صدى المهدي
09-08-2023, 08:51 AM
https://almaaref.org.lb/static/images/20141118125233.jpg
1- تأسيس المدرسة العلميّة
يعتبر الإمام السجاد عليه السلام المؤسّس الثاني لمدرسة أهل البيت، بعد المؤسّس الأوّل صلى الله عليه واله وسلم والمشيّد على ذلك الصرح الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام.
كان منزل الإمام السجّاد عليه السلام مدرسة، ومسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم مركزاً لمدرسته، ومعهداً لتعليم طلّابه، ونقطة انطلاق لتدريب تلامذته، لبثّ العلوم الدينيّة إلى العالم، وإلى الأجيال الصاعدة، فكان يلقي محاضراته وبحوثه على العلماء والفقهاء، وكانت تلك البحوث تتناول العلوم الإسلاميّة المهمّة والحسّاسة، منها علم التفسير، وعلم الفقه، والحديث، والفلسفة، وعلم الكلام، وقواعد السلوك، والأخلاق. كما كان يلقي في كلّ جمعة خطاباً عامّاً جامعاً على الناس، يعظهم فيه، ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في الآخرة. وكان الناس يحفظون كلامه ويكتبونه، وقد التفّ العلماء والفقهاء والقرّاء حول الإمام عليه السلام، لا يفارقونه حتّى في سفره إلى حجّ بيت الله الحرام، يستمعون إلى حديثه، ويسجّلون فتاواه، ويدوّنون ما يمليه عليهم من علوم ومعارف وحكم وآداب. وقد تخرّج في مدرسته مجموعة كبيرة من فطاحل العلماء والفقهاء، الذين اشتهروا بالرواية عنه عليه السلام. منهم على سبيل المثال: أبان بن تغلب، والمنهال بن عمرو الأسديّ، ومحمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ، وسعيد بن المسيّب، وأبو حمزة الثماليّ، وسعيد بن جبير، ويروى أنّ سفيان بن عيينة، ونافع بن جبير، وطاووس بن كيسان، ومحمّد بن إسحاق، قد أخذوا عن الإمام السجّاد عليه السلام بعض الأحاديث، وغيرهم...
وقد أحصى الشيخ الطوسيّ في رجاله، وغيره من أصحاب التراجم، أكثر من مائة وستّين من التابعين والموالي، كانوا ينهلون من معينه، ويروون عنه في مختلف المواضيع، وعدّوا منهم: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، ومحمّد بن جبير بن مطعم، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، ويحيى بن أمّ الطويل، وأمثال هذه الطبقة من أعلام الصحابة والتابعين...
وأنشأت في عصر الإمام عليه السلام مدرسة التابعين، وهي أوّل مدرسة إسلاميّة افتتحت في يثرب بعد مدرسة أئمّة أهل البيت. وقد عنت هذه المدرسة بعلوم الشريعة الإسلاميّة، ولم تتجاوزها، أمّا مؤسّسوها وأساتذتها، فهم: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد. ومن الجدير بالذكر أنّ بعض هؤلاء العلماء كانوا ممّن تتلمذ على يد الإمام زين العابدين عليه السلام، وأخذوا عنه الحديث والفقه.
وعلى أيّ حال، فلم تعرف الأمّة في ذلك العصر عائدةً أعظم، ولا أنفع من عائدة الإمام عليه السلام عليها، وذلك بما أسّس في ربوعها من مدرسته العلميّة، وبما فتح لها من آفاق الفكر والعلم والعرفان 1.
وخلّف عليه السلام تراثاً عظيماً أهمّه
أ- الأحاديث
جاء في طبقات ابن سعد، أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان ثقة مأموناً، كثير الحديث، عالياً، رفيعاً، ورعاً.."2.
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: وقد روى عنه فقهاء العامّة من العلوم ما لا يحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعيّة، وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيّام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب، وتقضّى به الزمان 3.
ب- الصحيفة السجّاديّة
المعبّر عنها "إنجيل أهل البيت"، و "زبور آل محمّد"، ويقال لها: "الصحيفة الكاملة" أيضاً، وقد اهتمّ العلماء بروايته، وعليها شروح كثيرة، وهي من المتواترات عند الأعلام، لاختصاصها بالإجازة والرواية في كلّ طبقة وعصر، ينتهي سند روايتها إلى الإمام أبى جعفر الباقر عليه السلام، وزيد الشهيد ابني عليّ بن الحسين، عن أبيهما عليّ بن الحسين 4.
وذكر فصاحة الصحيفة الكاملة عند بليغ في البصرة فقال: خذوا عنّي حتّى أملي عليكم، وأخذ القلم وأطرق رأسه، فما رفعه حتّى مات 5.
ج- رسالة الحقوق
وهي تحتوي على توجيهات وتعليمات وقواعد في السلوك العامّ والخاصّ، من أدقّ ما يعرفه الفكر الإنسانيّ 6.
وقد جاء في آخرها، قول الإمام عليه السلام: "فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، والحمد لله ربّ العالمين" 7.
