).(20) ففي هذه الآيات من القرآن تأكيد على أن السيد المسيح تكلم في المهد عندما أشارت له امه. والإنجيل أيضا يذهب بهذا الاتجاه فيقول : (وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله. فوقع خوف على كل جيرانهم. وتحدث بهذه الأمور في كل جبال اليهودية، فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين : أترى ماذا يكون هذا الصبي؟ وكانت يد الرب معه).(21) طبعا اليهود لم يعجبهم هذا النص ، فنسبوه إلى يوحنا لأنه احب إليهم، فهو نبي من أنبيائهم وابن كاهنهم الأكبر.
والآن بعد أن ثبت من الإنجيل وجود زكريا وكفالته لمريم ، وأن مريم هي من لجأت إليه ، نأتي لنستعرض وضع يوسف النجار وما نُسب إليه من مزاعم كفالة او خطوبة مريم.
لم يرد ذكر يوسف النجار في رسائل بولس الطرسوسي وهي أقدم الوثائق المسيحية. وكذلك لم يرد ذكره في أول وأقدم الاناجيل التي كُتبت وهو إنجيل القديس مرقس.(22) وقد شطح مرقس في إنجيله عندما اعتبر السيد المسيح هو النجار كما يقول : (أليس هذا هو النجار ابن مريم).(23) فلو كان يعرف يوسف النجار لذكره. ولكن أول ظهور ليوسف النجار كان في إنجيل متى ثم لوقا، ومع ذلك اختلفوا في امور كثيرة تتعلق بحياته.
يضاف إلى ذلك أنه ليس من المنطقي أن يُشاهد يوسف النجار كل هذه الآيات تظهر من السيد المسيح ثم لا يعترف به نبي ولا يؤمن به ، بل بقى مصرا على يهوديته كما يقول قاموس الكتاب المقدس : (وكان يوسف عبرانيا بارا محافظا على الفروض والطقوس اليهودية. وعلى الأعياد اليهودية. وانه بقى على يهوديته حتى وفاته).(24)
بل أن اختلاف الاناجيل في من هو ابو يوسف النجار يدعونا للشك بشخصه فبحسب كتاب (المسيح فى الإنجيل والقرآن).(25) ذكر إنجيل متى أن أبا يوسف النجار اسمه (يعقوب) بينما أشار إنجيل لوقا إلى أن اسمه (هالى).وهذا الاختلاف لم يكن من اشخاص يجهلون يوسف بل من المعاصرين له لا بل من التلاميذ.
ولعل اغرب مفارقات الإنجيل أن اليهود يتهمون السيد المسيح بأنه ابن زنا. ولكنهم في نفس الوقت يقولون بأنه ابن يوسف النجار كما نقرأ : (اليس هذا ابن النجار أليس امه تدعى مريم).(26) هذا التناقض الفاضح كشفه القرآن بقوله : (وقولهم على مريم بهتانا عظيما).(27)
المصادر:
1- إنجيل متى 1 : 18 ـ 19.
2- يقول في سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية:القديسة حنّة ، هي والدة السيدة مريم العذراء.
3- سورة آل عمران آية : 35.
4- آل عمران آية : 36.
5- آل عمران آية : 37.
6- آل عمران آية : 44.
7- آل عمران آية : 37.
8- آل عمران آية : 37.
9- سورة آل عمران آية : 42.
10- سورة الأنبياء آية : 91.
11- ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، انه قال ان فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. وبما أن الجنة فيها المؤمنات فقط والقديسات الطاهرات ومن بينهن مريم فتكون فاطمة سيدتهن فمن باب الأولوية تكون فاطمة سيدتهن في الدنيا كما هي سيدتهن في الآخرة. وقد ورد عن ابن عباس (ان رسول الله قال في حق فاطمة انها سيدة نساء العالمين فقيل يا رسول الله أهي سيدة نساء عالمها فقال (صلى الله عليه وآله) ذاك لمريم بنت عمران فإما ابنتي فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين). وقد قال تعالى : (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين). فهل يقول قائل أن هؤلاء افضل من نبينا محمد صلوات الله عليه وآله. فيكون المعنى: إن هؤلاء الأنبياء أفضل أنبياء زمانهم. أمالي الصدوق ص 486، بشارة المصطفى ص 177، غاية المرام ج 1 ص 182، بحار الأنوار ج 37 ص 84، العوالم ج 11 ص 128.
12- إنجيل متى 1 : 18.
13- إنجيل لوقا 3 : 23.
