صدى المهدي
20-12-2024, 07:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 140).
وقال جل اسمه: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرين) (سورة آل عمران: الآية 144).
وقالت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً وَذُعَافاً مُبِيداً...)[1].
والكلام يقع في فصلين:
الأول: بحث موجز عن عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار والقيم في معادلة السلم الحضاري الصاعد أو الرجوع قهقرى في سلم التخلف المتسافل.
الثاني: بحث مختصر عن عالم ما بعد انقلاب السقيفة وحتى ظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)
الفصل الأول: رحلة الإنسان بين عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار
وذلك على ضوء ما ذكره بعض علماء الاجتماع ونظّر له المفكر المعروف مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) حيث أشار إلى أن العوالم هي عوالم ثلاثة متدرجة تبدأ من أدنى الدركات لتصل إلى أعلى الدرجات وهي: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار (ونضيف: والقيم والمبادئ، كما سنضيف عالماً رابعاً هو عالم الأنظمة وهو مما لا يقل أهمية عن عالم الأفكار كما سيظهر).
1- عالم الأشياء
فإن كل إنسان (وكذا كل شعب من الشعوب) يبدأ، عادةً من مرحلة الأشياء، والأشياء تعني: الجسم والمادة والمال والثروة والممتلكات والمقتنيات من دار وثوب ودابة وغير ذلك، كما تعني القوة الغضبية والقوة الشهوية والسلطة وشبهها، والتي تعد (الأصنام) التي يعبدها السفهاء من الناس من دون الله سبحانه.
والطفل الرضيع يبدأ حياته بتلمس الأشياء: ثدي أمه والحليب الذي يرضعه وشبه ذلك ثم إذا كبر انتقل تدريجياً إلى عالم الأشخاص حيث نجده يدقق أكثر فأكثر في وجه أمه ووجه من يواجهه ويتعرف عليه تدريجياً ويتعلق به، وقد يستوحش من أي وجه جديد أو غريب.
والإنسان في مرحلة عالم الأشياء لا يتجاوز حدود البهيمة وإدراكاتها كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا)[2]، ولقد كانت الناس في الجاهلية تعبد الأصنام حتى انهم كانوا يصنعون من التمر صنماً فإذا جاعوا أكلوه! كما شاهد أحد عباد الأصنام ثعلباً (أو ثعلبين) يبول على أحد أصنامهم فهاله ذلك وعلم انه لا يعدو شيئاً حقيراً تافهاً لا يمكنه أن يقي نفسه من بول الثعلب فكيف يكون إلهاً، فأنشد شعراً:
أربٌ يبول الثعلبان برأسه --- لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالبُ
والثُّعلبان بالضم اسم لذكر الثعلب وهو مفرد، ولو قرأناه بالفتح كان تثنية ثعلب، وبعض الأدباء وإن قرأه بالضم فرآه مفرداً، ولكن لم يثبت ذلك تاريخياً، لكنه حيث قرأه بالضم قال انه رأى ثعلباً واحداً وليس انه عُلِم تاريخياً انه كان ثعلباً واحد فقرأ الكلمة بالضم، بل العكس: قرأه بالضم فقال: انه ثعلب واحد!
2- عالم الأشخاص
ومع تطور الشعوب البدائية، كما الحال مع تطور الأطفال، نجدها تنتقل من عالم الأشياء إلى عالم الأشخاص فتراها تقدِّس شيخ القبيلة وكبير القوم بل قد تؤلهه، كما الّهوا فرعون متوهمين أن من بيده عالم الأشياء الظاهرية هو الإله (وَنادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْري مِنْ تَحْتي أَفَلا تُبْصِرُون)[3]، مع انه لم يزد على انه ملك منها أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً (والفرسخ خمسة كيلومترات ونصف تقريباً).
والإنسان في عالم الأشخاص يكون مقياس الحق والباطل لديه الشخص، لذا تراه يدافع عن شيخه أو قائده أو كبير قومه سواء أكان على حق أم كان على باطل.
حكومة عالم الأشخاص بعد انقلاب السقيفة
ولقد مضت العامة على ذلك أي انهم بعد انقلاب السقيفة جمدوا على عالم الأشخاص فأصبح الحاكم وإن كان جائراً ظالماً، مقدساً وخطاً أحمرَ ومصدر الشرعية الذي لا يمكن تجاوزه وإن ظلم وإن اعتدى كما تجب إطاعته وإن زنا وإن سرق وإن قتل النفس التي حرم الله، وقد اختلقوا في ذلك أحاديث في ذلك ومنها:
محاكمة روايات إطاعة السلطان الجائر
عن عبد الله بن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.
