صدى المهدي
19-10-2022, 03:00 PM
(لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ وَلَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ)
إن الحديث عن سياسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعن مواقفه الخالدة في مجال الحقوق، لا شك أنه يقع ضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد كانت مواقفه معبِّرة أصدق التعبير عن هذه الرؤية، وكان مستميتا في الدفاع عنها قولا وفعلا حتى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة.
فأصبح مفهوم حقوق الإنسان عند الإمام (عليه السلام)، ممتزجا بحقوق الأمة، ومحورا جوهريا في حكمه الصالح العادل.
طرحنا سابقا بعض الملامح الأساسية في قضية الحقوق، والتي استنبطناها من خطبته (عليه السلام)، التي ألقاها في أحد أيام حرب صفين، وفيها الكثير من العِبَر فيما يخص الحقوق وتطرقنا لبعض ملامحها الأساسية، وفي هذا المقال نتعرف على النتائج الحاصلة من اختلال الحقوق وانتهاكها.
الحكمة والطمع
يتساءل البعض بشدة عن سبب المشكلات التي يعيشها العالم اليوم، ولماذا يعيش العالم اليوم فقدان الحكمة، فما نشاهده هو عالم غير حكيم، عالم يخسر أكثر مما يربح، وأحد أسباب فقدان الحكمة هو الطمع، والطمع يغلّ الإنسان ويحجبه عنه الحقيقة، ويضعه في أتون المشاكل والصراعات.
الحكمة تؤسس لنظام من الحقوق، متكافئ، متوازن، منصف، تتواجد فيه العدالة، وعندما يتحصّل ذلك النظام الحقوقي، يتحصّل الارتباط بين حياة الناس وبين النظام الكوني، فتكون المسيرة مستقرة، سلمية، وهادئة، تقل فيها النزاعات والحروب، لكن للأسف الشديد هناك من الأهواء السيئة والأفكار الشريرة تحاول أن تلعب وتتلاعب بالعالم، ومن خلال هذا التلاعب تحاول أن تحقق أطماعها فتزيد العالم انتهاكا للحقوق.
لقد وضع الإمام علي (عليه السلام) في حرب صفين يده على هذا الفكر الشرير، وأراد أن يفضح هذا الفكر الشرير من خلال وضع منظومة كاملة في خطبته لحقوق الناس، وهذه من أهم الغايات الأساسية للنظام الإلهي.
النتائج الحاصلة بسبب انتهاك الحقوق
أولا: لقد ذكرنا، إن اختلال الحقوق يؤدي إلى التنازع والظلم المتبادَل للحقوق، ويصبح نوع من الدومينو المتسلسل في عملية انتهاك الحقوق وتضاؤلها، إلى أن تصل إلى حالة صفرية لفقدان الحقوق كلها.
ثانيا: الانحراف الديني، بحيث يتم استغلال الدين من أجل تبرير الأطماع والهيمنة والسيطرة وانتهاك الحقوق.
الذل والكسل وفتور الهمة
ثالثا: اختلال الحقوق يؤدي إلى فقدان روح الحياة، وروح العمل والجد والاجتهاد في العمل، وفي التعلم وفي المعيشة الصالحة، ويؤدي الاختلال إلى الذل والكسل وفتور الهمة، فيشعر الإنسان بالنتيجة بأنه يعيش حياة عبثية، فالإنسان يحتاج إلى مساحات جيدة من أجل أن يفكر ويعمل بصورة سليمة، وأن يتحصل على التقدم والنمو من خلال العلم والتعلم وهذا يحتاج إلى احترام الحقوق، وتعزيز عزة وكرامة الإنسان.
وحينئذ يكون الإنسان فاعلا وديناميكيا، في مسارات الحياة، وإلا إذا كان الإنسان لا يمتلك هذه المساحة من الحقوق يصبح ذليلا، وغير محترم، هو يشعر بالحقارة في نفسه، وبعدم فائدته في الحياة والمجتمع.
فشل الدولة واذلال المواطن
ان الكثير من المجتمعات التي تعيش الفشل والانهيار هو بسبب اختلال الحقوق، لأن المواطن لا يتفاعل مع الدولة ولا مع المجتمع، فيشعر أن هذا الحكم والحاكم يذل المواطن، وعندما يُذَلّ المواطن لا تبقى كرامة في هذا الوطن، وعندما لا تبقى كرامة للوطن لن تبقى كرامة لهذه الدولة، وتكون محتقَرة من كل الدول الأخرى.
فعنه (عليه السلام) في خطبته حول قضية الحقوق: (فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ) ففي تلك المرحلة من انتهاك الحقوق، يصبح الأبرار والخيّرين اذلاء، ولا توجد لديهم كرامة في الحياة، ولا يوجد خير في هذا المجتمع، وإذا لاحظنا شرور كثيرة في مجتمع معين فسوف نعرف أن الأبرار لا مساحة لهم في الحياة والعمل، وعندما يهيمن الفكر المنحرف في مجتمع ما، فاعرف أن العلماء والمفكرين لا مساحة لهم في العمل والوعظ والإرشاد والإصلاح.
فيذل الأبرار ويرتفع رصيد الأشرار، وعندما يصعد الأشرار يغيب الأخيار، وعندما يلاحظ الناس أن الأشرار هم المسيطرون على السلطة سوف يتبعونهم، وعندما يحصل ذلك، تعظم تبعات الله سبحانه وتعالى عند العباد، فالتبعات والنتائج التي تحصل من هذه الخطايا والمعاصي والذنوب تتراكم وتصبح كبيرة جدا، وحينئذ تحدث الكارثة في المجتمع ويؤول إلى الانهيار.
إن الإمام علي (عليه السلام) فتح المسيرة للتفكير، ولكن لابد للناس أن تفهم وتسمع للقائد الصالح، وتستمتع للكلمات الخيّرة التي ترشدها، وتسمع كلام الله تعالى في القرآن الكريم، وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله)، وكلام اهل البيت (عليهم السلام)، حتى ترتفع كرامتها، وتعز، ويرتفع منسوب الخير كثيرا.