إنّ رسالة الحقوق التي نظمها الإمام زين العابدين عليه السلام، تدلّ على اهتمام الإمام بكلّ ما يدور حوله في المجتمع الإسلاميّ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسيّة والصحيّة، ورعايته لأمنه واستقراره، وحفاظه على تكوينته الإسلاميّة. وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام عليه السلام من جهة، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق، من سعة الأفق وشموليّته من جهة أخرى، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار، الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرناً. إنّ صنع مثل هذا القانون في جامعيّته، ودقّته وواقعيّته، لا يصدر إلّا من شخص جامع للعلم والعمل، مهتمٍّ بشؤون الأمّة، ومتصدٍّ لإصلاحها فكريّاً وثقافيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، وإداريّاً، وصحيّاً، ونفسيّاً، ولا يصدر- قطعاً- من شخص منعزل عن العالم، وعن الحياة الاجتماعيّة، ولا مبتعدٍ عن السياسة وأمور الحكم والدولة! ولذلك فإنّا نجد الرسالة تحتوي على حقوق مثل: حقّ السلطان، وحقّ الرعيّة، وحقّ أهل الملّة عامّة، وحقّ أهل الذمّة، وغيرها ممّا يرتبط بأمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعيّة، إلى جانب الشؤون الخاصّة العقيديّة والعباديّة والماليّة، وكلّ ما يرتبط بحياة حرّة كريمة للفرد وللمجتمع الذي يعيش معه، ومثل هذا لا يصدر ممّن يعتزل الحياة الاجتماعيّة.
ورسالة الحقوق عمل علميّ عظيم، يستدعي دراسة موضوعيّة عميقة شاملة، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه السلام الاجتماعيّة، وخاصّة من المنظار السياسيّ، وما استهدفه من بيانها ونشرها" 8.
2- الدعاء
لقد كان الإمام عليّ بن الحسين، يحرص على أن يضع الناس، على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، تجاه مسؤوليّاتهم، وما يجب عليهم لله وللناس، ولكن بأسلوب يختلف عن أساليب الوعّاظ والمرشدين والقصّاصين، لقد استعمل أسلوب الحوار مع الله، ومناجاته، واستعطافه وتمجيده 9...
فقد كان يوجّه الأمّة من خلال أدعيته، التي كان يضمّنها مختلف المعارف الإسلاميّة: عقائديّاً وهو الأهمّ وسياسيّاً وأخلاقيّاً، وغير ذلك.. ولم يكن بإمكان أحد أن يعترض عليه، ويقول له: لا تدع ربّك.. فإنّ ذلك سوف يكون مستهجناً ومرفوضاً من كلّ أحد..حيث يرونه- بحسب الظاهر- لا يتعرّض لدنيا هؤلاء الحكّام، وإنّما شغل نفسه بعبادة ربّه، وتصفية وتزكية نفسه..
ولقد فاتهم: أنّه كان في الظاهر يدعو الله، ولكنّه كان في واقع الأمر يدعو إلى الله، ويوجّه نحوه، ويعرّف الناس سبيله، ويضمّن كلامه الكثير من التعاليم الإلهيّة، والمعارف الدينيّة التي تهمّهم في أمر دينهم ودنياهم.. كما اتضح جليّاً فيما بعد. وأنّه كان يقود عمليّة التغيير الشامل في بنية العقيدة للأمّة الإسلاميّة بأسرها 10.
وكنموذج على البعد السياسيّ في أدعية الإمام عليه السلام، نستعرض بعض الفقرات من دعائه عليه السلام يوم الأضحى، ويوم الجمعة:" أللَّهم إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة، التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها... حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيّك متروكة، أللَّهم العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين، ومن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم.." 11.
3- العبادة
الإمام زين العابدين عليه السلام هذا الوجود المقدّس، كان سيّد الروحانيّة بمعناها الصحيح، أي إنّ من فلسفة وجود رجل مثل عليّ بن الحسين، أنّ الإنسان عندما ينظر إلى آل النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كلّهم، ومنهم عليّ بن الحسين، يرى روحانيّة الإسلام أي حقيقة الإسلام، وهذا أمر مهمّ في حدّ ذاته 12.
وقد ورد العديد من الروايات التي تذكر حالاته مع الله وعبادته له، ويكفي أنّ من أشهر ألقابه التي عرف بها: "زين العابدين"..
فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "كان أبي عليه السلام يقول: كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة، كأنّه ساق شجرة، لا يتحرّك منه شيءٌ إلّا ما حرّكه الريح منه"13.
وعنه عليه السلام قال: "كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة تغيّر لونه، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتّى يرفضّ 14عرقاً" 15.
وعن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة غشى لونَه لونٌ آخر، فقال لي: "والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه"16.
وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، قال: "...كان إذا قام في صلاته غشى لونَه لونٌ آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزَّ وجلَّ، وكان يصلّي صلاة مودّع، يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً، ولقد صلّى ذات يوم، فسقط الرداء عن إحدى منكبيه، فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه، فقال الرجل: هلكنا، فقال: كلا، إنّ الله عزّ وجلّ متمّم ذلك بالنوافل" 17.
وروي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان عليّ بن الحسين إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلّا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير، فإذا أفطر قال: أللَّهم إن شئت أن تفعل فعلت" 18.
وعن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، "أنّ فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها عليّ بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ فقالت له: يا صاحب رسول الله، إنّ لنا عليكم حقوقاً، من حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا عليّ بن الحسين بقيّة أبيه الحسين قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، دأباً منه لنفسه في العبادة، فأتى جابر بن عبد الله باب عليّ بن الحسين عليه السلام، وبالباب أبو جعفر محمّد بن عليّ في أُغيلمة من بني هاشم، قد اجتمعوا هناك....ثمّ أذن لجابر فدخل عليه، فوجده في محرابه قد أضنته العبادة، فنهض عليّ عليه السلام فسأله عن حاله سؤالاً حفيّاً، ثمّ أجلسه بجنبه، فأقبل جابر عليه، يقول: يا بن رسول الله أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النّار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفّته نفسك؟ قال له عليّ بن الحسين: يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد وتعبّد- بأبي هو وأمّي- حتّى انتفخ الساق، وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ فلمّا نظر جابر إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، وليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا بن رسول الله البقيا على نفسك، فإنّك لمن أسرة بهم يُستدفع البلاء، ويستكشف اللأواء، وبهم تستمطر السماء، فقال له: يا جابر، لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسياً بهما صلوات الله عليهما حتّى ألقاهما، فأقبل جابر على من حضر، فقال لهم: والله ما أرى في أولاد الأنبياء مثل عليّ بن الحسين إلّا يوسف بن يعقوب، والله لذريّة عليّ بن الحسين أفضل من ذريّة يوسف بن يعقوب، إنّ منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جَوراً"19.
