صدى المهدي
09-10-2022, 06:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
حول قوله الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ / وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾([1]) يبدو أنَّه لا يقصد الأرض بل كل ما على وجه الوجود وذلك لقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
س١: هل الفناء خاصٌّ بذوي الأرواح أم أنَّ الفناء يشملُ حتى الجمادات والأفلاك؟
س٢: هل نزعُ الروح وموت الحيوان هو معنى الفناء هنا، وهنا ينقدحُ السؤال كيف تفنى العقول المجردة لو صحَّ أنَّها موجودة؟
الجواب:
مرجع الضمير في قوله:﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾:
المستظهَر مِن مساق الآية المباركة أنَّ المقصود من الضمير في قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾ هو الأرض، فهي وإنْ لم تكن مذكورة ولكنَّها تُعرف من قرينة السياق تمامًا كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾([2]) فإنَّ مرجع الضمير هو الأرض وإنْ لم يسبق لها ذكر، وكذلك قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾([3])فإنَّ الضمير في قوله: ﴿تَوَارَتْ﴾ يرجعُ إلى الشمس وإنْ لم يسبق لها ذكر، وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ ..﴾([4]) فإنَّ الضمير في قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ يرجعُ على الميِّت وإنّْ لم يسبق له ذكر في الآية، فإنَّ الاستغناء عن ذكر مرجع الضمير ينشأ عن وضوح المراد أو قرينة السياق.
وعليه فالمراد من قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ هو كلُّ مَن على وجه الأرض، فمرجع الضمير وهي الأرض وإنْ لم تذكر إلا أنَّ ذلك هو المناسب لكون الضمير مؤنثًا وكونه مدخولًا لحرف الاستعلاء (على) وكون الآية واقعة في سياق التَعداد لآلاء الله ونعمه المحسوسة والجارية منه تعالى للثقلين في هذه الأرض كقوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾([5]) وقوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ / بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾([6]) وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾([7]) فإنَّ كلَّ هذه النعم واقعة للثقلين في هذه الأرض.
الآية تتحدَّثُ عن فناء الثقلين:
وبذلك يكون مفادُ الآية -ظاهرًا- هو أنَّ كلَّ من على وجه الأرض مِن الثقلين وهما الجنُّ والأنس مآلهم إلى الفناء فالآية تتحدَّث عن فناء الثقلين وليست بصدد الحديث عن فناء سائر الموجودات الكائنة على الأرض من الحيوانات والجمادات، وذلك بقرينة استعمال الاسم الموصول " مَن" والذي هو لخصوص العاقل.
فهي إذن ساكتة عن بيان فناء سائر الموجودات الكائنة على الأرض، نعم الآيةُ التي تعمُّ سائر الموجودات هي قولُه تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾([8]) والآيةُ التي تعمُّ ذوات الأرواح هي قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾([9]) وأمَّا آية : ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ فالظاهر أنَّها ليست بصدد البيان لفناء سائر الموجودات بل هي بصدد البيان لفناء الثقلين من الجنِّ والإنس فهم سكانُ الأرض وهم المخاطبون في سورة الرحمن.
ولعلَّ ممَّا يُؤيد ذلك هو ما ورد في المأثور: أنَّه: "لما نزلت: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ قالت الملائكة: هلك أهلُ الأرض، فلمَّا نزلت: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ قالت الملائكة: هلك كلُّ نفس، فلمَّا نزلت: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ قالت الملائكة: هلك أهلُ السماء وأهلُ الأرض"([10]).
وورد أنَّه: "لما نزل قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ قالت الملائكة: هلك أهلُ الأرض فلمَّا نزل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ أيقنت الملائكة أنَّها تهلكُ معهم"([11]).