الناس عندما يسيرون وفق مقولة (حشر مع الناس عيد)، ويركضون وراء المطامع والشهوات والأهواء، والنزوات واكتساب الأموال بأية طريقة كانت، هنا ينبعث كل الأشرار، وتزداد التبعات عند الله سبحانه وتعالى، وعند هيمنة الشر يصبح الفرد ذليلا في مجتمع ذليل خانع.
الذل صناعة الحكّام
وهنا يمكن أن نلاحظ العبرة في مسيرة الحكام، فالمجتمع الذي يصبح ذليلا بسكوته على الحاكم الجائر الذي ينتهك حقوقه، يصبح الحاكم ذليلا أيضا، ففي لحظات يسقط هذا الحاكم ويخرج من الحكم بفضيحته، ونلاحظ ذلك في كيفية سقوط ملوك وسلاطين وحكام نحو الهاوية السحيقة للذل والإهانة والعار مخلفين وراءهم كوارث وجرائم، كل هذه التبعات صناعة الحاكم والمجتمع معا.
لذلك يرى الإمام علي (عليه السلام) أن الحقوق هي صناعة من أجل الخير والكرامة والعمل، فيقول في كلمة أخرى: (لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ وَلَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ)، الظلم دائما يؤدي إلى الذل وهذه قاعدة حتمية، والحق لا يُدرَك إلا بالعمل الجاد المجتهد، لذلك إذا تم انتهاك الحقوق ينتشر الكسل في المجتمعات فتصبح خاملة جامدة وغير فاعلة، لأن الإنسان يشعر أنه عندما يعمل فلا نتيجة لعمله، ويشعر أن عمله يذهب سدى وأن حياته عبثية.
الاجتهاد في الحقوق
العمل على أخذ الحقوق يحتاج إلى جدية واهتمام واجتهاد من أجل نيلها، وإلا من غير المعقول أن الإنسان يحصل على حقّه وهو جالس في مكانه، بل لابد أن يعمل ويتعلم ويعرف ويفهم، ويستمع لكلمات أهل البيت (عليهم السلام)، فهي المفاتيح الأساسية التي تؤدي به إلى التقدم، ولا يلهث وراء الربح السريع الذي يؤدي دائما إلى نهاية بائسة وشريرة، وعليه أن يفكر بالأرباح الكبيرة التي يجدها في طرق وسبل ومسارات الخير.
ليسلك الإنسان هذه المسارات من أجل تحقيق كرامته وعزته في الحياة، من خلال احترامه لحقوق الآخرين، (ولا يدرك الحق إلا بالجد) تعني من خلال احترام حقوق الآخرين، فالأمر يبدأ منك أولا، فلا تنتظر من الآخر أن يحترم حقك لتحترم حقه، فتصبح قضية احترام حقوق الآخرين ثقافة تنتشر بين الناس.
حروب دفاعية عن الحقوق
إن حروب الإمام علي (عليه السلام) حقوقية، وقد خرج لمحاربة أولئك الذين نشروا الفساد في الأرض، من خلال انتهاك حقوق الآخرين، فاستباحوا أمن البلاد وقتلوا الناس لكي يثيروا الفوضى، فهناك من يستخدم القتل والسلب والغارات على الناس من أجل إثارة الفوضى، لإسقاط الحاكم، فالإمام علي (عليه السلام) قام بحماية حقوق هؤلاء الناس الضعفاء، فكانت حروبه حروبا دفاعية.
كل الحروب التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) كانت في إطار قواعد حقوق الإنسان التي وضعها الله سبحانه وتعالى، ولم ينتهك حق حتى من كان يمنعه من الماء، مع العلم انه في حرب صفين استولى الأعداء على نهر الفرات ومنعوا الماء عن جيش الإمام علي (عليه السلام)، وحينما هجم جيش الإمام علي واستنقذ الماء لم يمنع العدو من الحصول على الماء.
وفي خطبه (عليه السلام) كان دائما يحاور أعداءه، ويخوض معهم حوارات كثيرة جدا من أجل عدم وقوع الحرب، فكان كثير من الجنود الموجودين في الجيوش المعادية يتوبون، ويرجعون عن خوض الحرب ضد الإمام (عليه السلام)، فكان الحوار أولا.
الفوضى واضطراب النظام
رابعا: انتشار الفوضى والأمراض والكوارث وحالة الاستهانة وعدم الاحترام، بمعنى آخر فقدان النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فينهار هذا النظام بسبب الفوضى، نلاحظ اليوم أن هناك كثيرا من الناس يعانون من الأمراض النفسية، ويعيشون في حالة من الصراعات الاجتماعية الشديدة، ويعيشون في حالة من الاحتيال الاقتصادي، وعدم وجود ثقة اقتصادية وامانة اجتماعية بل خيانة في التعاملات، ويعيشون في ظل تكاثر الأمراض الجسدية والنفسية التي تنتشر بين الناس.
ففي الكثير من المجتمعات هناك فوضى، ولا وجود للنظام، يجيب (عليه السلام) عن هذه المشكلة: (فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ)، فتنتهك الحقوق من خلال الأهواء المسيطرة والطمع والحسد والمؤامرة والخيانة، (وعُمل بالهوى وعُطِّلت الأحكام)، ففي هذه الحالة تنتهي فاعلية القوانين وتصبح خاصة بالنخب المسيطرة، والحاكم الذي يطبق القانون حسبما يشتهي.
(وكثرت علل النفوس) فالإنسان حين يرى هذه الفوضى، فإنه بالنتيجة يمرَض نفسيا، ويعيش القلق والخوف، والقلق مرض مؤذ جدا للإنسان، ويؤدي إلى أمراض جسدية خطيرة، وحينئذ (فلا يستوحش لعظيم حق عطل) فإذا عُطِّلت الحقوق وسار الناس في هذه الطريقة وعُمل بالهوى وعُطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس، يصبح انتهاك الحقوق حالة طبيعية في المجتمع، لأن الناس تعلموا على انتهاك الحقوق والفوضى والاضطراب وعدم احترام القانون، وانتشار الأهواء والمزاجيات والأمراض النفسية.