14- إنجيل متى 1 : 17. و سفر إرمياء 5: 23. يقول في قاموس الكتاب المقدس: وكان يوسف عبرانيا بارا محافظا على الفروض والطقوس اليهودية، وعلى الأعياد اليهودية،ويؤكد موقع تيكلاهوم : بأن يوسف بقى على يهوديته حتى وفاته). قاموس الكتاب المقدس ، دائرة المعارف الكتابية المسيحية، شرح كلمة القديس يوسف النجار.
15- شرح الكتاب المقدس ، الموسوعة الكنيسة لتفسير العهد الجديد: تفسير إنجيل متى.
16- إنجيل متى 22 : 41 ــ 46.
17- يعني أنا لا أدري ما هي قصة اليهود مع (الحمام). السيد المسيح لم يصبح نبيا إلا بعد أن نزلت الحمامة على رأسه ، ويوسف لم يصبح كفيلا لمريم إلا بعد أن حطت الحمامة على رأسه.
18- إنجيل لوقا 1 : 40.
19- سورة مريم آية : 29.
20- رسالة رومية 9 : 5.
21- إنجيل لوقا 1 : 64 ــ 64.
22- معظم العلماء يعتبرونه أقدم الأناجيل ولم يذكر مرقس نسب السيد المسيح او سرد لولادته ويصور المسيح كبطل طارد الأرواح الشريرة معالج. أنظر إدواردز جيمس إنجيل مرقس دار إردمان للنشر ، 1978.وكذلك باول مارك آلان، يسوع كشخصية في التاريخ. طبع دار إيردمار للنشر ، 1998. ولعل من أغرب الأمور أن لا يرد ذكر مرقس ضمن تلاميذ السيد المسيح الاثنا عشر، ولكن اسمه ورد ضمن رسائل بولس بإسم (يوحنا مرقس). فكيف يكون مرقس مؤلفا للإنجيل وهو ليس من تلاميذ المسيح؟ .
23- إنجيل مرقس 6 : 3. وفي تبرير لهذا الخلط زعم المفسرون بأن السيد المسيح تعلم النجارة من أبيه يوسف النجار، ولكن لا يوجد دليل من الانجيل على ذلك.
24- قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية شرح كلمة القديس يُوسُف النجار خطيب العذراء مريم.
25- المسيح فى الإنجيل والقرآن عبد الكريم الخطيب الطبعة الأولى 1999.
26- إنجيل متى 13 : 55.
27- سورة النساء آية : 156.
مصطفى الهادي.
لم يرد ذكر يوسف النجار في القرآن بل ورد أن زكريا زوج اليصابات خالة مريم هو الذي كفل مريم وهو الذي افرد لها مكانا في المعبد تتعبد فيه. ولكن الإنجيل يحكي قصة أخرى يقول فيها بأن يوسف النجار هو الذي كفل مريم عن طريق الزعم أنها خطيبته.
الإنجيل لم يُعالج لنا بموضوعية وإنصاف قصة مريم فلم يذكر لنا خلفياتها وتربيتها فقد بدأ مباشرة بقوله : (كانت مريم مخطوبة). وكأنها خرجت لنا من العدم، فلا تاريخ ولا سيرة، بل أن سيرتها الشخصية في الإنجيل مجهولة ، وحتى النصوص التي تُذكر فهي نصوص مضطربة جدا تكاد لا تعرف ماذا تريد أن تخبرنا.
فعلى سبيل المثال نقرأ : (لما كانت مريم أمهُ مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا ، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا، ولم يشا أن يشهرها، أراد تخليتها سرا).(1) النص مضطرب جدا حول بداية السيدة مريم العذراء ، حيث يقول في بدايته بأن يوسف وجدها حبلى من الروح القدس ، ولكن يوسف شك بها واتهمها بفعل المنكر وهذا يلوح من خلال قوله : (لم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سرا). يعني أنه تستر عليها ، هكذا كان نصيب السيدة العذراء من يوسف النجار الذي تزعم الأناجيل أنه كان حاميها وخطيبها.