وفي لفظ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[4].
وذلك غريب حقاً ولا ريب انه من وضع وعّاظ السلاطين وأبواق حكام الجور حيث انهم كانوا يريدون تكريس أركان حكوماتهم الظالمة فجعلوا أحاديث على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) واعتبروا الخروج على الحاكم الجائر معصية كبيرة بل جعلوها أكبر المعاصي حتى أن الخارج يموت ميتة جاهلية، أي انه يدخل النار!
وقد حرّفوا الحديث الصحيح الذي يقول (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[5]، مع ان الإمام هو المعصوم وهو وصي النبي (صلى الله عليه وآله) المنصوص عليه وهو الذي يدور مع الحق ويدور الحق معه (الْحَقُ مَعَ عَلِيٍ أَيْنَمَا مَالَ)[6]، و(إِنَّ عَلِيّاً مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُ كَيْفَ مَا دَارَ دَارَ بِهِ)[7] فهذا هو الذي يموت من لا يعرفه (ومن خرج عليه) ميتة جاهلية؛ لأنه يجسّد الحق مائة في المائة، دون ذلك الذي تذكره الأحاديث المجعولة وهو السلطان الجائر الظالم فلاحظ مثلاً: (عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا! قالوا: يَا رسول الله، كَيْفَ تَأمُرُ مَنْ أدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)[8].
قال النووي في شرح هذا الحديث: (فيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً، فيُعْطَى حَقُّه من الطاعة، ولا يُخْرَج عليه، ولا يُخْلَع، بل يتضرع إلي الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره، وإصلاحه)[9].
وقال الشيخ العثيمين: (أما حديث عبد الله بن مسعود فأخبر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "إنها ستكون بعدي أثرة" والأثرة يعني: الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق.
يريد بذلك (صلى الله عليه وآله) أنه سيستولي على المسلمين ولاة يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقهم فيها. وهذه أثرة وظلم الولاة، أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين.
ولكن قالوا: ما تأمرنا؟ قال: "تودون الحق الذي عليكم" يعني: لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم، أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوا الأمر الذي أعطاهم الله "وتسألون الله الذي لكم" أي: اسألوا الحق الذي لكم من الله، أي: اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم،...
وقال أيضاً: فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يصبروا على ما سيرونه من الأثرة فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورود على الحوض والشرب منه)[10]!
والغريب تصريح النووي ومن تبعه بذلك، والغريب تخوين الناس بذلك وانه ليس للناس إلا السمع والطاعة وأن يدعوا الله تعالى في الخلوات.. فأين إذاً واجب النهي عن المنكر؟
ان هذه الأحاديث كاذبة قطعاً لأنها عند عرضها على الكتاب العزيز نجد انه يكذبها، إذ القرآن الكريم مليء بالآيات التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[11]، فهؤلاء هم المفلحون لا المطيعون للحاكم الجائر الساكتون عن جوره وظلمه و(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)[12]، و(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)[13]، و(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[14]، و(لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون)[15]، (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)[16]، فالذين ينهون عن السوء هم الناجون فقط دون الساكتين الذين يكتفون بدعاء الله تعالى في الخلوات!.
كما انه عند عرضها على سائر الأحاديث يظهر وضعها وكذبها فقد ورد في الحديث (وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ)[17]، فلا فائدة من الدعاء المجرد حينئذٍ بل الواجب الأمر والنهي ومعهما الدعاء، وفي الحديث (اعْقِلْ وَتَوَكَّل)[18].
وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلًّا لِحُرُمِ اللَّهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَتَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ)[19].
وورد: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)[20].
وروى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله): (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لم يستطع فبلسانه، ومن لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)[21].
وروى مسلم أيضاً: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ. يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ. يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ. فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بيده فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حبَّةُ خَرْدلٍ)[22].
ومنه يظهر أن كلمة (أثرة علينا) مجعولة مدسوسة في الحديث في الرواية التالية: (عن أَبي الوليدِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُول اللَّه ﷺ عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ وَاليُسْرِ، والـمَنْشَطِ والـمَكْرَهِ، وَعلى أَثَرَةٍ عَليْنَا، وعَلَى أَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدكُمْ مِنَ اللَّه تعالَى فِيهِ بُرهانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحقِّ أينَما كُنَّا، لا نخافُ في اللَّه لَوْمةَ لائمٍ" متفقٌ عَلَيهِ)[23].