(ولا يستوحش) بمعنى إن الإنسان إذا لاحظ انتهاك حقّ ما فإنه لا يستوحش ذلك، لنفترض أنك رأيت طفلا صغيرا عمره 5 سنوات يتسول في الشارع هذا يدل على إن حقوقه منتهَكة، لكنك سوف تمرّ من جانبه بصورة طبيعية وكأن حالة الطفل هذه طبيعية، في حين أن هذه الظاهرة في الإسلام ليس صحيحة، ويجب على الإنسان أن يستوحش منها، ويعتبرها أمرا خطيرا جدا وكارثة في المجتمع، ولا يمر عليها مرور الكرام.
ما هي الحلول لبناء الحقوق؟
هناك رؤى في خطبة الإمام علي (عليه السلام) حول الحقوق، تعطينا رؤية لكيفية العمل من أجل بناء منظومة الحقوق:
التناصح المتبادَل
النقطة الأولى: التناصح المتبادَل، فعنه (عليه السلام): (فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ) في قضية الحقوق، فالنصيحة تعد من أهم مفاتيح النهضة والتقدم، الكل ينصح الكل بصورة متبادَلة، فهي عملية بين فردين وليس فردا واحدا، عليَّ أن أنصحك وعليك أن تنصحني، وعليك أن تقبل نصيحتي إذا كانت صحيحة، وتشكرني إذا كانت غير صحيحة كما في مضامين الأحاديث، إذ يجب الاستماع للآخر.
التناصح من العناصر الأساسية في عملية بناء الحقوق، ومرونة استقبال الرأي الآخر إذا كان رأيا بنائيًّا، فالاستماع للرأي الآخر والمشاورة والتشاور والتناصح عملية مهمة جدا في بناء الإنسان لذاته، وفي بناء الترابط الاجتماعي وبالنتيجة تحقيق الاحترام لحقوق الآخرين.
وينظر (عليه السلام) إلى النصيحة كواجب عقلي واخلاقي على الإنسان، لكي يستطيع أن يبني منظومته الحياتية المتوازنة، فعنه (عليه السلام): (مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ)، فهذا واجب على العباد، وأحد مصاديق هذا الواجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من حقوق الله تعالى لأنه أعطى للبشر العقل والتفكير والمسؤولية والإرادة وحرية الاختيار والضمير لذا لابد أن ينصحوا الآخرين، وأن يقبلوا النصيحة منهم أيضا.
مشكلة النرجسية الاجتماعية
التناصح عملية تتم بين طرفين، وواجب على عبادي، بمعنى على الجميع، بحيث تترسخ النصيحة ثقافة وسلوك بين الناس، ولكن هل يمكنك اليوم أن تنصح أحدا؟، يوجد من لا يطيق النصيحة، هناك نوع من النرجسية الاجتماعية، حيث يرى علماء النفس ان هناك نوعان للنرجسية، هما النرجسية الذاتية و النرجسية الاجتماعية.
النرجسية الذاتية تعني أن الفرد يرى نفسه وشخصه فوق الجميع، هناك مقولة لـ عبد الملك بن مروان: (والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه)، هذا كلام الطغاة، إذ توجد في ذاته نرجسية تؤدي الى الطغيان، والإنسان الذي توجد عنده نرجسية وطغيان فهو إنسان كارثي يقود نفسه والآخرين نحو الهاوية والتدمير، فالنرجسية الذاتية هي تدميرية ذاتية بمستويات مختلفة.
فإذا ازداد النرجسيون في المجتمع، وتحولت إلى ثقافة تصبح نرجسية اجتماعية، وأحد مصاديقها الكبرى هي العنصرية التي هي نوع من النرجسية الاجتماعية السائدة في المجتمع.
لذلك النصيحة تعبير رائع جدا عن سلوك اجتماعي ناضج وعن التقدم الحضاري للإنسان، والتقدم السلمي والعقلي والارتقاء المعنوي والإنساني عند الإنسان، حين تصبح النصيحة والنصح المتبادل أمر سائد ويمارسه الإنسان باستدامة من أجل التصحيح والإصلاح الذاتي والاجتماعي.
أما إذا غابت النصيحة، فكل الأخطاء سوف تبقى متراكمة متزايدة متصاعدة، وتتحول هذه الأخطاء إلى ثقب أسود، فبعض الأخطاء التي ترتكبها المجتمعات تصبح ثقبا أسود يبقى موجودا خلال عقود بل قرون، في حياة ذلك المجتمع، ويبتلع الثقب كل الأشياء الجيدة، ويجعل الحياة مظلمة سوداء، لأن الإنسان لا يقبل أن يعترف بخطئه، ولا يقبل أن ينصحه أحد، ولا يقبل أن يستمع للرأي الآخر.
التناصح من الحلول الانعكاسية
هذا نوع من الغلوّ الذاتي عند الإنسان، بسبب اعتداده بنفسه بصورة مبالَغ بها، لذلك من حقوق الله تعالى ومن ثم من حقوق الناس، أن يقبل الإنسان النصيحة وأن ينصح الآخرين، فالتناصح من الحلول الانعكاسية التي لابد أن يتعلمها الإنسان منذ نعومة أظفاره حتى تصبح ثقافة له وتنمو معه في مراحل عمره كافة.
كل شيء لابد أن يكون في إطار الحكمة، وإلا فإنه سوف يخرج عن جوهره وعن غايته، ويصبح خارج إطار النصيحة، فلابد أن يكون التناصح في إطار الحكمة حتى يحقق غايته، فكل نصيحة فيها غاية، فلابد أن تكون هناك حكمة بالنصيحة، تساعد الإنسان على إصلاح نفسه.
التعاون مفتاح الحقوق
النقطة الثانية: التعاون مفتاح الحقوق، قال الله سبحانه وتعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة، 2.
