صدى المهدي
03-09-2022, 09:15 AM
https://annabaa.org/aarticles/fileM/23/608768331df56.jpg
"تُعرف الأمور بأضدادها". هكذا قيل، وهي الحكمة والقاعدة الثابتة في الوجود؛ فالشجاع لن يُعرف، إلا عندما يُبتلى الناس بالجبان، ولن يعرف الناس الكرم والسخاء، إلا عندما يمقتوا البخل، ولن يعرفوا القيم والفضائل والمكارم، إلا عندما يتخبطوا في مستنقع الرذائل والمفاسد.
وفق هذه المعادلة يمكننا قراءة شخصية إمامنا الحسن السبط المجتبى، عليه السلام، ونحن نعيش هذه الايام فقد كان بحق، نورٌ ساطع في بحر الظلمات التي خيمت على المسلمين في عهده؛ هذا النور السماوي لم يتحقق بسهولة إنما بالتضحيات الجسام، فقد أريقت الدماء، وهتكت الحرمات واغتصبت الحقوق، وإلا فان لفظة "المائز"، ما هو إلا مفهوم عام، لا يتحقق على الأرض إلا بوجود مصاديق حقيقية تجسد الحق في مقابل الباطل، وتبين الصدق عن الكذب، وقيم الأرض عن قيم السماء.
لقد شهد الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، تقلّب وتحوّل المجتمع الاسلامي، من الحالة الإيمانية والروحانية التي كان عليها في مستويات عالية، في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، الى الحالة المتسافلة والمتداعية نحو الحضيض، بعد رحيله عن الدار الفانية، حيث بدأ البحث عن حياة الدعة والاسترخاء والاسترسال، والأخطر من كل ذلك؛ اللامسؤولية إزاء الحاكم وتصرفاته المنحرفة، الامر الذي جعل أهل البيت، عليهم السلام، يعلنون جهادهم للحفاظ على أصالة الدين، و روح القيم والمبادئ، وليقدموا المنهج الحق والطريق القويم للمسلمين وللأجيال.
وفي هذا الحيّز المحدود، لا يسعنا إلا أن نقتطف أزهار من الروضة الحسنية الفواحة بأريج الإيمان والفضيلة، لنقدمها بين يدي القارئ، علّها تكون بلسماً للجروح والتصدعات التي خلفها المنهج المغاير، متمثلاً بشخص معاوية، الذي تحوّل منذ استيلائه على مقدرات الأمة، الى منهج متميّز في الغدر والقتل على الهوية، وشراء الذمم، والسب والشتم، والاضطهاد.
الحِلم في خضم الفتن
جاء في اللغة: "الحلم، الأناة والعقل"، وهو نقيض "السَفَه". واذا اردنا تسليط الضوء على حِلم الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، وهو المعروف عنه في سيرته وسلوكه مع مجتمعه آنذاك، فهناك الكثير من الشواهد، بيد أننا نشير الى ما يأخذنا الى أبعاد واسعة من حياة هذا الإمام المظلوم في حياته وبعد استشهاده، وهو حلمه وأناته وصموده أمام الواقع السياسي الفاسد المفروض عليه، حيث يرى بأم عينيه أن منبوذاً وطريداً من "بني الطلقاء" الذين أطلقهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، قبل أن يعلنوا اسلامهم في مكة، وهو يصعد منبر النبي في المدينة بعد استيلائه غدراً وتآمراً على الحكم وعلى مقدرات المسلمين، وهو لا ينسى حديثه جده المصطفى صلى الله عليه وآله: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه".
ولولا اتصال قلبه الكبير بروح الرب، إذاً لمات كمداً، حيث كان يرى تقهقر المسلمين وصعود نجم الجاهلية الجديدة، ولولا حلمه العظيم النابع من قوة إيمانه بالله وتسليمه لقضائه، إذاً ما صبر على معاوية، وهو يرقى منبر جده، ويمزِّق المعاهدة، ويسبُّ أعظم الناس بعد الرسول.