الخيار الثالث: النهي عن المنكر، فلا إطاعة ولا خروج
والغريب انهم يصوّرون القضية وكأنها منفصلة حقيقية: إما أن تطيع الجائر وإما أن تخرج عليه بالسيف فتدخل النار، مع من البديهي وجود مراتب بينهما إذ يمكن أن لا يخرج بالسيف ولكن ينهاهم عن المنكر وينتقدهم، لكنهم يُغفِلون هذا الحل الوسط الواضح.
ولذلك تناقضت كلماتهم بين مُطلِقٍ بحرمة الخروج على حاكم الجور مطلقاً وبين مقيِّد لذلك بـ (ما اقاموا الصلاة) وبين مصرح بأنه (قلّ أن يخرج خارج على جائر إلا تولد من خروجه شر أعظم) مما يعني عدم حرمة الخروج مطلقاً بل إذا كان ضرره أعظم فقط فلاحظ الكلمات الثلاث:
1- (قال الحسن البصري: اعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع).
2- (قال ابن تيمية: وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ)[24] وسرد جملة من الأحداث وعدّدها مما يوضح ما قال.
3- (وقال ابن القيم: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة- وإن ظلموا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة، سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن)[25].
واللطيف: انه قد خرج الصحابة على عثمان، فحسب مبناهم يجب أن يكونوا كلهم في النار! كما خرج بنو العباس على بني أمية فهل يلتزمون بأنهم كلهم في النار؟، وقد خرج كثير من حكام المسلمين قديماً وحديثاً على الحاكم السابق فعلى مسلكهم فكلهم مات ميتة جاهلية ودخل النار!
وقال بعضهم: (يقول تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
ننطلق من هذه الآية، التي أثارت نقطة الجدل والاختلاف من هم (أُولِي الْأَمْرِ) الذين أمرنا الله بطاعتهم؟. فذهب جماهير أهل العلم إلى أنّها في الأمراء، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّها في العلم والفقه، وقال آخرون هم عامّة تشمل الصنفين.
وبعد بحث مستفيض قمتُ به وجدتُ أنّ الترجيح الأقوى حسب رأي العلماء، هو الذي يختص في الأمراء، لأنّه لو عدنا إلى أدلّة الشرع من القرآن والسنّة لوجدنا أنّ النصوص لا تأمر بطاعة العلماء والفقهاء، إنّما الأمر بالطاعة للأمراء لما في طاعتهم مصلحة البلاد والعباد)[26]، مع وضوح أن (أُولِي الْأَمْرِ) هم الحكام العدول الذين نصبهم الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم الإنذار قال تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبين)[ [2
(أبان خلافته علنا... يوم الإنذار وفي خيبر).
وقد ورد (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِق)[28] ولذا يتوصل الباحث بعقله الفطري إلى: (ولو افترضنا أنّ زعيما ربض على قلب شعبه عقودا من الزمن يقهرهم ويستولي على خيرات ومقدّرات الشعب لوحده فهل يجب أن نصفق له، ونرضى بالغبن من باب منع الفتنة والقتل، ونتحمّل الظلم والجور، وهو يستغل هذه "الحقوق" و"الامتيازات"، بينما لا يقوم باختصارها من الأساس وتوفير الخروج أو الانقلاب عليه؟ وماذا إذا قمنا بتوجيه النصيحة للحاكم مرارا ولم يقم بتغيير أحوال الرعيّة، بل استمر في نهجه الظالم، وماذا مع الحديث "أعظم الجهاد عند الله كلمة حق في وجه سلطان جائر"، والذي اعتبره بعض العلماء إنّه حجّة غير مقبولة لا تبرر التمرد على الحاكم)[29].
3- عالم الأفكار
ومع تطور الإنسان والأمة ينتقل من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار والقيم والمبادئ، حيث يكون الحق وحده رائدة وقائدة وسائقة وصاحب ولذلك نجد قوله تعالى: (وَالَّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون * وَالَّذينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُون)[30] فهذه كلها قيم ومبادئ عظمى يقيَّم بها الإنسان لا العكس، وهي:
إجتناب الإثم والفواحش من رشوة وسرقة وغش وربا وأكل أموال الناس بالباطل وشرب خمر وزنا وغيبة وتهمة ونميمة... إلخ.
العفو والصفح الذي يجسد التسامي عن القوة الغضبية.
الاستجابة للرب الذي هو مصدر الكمال المطلق ومن بيده الخير كله.
وإقامة الصلاة التي تجسد أسمى مظهر لارتباط المخلوق بالخالق.
الشورى التي تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع والتي تلغي الأنا الضيقة والاستبداد والعجب بالرأي والتفرد بالقرار.