ولو رجعنا إلى ما يقصه القرآن لنا من خبر السيدة مريم ، لرأينا توقيرا واحتراما وبدايات طيبة لهذه القديسة الملائكية . فبينما الإنجيل يتكلم بغموض وعدم وعي ويُبهم لنا طفولة مريم او ما قبلها ويبدأ معها في سن السادسة عشر، نرى القرآن يُسهب في ذكر ما قبل طفولة مريم وهذا ما نراه يلوح على لسان امها (حنة).(2)
كما يخبرنا القرآن فإن مباركة مريم كانت قبل الولادة : (إذ قالت امرأةُ عمران رب إني نذرتُ لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم).(3) وبعد ولادتها رفعت ام مريم يدها للسماء لتطلب من الله أن يحفظها : (أني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).(4) استمع الله تعالى لدعاء هذه الأم : (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا).(5)
وبعد ولادتها ونظرا لمركز عائلتها الاجتماعي اختصم القوم في من يرعاها ويكفلها وذلك أن والدها عمران كان وجيها في قومه ومعلمهم الاكبر.يقول تعالى : (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفلُ مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون).(6) وهكذا فاز برعايتها زوج خالتها (النبي زكريا). كما يقول تعالى : (وكفلها زكريا).(7)
ثم يحكي لنا القرآن وبكل وقار جوانب من التربية والإعداد الإلهي لها فلم تكن تأكل من طعام البشر بل كان الله تعالى يُنزل عليها من طعام الجنة : (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريمُ أنى لك هذا. قالت : هو من عند الله).(8) ثم يُضيف لنا القرآن بعدا آخر على شخصية مريم وهي اتصالها بالعالم الآخر ، فبعد أن انقطعت عن الدنيا في جوف محرابها (فاتخذت من دونهم حجابا). ارسل لها الله تعالى الملائكة تُسليها وتُكلمها : (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهرك واصطفاك على نساء العالمين).(9)
ثم ينتقل بنا القرآن إلى المرحلة الثانية من حياة مريم بعد ولادتها فيحكي لنا جانبا من معاناتها وبراءتها على يد ابنها الرضيع عليه السلا فيقول : (وجعلناها وابنها آية للعالمين).(10) ومريم هي الوحيدة التي سُميت سورة باسمها وهي الوحيدة ايضا التي ذكرها الله باسمها. ولم يكن قبل ولادة فاطمة الزهراء (ع) أيّ سيدة للنساء سوى مريم، فقد كانت سيّدة نساء زمانها.(11)
هذا باختصار ما حكاه القرآن عن سيرة مريم العذراء من قبل الولادة وحتى بعد ولادتها لعيسى عليه السلام، ناهيك عن كم هائل من الأحاديث التي تُشيد بشخصيتها.
أما الإنجيل فقد ذكر لنا قصة مريم فجأة ومن دون مقدمات ولا سيرة ولا تاريخ. فزعم أنها كانت مخطوبة ليوسف النجار كما يقول : (كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس).(12) فكيف تكون مخطوبة وهي منقطعة في محرابها لا ترى بشرا. واستمرت رعاية يوسف لمريم حسب ما يقوله الإنجيل حتى زمن بعثة عيسى كما نقرأ : (ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يُظن ابن يوسف).(13)
إن الظن لا يغني من الحق شيئا يضاف إلى ذلك إذا كان عيسى ــ على ما يُظن ــ ابن يوسف النجار ، فلماذا ثار هذا اللغط بين معاصريه حول ولادته واتهام أمه بالزنا؟ اليس يوسف النجار ابوه على ما يظنه الناس.
لم يكن اختيار يوسف النجار كفيلا لمريم وأبا للسيد المسيح اعتباطيا ، فقد كانت خطة مدروسة بعناية من قبل اليهود الذين كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وحدهم، ومن أجل أن لا يُنسب السيد المسيح إلى الله مباشرة فيكون أبنه، عمدوا إلى وضع يوسف النجار في سلسلة نسب السيد المسيح ليرجعوا بنسبه إلى نبي الله داود عليه السلام وليكسبوا بذلك شرف تربيته وإعداده. (14)