التعاون هو عملية بناء الحقوق السليمة، لأن التعاون يؤدي إلى تضافر الجهود واجتماعها لتحقيق غاية واحدة، وتكون كل الحقوق محترمة، وليس هناك أفضلية لحق على حق، التعاون هو أساس حماية حقوق الناس، ويقول الإمام علي (عليه السلام): (وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ) أي حسن التعاون على منظومة الحقوق والتعاون بين الحاكم والمحكوم، الوالي والرعية على تحقيق هذا الهدف.
ويقول (عليه السلام): (وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ وَلَا امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ)، فالتعاون حالة متبادَلة، ولا فرق بين القوي والضعيف، ولا يجب أن يقول الحاكم أنا القوي الأعلى، ولا أحتاج لأحد أن يتعاون معي، فأنا الذي أعين الآخرين، والإنسان الذي لا يرضى أن يعينه أحد، لن يعينه أحد لأنه إنسان أناني والتعاون حالة تبادلية.
السلم الاجتماعي منظومة معنوية
فالحقوق هي عملية تعاون يساهم فيها كل الأطراف في المجتمع، من دون استثناء، ولا يجوز لأحد أن يقول أنا أنتمي للطبقة الفلانية ولا أحتاج إلى تلك الفئة أو إلى ذلك الفرد الضعيف أو الفقير، بل يجب أن يتعاون الجميع مع بعضهم، لأن الأمر يتعلق بمنظومة السلم العامة، فالسلم الاجتماعي منظومة معنوية قائمة على التعاون والتفاهم فيما بين الجميع من دون استثناء، ولهذا السبب يُسمّى بـ السلم الاجتماعي.
إذا حصل اختراق في مكان معين، واستبعدت طائفة معينة، أو طبقة معينة، فلا يُسمّى هذا بالسلم الاجتماعي، بل هو فئوي وهذا يعني النزاع، ولن يكون هناك سلم اجتماعي، لذلك جاء في الآية الكريمة (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، فمن لا يتعاون في طريق الخير والتقوى، سوف يتعاون على الإثم والعدوان.
أمامه خياران، أما أن يتعاون على البرّ والتقوى، أو يتعاون على الإثم والعدوان، لأن الذي لا يتعاون على البر والتقوى سوف يذهب في طريق المعاصي، وتكبر المعصية إلى أن تصبح إثما كبيرا، والإثم الكبير يؤدي إلى العنف والعدوان، لذلك يقول الله تعالى (إن الله شديد العقاب)، لأن نتائج عدم التعاون والتفكّك سوف تنتهي إلى الظلم الشديد والعنف الشديد، وانتهاك حقوق الآخرين، لذلك فإن عقاب الله لهؤلاء شديد. لهذا السبب فإن التعاون واجب على الجميع، دون أن نفرق بين القوي والضعيف وبين القريب والبعيد
. التناصف في الحقوق
النقطة الثالثة: بناء الحقوق في التناصف، فعنه (عليه السلام): (فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ).
مفردة التناصف تعني الإنصاف في الحقوق، ولابد للإنسان أن يكون ملتزما بالعمل وليس الشعارات، ولكن يجب أن يكون هناك إنصاف للناس من نفسك، بحيث كل شيء يجري لك لابد أن يجري لغيرك أيضا، وكل شيء يجري على غيرك يجري عليك أيضا، فهذه عملية احترام لكل الحقوق من خلال التناصف والإنصاف وتحقيق العدالة بصورة صحيحة.
الحقوق في الحقوق بناء للسلم الاجتماعي
النقطة الرابعة: الحقوق في الحقوق بناء للسلم الاجتماعي، فبناء السلم الاجتماعي هو بناء للنظام العام، فعنه (عليه السلام): (فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ)، لأن احترام الحقوق يؤدي إلى نظام سلمي، فقد تكون بعض الأنظمة عميقة وقوية لأنها قائمة على الألفة والمحبة والاحترام، وتكون بعض الأنظمة قشرية شكلية لأنها قائمة على القوة والقسر والعنف.
في هذه النقطة يفسر الإمام (عليه السلام) معنى النظام، فالنظام الحقيقي القويّ الذي يعطي قوة واستقرارا للمجتمع، هو النظام الذي يقوم على احترام الحقوق، وهذه الحقوق تؤدي بدورها إلى بناء النظام السلمي العام، فتتكون الكرامة الدينية والعزة الإنسانية والانتصار للإنسان.
قوة الدولة في أداء الحقوق
النقطة الخامسة: قوة الدولة تكمن في أداء الحقوق، فعنه (عليه السلام): (فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ).
أول شيء يجب أن تقوم به الدولة، إذا أرادت أن تكون دولة ناجحة، أن تسير في عملية بناء حقوق الناس والحقوق المتبادلة، وعلى الدولة أن تقضي على كل شيء ينتهك الحقوق، وتفسح المجال لتحقيق حقوق الناس من خلال حمايتها، وذلك من خلال الحرية المسؤولة، وفتح الباب أمام العقلاء والحكماء والخبراء الذين يستطيعون أن يقوموا بدور التوعية، من خلال وضع مناهج في المدارس والجامعات حتى يفهم الناس أن دولتهم الحقيقية وحقوقهم الحقيقية قائمة على احترام الحقوق بصورة متبادَلة.
رؤية الضوء في نهاية النفق
فبناء الحقوق يتم من خلال ترسيخ ثقافة الاحترام وتعليم الناس على التناصح، التعاون، التناصف، النظام والسلم الاجتماعي، هذه المسيرة الحقوقية يجب أن يشترك في قيادتها الجميع، خصوصا أهل الصلاح والإصلاح من الخبراء والعلماء، عليهم أن يقودوا مسيرة إصلاح وبناء الحقوق، لأننا من دون بناء الحقوق لا شيء.
اليأس الذي ينشأ في النفوس المشكلة الأساسية فيه أن الإنسان لا يرى حلّا في الأفق، ولا يرى مستقبلا له في نهاية الطريق، لذلك فإن عملية بناء الحقوق يجب أن يشترك فيها الجميع من خلال التعاون والتناصف والتناصح، وهذا سوف يؤدي بنا إلى عملية بناء الأمل في الحياة ورؤية الضوء في آخر النفق. *
الشيخ مرتضى معاش
من شبكة النبا المعلوماتية
إن الحديث عن سياسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعن مواقفه الخالدة في مجال الحقوق، لا شك أنه يقع ضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد كانت مواقفه معبِّرة أصدق التعبير عن هذه الرؤية، وكان مستميتا في الدفاع عنها قولا وفعلا حتى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة.