الإنفاق الذي يعني التعالي عن سلطان المادة والتمسك بالقيم العليا في الإيثار والمواساة والإحسان.
فلسفة الواجبات والمحرمات، في فقه الزهراء (عليها السلام)
والجدير بالذكر: ان فلسفة وجوب الواجبات وحرمة المحرمات تكمن في ذلك؛ حيث أن تجنّب المعاصي يعني الخروج عن سلطنة الأشياء وعن البهيمية، وتهذيب النفس والعروج إلى مصاف الملائكة بل وأكثر، وكذلك الطاعات فإن مهمتها (صلاة كانت أم صوماً أم حجاً أو خمس أو زكاة...) صقل الروح والعروج بالإنسان من عالم الأشياء المنحط وعالم الأشخاص المتسافل إلى عالم القيم والمبادئ المتعالي.
ولذلك قالت الصديقة الزهراء (عليها السلام): (فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَمَاءً فِي الرِّزْق)[31].
أما أن (الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ) فلأن الشرك يجسّد أسوأ دركات الجهل من جهة والجحد من جهة أخرى:
أما أنه جهل فلأنه جهل بأعظم حقيقة. وإذا كان الجهل بالفقه والأصول أو الحساب والهندسة أو الطب أو كيفية معاشرة الناس نقصاً وعيباً فما بالك بالجهل بأعظم حقيقة وأجلى حقيقة؟
وأما انه جحد فلأنه إنكار للمتفضل المنّان ونكران لحق أعظم منعم، وإذا كان الجاحد حق معلِّمه أو مدّربه أو مَن وفّر له فرصة عمل أو عالجه دون مقابل، ظالماً وفاعلاً منكراً، ومكروهاً لدى العقلاء فما بالك بمن يجحد حق أعظم منعم عليه، الواحد القهار الذي إليه تعود النعم كلها، فيشرك به صنماً أو وثناً أو شخصاً لا يعدو كونه عبداً لله داخراً ومخلوق له فاقرأ؟
وأما ان (الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ) فلأنها تقي الإنسان من التكبر على الله تعالى، والكبر على الله سبحانه أسوأ أنواع الكبر ثم الكبر على أولياء الله ثم الكبر على أي مخلوق، والكبر على الله جل اسمه يعني التكبر عن عبادته وعن طاعته والالتزام بأحكامه وقوانينه، فهي (عليها السلام) إذاً تشير إلى أن حكمة الصلاة هي الخروج عن أسر الكبرياء والتي تشكل (الشيء - البهيمي) إلى كمال الارتباط بالله عز وجل والخضوع له والتسليم لأمره.
وأما ان (الزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ) فلأنها تطهرها وتحررها من عبودية الأموال والمادة فتتصفى من الشوائب وتتهذب من المعايب إلى تزكية النفس وتتطهر من الأدران، ثم تضيف (عليها السلام) (وَنَمَاءً فِي الرِّزْق) مشيرة إلى أن من ارتقى إلى عالم القيم لا يحرم من الأشياء بل يزداد منها أيضاً (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)[32]،[33]، إذ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)[34].
ولقد كانت مهمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كسائر أنبياء الله العروج بالإنسان من عالم الأشياء والبهيمية ومن عالم الأشخاص والعبودية، إلى عالم القيم والمبادئ والأفكار السامية.. وهكذا كان.. ولكن انقلاب السقيفة كان انقلاباً على الأعقاب بحق وذلك لأن انقلاب السقيفة، أعاد الأمة من عالم الأفكار والقيم والمبادئ إلى عالم الأشياء والأشخاص وشكّل انتكاسة كبرى في السُّلم الحضاري للأمة الإسلامية وسار بهم سيراً عكسياً، القهقرى إلى الوراء.
كيف حوّل انقلاب السقيفة مسيرة التاريخ الإسلامي؟
فجريمة السقيفة هي جريمة الانقلاب على الأعقاب (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)[35] وتخريب مسيرة الأنبياء على مر التاريخ والتراجع قهقرى عن عالم القيم والمبادئ والمثل العليا إلى عالم الأشياء وعبادة السلطة والثروة، والأشخاص والخضوع للحاكم الجائر لمجرد ان بيده القوة فصارت القوة هي مبدأ الشرعية، تماماً كما في الانقلابات العسكرية، حيث ان مصدر الشرعية لا يكون الكفاءة ولا انتخاب الناس ولا النص الإلهي، بل مجرد القفز على السلطة على وقع السيوف والاسنّه أو ظهور الدبابات والكاتيوشا والقاذفات.
