المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (وكلمتهُ ألقاها إلى مريم وروح منه).هل الله هو الكلمة ، أم الكلمة الله ، أم كانت عند الله.


مصطفى الهادي
07-07-2024, 02:02 PM
(وكلمتهُ ألقاها إلى مريم وروح منه).هل الله هو الكلمة ، أم الكلمة الله ، أم كانت عند الله.
مصطفى الهادي.
المدخل.
بداية أقول : أن (الكلمة) هي اصغر وحدة تُبنى عليها اللغة. وللكلمة في العربية ثلاثة أقسام، هي: الاسم، والفعل، والحرف.
الاسم: ما دل على معنى في نفسه، ولم يقترن بزمن.
والفعل: ما دل على معنى في نفسه، واقترن بزمن.
والحرف: ما دل على معنى في غيره.
ولا ندري من أيهما خُلق يسوع المسيح حسب رواية الإنجيل. وأعتقد أنهُ حسب تقسيمات الكلمة الثلاث ، وضعوا نظرية الثالوث لتنسجم مع أقنوم المسيح، فكان المسيح حسب ذلك يجمع : (الإسم ، الفعل ، الحرف). أي بالمعنى الإنجيلي : (الآب والابن والروح القدس).(1)
هذه هي الكلمة ولا يمكن لها أن ترتدي غير ذلك، إلا إذا كانت امرأ، مثل (كن). كقوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ).(2) و(كن) هي أداة خلق كل شيء ومن بين الخلق آدم وعيسى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون).(3) وكذلك فإن كلمة الله تعني : حكمه أو شريعته أو إرادته. مثل قوله تعالى : (كلمة الله هي العليا).(4) وقد اعترف المفسر المسيحي بأن (كن فيكون) هي من مختصات الله تعالى كما نقرأ في المزمور (من ذا الذي يقول فيكون والرب لم يأمر).(5) أي من دون نطق يكون الشيء إذا أمر الله به. وهذا ما يذهب إليه النبي داود في مزموره : (لأنهُ قالَ فكان، هو أمرَ فصارَ).(6) يقول المفسر في شرح ذلك : (تظهر عظمة الله في أنه خلق كل شيء بكلمته، وبمجرد أن يأمر الله توجد الخليقة بكل حسنها وجمالها؛ لذا فينبغي أن تمجده كل الخليقة ويسبحه جميع البشر).(7) وهذا ما ذهب إليه القرآن من أن خلق المسيح (كلمته ألقاها إلى مريم). ثم أضاف إليها : وروح منه، فهي إذن كلمة وروح وليس كلمة وحدها.
الموضوع.
يتردد في أوساط المسيحية من أن السيد المسيح هو الله، معتمدين على نص يتيم في الإنجيل يقول: (في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الله الكلمة). ( 8 ) هذا النص يحمل معهُ جراثيم فنائه. لأنهُ أولا ليس قول السيد المسيح على الإطلاق، فلم يرد هذا القول طيلة وجود السيد المسيح وحتى مماته، فلم ينقل لنا أحد أنهُ سمع ذلك. فهو قول يوحنا المقتبس من قول الفيلسوف فيلون السكندري.(9)
وكذلك لم يردنا من أي مسيحي بأن السيد المسيح قاله. يضاف إلى ذلك أن السيد المسيح لم يستخدم أبدا لفظ (الكلمة) في توصيف نفسه.