وعن سعيد بن كلثوم، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّد، فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثمّ قال: "والله ما أكل عليّ بن أبي طالب من الدنيا حراماً قطّ حتّى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قطّ هما لله رضاً إلّا أخذ بأشدّهما عليه في دينه، وما نزلت برسول الله صلى الله عليه واله وسلم نازلة إلّا دعاه فقدّمه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من هذه الأمّة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل كأنّ وجهه بين الجنّة والنّار، يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النّار، ممّا كدّ بيديه، ورشح منه جبينه، وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخلّ والعجوة، وما كان لباسه إلّا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجَلَمِ 20 فقصّه، وما أشبهه من ولده، ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين عليه السلام.
"ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودَبِرَت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكّر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجّراً، وقال: من يقوى على عبادة عليّ عليه السلام "؟!21.
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه، يستمعون قراءته"22..
وروي أنّه كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته23..
4- تكفّله للفقراء والمحتاجين
لقد كان الإمام عليه السلام يرعى الفقراء والمحتاجين، ويكثر من التصدّق عليهم، في السرّ والعلن، وفي الليل والنهار، متكفّلاً للكثير من البيوتات التي لم تكن تجد قوتها وطعامه، وفي الغالب من حيث لا يدري أحد منهم، حتّى إذا رحل الإمام إلى ربّه، فقدوا تلك الصدقات، فعلموا أنّ الإمام عليه السلام هو الذي كان يقوم بها.
فعن الإمام الباقر عليه السلام: "وكان عليه السلام ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربّما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتّى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلّا يعرفه، فلمّا توفي عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان عليّ بن الحسين. ولمّا وضع عليه السلام على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين.
"ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خزٍّ، فعرض له سائل فتعلّق بالمطرف، فمضى وتركه، وكان يشتري الخزّ في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه فتصدّق بثمنه...
"ولقد كان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرّاء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتّى يبدأ، فيتصدّق بمثله"24...
ورأى الزهريّ عليّ بن الحسين عليه السلام (في) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله، ما هذا؟ قال: "أريد سفراً أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز"، فقال الزهريّ: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفّعك عن حمله، فقال عليّ بن الحسين: "لكنّي لا أرفّع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لمّا مضيت لحاجتك وتركتني"، فانصرف عنه، فلمّا كان بعد أيّام، قال له: يا ابن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثر، قال: "بلى يا زهريّ! ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير" 25.
5- تحريره للعبيد
من الظواهر اللاَّفتة حقّاً في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، هي علاقته بهذه الطبقة الضعيفة من أبناء المجتمع آنذاك، وهم العبيد والإماء، فقد كان يهتمّ بشرائهم وتربيتهم ثمّ عتقهم.
قال بعض الباحثين:...فهو يشتري العبيد لا لحاجة إليهم، ولكن ليعتقهم، وقالوا: إنّه أعتق مئة ألف".
ويقول أيضاً:..وعرف العبدان ذلك، فباعوا أنفسهم له، واختاروا وتفلّتوا من أيدي السادة ليقعوا في يده، وجعل الدولاب يسير، والزمن يمرّ، وزين العابدين يهب الحريّة في كلّ عامّ، وكلّ شهر، وكلّ يوم، وعند كلّ هفوة، وكلّ خط، حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، وكلّهم في ولاء زين العابدين، قد بلغوا خمسين ألفاً أو يزيدون 26.
ويصف الإمام الصادق عليه السلام جانباً من تعامله الإنسانيّ والمميّز مع هذه الشريحة الاجتماعيّة، إذ يقول: "كان عليّ بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب، حتّى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدّبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتّى يأتي على آخرهم فيقرّرهم جميعاً.
"ثمّ يقوم وسطهم، ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم، وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّما عملت، كما أحصيت علينا كلّما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلّا أحصاها، وتجد كلّما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عفوّاً، وبك رحيماًَ، ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلّا أحصاه، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك، الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك، ويصفح، فإنّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ 27.
"قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني، إذ كنت من سؤّالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.
"ثمّ يقبل عليهم، فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي ممّا كان منّي إليكم من سوء مِلكة، فإنّي مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل، فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا، وما أسأت، فيقول لهم: قولوا: أللَّهم اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، وأعتقه من النّار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: أللَّهم آمين، يا ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم، رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي، فيعتقهم.
"فإذا كان يوم الفطر، أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، وما من سنّة إلّا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان، ما بين العشرين رأساً إلى أقلّ أو أكثر. وكان يقول: إنّ لله تعالى، في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار، سبعين ألف ألف عتيق من النّار، كلّاً قد استوجب النّار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإنّي لأحبّ أن يراني الله، وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النّار. وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أوّل السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثمّ أعتق، كذلك كان يفعل حتّى لحق بالله تعالى، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة، يأتي بهم إلى عرفات، فيسدّ بهم تلك الفرج والخلال، فإذا أفاض، أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال"28.