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 140).
وقال جل اسمه: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرين) (سورة آل عمران: الآية 144).
وقالت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً وَذُعَافاً مُبِيداً...)[1].
والكلام يقع في فصلين:
الأول: بحث موجز عن عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار والقيم في معادلة السلم الحضاري الصاعد أو الرجوع قهقرى في سلم التخلف المتسافل.
الثاني: بحث مختصر عن عالم ما بعد انقلاب السقيفة وحتى ظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)
الفصل الأول: رحلة الإنسان بين عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار
وذلك على ضوء ما ذكره بعض علماء الاجتماع ونظّر له المفكر المعروف مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) حيث أشار إلى أن العوالم هي عوالم ثلاثة متدرجة تبدأ من أدنى الدركات لتصل إلى أعلى الدرجات وهي: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار (ونضيف: والقيم والمبادئ، كما سنضيف عالماً رابعاً هو عالم الأنظمة وهو مما لا يقل أهمية عن عالم الأفكار كما سيظهر).
1- عالم الأشياء
فإن كل إنسان (وكذا كل شعب من الشعوب) يبدأ، عادةً من مرحلة الأشياء، والأشياء تعني: الجسم والمادة والمال والثروة والممتلكات والمقتنيات من دار وثوب ودابة وغير ذلك، كما تعني القوة الغضبية والقوة الشهوية والسلطة وشبهها، والتي تعد (الأصنام) التي يعبدها السفهاء من الناس من دون الله سبحانه.
والطفل الرضيع يبدأ حياته بتلمس الأشياء: ثدي أمه والحليب الذي يرضعه وشبه ذلك ثم إذا كبر انتقل تدريجياً إلى عالم الأشخاص حيث نجده يدقق أكثر فأكثر في وجه أمه ووجه من يواجهه ويتعرف عليه تدريجياً ويتعلق به، وقد يستوحش من أي وجه جديد أو غريب.
والإنسان في مرحلة عالم الأشياء لا يتجاوز حدود البهيمة وإدراكاتها كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا)[2]، ولقد كانت الناس في الجاهلية تعبد الأصنام حتى انهم كانوا يصنعون من التمر صنماً فإذا جاعوا أكلوه! كما شاهد أحد عباد الأصنام ثعلباً (أو ثعلبين) يبول على أحد أصنامهم فهاله ذلك وعلم انه لا يعدو شيئاً حقيراً تافهاً لا يمكنه أن يقي نفسه من بول الثعلب فكيف يكون إلهاً، فأنشد شعراً:
أربٌ يبول الثعلبان برأسه --- لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالبُ
والثُّعلبان بالضم اسم لذكر الثعلب وهو مفرد، ولو قرأناه بالفتح كان تثنية ثعلب، وبعض الأدباء وإن قرأه بالضم فرآه مفرداً، ولكن لم يثبت ذلك تاريخياً، لكنه حيث قرأه بالضم قال انه رأى ثعلباً واحداً وليس انه عُلِم تاريخياً انه كان ثعلباً واحد فقرأ الكلمة بالضم، بل العكس: قرأه بالضم فقال: انه ثعلب واحد!
2- عالم الأشخاص
ومع تطور الشعوب البدائية، كما الحال مع تطور الأطفال، نجدها تنتقل من عالم الأشياء إلى عالم الأشخاص فتراها تقدِّس شيخ القبيلة وكبير القوم بل قد تؤلهه، كما الّهوا فرعون متوهمين أن من بيده عالم الأشياء الظاهرية هو الإله (وَنادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْري مِنْ تَحْتي أَفَلا تُبْصِرُون)[3]، مع انه لم يزد على انه ملك منها أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً (والفرسخ خمسة كيلومترات ونصف تقريباً).
والإنسان في عالم الأشخاص يكون مقياس الحق والباطل لديه الشخص، لذا تراه يدافع عن شيخه أو قائده أو كبير قومه سواء أكان على حق أم كان على باطل.
حكومة عالم الأشخاص بعد انقلاب السقيفة
ولقد مضت العامة على ذلك أي انهم بعد انقلاب السقيفة جمدوا على عالم الأشخاص فأصبح الحاكم وإن كان جائراً ظالماً، مقدساً وخطاً أحمرَ ومصدر الشرعية الذي لا يمكن تجاوزه وإن ظلم وإن اعتدى كما تجب إطاعته وإن زنا وإن سرق وإن قتل النفس التي حرم الله، وقد اختلقوا في ذلك أحاديث في ذلك ومنها:
محاكمة روايات إطاعة السلطان الجائر
عن عبد الله بن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.