الثاني : عزوف ثلاث أناجيل عن ذكر هذه النص. فانفرد به يوحنا وحده. ولو رجعنا إلى النص الأصلي قبل الترجمة لوجدنا أن هناك تلاعبا في الترجمة. والدراسة المعمّقة تقودنا إلى أن هذا القول يعود لشخص يهودي اسمهُ (فيلون السكندري).حيث يقول: بأن العقل هو الذي صدر عنهُ وجود كل المخلوقات. وكان فيلون يطلق على ذلك (الكلمة).وقد تأثر يوحنا كثيرا بفلسفة فيلون فاستعار منهُ مصطلح الكلمة ليضعها في إنجيله ولكن في أسوأ استخداماتها. وقد كتب يوحنا إنجيله بعد وفاة فيلون.(10)
المتمعن في قول يوحنا يجد أنه لا يقصد بأن الكلمة هو الله. وهذا يعني أنهُ لا يقول أن يسوع كان الله. كما نقرأ ذلك بكل وضوح: (الكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده، كما لوحيد من الأب وحقا مملوءا نعمة).(11) ولكن من فسّر هذا النص هو من قال بأن الكلمة تعني الله حرفيا وذلك عبر قلب كلمة اله إلى الله. فهم يقولون : أن الكلمة هي الله والكلمة صارت جسدا هو جسد السيد المسيح، فهذا يعني أن كل ما تعرض لهُ الجسد ــ حسب رواية الإنجيل ــ من إهانات وجلد وضرب وبصاق وطعن وموت ودفن، يعني تعرض له الله الذي هو الكلمة التي صارت جسدا وهذا مما لا يقبله عاقل. لأن قول يوحنا (وكان الكلمة الله والكلمة صار جسدا).(12) بهذا اصبح الجسد هو الله وقد تلقى هذا الجسد كل هذا الضرب والإهانات. وهنا جعلوا لله كيان آخر مستقل مادي بشري، وهذا تغيير في الله يعارضه ما يقوله الكتاب المقدس من أن الله لا يتغير: (لأني أنا الرب لا أتغير).(13)
الثالث: لو أننا أخذنا قول يوحنا حسب فهم المسيحيين لأصبح النص هكذا (في البدء كان الله، وكان الله عند الله، وكان الله هو الله، الله كان في البدء عند الله). وهذه متاهة بلا معنى يستعصي حلّها حتى على الفلاسفة.
في القرآن ورد قوله تعالى : (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم).(14) والكلمة هنا تعني البشارة بعيسى ألقاها إليها، ودفعا للإشكال كرر ذلك تعالى موضحا معنى الكلمة فقال: (إن الله يبشرك بكلمة منه).(15) فبيّن تعالى أن الكلمة المقصودة هي (البشارة) بهذا المولود الفريد. ومن هنا نعرف لماذا أطلق على كتاب عيسى (البشارة).
ولم يكن السيد المسيح وحده (الكلمة). فهذا يوحنا ابن زكريا كان كلمة ، وحملت به أمهُ بأمر الله تعالى حيث كانت عاقرا كما نقرأ : ( ان الله يُبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله).(16)
ولو بحثنا في كامل الكتاب المقدس عن (الكلمة) لوجدنا أن كلمته تعني أمره كما يقول حزقيال عن الله تعالى : (الكلمة التي أتكلم بها تكون. أقول الكلمة وأجريها، يقول السيد الرب).(17) إذن يتضح من هذا النص أن الكلمة هي مشيئته وأمره.
وفي سفر إرميا يقول بأن الكلمة صارت لإرمياء : (اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب التي صارت لإرمياء من قِبل الرب).(18) وهذه الكلمة هي نفسها التي صارت إلى بني إسرائيل : (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل).(19)
كما تعودنا منهم البتر والتدليس فإن الكثير من علماء المسيحية يبترون النص، ولو وضعوا النص كاملا لاتضحت الحقيقة. والنص كما يقوله يوحنا : (في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان... كان إنسان مرسل من الله اسمهُ يوحنا).(20) يتبين أن هذا النص لا علاقة له بالسيد المسيح ، بل يتكلم عن نبي اسمهُ يوحنا بن زكريا.
والغريب أن المسيحية برمتها بعد أن قالت بأن الكلمة تعني (الله) حرفيا. إلا أنهم جعلوه ثالث ثلاثة فقالوا: بأن (كلمة الله)هي الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. وهنا خاطبهم الله تعالى قائلا : (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد).(21) ويا ليتهم بقوا على ثالوثهم ، فقد عدّلوا عن الثالوث وجعلوه سادوس، فجعلوهم ستة، فجعلوا ثالوث في السماء وثالوث في الأرض يقول يوحنا : (الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة، الآب ، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاث هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح ، والماء ، والدم: والثلاثة هم في الواحد).(22) وقد ذهبت إلى التفاسير المسيحية لفهم هذه المعادلة المحيّرة، فلم أجد شيئا مفهوما ، التواءات فلسفية عقيمة، سأنقل منها أحد اشهر أقوالهم في تفسير ذلك. يقول القديس أمبروسيوس : (الشهود الثلاث : الماء والدم والروح هم واحد).ولكن القديس أغسطينوس يُغالطه فيقول : (وإذا قال أن الثلاثة في الواحد أوضح أنه لا يقصد بالروح والماء والدم المفهوم العام بل هي أمور سرية. لأن مادة الروح ومادة الماء ومادة الدم ليسوا واحداُ. هذه الثلاثة مختلفو المادة ومتميزون، فهم ليسوا بواحد. إنما الوحدانية هنا تحمل معنى أن جسد المسيح السري أي الكنيسة يثبت في الثالوث القدوس ويُكرز به).(23)
(وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته).