فأصبح مفهوم حقوق الإنسان عند الإمام (عليه السلام)، ممتزجا بحقوق الأمة، ومحورا جوهريا في حكمه الصالح العادل.
طرحنا سابقا بعض الملامح الأساسية في قضية الحقوق، والتي استنبطناها من خطبته (عليه السلام)، التي ألقاها في أحد أيام حرب صفين، وفيها الكثير من العِبَر فيما يخص الحقوق وتطرقنا لبعض ملامحها الأساسية، وفي هذا المقال نتعرف على النتائج الحاصلة من اختلال الحقوق وانتهاكها.
الحكمة والطمع
يتساءل البعض بشدة عن سبب المشكلات التي يعيشها العالم اليوم، ولماذا يعيش العالم اليوم فقدان الحكمة، فما نشاهده هو عالم غير حكيم، عالم يخسر أكثر مما يربح، وأحد أسباب فقدان الحكمة هو الطمع، والطمع يغلّ الإنسان ويحجبه عنه الحقيقة، ويضعه في أتون المشاكل والصراعات.
الحكمة تؤسس لنظام من الحقوق، متكافئ، متوازن، منصف، تتواجد فيه العدالة، وعندما يتحصّل ذلك النظام الحقوقي، يتحصّل الارتباط بين حياة الناس وبين النظام الكوني، فتكون المسيرة مستقرة، سلمية، وهادئة، تقل فيها النزاعات والحروب، لكن للأسف الشديد هناك من الأهواء السيئة والأفكار الشريرة تحاول أن تلعب وتتلاعب بالعالم، ومن خلال هذا التلاعب تحاول أن تحقق أطماعها فتزيد العالم انتهاكا للحقوق.
لقد وضع الإمام علي (عليه السلام) في حرب صفين يده على هذا الفكر الشرير، وأراد أن يفضح هذا الفكر الشرير من خلال وضع منظومة كاملة في خطبته لحقوق الناس، وهذه من أهم الغايات الأساسية للنظام الإلهي.
النتائج الحاصلة بسبب انتهاك الحقوق
أولا: لقد ذكرنا، إن اختلال الحقوق يؤدي إلى التنازع والظلم المتبادَل للحقوق، ويصبح نوع من الدومينو المتسلسل في عملية انتهاك الحقوق وتضاؤلها، إلى أن تصل إلى حالة صفرية لفقدان الحقوق كلها.
ثانيا: الانحراف الديني، بحيث يتم استغلال الدين من أجل تبرير الأطماع والهيمنة والسيطرة وانتهاك الحقوق.
الذل والكسل وفتور الهمة
ثالثا: اختلال الحقوق يؤدي إلى فقدان روح الحياة، وروح العمل والجد والاجتهاد في العمل، وفي التعلم وفي المعيشة الصالحة، ويؤدي الاختلال إلى الذل والكسل وفتور الهمة، فيشعر الإنسان بالنتيجة بأنه يعيش حياة عبثية، فالإنسان يحتاج إلى مساحات جيدة من أجل أن يفكر ويعمل بصورة سليمة، وأن يتحصل على التقدم والنمو من خلال العلم والتعلم وهذا يحتاج إلى احترام الحقوق، وتعزيز عزة وكرامة الإنسان.
وحينئذ يكون الإنسان فاعلا وديناميكيا، في مسارات الحياة، وإلا إذا كان الإنسان لا يمتلك هذه المساحة من الحقوق يصبح ذليلا، وغير محترم، هو يشعر بالحقارة في نفسه، وبعدم فائدته في الحياة والمجتمع.
فشل الدولة واذلال المواطن
ان الكثير من المجتمعات التي تعيش الفشل والانهيار هو بسبب اختلال الحقوق، لأن المواطن لا يتفاعل مع الدولة ولا مع المجتمع، فيشعر أن هذا الحكم والحاكم يذل المواطن، وعندما يُذَلّ المواطن لا تبقى كرامة في هذا الوطن، وعندما لا تبقى كرامة للوطن لن تبقى كرامة لهذه الدولة، وتكون محتقَرة من كل الدول الأخرى.
فعنه (عليه السلام) في خطبته حول قضية الحقوق: (فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ) ففي تلك المرحلة من انتهاك الحقوق، يصبح الأبرار والخيّرين اذلاء، ولا توجد لديهم كرامة في الحياة، ولا يوجد خير في هذا المجتمع، وإذا لاحظنا شرور كثيرة في مجتمع معين فسوف نعرف أن الأبرار لا مساحة لهم في الحياة والعمل، وعندما يهيمن الفكر المنحرف في مجتمع ما، فاعرف أن العلماء والمفكرين لا مساحة لهم في العمل والوعظ والإرشاد والإصلاح.
فيذل الأبرار ويرتفع رصيد الأشرار، وعندما يصعد الأشرار يغيب الأخيار، وعندما يلاحظ الناس أن الأشرار هم المسيطرون على السلطة سوف يتبعونهم، وعندما يحصل ذلك، تعظم تبعات الله سبحانه وتعالى عند العباد، فالتبعات والنتائج التي تحصل من هذه الخطايا والمعاصي والذنوب تتراكم وتصبح كبيرة جدا، وحينئذ تحدث الكارثة في المجتمع ويؤول إلى الانهيار.
إن الإمام علي (عليه السلام) فتح المسيرة للتفكير، ولكن لابد للناس أن تفهم وتسمع للقائد الصالح، وتستمتع للكلمات الخيّرة التي ترشدها، وتسمع كلام الله تعالى في القرآن الكريم، وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله)، وكلام اهل البيت (عليهم السلام)، حتى ترتفع كرامتها، وتعز، ويرتفع منسوب الخير كثيرا.