وعلى أيِّ تقدير فلا محذور من أنْ يكون المراد من الآية هو فناء كلِّ ما هو موجود على هذه الأرض من ذوات الأرواح العاقلة وغير العاقلة والنباتات والجمادات، فيكون استعمال الاسم الموصول" مَن" في الأعم من العاقل وغير العاقل، وهو جائز إلا أنَّه لا يُمكن استظهار إرادته دون قرينة، وكذلك لا محذورَ في استعمال الأرض -والتي هي مرجع الضمير- وإرادة هذه النشأة، فتكون الآيةُ دالةً على فناء كلِّ موجودٍ في عالم الدنيا، وبه تكونُ الآية قد استعملت الأرض مجازًا للتعبير عن عالم الدنيا بقرينة المقابلة المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
المراد من الفناء في الآية:
وكيف كان فالمراد من الفناء في الآية هو الموت فإنَّ ذلك هو المستظهَر عرفًا من مدلول الفناء في الآية، على أنَّ استعمال الفناء في الموت شائعٌ في كلام العرب، يُقال تفاني القوم أي قتل بعضُهم بعضًا ويُقال: أفنتهم الحرب أي أفضت إلى إبادتهم وموتِهم بل إنَّهم يستعملون مادة الفناء في الهرم والضعف الناشئ عن التقدُّم في السنِّ وذلك لمناسبة أنَّ الضعف والهرم يكون مقدمةً قريبةً للموت، فيُقال للهرِم أنَّه شيخٌ فانٍ لأنَّه يوشَكُ أن يموت، ويُقال: ناقةٌ فانية أي مسنَّة، فاستعمال الفناء في الموت متعارَفٌ في كلام العرب بل هو المعنى المنسبِق للذهن عند الإطلاق، وعليه فالظاهر أنَّ المراد من الفناء في الآية هو الموتُ، والموتُ لا يُساوق العدم المطلق، لذلك لا تكون الآية منافيةً لما دلَّ على أنَّ الأرواح ترجع بالموت إلى ربِّها، ولعلَّ ما يؤيد ذلك ما ورد في المأثور عن أبي جعفرٍ الجواد (ع) قال: "فإذا أفنى اللهُ الأشياء أفنى الصور والهجاء"([12]).
وكذلك هو مدلولُ الهلاك في مثل قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ فإنَّ المراد من الهلاك -ظاهرا- هو الموت، وقد استعمل القرآنُ لفظ الهلاك وأراد منه الموت في أكثر من موضعٍ كما في قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾([13]) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾([14]).
موت كلِّ شيء بحسبِه:
وعليه فمعنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ هو أنَّ كلَّ مَن عليها فإنَّه يموت، وأنَّ كلَّ شيءٍ فإنَّه يموت، وموتُ كلِّ شيء بحسبِه، ومعناه الجامع هو خروجُ الشيء عن الصفة والخصوصية التي يُنتفع مِن الشيءِ بسبب وجودها. فيُقال فني الزرعُ بمعنى تهشَّم أو ذبل ولم يعد قابلًا للنمو والإثمار، وفنيت المدينةُ بمعنى تهاوت أسوارُها وتحطَّمت مبانيها ولم تعُد صالحة للسكنى، وفنيَ الطعامُ بمعنى أنَّه تحوَّل بعد أكله إلى أجزاء وعصارات غيرِ صالحةٍ لأنْ تُؤكل مرَّةً أخرى، فالفناء في تمام هذه الأمثلة ليس بمعنى العدم المطلق وإنَّما هو بمعنى انتفاء الصورة النوعية التي كان النفع من ذلك الشيء مُسببًّا عن وجودِها، فحين انتفت انتفى عنها النفعُ المنتَظَر منها. وهكذا هو معنى فناء الإنسان فهو ليس بمعنى عدمه المُطلق وإنَّما هو بمعنى خلوِّ الجسد من الروح، فكان انتفاء هذه الخصوصية سببًا في انتفاء الانتفاع من الجسد، وموتُ الجسد بمعنى تبدُّد صورته النوعية وصيروته ترابًا وليس بمعنى انعدام مواد الجسد وأجزائه.