وفي لفظ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[4].
وذلك غريب حقاً ولا ريب انه من وضع وعّاظ السلاطين وأبواق حكام الجور حيث انهم كانوا يريدون تكريس أركان حكوماتهم الظالمة فجعلوا أحاديث على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) واعتبروا الخروج على الحاكم الجائر معصية كبيرة بل جعلوها أكبر المعاصي حتى أن الخارج يموت ميتة جاهلية، أي انه يدخل النار!
وقد حرّفوا الحديث الصحيح الذي يقول (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[5]، مع ان الإمام هو المعصوم وهو وصي النبي (صلى الله عليه وآله) المنصوص عليه وهو الذي يدور مع الحق ويدور الحق معه (الْحَقُ مَعَ عَلِيٍ أَيْنَمَا مَالَ)[6]، و(إِنَّ عَلِيّاً مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُ كَيْفَ مَا دَارَ دَارَ بِهِ)[7] فهذا هو الذي يموت من لا يعرفه (ومن خرج عليه) ميتة جاهلية؛ لأنه يجسّد الحق مائة في المائة، دون ذلك الذي تذكره الأحاديث المجعولة وهو السلطان الجائر الظالم فلاحظ مثلاً: (عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا! قالوا: يَا رسول الله، كَيْفَ تَأمُرُ مَنْ أدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)[8].
قال النووي في شرح هذا الحديث: (فيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً، فيُعْطَى حَقُّه من الطاعة، ولا يُخْرَج عليه، ولا يُخْلَع، بل يتضرع إلي الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره، وإصلاحه)[9].
وقال الشيخ العثيمين: (أما حديث عبد الله بن مسعود فأخبر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "إنها ستكون بعدي أثرة" والأثرة يعني: الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق.
يريد بذلك (صلى الله عليه وآله) أنه سيستولي على المسلمين ولاة يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقهم فيها. وهذه أثرة وظلم الولاة، أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين.
ولكن قالوا: ما تأمرنا؟ قال: "تودون الحق الذي عليكم" يعني: لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم، أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوا الأمر الذي أعطاهم الله "وتسألون الله الذي لكم" أي: اسألوا الحق الذي لكم من الله، أي: اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم،...
وقال أيضاً: فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يصبروا على ما سيرونه من الأثرة فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورود على الحوض والشرب منه)[10]!
والغريب تصريح النووي ومن تبعه بذلك، والغريب تخوين الناس بذلك وانه ليس للناس إلا السمع والطاعة وأن يدعوا الله تعالى في الخلوات.. فأين إذاً واجب النهي عن المنكر؟
ان هذه الأحاديث كاذبة قطعاً لأنها عند عرضها على الكتاب العزيز نجد انه يكذبها، إذ القرآن الكريم مليء بالآيات التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[11]، فهؤلاء هم المفلحون لا المطيعون للحاكم الجائر الساكتون عن جوره وظلمه و(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)[12]، و(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)[13]، و(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[14]، و(لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون)[15]، (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)[16]، فالذين ينهون عن السوء هم الناجون فقط دون الساكتين الذين يكتفون بدعاء الله تعالى في الخلوات!.
كما انه عند عرضها على سائر الأحاديث يظهر وضعها وكذبها فقد ورد في الحديث (وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ)[17]، فلا فائدة من الدعاء المجرد حينئذٍ بل الواجب الأمر والنهي ومعهما الدعاء، وفي الحديث (اعْقِلْ وَتَوَكَّل)[18].
وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلًّا لِحُرُمِ اللَّهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَتَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ)[19].
وورد: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)[20].
وروى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله): (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لم يستطع فبلسانه، ومن لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)[21].
وروى مسلم أيضاً: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ. يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ. يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ. فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بيده فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حبَّةُ خَرْدلٍ)[22].
ومنه يظهر أن كلمة (أثرة علينا) مجعولة مدسوسة في الحديث في الرواية التالية: (عن أَبي الوليدِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُول اللَّه ﷺ عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ وَاليُسْرِ، والـمَنْشَطِ والـمَكْرَهِ، وَعلى أَثَرَةٍ عَليْنَا، وعَلَى أَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدكُمْ مِنَ اللَّه تعالَى فِيهِ بُرهانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحقِّ أينَما كُنَّا، لا نخافُ في اللَّه لَوْمةَ لائمٍ" متفقٌ عَلَيهِ)[23].