وهكذا تم ربط المسيح بالنبي داود فجعلوا عيسى نبيا من أنبيائهم المحليين، ولم يعترفوا برسالته المستقلة، ولم يؤمنوا به. ففي بداية الأمر اعتقد اليهود أن السيد المسيح هو (المُسيّا) الموعود الذي ينتظرونه كما يقولون في تفسير قول الانجيل في نسب المسيح : (المسيح ابن داود). (هو داود الملك كما ذكرت النبوات. وكان هذا الأمر معروفا عند جميع اليهود أن المسيا المنتظر سيأتي من نسل داود).(15) ولكن الغريب أن السيد المسيح رفض رفضا قاطعا أن ينسبوه إلى داود عن طريق يوسف النجار وهذا ما نراه يلوح في محاورته مع اليهود كما نقرأ : (وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلا: ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له : ابن داود. قال لهم : فإن كان داود يدعوه ربا ، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة).(16)
يتفق الإنجيل والقرآن في بعض الأمور المتعلقة برعاية وكفالة مريم ولكن الإنجيل يتميز بعدم الوضوح وبتناقض عجيب، لأنه بعدما زعموا أن يوسف هو من كفل مريم وتظاهر أنه خطيبها ليحميها ، ولم يُبينوا لنا كيف اصبح يوسف كفيلا لمريم، ولما كانت الأناجيل تشكو من فراغ في هذا الجانب عمد الكهنة إلى الاختلاق فوضعوا اسطورة وهمية لكيفية اختيار يوسف لرعاية مريم . فكما نعرف فإن القرآن يقول بأن الكهنة اجتمعوا لرعاية مريم واختلفوا وقرروا ان يُلقوا اقلامهم في النهر وأي قلم وقف سيكون صاحبه هو الكفيل لمريم ، فوقف قلم زكريا . ولكن الإنجيل يقول بأن كهنة اليهود فكروا في اختيار شخص لكفالة مريم (يأخذها ويرعاها في بيته ، فجمعوا عصي بعض الشيوخ المعروفين بالتقوى ووضعوها في الهيكل وظلوا يصلّون، وفي يوم من الأيام جاءت حمامة ووقفت على عصا يوسف النجار ثم طارت ووقفت على رأسه). وبهذه القصة اصبح يوسف النجار هو الكفيل لمريم.(17)
الإنجيل كما اسلفنا يُغالط نفسه فمرة يقول ان مريم كانت عند يوسف النجار ولكنه في نص آخر يقول بأن مريم ذهبت عند زكريا وخالتها اليصابات كما نقرأ : (فقامت مريم وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلمت على اليصابات).(18)
والقرآن يتفق مع الإنجيل في تكلم السيد المسيح في المهد ففي القرآن قال : (فأشارت إليه قالوا كيف نُكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا).(19) وهذا ما أشار له الإنجيل من أن السيد المسيح كان مباركا كما نقرأ (المسيح الكائن على الكل مباركا إلى الأبد).(20) ففي هذه الآيات من القرآن تأكيد على أن السيد المسيح تكلم في المهد عندما أشارت له امه. والإنجيل أيضا يذهب بهذا الاتجاه فيقول : (وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله. فوقع خوف على كل جيرانهم. وتحدث بهذه الأمور في كل جبال اليهودية، فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين : أترى ماذا يكون هذا الصبي؟ وكانت يد الرب معه).(21) طبعا اليهود لم يعجبهم هذا النص ، فنسبوه إلى يوحنا لأنه احب إليهم، فهو نبي من أنبيائهم وابن كاهنهم الأكبر.
والآن بعد أن ثبت من الإنجيل وجود زكريا وكفالته لمريم ، وأن مريم هي من لجأت إليه ، نأتي لنستعرض وضع يوسف النجار وما نُسب إليه من مزاعم كفالة او خطوبة مريم.
لم يرد ذكر يوسف النجار في رسائل بولس الطرسوسي وهي أقدم الوثائق المسيحية. وكذلك لم يرد ذكره في أول وأقدم الاناجيل التي كُتبت وهو إنجيل القديس مرقس.(22) وقد شطح مرقس في إنجيله عندما اعتبر السيد المسيح هو النجار كما يقول : (أليس هذا هو النجار ابن مريم).(23) فلو كان يعرف يوسف النجار لذكره. ولكن أول ظهور ليوسف النجار كان في إنجيل متى ثم لوقا، ومع ذلك اختلفوا في امور كثيرة تتعلق بحياته.
يضاف إلى ذلك أنه ليس من المنطقي أن يُشاهد يوسف النجار كل هذه الآيات تظهر من السيد المسيح ثم لا يعترف به نبي ولا يؤمن به ، بل بقى مصرا على يهوديته كما يقول قاموس الكتاب المقدس : (وكان يوسف عبرانيا بارا محافظا على الفروض والطقوس اليهودية. وعلى الأعياد اليهودية. وانه بقى على يهوديته حتى وفاته).(24)
بل أن اختلاف الاناجيل في من هو ابو يوسف النجار يدعونا للشك بشخصه فبحسب كتاب (المسيح فى الإنجيل والقرآن).(25) ذكر إنجيل متى أن أبا يوسف النجار اسمه (يعقوب) بينما أشار إنجيل لوقا إلى أن اسمه (هالى).وهذا الاختلاف لم يكن من اشخاص يجهلون يوسف بل من المعاصرين له لا بل من التلاميذ.