موتُ الجمادات والأفلاك وموتُ الأرواح:
وممَّا ذكرناه يتَّضح الجواب عن السؤال الأول وأنَّ الفناء لا يختصُّ بذوات الأرواح بل يشملُ مطلق الجمادات والأفلاك وقد بيَّن القرآن في مواضع عديدة أمثلةً لفناء الجمادات والأفلاك كقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا / فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا / لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾([15])، ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾([16]) وقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ / وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ / وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾([17]) وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾([18]) فالمراد من فناء الكون هو انفراط نظامه وتبدُّد صورته وانتفاء فاعليته التي كانت له قبل فنائه وليس المراد من فنائه هو تلاشي ذراته وانعدامه المطلق، فإنَّ ذلك منافٍ لما يظهرُ من الآيات من أنَّ الله تعالى يبعث الناس من ذات الذرَّات التي كانت منها أجسادهم فإنَّ ذلك هو معنى النشور ومعنى مثل قوله: ﴿بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور﴾([19]).
وأمَّا فناءُ الأرواح والعقول المجرَّدة -بناءً على وجودها- فهو بمعنى قبضِها ورجوعِها إلى بارئها وانتفاءِ فاعليتها التي مُنحتْ لها من قِبَلِ بارئها في هذه النشأة، ولعلَّ ممَّا يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([20]) وقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([21]) وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([22]) وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([23]) وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([24]).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
5 / ربيع الأول / 1444ه
2 / أكتوبر / 2022م
[1]- سورة الرحمن / 26-27.
[2]- سورة فاطر / 45.
[3]- سورة ص / 32.
[4]- سورة النساء / 11.
[5]- سورة الرحمن / 17.
[6]- سورة الرحمن / 19-22.
[7]- سورة الرحمن / 24.
[8]- سورة القصص / 88.
[9]- سورة آل عمران / 185.
[10]- الدر المنثور -السيوطي- ج5 / ص140.
[11]- الدر المنثور -السيوطي- ج5 / ص140.
[12]- التوحيد -الصدوق- ص193.
[13]- سورة النساء / 176.
[14]- سورة غافر / 34.
[15]- سورة طه / 105-107.
[16]- سورة القارعة / 5.
[17]- سورة الانفطار / 1-3.
[18]- سورة الرحمن / 37.
[19]- سورة العاديات / 9.
[20]- سورة القصص / 88.
[21]- سورة يس / 83.
[22]- سورة العنكبوت / 17.
[23]- سورة الروم / 11.
[24]- سورة القصص / 70.
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
حول قوله الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ / وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾([1]) يبدو أنَّه لا يقصد الأرض بل كل ما على وجه الوجود وذلك لقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
س١: هل الفناء خاصٌّ بذوي الأرواح أم أنَّ الفناء يشملُ حتى الجمادات والأفلاك؟
س٢: هل نزعُ الروح وموت الحيوان هو معنى الفناء هنا، وهنا ينقدحُ السؤال كيف تفنى العقول المجردة لو صحَّ أنَّها موجودة؟
الجواب:
مرجع الضمير في قوله:﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾:
المستظهَر مِن مساق الآية المباركة أنَّ المقصود من الضمير في قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾ هو الأرض، فهي وإنْ لم تكن مذكورة ولكنَّها تُعرف من قرينة السياق تمامًا كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾([2]) فإنَّ مرجع الضمير هو الأرض وإنْ لم يسبق لها ذكر، وكذلك قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾([3])فإنَّ الضمير في قوله: ﴿تَوَارَتْ﴾ يرجعُ إلى الشمس وإنْ لم يسبق لها ذكر، وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ ..﴾([4]) فإنَّ الضمير في قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ يرجعُ على الميِّت وإنّْ لم يسبق له ذكر في الآية، فإنَّ الاستغناء عن ذكر مرجع الضمير ينشأ عن وضوح المراد أو قرينة السياق.
وعليه فالمراد من قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ هو كلُّ مَن على وجه الأرض، فمرجع الضمير وهي الأرض وإنْ لم تذكر إلا أنَّ ذلك هو المناسب لكون الضمير مؤنثًا وكونه مدخولًا لحرف الاستعلاء (على) وكون الآية واقعة في سياق التَعداد لآلاء الله ونعمه المحسوسة والجارية منه تعالى للثقلين في هذه الأرض كقوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾([5]) وقوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ / بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾([6]) وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾([7]) فإنَّ كلَّ هذه النعم واقعة للثقلين في هذه الأرض.