ومن ذلك ما روي، أنّ جارية لعليّ بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فنعست فسقط الإبريق من يد الجارية فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إنّ الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال: "قد كظمت غيظي"، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال لها: "عفا الله عنك"، قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ 29، قال: "اذهبي فأنت حرّة"30.
وقد كان ينادي أحدهم: "يا بنيّ"، ويحنّ عليهم، ويرأف بهم، حتّى صاروا يأمنونه. فقد روي أنّه عليه السلام دعا مملوكه مرّتين، فلم يجبه، ثمّ أجابه في الثالثة، فقال له: "يا بنيّ، أما سمعت صوتي"؟ قال: بلى، قال: "فما بالك لم تجبني"؟ قال: أمنتك، قال: "الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنّي"31.
لقد كان من نتيجة هذه التعاطي الخاصّ منه عليه السلام، أن صار الموالي يعتبرون أهل البيت هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام، وكانوا مستعدّين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف.
هذا في الوقت الذي يمثّل إدانة لمنطق الأمويّين، القائم على أساس تفضيل العربيّ على غيره، وإعطائه كلّ الامتيازات، وحرمان غيره منها بكلّ صورة، واعتباره أذلّ وأحقر من الحيوان، حتّى كان يقال: لا يقطع الصلاة إلّا كلب أو حمار أو مولى، ومنعوهم من الإرث، ومن العطاء، ومن القضاء، ومن الولاية وإمامة الجماعة، ومن الوقوف في الصفّ الأوّل منه، وأباحوا استرقاقهم، ولا يسترقّ غيرهم 32...
6- البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
يشكّل البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام جزءاً هامّاً من حياة الإمام السجّاد عليه السلام، حيث أخذ حيّزاً كبيراً من عمره الشريف، كما تحدّث بذلك العديد من الروايات، فقد كان يذكّر الناس بمصيبة أبيه، في كلّ يوم، وعند كلّ مناسبة، ليبقي جذوة هذا الحزن وقّادة في نفوسهم، وليذكّر الأمّة بالجريمة، التي ارتكبتها بحقّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، بخذلانها لهم، وابتعادها عن نهجهم، حتّى لقد عُدّ الإمام- بحقّ- أحد بكّائي التاريخ، وعرف بلقب "البكّاء" 33 لكثرة بكائه.
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "بكى عليّ بن الحسين على أبيه حسين بن عليّ عشرين سنة، أو أربعين سنة 34، وما وَضع بين يديه طعاماً إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنمّا أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك" 35.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ولقد بكى على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله عنه واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ. وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي، وأخي، وعمّي، وسبعة عشر من أهل بيتي، مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني" !! 36
وروي أنّه: أشرف مولى لعليّ بن الحسين، وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي، يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي، فرفع رأسه إليه، وقال: ويلك أو ثكلتك أمّك والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتّى قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ 37، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي 38.
ولم يغب عن ذهن الإمام زين العابدين المشهد الفظيع، الذي رأى فيه حرق خيام بنات الرسالة وعقائل الوحي، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا خيام الظالمين، وقد فرَّت بنات الرسالة من خباء، إلى خباء والنّار تلاحقهن. أمّا اليتامى فقد علا صراخهن، فبين من تعلّق بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النّار، وبين من هام على وجهه في البيداء...
فكان عليه السلام يقول: "والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وخنقتي العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي، أحرقوا بيوت الظالمين"39.
يفترن خوات احسين من خيمة لعد خيمة
او كل خيمة تشب ابنار ردن ضربن الهيمه
ينخن وين راحو وين ما ظل بالعده شيمه
والسجاد إجوا سحبوه او دمعه اعلى الوجن ساله
وكان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر، فقال: "إنّي أذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ، فأرقّ لهم"40.
وفي المناقب: وقيل: إنّه بكى حتّى خيف على عينيه.
وكان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى، حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك فقال: "وكيف لا أبكي؟ وقد منع أبي من الماء، الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش".
وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا، فقال: "نفسي قتلتها، وعليها أبكي"41.
ويخرج إلى السوق أحياناً، فإذا رأى جزاراً يريد أن يذبح شاة أوغيرها، يدنو منه، ويقول: "هل سقيتها الماء"؟ فيقول له: نعم يا ابن رسول الله، إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي عند ذلك، ويقول: "لقد ذبح أبو عبد الله عطشاناً"!
لا يُذْبَحُ الكَبْشُ حَتَّى يُسْقَى مِنْ ظَمَأ ويُذْبَحُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ عَطْشانا
وجاء عنه أنّه دخل يوماً، فرأى غريباً، فسلّم عليه، ودعاه إلى بيته لضيافته، وقال له بحضور جمع من الناس: "أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك، هل تجد من يغسّلك ويدفنك"؟ فقال الناس: يا ابن رسول الله، كلّنا يقوم بهذا الواجب، فبكى وقال: "لقد قتل أبو عبد الله غريباً، وبقي ثلاثة أيّام تصهره الشمس بلا غسل ولا كفن"! 42يناعي لو شفت شيعه وساده
اخبرهم بالجره علينه وساده
احسين الرمل صاير له وساده
ثلث تيام مرمي اعلى الوطيه
أيَا جَدَّنا هذا الحسينُ على الثَّرَى
طَرِيحاً يُخَلَّى عارِياً لا يُغَسَّلُ
* سيد البكائين، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- تأسيس المدرسة العلميّة
يعتبر الإمام السجاد عليه السلام المؤسّس الثاني لمدرسة أهل البيت، بعد المؤسّس الأوّل صلى الله عليه واله وسلم والمشيّد على ذلك الصرح الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام.