ويكفي أن نعرف عظمة الإمام الحسن السبط، عليه السلام، في حلمه وأناته وصبره العجيب، عندما نعرف كيف بلغ المسلمون مستوى من الانحدار والتسافل في عهده، حتى كادوا يسلمونه مقيداً الى معاوية! كما يذكر المؤرخون.
فهذه كوفة الجُند، التي تأسست لتكون حامية للجيش الاسلامي، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين باتجاه المشرق، أصبحت في عهد الإمام الحسن، عليه السلام، مركزاً لصراع القبائل، وتسييس العسكر، وبات الناس يتبعون من يعطي أكثر، فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق، ولمنهج أهل البيت، إلاّ أنَّ معظم القبائل التي استوطنت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء، حتى أنَّهم تفرقوا عن القيادة الشرعية، وبدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب.
لقد تعبت الكوفة من الحروب، وبدأت تفكِّر في العيش الرغيد، وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر، ويبيّنون للناس فضائل إمامهم الحق، لقد غاب عنهم؛ عمار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين: "الرواحَ الرواحَ إلى الجنة". ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ، عليه السلام، مثلما كان عليٌّ لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بطلاً مقداماً، وقائداً ميدانيّاً محنّكاً. وغاب ابن التيهان الذي كان يعده الإمام علي، عليه السلام، أخاً له ، ويتأوّه لغيابه.
لنتصور حاكماً يتسلّم مقاليد الأمور حديثاً، وقد قتل أباه بالأمس غيلة وغدراً في ظروف اجتماعية وسياسية غاية في الحساسسية، ثم يرى التشرذم والتباطؤ في معسكره، ماذا يفعل؟ معظم حكامنا، وهم يقتدون بالحكام السابقين في التاريخ، لا ينتظرون هكذا لحظة حرجة، إنما يستبقون الوضع النفسي والاجتماعي، بشن حملة تعبئة قسرية تحت التهديد تارةً، والترغيب تارة اخرى. وهذا ما لم يفعله الامام الحسن، عليه السلام، لذا لم يستمر وجوده في سدة الحكم (السلطة) سوى ستة أشهر فقط.
فبعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، جاء الناس الى الامام الحسن، عليه السلام، وقالوا: أنت خليفة أبيك ووصيّه، ونحن السامعون المطيعون لك ، فمرنا بأمرك فقال:
كذبتم! والله ما وفيتم لمن كان خيراً منِّي، فكيف تفون لي؟! وكيف أطمئنُّ إليكم ولا أثقُ بكم؟! إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافُوا إليَّ هناك.
السب يقابله العفو
قال ابن شهر آشوب في كتابه "مناقب آل أبي طالب": "ومن حلمه ما روى المبرّد، وابن عائشة أن شامياً رآه راكباً، فجعل يلعنه ويلعن أمير المؤمنين، عليهما السلام، والحسن لا يرد، فلما فرغ، أقبل اليه الحسن، فسلم عليه مبتسماً، وقال: أيها الشيخ أظنك غريباً! ولعلك شُبّهت؛ فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيرا.
فلما سمع الرجل كلامه ، بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، ثم تلا الآية الكريمة: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحب خلق الله إليّ. ثم حوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.
في مقابل هذا المنهج، نلاحظ المنهج الأموي الذي اختطه معاوية في السبّ واللعن. تقول الروايات التاريخية، أنه سنّ هذه السنّة السيئة منذ استيلائه على مقدرات الأمة، سنة أربعين للهجرة، واستمرت حتى سنة (99) للهجرة، حيث كانت المآذن والمساجد والمنابر تلهج بلعن الإمام علي، عليه السلام، على أنها سنّة لابد من الالتزام بها. وكان المغفلون من المسلمين في الشام وغيرها من الأمصار البعيدة عن الحقائق، تردد هذا اللعن جيلاً بعد جيل!