الآية تتحدَّثُ عن فناء الثقلين:
وبذلك يكون مفادُ الآية -ظاهرًا- هو أنَّ كلَّ من على وجه الأرض مِن الثقلين وهما الجنُّ والأنس مآلهم إلى الفناء فالآية تتحدَّث عن فناء الثقلين وليست بصدد الحديث عن فناء سائر الموجودات الكائنة على الأرض من الحيوانات والجمادات، وذلك بقرينة استعمال الاسم الموصول " مَن" والذي هو لخصوص العاقل.
فهي إذن ساكتة عن بيان فناء سائر الموجودات الكائنة على الأرض، نعم الآيةُ التي تعمُّ سائر الموجودات هي قولُه تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾([8]) والآيةُ التي تعمُّ ذوات الأرواح هي قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾([9]) وأمَّا آية : ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ فالظاهر أنَّها ليست بصدد البيان لفناء سائر الموجودات بل هي بصدد البيان لفناء الثقلين من الجنِّ والإنس فهم سكانُ الأرض وهم المخاطبون في سورة الرحمن.
ولعلَّ ممَّا يُؤيد ذلك هو ما ورد في المأثور: أنَّه: "لما نزلت: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ قالت الملائكة: هلك أهلُ الأرض، فلمَّا نزلت: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ قالت الملائكة: هلك كلُّ نفس، فلمَّا نزلت: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ قالت الملائكة: هلك أهلُ السماء وأهلُ الأرض"([10]).
وورد أنَّه: "لما نزل قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ قالت الملائكة: هلك أهلُ الأرض فلمَّا نزل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ أيقنت الملائكة أنَّها تهلكُ معهم"([11]).
وعلى أيِّ تقدير فلا محذور من أنْ يكون المراد من الآية هو فناء كلِّ ما هو موجود على هذه الأرض من ذوات الأرواح العاقلة وغير العاقلة والنباتات والجمادات، فيكون استعمال الاسم الموصول" مَن" في الأعم من العاقل وغير العاقل، وهو جائز إلا أنَّه لا يُمكن استظهار إرادته دون قرينة، وكذلك لا محذورَ في استعمال الأرض -والتي هي مرجع الضمير- وإرادة هذه النشأة، فتكون الآيةُ دالةً على فناء كلِّ موجودٍ في عالم الدنيا، وبه تكونُ الآية قد استعملت الأرض مجازًا للتعبير عن عالم الدنيا بقرينة المقابلة المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
المراد من الفناء في الآية:
وكيف كان فالمراد من الفناء في الآية هو الموت فإنَّ ذلك هو المستظهَر عرفًا من مدلول الفناء في الآية، على أنَّ استعمال الفناء في الموت شائعٌ في كلام العرب، يُقال تفاني القوم أي قتل بعضُهم بعضًا ويُقال: أفنتهم الحرب أي أفضت إلى إبادتهم وموتِهم بل إنَّهم يستعملون مادة الفناء في الهرم والضعف الناشئ عن التقدُّم في السنِّ وذلك لمناسبة أنَّ الضعف والهرم يكون مقدمةً قريبةً للموت، فيُقال للهرِم أنَّه شيخٌ فانٍ لأنَّه يوشَكُ أن يموت، ويُقال: ناقةٌ فانية أي مسنَّة، فاستعمال الفناء في الموت متعارَفٌ في كلام العرب بل هو المعنى المنسبِق للذهن عند الإطلاق، وعليه فالظاهر أنَّ المراد من الفناء في الآية هو الموتُ، والموتُ لا يُساوق العدم المطلق، لذلك لا تكون الآية منافيةً لما دلَّ على أنَّ الأرواح ترجع بالموت إلى ربِّها، ولعلَّ ما يؤيد ذلك ما ورد في المأثور عن أبي جعفرٍ الجواد (ع) قال: "فإذا أفنى اللهُ الأشياء أفنى الصور والهجاء"([12]).
وكذلك هو مدلولُ الهلاك في مثل قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ فإنَّ المراد من الهلاك -ظاهرا- هو الموت، وقد استعمل القرآنُ لفظ الهلاك وأراد منه الموت في أكثر من موضعٍ كما في قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾([13]) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾([14]).