كان منزل الإمام السجّاد عليه السلام مدرسة، ومسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم مركزاً لمدرسته، ومعهداً لتعليم طلّابه، ونقطة انطلاق لتدريب تلامذته، لبثّ العلوم الدينيّة إلى العالم، وإلى الأجيال الصاعدة، فكان يلقي محاضراته وبحوثه على العلماء والفقهاء، وكانت تلك البحوث تتناول العلوم الإسلاميّة المهمّة والحسّاسة، منها علم التفسير، وعلم الفقه، والحديث، والفلسفة، وعلم الكلام، وقواعد السلوك، والأخلاق. كما كان يلقي في كلّ جمعة خطاباً عامّاً جامعاً على الناس، يعظهم فيه، ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في الآخرة. وكان الناس يحفظون كلامه ويكتبونه، وقد التفّ العلماء والفقهاء والقرّاء حول الإمام عليه السلام، لا يفارقونه حتّى في سفره إلى حجّ بيت الله الحرام، يستمعون إلى حديثه، ويسجّلون فتاواه، ويدوّنون ما يمليه عليهم من علوم ومعارف وحكم وآداب. وقد تخرّج في مدرسته مجموعة كبيرة من فطاحل العلماء والفقهاء، الذين اشتهروا بالرواية عنه عليه السلام. منهم على سبيل المثال: أبان بن تغلب، والمنهال بن عمرو الأسديّ، ومحمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ، وسعيد بن المسيّب، وأبو حمزة الثماليّ، وسعيد بن جبير، ويروى أنّ سفيان بن عيينة، ونافع بن جبير، وطاووس بن كيسان، ومحمّد بن إسحاق، قد أخذوا عن الإمام السجّاد عليه السلام بعض الأحاديث، وغيرهم...
وقد أحصى الشيخ الطوسيّ في رجاله، وغيره من أصحاب التراجم، أكثر من مائة وستّين من التابعين والموالي، كانوا ينهلون من معينه، ويروون عنه في مختلف المواضيع، وعدّوا منهم: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، ومحمّد بن جبير بن مطعم، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، ويحيى بن أمّ الطويل، وأمثال هذه الطبقة من أعلام الصحابة والتابعين...
وأنشأت في عصر الإمام عليه السلام مدرسة التابعين، وهي أوّل مدرسة إسلاميّة افتتحت في يثرب بعد مدرسة أئمّة أهل البيت. وقد عنت هذه المدرسة بعلوم الشريعة الإسلاميّة، ولم تتجاوزها، أمّا مؤسّسوها وأساتذتها، فهم: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد. ومن الجدير بالذكر أنّ بعض هؤلاء العلماء كانوا ممّن تتلمذ على يد الإمام زين العابدين عليه السلام، وأخذوا عنه الحديث والفقه.
وعلى أيّ حال، فلم تعرف الأمّة في ذلك العصر عائدةً أعظم، ولا أنفع من عائدة الإمام عليه السلام عليها، وذلك بما أسّس في ربوعها من مدرسته العلميّة، وبما فتح لها من آفاق الفكر والعلم والعرفان 1.
وخلّف عليه السلام تراثاً عظيماً أهمّه
أ- الأحاديث
جاء في طبقات ابن سعد، أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان ثقة مأموناً، كثير الحديث، عالياً، رفيعاً، ورعاً.."2.
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: وقد روى عنه فقهاء العامّة من العلوم ما لا يحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعيّة، وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيّام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب، وتقضّى به الزمان 3.
ب- الصحيفة السجّاديّة
المعبّر عنها "إنجيل أهل البيت"، و "زبور آل محمّد"، ويقال لها: "الصحيفة الكاملة" أيضاً، وقد اهتمّ العلماء بروايته، وعليها شروح كثيرة، وهي من المتواترات عند الأعلام، لاختصاصها بالإجازة والرواية في كلّ طبقة وعصر، ينتهي سند روايتها إلى الإمام أبى جعفر الباقر عليه السلام، وزيد الشهيد ابني عليّ بن الحسين، عن أبيهما عليّ بن الحسين 4.
وذكر فصاحة الصحيفة الكاملة عند بليغ في البصرة فقال: خذوا عنّي حتّى أملي عليكم، وأخذ القلم وأطرق رأسه، فما رفعه حتّى مات 5.
ج- رسالة الحقوق
وهي تحتوي على توجيهات وتعليمات وقواعد في السلوك العامّ والخاصّ، من أدقّ ما يعرفه الفكر الإنسانيّ 6.
وقد جاء في آخرها، قول الإمام عليه السلام: "فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، والحمد لله ربّ العالمين" 7.