شراء الذمم وشراء ماء الوجه
ربما يمكنني القول: أن معاوية كان الرائد والسبّاق في أفكار وسنن ونظريات في الجانب الآخر من القيم الاخلاقية والانسانية، لم يسبقه أحد بها، منها شراء الذمم والضمائر من أجل تحقيق النصر السريع والمكاسب السياسية العاجلة، وهو قد رأى شدة بأس أمير المؤمنين، عليه السلام، وتجييشه ذلك الجيش المقدام في بداية أمره، وفيه خيرة وجوه المسلمين، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وحتى ممن شاركوا في معركة "بدر". وبالنتيجة قوة الحق التي لا تقاوم بترهات الباطل والانحراف. لذا لجأ الى الفكرة الشيطانية بامتياز، وهي اختراق النفوس الضعيفة بالاموال والامتيازات، وفي عهد الإمام الحسن السبط، عليه السلام، عندما الجيش المتمركز في الكوفة، أدنى درجات التشرذم والتخاذل وضعف الإيمان، أدت مكائد معاوية مفعولها السريع، فعمد الى استمالة رؤساء القبائل والعشائر التي كانت منضوية تحت لواء الامام الحسن، عليه السلام، وهو نفس الجيش الذي نظمه أبوه أمير المؤمنين، عليه السلام، لإعادة الكرّة على جيش معاوية والقضاء عليهم، بعد الإنتهاء من أمر "الخوارج"، وأصحاب "الجمل"، فكانت قرقعة الدراهم والدنانير، أقوى وأشد على النفوس، من الإيمان بالله واليوم والآخر، والولاء لأهل البيت عليهم السلام، بل حتى برسول الله صلى الله عليه وآله، الذي طالما ملء آذانهم بوصاياه بهم خيراً، كما بيّن لهم منزلتهم ومكانتهم العظيمة.
الروايات التاريخية تذكر لنا كيف أن معاوية أرسل أكياس الدراهم والدنانير لهذا وذاك، يستميلهم الى جانبه ليتخلّوا عن الامام الحسن، عليه السلام، حتى بلغت الخيانة والخذلان الى قادة الجند، من الذين كان يعتمد عليهم، عليه السلام.
لا علينا بتفاصيل هذه النقطة السوداء والمؤلمة في تاريخنا، إنما لنلاحظ نهج الإمام الحسن السبط مع الناس المحتاجين والفقراء بعد تخلّيه قسراً على الحكم وعودته الى مدينة جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، فخلال العشرة سنوات التي قضاها، عليه السلام، قبل استشهاده، أوقف أمواله للمحتاجين والفقراء، فكان عطاؤه بلا حدود، وفوق طاقة السائل، والقصص التاريخية كثيرة في هذا المجال، بحيث كان الفقير يستغرب العطاء وبعضهم يبكي لما يجده من الامام السبط، عليه السلام، في ظل سياسات التمييز والحرمان التي يمارسها معاوية.
ومما جاء في كتب السيرة انه عليه السلام، قيل له مرة: لأي شيء لا نراك ترد سائلاً؟ قال عليه السلام: "إني لله سائل وفيه راغب، وانا أستحي ان اكون سائلاً وأرد سائلاً وان الله عودني عادة: ان يفيض نعمه عليّ وعودته ان أفيض نعمه على الناس، فأخشى ان قعطت العادة ان يمنعني العادة".
ومما ينقل عن كرمه اللامحدود، أن جاءه اعرابي سائلاً: فقال: اعطوه ما في الخزانة، وكان فيها عشرة آلاف درهم.
فقال له الاعرابي: يا سيدي! هلا تركتني أبوح بحاجتي وانشر مدحتي؟! وكأن الإمام، عليه السلام، يجيبه:
نحن أناس نوالنا خضلُ يرتع فيه الرجاء والأملُ
تجود قبل السؤال انفسنا خوفاً على ماء وجه من يسلُ
لو علم البحر فضل نائلنا لغاض من بعد فيضه خجلُ
هذا هو المنهج الطافح بالقيم الإنسانية النبيلة، التي طالما يأن العالم باستمرار من هذا الظمأ والحاجة اليها. كما يضجّ وبشدة من وقع التمييز والاجحاف والخيانة، وكل اشكال الرذيلة التي يشهدها العالم اليوم.