الناس عندما يسيرون وفق مقولة (حشر مع الناس عيد)، ويركضون وراء المطامع والشهوات والأهواء، والنزوات واكتساب الأموال بأية طريقة كانت، هنا ينبعث كل الأشرار، وتزداد التبعات عند الله سبحانه وتعالى، وعند هيمنة الشر يصبح الفرد ذليلا في مجتمع ذليل خانع.
الذل صناعة الحكّام
وهنا يمكن أن نلاحظ العبرة في مسيرة الحكام، فالمجتمع الذي يصبح ذليلا بسكوته على الحاكم الجائر الذي ينتهك حقوقه، يصبح الحاكم ذليلا أيضا، ففي لحظات يسقط هذا الحاكم ويخرج من الحكم بفضيحته، ونلاحظ ذلك في كيفية سقوط ملوك وسلاطين وحكام نحو الهاوية السحيقة للذل والإهانة والعار مخلفين وراءهم كوارث وجرائم، كل هذه التبعات صناعة الحاكم والمجتمع معا.
لذلك يرى الإمام علي (عليه السلام) أن الحقوق هي صناعة من أجل الخير والكرامة والعمل، فيقول في كلمة أخرى: (لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ وَلَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ)، الظلم دائما يؤدي إلى الذل وهذه قاعدة حتمية، والحق لا يُدرَك إلا بالعمل الجاد المجتهد، لذلك إذا تم انتهاك الحقوق ينتشر الكسل في المجتمعات فتصبح خاملة جامدة وغير فاعلة، لأن الإنسان يشعر أنه عندما يعمل فلا نتيجة لعمله، ويشعر أن عمله يذهب سدى وأن حياته عبثية.
الاجتهاد في الحقوق
العمل على أخذ الحقوق يحتاج إلى جدية واهتمام واجتهاد من أجل نيلها، وإلا من غير المعقول أن الإنسان يحصل على حقّه وهو جالس في مكانه، بل لابد أن يعمل ويتعلم ويعرف ويفهم، ويستمع لكلمات أهل البيت (عليهم السلام)، فهي المفاتيح الأساسية التي تؤدي به إلى التقدم، ولا يلهث وراء الربح السريع الذي يؤدي دائما إلى نهاية بائسة وشريرة، وعليه أن يفكر بالأرباح الكبيرة التي يجدها في طرق وسبل ومسارات الخير.
ليسلك الإنسان هذه المسارات من أجل تحقيق كرامته وعزته في الحياة، من خلال احترامه لحقوق الآخرين، (ولا يدرك الحق إلا بالجد) تعني من خلال احترام حقوق الآخرين، فالأمر يبدأ منك أولا، فلا تنتظر من الآخر أن يحترم حقك لتحترم حقه، فتصبح قضية احترام حقوق الآخرين ثقافة تنتشر بين الناس.
حروب دفاعية عن الحقوق
إن حروب الإمام علي (عليه السلام) حقوقية، وقد خرج لمحاربة أولئك الذين نشروا الفساد في الأرض، من خلال انتهاك حقوق الآخرين، فاستباحوا أمن البلاد وقتلوا الناس لكي يثيروا الفوضى، فهناك من يستخدم القتل والسلب والغارات على الناس من أجل إثارة الفوضى، لإسقاط الحاكم، فالإمام علي (عليه السلام) قام بحماية حقوق هؤلاء الناس الضعفاء، فكانت حروبه حروبا دفاعية.
كل الحروب التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) كانت في إطار قواعد حقوق الإنسان التي وضعها الله سبحانه وتعالى، ولم ينتهك حق حتى من كان يمنعه من الماء، مع العلم انه في حرب صفين استولى الأعداء على نهر الفرات ومنعوا الماء عن جيش الإمام علي (عليه السلام)، وحينما هجم جيش الإمام علي واستنقذ الماء لم يمنع العدو من الحصول على الماء.
وفي خطبه (عليه السلام) كان دائما يحاور أعداءه، ويخوض معهم حوارات كثيرة جدا من أجل عدم وقوع الحرب، فكان كثير من الجنود الموجودين في الجيوش المعادية يتوبون، ويرجعون عن خوض الحرب ضد الإمام (عليه السلام)، فكان الحوار أولا.
الفوضى واضطراب النظام
رابعا: انتشار الفوضى والأمراض والكوارث وحالة الاستهانة وعدم الاحترام، بمعنى آخر فقدان النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فينهار هذا النظام بسبب الفوضى، نلاحظ اليوم أن هناك كثيرا من الناس يعانون من الأمراض النفسية، ويعيشون في حالة من الصراعات الاجتماعية الشديدة، ويعيشون في حالة من الاحتيال الاقتصادي، وعدم وجود ثقة اقتصادية وامانة اجتماعية بل خيانة في التعاملات، ويعيشون في ظل تكاثر الأمراض الجسدية والنفسية التي تنتشر بين الناس.
ففي الكثير من المجتمعات هناك فوضى، ولا وجود للنظام، يجيب (عليه السلام) عن هذه المشكلة: (فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ)، فتنتهك الحقوق من خلال الأهواء المسيطرة والطمع والحسد والمؤامرة والخيانة، (وعُمل بالهوى وعُطِّلت الأحكام)، ففي هذه الحالة تنتهي فاعلية القوانين وتصبح خاصة بالنخب المسيطرة، والحاكم الذي يطبق القانون حسبما يشتهي.
(وكثرت علل النفوس) فالإنسان حين يرى هذه الفوضى، فإنه بالنتيجة يمرَض نفسيا، ويعيش القلق والخوف، والقلق مرض مؤذ جدا للإنسان، ويؤدي إلى أمراض جسدية خطيرة، وحينئذ (فلا يستوحش لعظيم حق عطل) فإذا عُطِّلت الحقوق وسار الناس في هذه الطريقة وعُمل بالهوى وعُطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس، يصبح انتهاك الحقوق حالة طبيعية في المجتمع، لأن الناس تعلموا على انتهاك الحقوق والفوضى والاضطراب وعدم احترام القانون، وانتشار الأهواء والمزاجيات والأمراض النفسية.