الخيار الثالث: النهي عن المنكر، فلا إطاعة ولا خروج
والغريب انهم يصوّرون القضية وكأنها منفصلة حقيقية: إما أن تطيع الجائر وإما أن تخرج عليه بالسيف فتدخل النار، مع من البديهي وجود مراتب بينهما إذ يمكن أن لا يخرج بالسيف ولكن ينهاهم عن المنكر وينتقدهم، لكنهم يُغفِلون هذا الحل الوسط الواضح.
ولذلك تناقضت كلماتهم بين مُطلِقٍ بحرمة الخروج على حاكم الجور مطلقاً وبين مقيِّد لذلك بـ (ما اقاموا الصلاة) وبين مصرح بأنه (قلّ أن يخرج خارج على جائر إلا تولد من خروجه شر أعظم) مما يعني عدم حرمة الخروج مطلقاً بل إذا كان ضرره أعظم فقط فلاحظ الكلمات الثلاث:
1- (قال الحسن البصري: اعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع).
2- (قال ابن تيمية: وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ)[24] وسرد جملة من الأحداث وعدّدها مما يوضح ما قال.
3- (وقال ابن القيم: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة- وإن ظلموا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة، سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن)[25].
واللطيف: انه قد خرج الصحابة على عثمان، فحسب مبناهم يجب أن يكونوا كلهم في النار! كما خرج بنو العباس على بني أمية فهل يلتزمون بأنهم كلهم في النار؟، وقد خرج كثير من حكام المسلمين قديماً وحديثاً على الحاكم السابق فعلى مسلكهم فكلهم مات ميتة جاهلية ودخل النار!
وقال بعضهم: (يقول تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
ننطلق من هذه الآية، التي أثارت نقطة الجدل والاختلاف من هم (أُولِي الْأَمْرِ) الذين أمرنا الله بطاعتهم؟. فذهب جماهير أهل العلم إلى أنّها في الأمراء، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّها في العلم والفقه، وقال آخرون هم عامّة تشمل الصنفين.
وبعد بحث مستفيض قمتُ به وجدتُ أنّ الترجيح الأقوى حسب رأي العلماء، هو الذي يختص في الأمراء، لأنّه لو عدنا إلى أدلّة الشرع من القرآن والسنّة لوجدنا أنّ النصوص لا تأمر بطاعة العلماء والفقهاء، إنّما الأمر بالطاعة للأمراء لما في طاعتهم مصلحة البلاد والعباد)[26]، مع وضوح أن (أُولِي الْأَمْرِ) هم الحكام العدول الذين نصبهم الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم الإنذار قال تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبين)[ [2
(أبان خلافته علنا... يوم الإنذار وفي خيبر).
وقد ورد (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِق)[28] ولذا يتوصل الباحث بعقله الفطري إلى: (ولو افترضنا أنّ زعيما ربض على قلب شعبه عقودا من الزمن يقهرهم ويستولي على خيرات ومقدّرات الشعب لوحده فهل يجب أن نصفق له، ونرضى بالغبن من باب منع الفتنة والقتل، ونتحمّل الظلم والجور، وهو يستغل هذه "الحقوق" و"الامتيازات"، بينما لا يقوم باختصارها من الأساس وتوفير الخروج أو الانقلاب عليه؟ وماذا إذا قمنا بتوجيه النصيحة للحاكم مرارا ولم يقم بتغيير أحوال الرعيّة، بل استمر في نهجه الظالم، وماذا مع الحديث "أعظم الجهاد عند الله كلمة حق في وجه سلطان جائر"، والذي اعتبره بعض العلماء إنّه حجّة غير مقبولة لا تبرر التمرد على الحاكم)[29].
3- عالم الأفكار
ومع تطور الإنسان والأمة ينتقل من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار والقيم والمبادئ، حيث يكون الحق وحده رائدة وقائدة وسائقة وصاحب ولذلك نجد قوله تعالى: (وَالَّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون * وَالَّذينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُون)[30] فهذه كلها قيم ومبادئ عظمى يقيَّم بها الإنسان لا العكس، وهي:
إجتناب الإثم والفواحش من رشوة وسرقة وغش وربا وأكل أموال الناس بالباطل وشرب خمر وزنا وغيبة وتهمة ونميمة... إلخ.
العفو والصفح الذي يجسد التسامي عن القوة الغضبية.
الاستجابة للرب الذي هو مصدر الكمال المطلق ومن بيده الخير كله.
وإقامة الصلاة التي تجسد أسمى مظهر لارتباط المخلوق بالخالق.
الشورى التي تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع والتي تلغي الأنا الضيقة والاستبداد والعجب بالرأي والتفرد بالقرار.