من شبكة النبا المعلوماتية
محمد علي جواد تقي
"تُعرف الأمور بأضدادها". هكذا قيل، وهي الحكمة والقاعدة الثابتة في الوجود؛ فالشجاع لن يُعرف، إلا عندما يُبتلى الناس بالجبان، ولن يعرف الناس الكرم والسخاء، إلا عندما يمقتوا البخل، ولن يعرفوا القيم والفضائل والمكارم، إلا عندما يتخبطوا في مستنقع الرذائل والمفاسد.
وفق هذه المعادلة يمكننا قراءة شخصية إمامنا الحسن السبط المجتبى، عليه السلام، ونحن نعيش هذه الايام فقد كان بحق، نورٌ ساطع في بحر الظلمات التي خيمت على المسلمين في عهده؛ هذا النور السماوي لم يتحقق بسهولة إنما بالتضحيات الجسام، فقد أريقت الدماء، وهتكت الحرمات واغتصبت الحقوق، وإلا فان لفظة "المائز"، ما هو إلا مفهوم عام، لا يتحقق على الأرض إلا بوجود مصاديق حقيقية تجسد الحق في مقابل الباطل، وتبين الصدق عن الكذب، وقيم الأرض عن قيم السماء.
لقد شهد الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، تقلّب وتحوّل المجتمع الاسلامي، من الحالة الإيمانية والروحانية التي كان عليها في مستويات عالية، في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، الى الحالة المتسافلة والمتداعية نحو الحضيض، بعد رحيله عن الدار الفانية، حيث بدأ البحث عن حياة الدعة والاسترخاء والاسترسال، والأخطر من كل ذلك؛ اللامسؤولية إزاء الحاكم وتصرفاته المنحرفة، الامر الذي جعل أهل البيت، عليهم السلام، يعلنون جهادهم للحفاظ على أصالة الدين، و روح القيم والمبادئ، وليقدموا المنهج الحق والطريق القويم للمسلمين وللأجيال.
وفي هذا الحيّز المحدود، لا يسعنا إلا أن نقتطف أزهار من الروضة الحسنية الفواحة بأريج الإيمان والفضيلة، لنقدمها بين يدي القارئ، علّها تكون بلسماً للجروح والتصدعات التي خلفها المنهج المغاير، متمثلاً بشخص معاوية، الذي تحوّل منذ استيلائه على مقدرات الأمة، الى منهج متميّز في الغدر والقتل على الهوية، وشراء الذمم، والسب والشتم، والاضطهاد.
الحِلم في خضم الفتن
جاء في اللغة: "الحلم، الأناة والعقل"، وهو نقيض "السَفَه". واذا اردنا تسليط الضوء على حِلم الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، وهو المعروف عنه في سيرته وسلوكه مع مجتمعه آنذاك، فهناك الكثير من الشواهد، بيد أننا نشير الى ما يأخذنا الى أبعاد واسعة من حياة هذا الإمام المظلوم في حياته وبعد استشهاده، وهو حلمه وأناته وصموده أمام الواقع السياسي الفاسد المفروض عليه، حيث يرى بأم عينيه أن منبوذاً وطريداً من "بني الطلقاء" الذين أطلقهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، قبل أن يعلنوا اسلامهم في مكة، وهو يصعد منبر النبي في المدينة بعد استيلائه غدراً وتآمراً على الحكم وعلى مقدرات المسلمين، وهو لا ينسى حديثه جده المصطفى صلى الله عليه وآله: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه".
ولولا اتصال قلبه الكبير بروح الرب، إذاً لمات كمداً، حيث كان يرى تقهقر المسلمين وصعود نجم الجاهلية الجديدة، ولولا حلمه العظيم النابع من قوة إيمانه بالله وتسليمه لقضائه، إذاً ما صبر على معاوية، وهو يرقى منبر جده، ويمزِّق المعاهدة، ويسبُّ أعظم الناس بعد الرسول.