(ولا يستوحش) بمعنى إن الإنسان إذا لاحظ انتهاك حقّ ما فإنه لا يستوحش ذلك، لنفترض أنك رأيت طفلا صغيرا عمره 5 سنوات يتسول في الشارع هذا يدل على إن حقوقه منتهَكة، لكنك سوف تمرّ من جانبه بصورة طبيعية وكأن حالة الطفل هذه طبيعية، في حين أن هذه الظاهرة في الإسلام ليس صحيحة، ويجب على الإنسان أن يستوحش منها، ويعتبرها أمرا خطيرا جدا وكارثة في المجتمع، ولا يمر عليها مرور الكرام.
ما هي الحلول لبناء الحقوق؟
هناك رؤى في خطبة الإمام علي (عليه السلام) حول الحقوق، تعطينا رؤية لكيفية العمل من أجل بناء منظومة الحقوق:
التناصح المتبادَل
النقطة الأولى: التناصح المتبادَل، فعنه (عليه السلام): (فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ) في قضية الحقوق، فالنصيحة تعد من أهم مفاتيح النهضة والتقدم، الكل ينصح الكل بصورة متبادَلة، فهي عملية بين فردين وليس فردا واحدا، عليَّ أن أنصحك وعليك أن تنصحني، وعليك أن تقبل نصيحتي إذا كانت صحيحة، وتشكرني إذا كانت غير صحيحة كما في مضامين الأحاديث، إذ يجب الاستماع للآخر.
التناصح من العناصر الأساسية في عملية بناء الحقوق، ومرونة استقبال الرأي الآخر إذا كان رأيا بنائيًّا، فالاستماع للرأي الآخر والمشاورة والتشاور والتناصح عملية مهمة جدا في بناء الإنسان لذاته، وفي بناء الترابط الاجتماعي وبالنتيجة تحقيق الاحترام لحقوق الآخرين.
وينظر (عليه السلام) إلى النصيحة كواجب عقلي واخلاقي على الإنسان، لكي يستطيع أن يبني منظومته الحياتية المتوازنة، فعنه (عليه السلام): (مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ)، فهذا واجب على العباد، وأحد مصاديق هذا الواجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من حقوق الله تعالى لأنه أعطى للبشر العقل والتفكير والمسؤولية والإرادة وحرية الاختيار والضمير لذا لابد أن ينصحوا الآخرين، وأن يقبلوا النصيحة منهم أيضا.
مشكلة النرجسية الاجتماعية
التناصح عملية تتم بين طرفين، وواجب على عبادي، بمعنى على الجميع، بحيث تترسخ النصيحة ثقافة وسلوك بين الناس، ولكن هل يمكنك اليوم أن تنصح أحدا؟، يوجد من لا يطيق النصيحة، هناك نوع من النرجسية الاجتماعية، حيث يرى علماء النفس ان هناك نوعان للنرجسية، هما النرجسية الذاتية و النرجسية الاجتماعية.
النرجسية الذاتية تعني أن الفرد يرى نفسه وشخصه فوق الجميع، هناك مقولة لـ عبد الملك بن مروان: (والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه)، هذا كلام الطغاة، إذ توجد في ذاته نرجسية تؤدي الى الطغيان، والإنسان الذي توجد عنده نرجسية وطغيان فهو إنسان كارثي يقود نفسه والآخرين نحو الهاوية والتدمير، فالنرجسية الذاتية هي تدميرية ذاتية بمستويات مختلفة.
فإذا ازداد النرجسيون في المجتمع، وتحولت إلى ثقافة تصبح نرجسية اجتماعية، وأحد مصاديقها الكبرى هي العنصرية التي هي نوع من النرجسية الاجتماعية السائدة في المجتمع.
لذلك النصيحة تعبير رائع جدا عن سلوك اجتماعي ناضج وعن التقدم الحضاري للإنسان، والتقدم السلمي والعقلي والارتقاء المعنوي والإنساني عند الإنسان، حين تصبح النصيحة والنصح المتبادل أمر سائد ويمارسه الإنسان باستدامة من أجل التصحيح والإصلاح الذاتي والاجتماعي.
أما إذا غابت النصيحة، فكل الأخطاء سوف تبقى متراكمة متزايدة متصاعدة، وتتحول هذه الأخطاء إلى ثقب أسود، فبعض الأخطاء التي ترتكبها المجتمعات تصبح ثقبا أسود يبقى موجودا خلال عقود بل قرون، في حياة ذلك المجتمع، ويبتلع الثقب كل الأشياء الجيدة، ويجعل الحياة مظلمة سوداء، لأن الإنسان لا يقبل أن يعترف بخطئه، ولا يقبل أن ينصحه أحد، ولا يقبل أن يستمع للرأي الآخر.
التناصح من الحلول الانعكاسية
هذا نوع من الغلوّ الذاتي عند الإنسان، بسبب اعتداده بنفسه بصورة مبالَغ بها، لذلك من حقوق الله تعالى ومن ثم من حقوق الناس، أن يقبل الإنسان النصيحة وأن ينصح الآخرين، فالتناصح من الحلول الانعكاسية التي لابد أن يتعلمها الإنسان منذ نعومة أظفاره حتى تصبح ثقافة له وتنمو معه في مراحل عمره كافة.
كل شيء لابد أن يكون في إطار الحكمة، وإلا فإنه سوف يخرج عن جوهره وعن غايته، ويصبح خارج إطار النصيحة، فلابد أن يكون التناصح في إطار الحكمة حتى يحقق غايته، فكل نصيحة فيها غاية، فلابد أن تكون هناك حكمة بالنصيحة، تساعد الإنسان على إصلاح نفسه.
التعاون مفتاح الحقوق
النقطة الثانية: التعاون مفتاح الحقوق، قال الله سبحانه وتعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة، 2.