المصادر:
1- متى 28 :19. حسب القانون الأثناسيوسي فإن الأب هو الله، الابن هو الله، الروح القدس هو الله؛ فهذه الأقانيم الثلاثة (الأب، الإبن، الروح القدس) سرمدية ومتساوية معا، تكون كلها على نحو متماثل غير مخلوقة وقادرة على كل شيء، وقد احتاروا في كيفية جعل الثلاث واحد ، أو جعل الواحد ثلاث.
2- سورة ياسين: 82.
3- آل عمران: 59.
4- التوبة : 40.(كُنْ فَيكونُ) مصطلح قرآني ورد في ثمانية مواضع. ويراد به تحقق الشيء إرادة الله ولا دخل لأيّ لفظ في تحققه، يقول الإمام علي (ع) : (يقول لمن أراد كونه : كن فيكون لا بصوت يُقرع، ولا بنداء يُسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا). المجلسي بحار الأنوار، ج74 ص : 312.
5- سفر مراثي إرميا 3 : 37.
6- مزمور 33 : 9.
7- تفسير الكتاب المقدس - الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم: مزمور 33 - تفسير سفر المزامير.
8- يوحنا 1 : 1.
9- (أن يوحنا كان له علم بالمراجع التي كانت لدى فيلو(.قاموس الكتاب المقدس، دائرة المعارف المسيحية. شرح كلمة الله .
10- فيلون اليهودي ، ولد في الإسكندرية قرابة 40 ق.م وتوفى بعد عام 40 م، وفي أقوال أخرى ولد قرابة 25 ق.م وتوفي 50 م، وبهذا يكون فيلون قد عاصر كل حياة السيد المسيح ومات بعده بخمسين عاما. يرى فيلون أن (الكلمة) هي كلمة الله الحافظ للكون والمدبرة له، وهي أيضا مصدر الوحي. والخلق والنبوة والشرائع. فيلون يرى أن الوسيط الأول (اللوغوس أو الكلمة) ابن الله ، فرجل الله آدم الله، فالملائكة فنفس الله لتنفذ أوامر الإله. وتُعتبر هذه القوى هي الرابطة والوساطة بين الله والعالم. فاقتبس يوحنا هذا الكلام وقلبه وجعل من شخص المسيح بأنه الله وقام بتحوير أقوال فيلون.
11- إنجيل يوحنا 1 : 14. لا تجد في هذا النص أن يوحنا زعم أن الكلمة هو الله.
12- إنجيل يوحنا 1 : 14.
13- سفر ملاخي 3 : 6. يقول القمص تادرس: (نعترف بأن الله وحده هو غير المتغير، لأن الله يقول عن نفسه : أنا الرب لا أتغير. لأنهُ وحده صالح على الدوام وكلي الصلاح ولا يمكن أن يُضاف أو ينقص منه شيء. ولذلك فإن صورة الله غير المتغيرة ينبغي أن تكون ثابتة غير متغيرة). تفسير الكتاب المقدس، العهد القديم القمص تادرس يعقوب. تفسير سفر ملاخي : 3. الوعد بمجيء المسيّا.
14- النساء : 171.
15- آل عمران : 45.
16- آل عمران : 39. (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا).
17- سفر حزقيال 12 : 25.
18- سفر حزقيال 12 : 25.
19- الأعراف: 137.
20- إنجيل يوحنا 1 : 6.
21- المائدة : 73.
22- رسالة يوحنا الرسول الأولى 5 : 7.
23- شرح الكتاب المقدس، العهد الجديد، القمص تادرس يعقوب ملطي، سلسلة من تفسير وتأملات الآباء الأولين. تفسير رسالة يوحنا الأولى: 5.