ويكفي أن نعرف عظمة الإمام الحسن السبط، عليه السلام، في حلمه وأناته وصبره العجيب، عندما نعرف كيف بلغ المسلمون مستوى من الانحدار والتسافل في عهده، حتى كادوا يسلمونه مقيداً الى معاوية! كما يذكر المؤرخون.
فهذه كوفة الجُند، التي تأسست لتكون حامية للجيش الاسلامي، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين باتجاه المشرق، أصبحت في عهد الإمام الحسن، عليه السلام، مركزاً لصراع القبائل، وتسييس العسكر، وبات الناس يتبعون من يعطي أكثر، فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق، ولمنهج أهل البيت، إلاّ أنَّ معظم القبائل التي استوطنت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء، حتى أنَّهم تفرقوا عن القيادة الشرعية، وبدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب.
لقد تعبت الكوفة من الحروب، وبدأت تفكِّر في العيش الرغيد، وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر، ويبيّنون للناس فضائل إمامهم الحق، لقد غاب عنهم؛ عمار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين: "الرواحَ الرواحَ إلى الجنة". ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ، عليه السلام، مثلما كان عليٌّ لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بطلاً مقداماً، وقائداً ميدانيّاً محنّكاً. وغاب ابن التيهان الذي كان يعده الإمام علي، عليه السلام، أخاً له ، ويتأوّه لغيابه.
لنتصور حاكماً يتسلّم مقاليد الأمور حديثاً، وقد قتل أباه بالأمس غيلة وغدراً في ظروف اجتماعية وسياسية غاية في الحساسسية، ثم يرى التشرذم والتباطؤ في معسكره، ماذا يفعل؟ معظم حكامنا، وهم يقتدون بالحكام السابقين في التاريخ، لا ينتظرون هكذا لحظة حرجة، إنما يستبقون الوضع النفسي والاجتماعي، بشن حملة تعبئة قسرية تحت التهديد تارةً، والترغيب تارة اخرى. وهذا ما لم يفعله الامام الحسن، عليه السلام، لذا لم يستمر وجوده في سدة الحكم (السلطة) سوى ستة أشهر فقط.
فبعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، جاء الناس الى الامام الحسن، عليه السلام، وقالوا: أنت خليفة أبيك ووصيّه، ونحن السامعون المطيعون لك ، فمرنا بأمرك فقال:
كذبتم! والله ما وفيتم لمن كان خيراً منِّي، فكيف تفون لي؟! وكيف أطمئنُّ إليكم ولا أثقُ بكم؟! إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافُوا إليَّ هناك.
السب يقابله العفو
قال ابن شهر آشوب في كتابه "مناقب آل أبي طالب": "ومن حلمه ما روى المبرّد، وابن عائشة أن شامياً رآه راكباً، فجعل يلعنه ويلعن أمير المؤمنين، عليهما السلام، والحسن لا يرد، فلما فرغ، أقبل اليه الحسن، فسلم عليه مبتسماً، وقال: أيها الشيخ أظنك غريباً! ولعلك شُبّهت؛ فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيرا.
فلما سمع الرجل كلامه ، بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، ثم تلا الآية الكريمة: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحب خلق الله إليّ. ثم حوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.
في مقابل هذا المنهج، نلاحظ المنهج الأموي الذي اختطه معاوية في السبّ واللعن. تقول الروايات التاريخية، أنه سنّ هذه السنّة السيئة منذ استيلائه على مقدرات الأمة، سنة أربعين للهجرة، واستمرت حتى سنة (99) للهجرة، حيث كانت المآذن والمساجد والمنابر تلهج بلعن الإمام علي، عليه السلام، على أنها سنّة لابد من الالتزام بها. وكان المغفلون من المسلمين في الشام وغيرها من الأمصار البعيدة عن الحقائق، تردد هذا اللعن جيلاً بعد جيل!