التعاون هو عملية بناء الحقوق السليمة، لأن التعاون يؤدي إلى تضافر الجهود واجتماعها لتحقيق غاية واحدة، وتكون كل الحقوق محترمة، وليس هناك أفضلية لحق على حق، التعاون هو أساس حماية حقوق الناس، ويقول الإمام علي (عليه السلام): (وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ) أي حسن التعاون على منظومة الحقوق والتعاون بين الحاكم والمحكوم، الوالي والرعية على تحقيق هذا الهدف.
ويقول (عليه السلام): (وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ وَلَا امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ)، فالتعاون حالة متبادَلة، ولا فرق بين القوي والضعيف، ولا يجب أن يقول الحاكم أنا القوي الأعلى، ولا أحتاج لأحد أن يتعاون معي، فأنا الذي أعين الآخرين، والإنسان الذي لا يرضى أن يعينه أحد، لن يعينه أحد لأنه إنسان أناني والتعاون حالة تبادلية.
السلم الاجتماعي منظومة معنوية
فالحقوق هي عملية تعاون يساهم فيها كل الأطراف في المجتمع، من دون استثناء، ولا يجوز لأحد أن يقول أنا أنتمي للطبقة الفلانية ولا أحتاج إلى تلك الفئة أو إلى ذلك الفرد الضعيف أو الفقير، بل يجب أن يتعاون الجميع مع بعضهم، لأن الأمر يتعلق بمنظومة السلم العامة، فالسلم الاجتماعي منظومة معنوية قائمة على التعاون والتفاهم فيما بين الجميع من دون استثناء، ولهذا السبب يُسمّى بـ السلم الاجتماعي.
إذا حصل اختراق في مكان معين، واستبعدت طائفة معينة، أو طبقة معينة، فلا يُسمّى هذا بالسلم الاجتماعي، بل هو فئوي وهذا يعني النزاع، ولن يكون هناك سلم اجتماعي، لذلك جاء في الآية الكريمة (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، فمن لا يتعاون في طريق الخير والتقوى، سوف يتعاون على الإثم والعدوان.
أمامه خياران، أما أن يتعاون على البرّ والتقوى، أو يتعاون على الإثم والعدوان، لأن الذي لا يتعاون على البر والتقوى سوف يذهب في طريق المعاصي، وتكبر المعصية إلى أن تصبح إثما كبيرا، والإثم الكبير يؤدي إلى العنف والعدوان، لذلك يقول الله تعالى (إن الله شديد العقاب)، لأن نتائج عدم التعاون والتفكّك سوف تنتهي إلى الظلم الشديد والعنف الشديد، وانتهاك حقوق الآخرين، لذلك فإن عقاب الله لهؤلاء شديد. لهذا السبب فإن التعاون واجب على الجميع، دون أن نفرق بين القوي والضعيف وبين القريب والبعيد
. التناصف في الحقوق
النقطة الثالثة: بناء الحقوق في التناصف، فعنه (عليه السلام): (فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ).
مفردة التناصف تعني الإنصاف في الحقوق، ولابد للإنسان أن يكون ملتزما بالعمل وليس الشعارات، ولكن يجب أن يكون هناك إنصاف للناس من نفسك، بحيث كل شيء يجري لك لابد أن يجري لغيرك أيضا، وكل شيء يجري على غيرك يجري عليك أيضا، فهذه عملية احترام لكل الحقوق من خلال التناصف والإنصاف وتحقيق العدالة بصورة صحيحة.
الحقوق في الحقوق بناء للسلم الاجتماعي
النقطة الرابعة: الحقوق في الحقوق بناء للسلم الاجتماعي، فبناء السلم الاجتماعي هو بناء للنظام العام، فعنه (عليه السلام): (فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ)، لأن احترام الحقوق يؤدي إلى نظام سلمي، فقد تكون بعض الأنظمة عميقة وقوية لأنها قائمة على الألفة والمحبة والاحترام، وتكون بعض الأنظمة قشرية شكلية لأنها قائمة على القوة والقسر والعنف.
في هذه النقطة يفسر الإمام (عليه السلام) معنى النظام، فالنظام الحقيقي القويّ الذي يعطي قوة واستقرارا للمجتمع، هو النظام الذي يقوم على احترام الحقوق، وهذه الحقوق تؤدي بدورها إلى بناء النظام السلمي العام، فتتكون الكرامة الدينية والعزة الإنسانية والانتصار للإنسان.
قوة الدولة في أداء الحقوق
النقطة الخامسة: قوة الدولة تكمن في أداء الحقوق، فعنه (عليه السلام): (فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ).
أول شيء يجب أن تقوم به الدولة، إذا أرادت أن تكون دولة ناجحة، أن تسير في عملية بناء حقوق الناس والحقوق المتبادلة، وعلى الدولة أن تقضي على كل شيء ينتهك الحقوق، وتفسح المجال لتحقيق حقوق الناس من خلال حمايتها، وذلك من خلال الحرية المسؤولة، وفتح الباب أمام العقلاء والحكماء والخبراء الذين يستطيعون أن يقوموا بدور التوعية، من خلال وضع مناهج في المدارس والجامعات حتى يفهم الناس أن دولتهم الحقيقية وحقوقهم الحقيقية قائمة على احترام الحقوق بصورة متبادَلة.
رؤية الضوء في نهاية النفق
فبناء الحقوق يتم من خلال ترسيخ ثقافة الاحترام وتعليم الناس على التناصح، التعاون، التناصف، النظام والسلم الاجتماعي، هذه المسيرة الحقوقية يجب أن يشترك في قيادتها الجميع، خصوصا أهل الصلاح والإصلاح من الخبراء والعلماء، عليهم أن يقودوا مسيرة إصلاح وبناء الحقوق، لأننا من دون بناء الحقوق لا شيء.
اليأس الذي ينشأ في النفوس المشكلة الأساسية فيه أن الإنسان لا يرى حلّا في الأفق، ولا يرى مستقبلا له في نهاية الطريق، لذلك فإن عملية بناء الحقوق يجب أن يشترك فيها الجميع من خلال التعاون والتناصف والتناصح، وهذا سوف يؤدي بنا إلى عملية بناء الأمل في الحياة ورؤية الضوء في آخر النفق. *
الشيخ مرتضى معاش
من شبكة النبا المعلوماتية