إنّ رسالة الحقوق التي نظمها الإمام زين العابدين عليه السلام، تدلّ على اهتمام الإمام بكلّ ما يدور حوله في المجتمع الإسلاميّ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسيّة والصحيّة، ورعايته لأمنه واستقراره، وحفاظه على تكوينته الإسلاميّة. وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام عليه السلام من جهة، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق، من سعة الأفق وشموليّته من جهة أخرى، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار، الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرناً. إنّ صنع مثل هذا القانون في جامعيّته، ودقّته وواقعيّته، لا يصدر إلّا من شخص جامع للعلم والعمل، مهتمٍّ بشؤون الأمّة، ومتصدٍّ لإصلاحها فكريّاً وثقافيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، وإداريّاً، وصحيّاً، ونفسيّاً، ولا يصدر- قطعاً- من شخص منعزل عن العالم، وعن الحياة الاجتماعيّة، ولا مبتعدٍ عن السياسة وأمور الحكم والدولة! ولذلك فإنّا نجد الرسالة تحتوي على حقوق مثل: حقّ السلطان، وحقّ الرعيّة، وحقّ أهل الملّة عامّة، وحقّ أهل الذمّة، وغيرها ممّا يرتبط بأمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعيّة، إلى جانب الشؤون الخاصّة العقيديّة والعباديّة والماليّة، وكلّ ما يرتبط بحياة حرّة كريمة للفرد وللمجتمع الذي يعيش معه، ومثل هذا لا يصدر ممّن يعتزل الحياة الاجتماعيّة.
ورسالة الحقوق عمل علميّ عظيم، يستدعي دراسة موضوعيّة عميقة شاملة، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه السلام الاجتماعيّة، وخاصّة من المنظار السياسيّ، وما استهدفه من بيانها ونشرها" 8.
2- الدعاء
لقد كان الإمام عليّ بن الحسين، يحرص على أن يضع الناس، على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، تجاه مسؤوليّاتهم، وما يجب عليهم لله وللناس، ولكن بأسلوب يختلف عن أساليب الوعّاظ والمرشدين والقصّاصين، لقد استعمل أسلوب الحوار مع الله، ومناجاته، واستعطافه وتمجيده 9...
فقد كان يوجّه الأمّة من خلال أدعيته، التي كان يضمّنها مختلف المعارف الإسلاميّة: عقائديّاً وهو الأهمّ وسياسيّاً وأخلاقيّاً، وغير ذلك.. ولم يكن بإمكان أحد أن يعترض عليه، ويقول له: لا تدع ربّك.. فإنّ ذلك سوف يكون مستهجناً ومرفوضاً من كلّ أحد..حيث يرونه- بحسب الظاهر- لا يتعرّض لدنيا هؤلاء الحكّام، وإنّما شغل نفسه بعبادة ربّه، وتصفية وتزكية نفسه..
ولقد فاتهم: أنّه كان في الظاهر يدعو الله، ولكنّه كان في واقع الأمر يدعو إلى الله، ويوجّه نحوه، ويعرّف الناس سبيله، ويضمّن كلامه الكثير من التعاليم الإلهيّة، والمعارف الدينيّة التي تهمّهم في أمر دينهم ودنياهم.. كما اتضح جليّاً فيما بعد. وأنّه كان يقود عمليّة التغيير الشامل في بنية العقيدة للأمّة الإسلاميّة بأسرها 10.
وكنموذج على البعد السياسيّ في أدعية الإمام عليه السلام، نستعرض بعض الفقرات من دعائه عليه السلام يوم الأضحى، ويوم الجمعة:" أللَّهم إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة، التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها... حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيّك متروكة، أللَّهم العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين، ومن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم.." 11.
3- العبادة
الإمام زين العابدين عليه السلام هذا الوجود المقدّس، كان سيّد الروحانيّة بمعناها الصحيح، أي إنّ من فلسفة وجود رجل مثل عليّ بن الحسين، أنّ الإنسان عندما ينظر إلى آل النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كلّهم، ومنهم عليّ بن الحسين، يرى روحانيّة الإسلام أي حقيقة الإسلام، وهذا أمر مهمّ في حدّ ذاته 12.
وقد ورد العديد من الروايات التي تذكر حالاته مع الله وعبادته له، ويكفي أنّ من أشهر ألقابه التي عرف بها: "زين العابدين"..
فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "كان أبي عليه السلام يقول: كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة، كأنّه ساق شجرة، لا يتحرّك منه شيءٌ إلّا ما حرّكه الريح منه"13.
وعنه عليه السلام قال: "كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة تغيّر لونه، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتّى يرفضّ 14عرقاً" 15.
وعن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة غشى لونَه لونٌ آخر، فقال لي: "والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه"16.
وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، قال: "...كان إذا قام في صلاته غشى لونَه لونٌ آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزَّ وجلَّ، وكان يصلّي صلاة مودّع، يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً، ولقد صلّى ذات يوم، فسقط الرداء عن إحدى منكبيه، فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه، فقال الرجل: هلكنا، فقال: كلا، إنّ الله عزّ وجلّ متمّم ذلك بالنوافل" 17.
وروي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان عليّ بن الحسين إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلّا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير، فإذا أفطر قال: أللَّهم إن شئت أن تفعل فعلت" 18.
وعن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، "أنّ فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها عليّ بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ فقالت له: يا صاحب رسول الله، إنّ لنا عليكم حقوقاً، من حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا عليّ بن الحسين بقيّة أبيه الحسين قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، دأباً منه لنفسه في العبادة، فأتى جابر بن عبد الله باب عليّ بن الحسين عليه السلام، وبالباب أبو جعفر محمّد بن عليّ في أُغيلمة من بني هاشم، قد اجتمعوا هناك....ثمّ أذن لجابر فدخل عليه، فوجده في محرابه قد أضنته العبادة، فنهض عليّ عليه السلام فسأله عن حاله سؤالاً حفيّاً، ثمّ أجلسه بجنبه، فأقبل جابر عليه، يقول: يا بن رسول الله أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النّار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفّته نفسك؟ قال له عليّ بن الحسين: يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد وتعبّد- بأبي هو وأمّي- حتّى انتفخ الساق، وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ فلمّا نظر جابر إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، وليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا بن رسول الله البقيا على نفسك، فإنّك لمن أسرة بهم يُستدفع البلاء، ويستكشف اللأواء، وبهم تستمطر السماء، فقال له: يا جابر، لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسياً بهما صلوات الله عليهما حتّى ألقاهما، فأقبل جابر على من حضر، فقال لهم: والله ما أرى في أولاد الأنبياء مثل عليّ بن الحسين إلّا يوسف بن يعقوب، والله لذريّة عليّ بن الحسين أفضل من ذريّة يوسف بن يعقوب، إنّ منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جَوراً"19.