ولعل اغرب مفارقات الإنجيل أن اليهود يتهمون السيد المسيح بأنه ابن زنا. ولكنهم في نفس الوقت يقولون بأنه ابن يوسف النجار كما نقرأ : (اليس هذا ابن النجار أليس امه تدعى مريم).(26) هذا التناقض الفاضح كشفه القرآن بقوله : (وقولهم على مريم بهتانا عظيما).(27)
المصادر:
1- إنجيل متى 1 : 18 ـ 19.
2- يقول في سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية:القديسة حنّة ، هي والدة السيدة مريم العذراء.
3- سورة آل عمران آية : 35.
4- آل عمران آية : 36.
5- آل عمران آية : 37.
6- آل عمران آية : 44.
7- آل عمران آية : 37.
8- آل عمران آية : 37.
9- سورة آل عمران آية : 42.
10- سورة الأنبياء آية : 91.
11- ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، انه قال ان فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. وبما أن الجنة فيها المؤمنات فقط والقديسات الطاهرات ومن بينهن مريم فتكون فاطمة سيدتهن فمن باب الأولوية تكون فاطمة سيدتهن في الدنيا كما هي سيدتهن في الآخرة. وقد ورد عن ابن عباس (ان رسول الله قال في حق فاطمة انها سيدة نساء العالمين فقيل يا رسول الله أهي سيدة نساء عالمها فقال (صلى الله عليه وآله) ذاك لمريم بنت عمران فإما ابنتي فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين). وقد قال تعالى : (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين). فهل يقول قائل أن هؤلاء افضل من نبينا محمد صلوات الله عليه وآله. فيكون المعنى: إن هؤلاء الأنبياء أفضل أنبياء زمانهم. أمالي الصدوق ص 486، بشارة المصطفى ص 177، غاية المرام ج 1 ص 182، بحار الأنوار ج 37 ص 84، العوالم ج 11 ص 128.
12- إنجيل متى 1 : 18.
13- إنجيل لوقا 3 : 23.
14- إنجيل متى 1 : 17. و سفر إرمياء 5: 23. يقول في قاموس الكتاب المقدس: وكان يوسف عبرانيا بارا محافظا على الفروض والطقوس اليهودية، وعلى الأعياد اليهودية،ويؤكد موقع تيكلاهوم : بأن يوسف بقى على يهوديته حتى وفاته). قاموس الكتاب المقدس ، دائرة المعارف الكتابية المسيحية، شرح كلمة القديس يوسف النجار.
15- شرح الكتاب المقدس ، الموسوعة الكنيسة لتفسير العهد الجديد: تفسير إنجيل متى.
16- إنجيل متى 22 : 41 ــ 46.
17- يعني أنا لا أدري ما هي قصة اليهود مع (الحمام). السيد المسيح لم يصبح نبيا إلا بعد أن نزلت الحمامة على رأسه ، ويوسف لم يصبح كفيلا لمريم إلا بعد أن حطت الحمامة على رأسه.
18- إنجيل لوقا 1 : 40.
19- سورة مريم آية : 29.
20- رسالة رومية 9 : 5.
21- إنجيل لوقا 1 : 64 ــ 64.
22- معظم العلماء يعتبرونه أقدم الأناجيل ولم يذكر مرقس نسب السيد المسيح او سرد لولادته ويصور المسيح كبطل طارد الأرواح الشريرة معالج. أنظر إدواردز جيمس إنجيل مرقس دار إردمان للنشر ، 1978.وكذلك باول مارك آلان، يسوع كشخصية في التاريخ. طبع دار إيردمار للنشر ، 1998. ولعل من أغرب الأمور أن لا يرد ذكر مرقس ضمن تلاميذ السيد المسيح الاثنا عشر، ولكن اسمه ورد ضمن رسائل بولس بإسم (يوحنا مرقس). فكيف يكون مرقس مؤلفا للإنجيل وهو ليس من تلاميذ المسيح؟ .
23- إنجيل مرقس 6 : 3. وفي تبرير لهذا الخلط زعم المفسرون بأن السيد المسيح تعلم النجارة من أبيه يوسف النجار، ولكن لا يوجد دليل من الانجيل على ذلك.
24- قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية شرح كلمة القديس يُوسُف النجار خطيب العذراء مريم.
25- المسيح فى الإنجيل والقرآن عبد الكريم الخطيب الطبعة الأولى 1999.
26- إنجيل متى 13 : 55.
27- سورة النساء آية : 156.