الإنفاق الذي يعني التعالي عن سلطان المادة والتمسك بالقيم العليا في الإيثار والمواساة والإحسان.
فلسفة الواجبات والمحرمات، في فقه الزهراء (عليها السلام)
والجدير بالذكر: ان فلسفة وجوب الواجبات وحرمة المحرمات تكمن في ذلك؛ حيث أن تجنّب المعاصي يعني الخروج عن سلطنة الأشياء وعن البهيمية، وتهذيب النفس والعروج إلى مصاف الملائكة بل وأكثر، وكذلك الطاعات فإن مهمتها (صلاة كانت أم صوماً أم حجاً أو خمس أو زكاة...) صقل الروح والعروج بالإنسان من عالم الأشياء المنحط وعالم الأشخاص المتسافل إلى عالم القيم والمبادئ المتعالي.
ولذلك قالت الصديقة الزهراء (عليها السلام): (فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَمَاءً فِي الرِّزْق)[31].
أما أن (الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ) فلأن الشرك يجسّد أسوأ دركات الجهل من جهة والجحد من جهة أخرى:
أما أنه جهل فلأنه جهل بأعظم حقيقة. وإذا كان الجهل بالفقه والأصول أو الحساب والهندسة أو الطب أو كيفية معاشرة الناس نقصاً وعيباً فما بالك بالجهل بأعظم حقيقة وأجلى حقيقة؟
وأما انه جحد فلأنه إنكار للمتفضل المنّان ونكران لحق أعظم منعم، وإذا كان الجاحد حق معلِّمه أو مدّربه أو مَن وفّر له فرصة عمل أو عالجه دون مقابل، ظالماً وفاعلاً منكراً، ومكروهاً لدى العقلاء فما بالك بمن يجحد حق أعظم منعم عليه، الواحد القهار الذي إليه تعود النعم كلها، فيشرك به صنماً أو وثناً أو شخصاً لا يعدو كونه عبداً لله داخراً ومخلوق له فاقرأ؟
وأما ان (الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ) فلأنها تقي الإنسان من التكبر على الله تعالى، والكبر على الله سبحانه أسوأ أنواع الكبر ثم الكبر على أولياء الله ثم الكبر على أي مخلوق، والكبر على الله جل اسمه يعني التكبر عن عبادته وعن طاعته والالتزام بأحكامه وقوانينه، فهي (عليها السلام) إذاً تشير إلى أن حكمة الصلاة هي الخروج عن أسر الكبرياء والتي تشكل (الشيء - البهيمي) إلى كمال الارتباط بالله عز وجل والخضوع له والتسليم لأمره.
وأما ان (الزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ) فلأنها تطهرها وتحررها من عبودية الأموال والمادة فتتصفى من الشوائب وتتهذب من المعايب إلى تزكية النفس وتتطهر من الأدران، ثم تضيف (عليها السلام) (وَنَمَاءً فِي الرِّزْق) مشيرة إلى أن من ارتقى إلى عالم القيم لا يحرم من الأشياء بل يزداد منها أيضاً (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)[32]،[33]، إذ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)[34].
ولقد كانت مهمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كسائر أنبياء الله العروج بالإنسان من عالم الأشياء والبهيمية ومن عالم الأشخاص والعبودية، إلى عالم القيم والمبادئ والأفكار السامية.. وهكذا كان.. ولكن انقلاب السقيفة كان انقلاباً على الأعقاب بحق وذلك لأن انقلاب السقيفة، أعاد الأمة من عالم الأفكار والقيم والمبادئ إلى عالم الأشياء والأشخاص وشكّل انتكاسة كبرى في السُّلم الحضاري للأمة الإسلامية وسار بهم سيراً عكسياً، القهقرى إلى الوراء.
كيف حوّل انقلاب السقيفة مسيرة التاريخ الإسلامي؟
فجريمة السقيفة هي جريمة الانقلاب على الأعقاب (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)[35] وتخريب مسيرة الأنبياء على مر التاريخ والتراجع قهقرى عن عالم القيم والمبادئ والمثل العليا إلى عالم الأشياء وعبادة السلطة والثروة، والأشخاص والخضوع للحاكم الجائر لمجرد ان بيده القوة فصارت القوة هي مبدأ الشرعية، تماماً كما في الانقلابات العسكرية، حيث ان مصدر الشرعية لا يكون الكفاءة ولا انتخاب الناس ولا النص الإلهي، بل مجرد القفز على السلطة على وقع السيوف والاسنّه أو ظهور الدبابات والكاتيوشا والقاذفات.