وعن سعيد بن كلثوم، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّد، فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثمّ قال: "والله ما أكل عليّ بن أبي طالب من الدنيا حراماً قطّ حتّى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قطّ هما لله رضاً إلّا أخذ بأشدّهما عليه في دينه، وما نزلت برسول الله صلى الله عليه واله وسلم نازلة إلّا دعاه فقدّمه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من هذه الأمّة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل كأنّ وجهه بين الجنّة والنّار، يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النّار، ممّا كدّ بيديه، ورشح منه جبينه، وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخلّ والعجوة، وما كان لباسه إلّا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجَلَمِ 20 فقصّه، وما أشبهه من ولده، ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين عليه السلام.
"ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودَبِرَت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكّر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجّراً، وقال: من يقوى على عبادة عليّ عليه السلام "؟!21.
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه، يستمعون قراءته"22..
وروي أنّه كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته23..
4- تكفّله للفقراء والمحتاجين
لقد كان الإمام عليه السلام يرعى الفقراء والمحتاجين، ويكثر من التصدّق عليهم، في السرّ والعلن، وفي الليل والنهار، متكفّلاً للكثير من البيوتات التي لم تكن تجد قوتها وطعامه، وفي الغالب من حيث لا يدري أحد منهم، حتّى إذا رحل الإمام إلى ربّه، فقدوا تلك الصدقات، فعلموا أنّ الإمام عليه السلام هو الذي كان يقوم بها.
فعن الإمام الباقر عليه السلام: "وكان عليه السلام ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربّما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتّى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلّا يعرفه، فلمّا توفي عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان عليّ بن الحسين. ولمّا وضع عليه السلام على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين.
"ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خزٍّ، فعرض له سائل فتعلّق بالمطرف، فمضى وتركه، وكان يشتري الخزّ في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه فتصدّق بثمنه...
"ولقد كان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرّاء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتّى يبدأ، فيتصدّق بمثله"24...
ورأى الزهريّ عليّ بن الحسين عليه السلام (في) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله، ما هذا؟ قال: "أريد سفراً أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز"، فقال الزهريّ: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفّعك عن حمله، فقال عليّ بن الحسين: "لكنّي لا أرفّع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لمّا مضيت لحاجتك وتركتني"، فانصرف عنه، فلمّا كان بعد أيّام، قال له: يا ابن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثر، قال: "بلى يا زهريّ! ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير" 25.
5- تحريره للعبيد
من الظواهر اللاَّفتة حقّاً في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، هي علاقته بهذه الطبقة الضعيفة من أبناء المجتمع آنذاك، وهم العبيد والإماء، فقد كان يهتمّ بشرائهم وتربيتهم ثمّ عتقهم.
قال بعض الباحثين:...فهو يشتري العبيد لا لحاجة إليهم، ولكن ليعتقهم، وقالوا: إنّه أعتق مئة ألف".
ويقول أيضاً:..وعرف العبدان ذلك، فباعوا أنفسهم له، واختاروا وتفلّتوا من أيدي السادة ليقعوا في يده، وجعل الدولاب يسير، والزمن يمرّ، وزين العابدين يهب الحريّة في كلّ عامّ، وكلّ شهر، وكلّ يوم، وعند كلّ هفوة، وكلّ خط، حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، وكلّهم في ولاء زين العابدين، قد بلغوا خمسين ألفاً أو يزيدون 26.
ويصف الإمام الصادق عليه السلام جانباً من تعامله الإنسانيّ والمميّز مع هذه الشريحة الاجتماعيّة، إذ يقول: "كان عليّ بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب، حتّى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدّبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتّى يأتي على آخرهم فيقرّرهم جميعاً.
"ثمّ يقوم وسطهم، ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم، وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّما عملت، كما أحصيت علينا كلّما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلّا أحصاها، وتجد كلّما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عفوّاً، وبك رحيماًَ، ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلّا أحصاه، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك، الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك، ويصفح، فإنّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ 27.
"قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني، إذ كنت من سؤّالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.
"ثمّ يقبل عليهم، فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي ممّا كان منّي إليكم من سوء مِلكة، فإنّي مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل، فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا، وما أسأت، فيقول لهم: قولوا: أللَّهم اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، وأعتقه من النّار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: أللَّهم آمين، يا ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم، رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي، فيعتقهم.
"فإذا كان يوم الفطر، أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، وما من سنّة إلّا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان، ما بين العشرين رأساً إلى أقلّ أو أكثر. وكان يقول: إنّ لله تعالى، في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار، سبعين ألف ألف عتيق من النّار، كلّاً قد استوجب النّار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإنّي لأحبّ أن يراني الله، وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النّار. وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أوّل السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثمّ أعتق، كذلك كان يفعل حتّى لحق بالله تعالى، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة، يأتي بهم إلى عرفات، فيسدّ بهم تلك الفرج والخلال، فإذا أفاض، أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال"28.