شراء الذمم وشراء ماء الوجه
ربما يمكنني القول: أن معاوية كان الرائد والسبّاق في أفكار وسنن ونظريات في الجانب الآخر من القيم الاخلاقية والانسانية، لم يسبقه أحد بها، منها شراء الذمم والضمائر من أجل تحقيق النصر السريع والمكاسب السياسية العاجلة، وهو قد رأى شدة بأس أمير المؤمنين، عليه السلام، وتجييشه ذلك الجيش المقدام في بداية أمره، وفيه خيرة وجوه المسلمين، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وحتى ممن شاركوا في معركة "بدر". وبالنتيجة قوة الحق التي لا تقاوم بترهات الباطل والانحراف. لذا لجأ الى الفكرة الشيطانية بامتياز، وهي اختراق النفوس الضعيفة بالاموال والامتيازات، وفي عهد الإمام الحسن السبط، عليه السلام، عندما الجيش المتمركز في الكوفة، أدنى درجات التشرذم والتخاذل وضعف الإيمان، أدت مكائد معاوية مفعولها السريع، فعمد الى استمالة رؤساء القبائل والعشائر التي كانت منضوية تحت لواء الامام الحسن، عليه السلام، وهو نفس الجيش الذي نظمه أبوه أمير المؤمنين، عليه السلام، لإعادة الكرّة على جيش معاوية والقضاء عليهم، بعد الإنتهاء من أمر "الخوارج"، وأصحاب "الجمل"، فكانت قرقعة الدراهم والدنانير، أقوى وأشد على النفوس، من الإيمان بالله واليوم والآخر، والولاء لأهل البيت عليهم السلام، بل حتى برسول الله صلى الله عليه وآله، الذي طالما ملء آذانهم بوصاياه بهم خيراً، كما بيّن لهم منزلتهم ومكانتهم العظيمة.
الروايات التاريخية تذكر لنا كيف أن معاوية أرسل أكياس الدراهم والدنانير لهذا وذاك، يستميلهم الى جانبه ليتخلّوا عن الامام الحسن، عليه السلام، حتى بلغت الخيانة والخذلان الى قادة الجند، من الذين كان يعتمد عليهم، عليه السلام.
لا علينا بتفاصيل هذه النقطة السوداء والمؤلمة في تاريخنا، إنما لنلاحظ نهج الإمام الحسن السبط مع الناس المحتاجين والفقراء بعد تخلّيه قسراً على الحكم وعودته الى مدينة جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، فخلال العشرة سنوات التي قضاها، عليه السلام، قبل استشهاده، أوقف أمواله للمحتاجين والفقراء، فكان عطاؤه بلا حدود، وفوق طاقة السائل، والقصص التاريخية كثيرة في هذا المجال، بحيث كان الفقير يستغرب العطاء وبعضهم يبكي لما يجده من الامام السبط، عليه السلام، في ظل سياسات التمييز والحرمان التي يمارسها معاوية.
ومما جاء في كتب السيرة انه عليه السلام، قيل له مرة: لأي شيء لا نراك ترد سائلاً؟ قال عليه السلام: "إني لله سائل وفيه راغب، وانا أستحي ان اكون سائلاً وأرد سائلاً وان الله عودني عادة: ان يفيض نعمه عليّ وعودته ان أفيض نعمه على الناس، فأخشى ان قعطت العادة ان يمنعني العادة".
ومما ينقل عن كرمه اللامحدود، أن جاءه اعرابي سائلاً: فقال: اعطوه ما في الخزانة، وكان فيها عشرة آلاف درهم.
فقال له الاعرابي: يا سيدي! هلا تركتني أبوح بحاجتي وانشر مدحتي؟! وكأن الإمام، عليه السلام، يجيبه:
نحن أناس نوالنا خضلُ يرتع فيه الرجاء والأملُ
تجود قبل السؤال انفسنا خوفاً على ماء وجه من يسلُ
لو علم البحر فضل نائلنا لغاض من بعد فيضه خجلُ
هذا هو المنهج الطافح بالقيم الإنسانية النبيلة، التي طالما يأن العالم باستمرار من هذا الظمأ والحاجة اليها. كما يضجّ وبشدة من وقع التمييز والاجحاف والخيانة، وكل اشكال الرذيلة التي يشهدها العالم اليوم.
من شبكة النبا المعلوماتية
محمد علي جواد تقي