موت كلِّ شيء بحسبِه:
وعليه فمعنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ هو أنَّ كلَّ مَن عليها فإنَّه يموت، وأنَّ كلَّ شيءٍ فإنَّه يموت، وموتُ كلِّ شيء بحسبِه، ومعناه الجامع هو خروجُ الشيء عن الصفة والخصوصية التي يُنتفع مِن الشيءِ بسبب وجودها. فيُقال فني الزرعُ بمعنى تهشَّم أو ذبل ولم يعد قابلًا للنمو والإثمار، وفنيت المدينةُ بمعنى تهاوت أسوارُها وتحطَّمت مبانيها ولم تعُد صالحة للسكنى، وفنيَ الطعامُ بمعنى أنَّه تحوَّل بعد أكله إلى أجزاء وعصارات غيرِ صالحةٍ لأنْ تُؤكل مرَّةً أخرى، فالفناء في تمام هذه الأمثلة ليس بمعنى العدم المطلق وإنَّما هو بمعنى انتفاء الصورة النوعية التي كان النفع من ذلك الشيء مُسببًّا عن وجودِها، فحين انتفت انتفى عنها النفعُ المنتَظَر منها. وهكذا هو معنى فناء الإنسان فهو ليس بمعنى عدمه المُطلق وإنَّما هو بمعنى خلوِّ الجسد من الروح، فكان انتفاء هذه الخصوصية سببًا في انتفاء الانتفاع من الجسد، وموتُ الجسد بمعنى تبدُّد صورته النوعية وصيروته ترابًا وليس بمعنى انعدام مواد الجسد وأجزائه.
موتُ الجمادات والأفلاك وموتُ الأرواح:
وممَّا ذكرناه يتَّضح الجواب عن السؤال الأول وأنَّ الفناء لا يختصُّ بذوات الأرواح بل يشملُ مطلق الجمادات والأفلاك وقد بيَّن القرآن في مواضع عديدة أمثلةً لفناء الجمادات والأفلاك كقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا / فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا / لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾([15])، ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾([16]) وقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ / وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ / وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾([17]) وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾([18]) فالمراد من فناء الكون هو انفراط نظامه وتبدُّد صورته وانتفاء فاعليته التي كانت له قبل فنائه وليس المراد من فنائه هو تلاشي ذراته وانعدامه المطلق، فإنَّ ذلك منافٍ لما يظهرُ من الآيات من أنَّ الله تعالى يبعث الناس من ذات الذرَّات التي كانت منها أجسادهم فإنَّ ذلك هو معنى النشور ومعنى مثل قوله: ﴿بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور﴾([19]).
وأمَّا فناءُ الأرواح والعقول المجرَّدة -بناءً على وجودها- فهو بمعنى قبضِها ورجوعِها إلى بارئها وانتفاءِ فاعليتها التي مُنحتْ لها من قِبَلِ بارئها في هذه النشأة، ولعلَّ ممَّا يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([20]) وقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([21]) وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([22]) وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([23]) وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([24]).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
5 / ربيع الأول / 1444ه
2 / أكتوبر / 2022م
[1]- سورة الرحمن / 26-27.
[2]- سورة فاطر / 45.
[3]- سورة ص / 32.
[4]- سورة النساء / 11.
[5]- سورة الرحمن / 17.
[6]- سورة الرحمن / 19-22.
[7]- سورة الرحمن / 24.
[8]- سورة القصص / 88.
[9]- سورة آل عمران / 185.
[10]- الدر المنثور -السيوطي- ج5 / ص140.
[11]- الدر المنثور -السيوطي- ج5 / ص140.
[12]- التوحيد -الصدوق- ص193.
[13]- سورة النساء / 176.
[14]- سورة غافر / 34.
[15]- سورة طه / 105-107.
[16]- سورة القارعة / 5.
[17]- سورة الانفطار / 1-3.
[18]- سورة الرحمن / 37.
[19]- سورة العاديات / 9.
[20]- سورة القصص / 88.
[21]- سورة يس / 83.
[22]- سورة العنكبوت / 17.
[23]- سورة الروم / 11.
[24]- سورة القصص / 70.