ومن ذلك ما روي، أنّ جارية لعليّ بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فنعست فسقط الإبريق من يد الجارية فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إنّ الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال: "قد كظمت غيظي"، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال لها: "عفا الله عنك"، قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ 29، قال: "اذهبي فأنت حرّة"30.
وقد كان ينادي أحدهم: "يا بنيّ"، ويحنّ عليهم، ويرأف بهم، حتّى صاروا يأمنونه. فقد روي أنّه عليه السلام دعا مملوكه مرّتين، فلم يجبه، ثمّ أجابه في الثالثة، فقال له: "يا بنيّ، أما سمعت صوتي"؟ قال: بلى، قال: "فما بالك لم تجبني"؟ قال: أمنتك، قال: "الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنّي"31.
لقد كان من نتيجة هذه التعاطي الخاصّ منه عليه السلام، أن صار الموالي يعتبرون أهل البيت هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام، وكانوا مستعدّين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف.
هذا في الوقت الذي يمثّل إدانة لمنطق الأمويّين، القائم على أساس تفضيل العربيّ على غيره، وإعطائه كلّ الامتيازات، وحرمان غيره منها بكلّ صورة، واعتباره أذلّ وأحقر من الحيوان، حتّى كان يقال: لا يقطع الصلاة إلّا كلب أو حمار أو مولى، ومنعوهم من الإرث، ومن العطاء، ومن القضاء، ومن الولاية وإمامة الجماعة، ومن الوقوف في الصفّ الأوّل منه، وأباحوا استرقاقهم، ولا يسترقّ غيرهم 32...
6- البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
يشكّل البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام جزءاً هامّاً من حياة الإمام السجّاد عليه السلام، حيث أخذ حيّزاً كبيراً من عمره الشريف، كما تحدّث بذلك العديد من الروايات، فقد كان يذكّر الناس بمصيبة أبيه، في كلّ يوم، وعند كلّ مناسبة، ليبقي جذوة هذا الحزن وقّادة في نفوسهم، وليذكّر الأمّة بالجريمة، التي ارتكبتها بحقّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، بخذلانها لهم، وابتعادها عن نهجهم، حتّى لقد عُدّ الإمام- بحقّ- أحد بكّائي التاريخ، وعرف بلقب "البكّاء" 33 لكثرة بكائه.
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "بكى عليّ بن الحسين على أبيه حسين بن عليّ عشرين سنة، أو أربعين سنة 34، وما وَضع بين يديه طعاماً إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنمّا أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك" 35.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ولقد بكى على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله عنه واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ. وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي، وأخي، وعمّي، وسبعة عشر من أهل بيتي، مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني" !! 36
وروي أنّه: أشرف مولى لعليّ بن الحسين، وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي، يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي، فرفع رأسه إليه، وقال: ويلك أو ثكلتك أمّك والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتّى قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ 37، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي 38.
ولم يغب عن ذهن الإمام زين العابدين المشهد الفظيع، الذي رأى فيه حرق خيام بنات الرسالة وعقائل الوحي، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا خيام الظالمين، وقد فرَّت بنات الرسالة من خباء، إلى خباء والنّار تلاحقهن. أمّا اليتامى فقد علا صراخهن، فبين من تعلّق بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النّار، وبين من هام على وجهه في البيداء...
فكان عليه السلام يقول: "والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وخنقتي العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي، أحرقوا بيوت الظالمين"39.
يفترن خوات احسين من خيمة لعد خيمة
او كل خيمة تشب ابنار ردن ضربن الهيمه
ينخن وين راحو وين ما ظل بالعده شيمه
والسجاد إجوا سحبوه او دمعه اعلى الوجن ساله
وكان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر، فقال: "إنّي أذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ، فأرقّ لهم"40.
وفي المناقب: وقيل: إنّه بكى حتّى خيف على عينيه.
وكان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى، حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك فقال: "وكيف لا أبكي؟ وقد منع أبي من الماء، الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش".
وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا، فقال: "نفسي قتلتها، وعليها أبكي"41.
ويخرج إلى السوق أحياناً، فإذا رأى جزاراً يريد أن يذبح شاة أوغيرها، يدنو منه، ويقول: "هل سقيتها الماء"؟ فيقول له: نعم يا ابن رسول الله، إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي عند ذلك، ويقول: "لقد ذبح أبو عبد الله عطشاناً"!
لا يُذْبَحُ الكَبْشُ حَتَّى يُسْقَى مِنْ ظَمَأ ويُذْبَحُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ عَطْشانا
وجاء عنه أنّه دخل يوماً، فرأى غريباً، فسلّم عليه، ودعاه إلى بيته لضيافته، وقال له بحضور جمع من الناس: "أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك، هل تجد من يغسّلك ويدفنك"؟ فقال الناس: يا ابن رسول الله، كلّنا يقوم بهذا الواجب، فبكى وقال: "لقد قتل أبو عبد الله غريباً، وبقي ثلاثة أيّام تصهره الشمس بلا غسل ولا كفن"! 42يناعي لو شفت شيعه وساده
اخبرهم بالجره علينه وساده
احسين الرمل صاير له وساده
ثلث تيام مرمي اعلى الوطيه
أيَا جَدَّنا هذا الحسينُ على الثَّرَى
طَرِيحاً يُخَلَّى عارِياً لا يُغَسَّلُ
* سيد البكائين، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية