المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاحسان جميل ولكن إلى من؟


صدى المهدي
19-10-2022, 02:55 PM
https://inahj.org/upload/5f4f85ba9c08e.jpg (https://inahj.org/shortresearchwisdomstring/1371#)





لا‌ يمكن‌ الارتـياب‌ فـي قـيمة الاحسان من‌ الوجهة الخلقية،بل نرى من الفلاسفة من‌ يفضله على العدل،و يرى‌ في أثـره جمالا لا يسمو اليه العدل.و نحن نعرف ما هي حقيقة الاحسان‌، نعرف انه حـب القريب‌،و التفضل‌ و العطف عـلى‌ الآخـرين،و نعرف أن الرجل المحسن يتلمس‌ الوسائل لنفع اخوانه و البر بهم،و نعرف أن‌ الاحسان يسمو بنا الى تضحية أموالنا و انفسنا في سبيل الانسانية، فيصيرنا بذلك قادرين على‌ الاعمال الجديرة‌ بالخلود.

و من المفكرين من يـعارض في الاحسان، و يرى فيه حياة للشر على الارض،و على رأي‌ هؤلاء يكون المرضى و البؤساء غير أهل للبقاء: فمن الواجب أن نتركهم ينقرضون بلا شفقة كما يترك‌ الجيش‌ جرحاه و يمضي في طريقه‌ لا يفكر فـي غـير الانتصار.و هذا هو الاساس‌ الذي يمكن أن يُبنى عليه جيل قوي سليم.

و لكن ما قيمة هذا الاصلاح الحسي،و هو على أي حال‌ محدود‌،اذا لم ينل الا بتضحية الاخلاق؟ انه لواضح أن أشرف العواطف هي‌ عواطف القـلب الانـساني النبيل،و ان زوالها يرمي الانسانية بأبشع مظاهر السقوط.

قد يعترض بأن في الاحسان شيئا‌ من‌ السوء، لانه يجرح من يتقبله و قد يذله.و لكن من‌ الحق أن نعترف بان كيفية الاعطاء أفـضل مـن‌ الاعطاء،و ليس من طبع الاحسان أن يهين‌ من يتوجه اليهم،فان هناك‌ وسائل‌ لطيفة‌ يمكن‌ بها المحسن أن ينقذ‌ من‌ يعينهم‌ بدون أن يمس‌ كرامتهم أو يعرضهم للهوان.

و مع ذلك لا ينبغي أن يقدم الاحسان‌ اتـفاقا و مـصادفة،و الى ذلك أشـار لا فونتين‌ في‌‌ قصة‌ القروي و الثـعبان اذ قـال: (ان فلاحا أنـقذ ثـعبانا مـن البرد فلما أحس‌ الثعبان الدفء همّ بلدغ الفلاح).

فـفكرة لافـونتين‌ ظاهرة‌:و هي‌ انه‌ يجب قبل ان نحسن ان نتخير مواطن الاحسان،و ان نتجنب اسداء‌ المعروف‌‌ الى الاشرار و جاحدي الجميل.و لكنها مع ذلك‌ قـابلة للنـقد،فـإن علمنا بطبيعة من نعاملهم من‌ الاشرار‌ و الجاحدين‌ لا‌ يصلح سببا لتـرك‌ الاحسان، فان من الجميل ان نحسن و لو كان‌ جزاؤنا‌ على‌ الخير‌ شرا و على البر عقوقا. و لا يصح‌ أن يكون غرضنا ان نظفر بـشكر مـن نـسدي‌ اليهم‌‌ المعروف‌،و انما يجب أن تكون غايتنا ان نمثل‌ دورنا كرجال،و ان نظهر ابـرارا خـيرين مهما‌ تكن‌ الحال و مهما يكن الجزاء على اننا مع هذا لا ننكر ان لفكرة لا‌ فونتين‌‌ قيمتها‌ من الوجـهة العـملية،فـفي أغلب الاحيان‌ يكون الاحسان نوعا من الصدقة،و اذ ذاك‌ لا‌ يمر‌ بلا سوء،فـهناك سـائلون اتـخذوا الاستجداء مهنة مختارة،اذ كانت قليلة المتاعب كثيرة‌ الارباح‌،و في‌ المدن الكبيرة توجد عصابات مـنظمة تـعمل ليـل نهار لاستغلال عواطف المحسنين، يوجد آباء و أوصياء يهربون‌ من‌ العمل الشريف، ثم يتركون ابـناءهم و مـن يقومون على تربيتهم من‌ القاصرين يستجدون‌ الناس‌ في‌ المنازل و في‌ الطرقات و الميادين ليـعيشوا مـن فـيض هذه المهنة المخجلة التي تندي الجبين،و هؤلاء يستطيعون‌‌ الاعتماد‌ على‌ سواعدهم في كسب القـوت مـن طريق‌ محمود،و لكنهم يتركون العمل خسة و نذالة‌ ليعيشوا‌ عالة على الاسخياء،و الاحسان فـي مـثل‌ هـذه الاحوال تشجيع للبطالة و الكسل و العربدة و الكذب و النفاق،و قتل للطباع‌ السليمة‌ و احياء للغرائز الذميمة التي شـقيت بـها الانسانية و شقي‌ في حربها رجال الاخلاق‌.و هؤلاء‌ السائلون‌ لصوص يسلبون أموال النـاس،و الاحـسان‌ اليـهم‌ اشتراك‌ معهم‌ في الجريمة و تاصيل لما يتعودون من سيى‌ء‌ الخلال‌.و كثيرا ما أغمض‌ الانسان عـينه عـن البـؤس الفاتك الذي يغتال‌ البائسين،لان هؤلاء‌ السائلين‌ عودوه الاقتناع‌ بان كل سائل‌ لص‌ و بـان كـل‌ متسول‌ محتال‌،حتى‌ غفت الضمائر و قست القلوب.
و في‌ الحق‌ إننا تبينا غير مرة اننا كنا مـخدوعين‌ و ان أمـوالنا لم تمض الى‌ جيوب‌ اولئك الافاكين‌ الا عن غفلة و غرة‌،فاعتزمنا أن نقيد ما‌ يثور‌ فـي قـلوبنا من نبيل العواطف‌ و ان‌ نقف جامدين‌ ازاء مـن يـطلبون المـعروف.و كذلك جنى البؤس‌ المزور على البؤس الحـق‌،و جـنى‌ علينا أيضا اذ قسى قلوبنا‌ و زهدنا‌ في‌ صنع الجميل. فلنبحث‌ اذا‌ عن مواطن الضراء،لنـبحث‌‌ عـن‌ البؤس الذي يتوارى خجلا من أن يـراه‌ النـاس،و ذلك يضطر الكـرام الى التـغلغل فـي‌‌ طيات‌ المنازل المغمورة التي أضنى أربـابها الفـقر‌، و منع‌ الحياء أهلها‌ من‌ اعلان‌ الفاقة و التعرض‌ لبر الابرار‌ و فضل المفضلين،و هـنا يـحسن ألا يكون البر ما لاً يمنح أو خبزا يـعطى،و انما يجب‌ أن‌ يـكون البـر نوعا من التشجيع المنتج‌ الذي‌‌ يـساعد‌ المعوزين‌ على‌ ان يعملوا بانفسهم‌ و ان‌ يملأوا بيوتهم من ثمرات ما يعملون و الاحسان حـين يـقع على هذا النحو لا يساعد عـلى رذيـلة‌ و لا‌ يـعود‌ أحدا الاستجداء،و لكـنه‌ يـوقظ القوى في الغافين‌،و يـقوي‌ المـلكات‌ التي‌‌ أضعفها‌ الفراغ‌ و شلها السكون.و هو كذلك احسان‌ نبيل:فلن يجد من نحسن اليـهم غـضاضة و لامرارة في تقبل ما تهدينا اليـه الفـطر الشريفة فـي نـقلهم‌ مـن وهاد الضياع و الخمول الىـ‌ منازل النباهة و سمو النفس،و التطلع الى الغني عن طريق‌ الكدح الدائم و العمل الموصول.

أيها المحسنون!

ليس مـن البـر ان تبثوا في المعوزين حب‌ الاتكال عـلى مـا تـقدمون اليـهم مـن المأوى‌ و الطعام‌‌ و اللبـاس.و لكـن البر ان تفتحوا لهم سبل الكسب‌ و ان تذللوا ما يعترضهم فيها من صعاب و عقاب، ليعودوا و هم أغنياء الجـيوب،و أغـنياء العـواطف‌ و المشاعر و النفوس.




مجلة الوارث 73
الدكتور زكي مبارك​