الملاك الغريب
03-02-2008, 11:03 PM
زائر الفجر
عندما تضع قدميك على أرض الحرم الزينبي في سوريا ، تلفحك النسمات الروحانية العليلة ، التي تهب من ضريح بطلة كربلاء زينب ( ع ) ، فتتسلل إلى قلبك وتغمره بالطمأنينة والسعادة ، وتُزيل عن جسدك وعثاء السفر .. تسير في الرواق المؤدي إلى الضريح المُقدس ، فرحاً جذلاناً ، مُستذكراً تاريخ هذه المرأة العظيمة ، التي سطرت على صفحات التاريخ أروع قصص البطولة.. إلا أن هذه اللحظات الرومانسية القصيرة، لا تلبث أن تزول ، عندما تصطدم بمنغصات الحياة اليومية في أحياء السيدة زينب ، بدءاَ من الروائح الكريهة المُنبعثة من القمامة المُكدسة في كل شبرٍ من الأرض ، ومروراً بالزحمة الخانقة والضوضاء العالية ، خاصةً أيام العطلات ، وإنتهاءً بالظاهرة التي طفت على السطح في السنوات الأخيرة ، ألا وهي وسطاء المتعة ( سماسرة المتعة ) المنتشرين في جميع أرجاء الصحن الزينبي.
وسيط المتعة ( سمسار المتعة ) رجل علاقات عامة من الدرجة الأولى ، يأخذك فجأة وعلى حين غرة ، مقتحماً عليك المكان من جميع الجهات ، يحدثك والإبتسامة لا تفارق مُحياه ، وكأنه يعرفك منذ أمدٍ بعيد ، يسألك عن أحوالك وأحوال المدينة وأهلها وعن ( أبو محمد وأبو حسن وأبو فهد ....الخ) وعندما تسأله من هؤلاء؟! يجيبك بكل ثقة : فلان الفلاني وفلان العلاني ، وصاحب الحملة الفلانية ... وهم في الغالب من زبائنه الدائمين ، عندها تهز رأسك قائلاً : نعم أعرفهم .. وأثناء هذا الحديث الأخوي الشيق ، ينخفض صوته فجأة - وبدون مقدمات - كأنه يريد أن يُطلعك على سرٍ سياسيٍ خطير ، ويقترب منك وعينيه تلمع من الدهاء ويهمس في أذنك : أنا عندي فتيات للمتعة ، إذا كان عندك رغبة في زواج المتعة ، أو تعرف أحداَ يرغب بذلك ، فهذا رقم جوالي ، وما عليك سوى الإتصال ، وسنكون في الخدمة.
في أحد الأيام كنت واقفاً أمام المُصلى الكائن في الحرم الزينبي ، مُنتظراً أن تُشرّع أبوابه أمام الزوار لأداء صلاة المغرب والعشاء ، حيث كانت الشمس وقتها تشد الرحال من سماء حي السيدة ، إيذاناً بحلول المساء. كنت أقلب ناظري في الأرتال البشرية الداخلة والخارجة من الحرم الزينبي ، عندما لمحت على بُعد خطوات مني ، رجلً طويل القامة ، حاسر الرأس ، على خده الأيمن شامة كبيرة ، في العقد الرابع من عمره، وممسكاً بيده طفلاً صغيراً بهي الطلعة ، يحث الخُطى نحوي .. مد يده وصافحني بحرارة ، وقدم إليّ نفسه: معك سيد أبو علي ، سألني هل أنت من المدينة ؟ لقد رأيتك بالأمس برفقة أبو محمد ، أجبته بإبتسامة باهتة وهزة من رأسي تفيد الإيجاب .. لم تمر سوى لحظات سريعة على حفلة التعارف هذه ، حتى دخل في صلب الموضوع مباشرةً .. هذا إبني ( مشيراً للطفل ) عمره 5 سنوات ويعاني من مرضٍ عُضالٍ ، لأول وهلة ظننت أنه يطلب المساعدة ، لكنه – فجأةً - أدار دفة الحديث نحو منحى آخر .. إبنة أختي عمرها لا يتجاوز ال 19 عاماً ، مطلقة منذ أربعة شهور فقط ، وهي الآن في طريقها للعودة إلى ( .... ) بعد أسبوعٍ تقريباً ، فما رأيك أن تتزوجها زواجاً مؤقتاً خلال هذا الاسبوع ، وبالمهر الذي تدفعه ، تساعدها على قضاء بعض حوائجها وحوائج أسرتها الفقيرة .. حقيقةً حرت جواباً ، وأطرقت برأسي ، فهذه تجربتي الأولى مع أمثال سيد أبو علي ، لكنني تشجعت وسألته : وكم مهرها إبنة أختك ، عندها إنفرجت أساريره وقال: إنت شوف وعاين واحكم بنفسك .. عندما شاهدت إصراره على الذهاب الآن للمعاينة ، تنصلت منه بشق الأنفس وأخبرته بأني لا أستطيع الآن .. فأخرج من جيبه ورقة ، وكتب عليها بعض الأرقام وأعطاني إياها وقال: هذا رقم جوالي ، عندما تغير رأيك ، إتصل على هذا الرقم.
في مساء تلك الليلة ، كنت جالساً لوحدي في إحدى المقاهي المُطلة على الحرم الزينبي ، أرتشف كوباً من الشاي العراقي اللذيذ ، عندما خطر ببالي – فجأة – شبح سيد أبو علي ، فتحسست جيبي وأخرجت الورقة المكتوب عليها رقم جواله ، وتمعنت فيها طويلاً وقلت في نفسي : عش التجربة بنفسك ، وعاين ماذا يدور خلف الكواليس .. ذهبت إلى أقرب كابينة هاتف ، واتصلت على الرقم ، بعد لحظات أجابني سيد أبو علي بصوته الأجش : آلو .. من معي ، عرفته بنفسي وبالموقف الذي جمعنا قبل صلاة المغرب ، عندها تذكر ورفع صوته: أهلين ، إنت وين الآن ، أخبرته عن مكاني ، فقال لي : إنتظرني عند البوابة المؤدية إلى المصلى الزينبي ، وسآتيك في الحال.
ذهبت إلى المكان المحدد ، وبعد دقائق قصيرة ، أقبل سيد أبو علي مُسرعاً ، صافحني بحرارة ، وقال لي : سأسير أمامك وأنت إتبعني ، ولكن إجعل بيني وبينك عدة أمتار ، حتى لا يشك أحد بأننا نعرف بعض ( قلت في نفسي: الموضوع من بدايته لف ودوران ). سرت خلفه .. كان يحي المارة والمارة يردون له التحية ( أهلين سيد ابو علي ) ، يظهر أنه كان معروفاً في منطقته .. قبل نهاية الشارع ، دلف إلى زقاق مُظلم وضيق ، وأنا وراءه .. ومن زقاق إلى آخر ، إلى أن وصل إلى عمارة شبه مهجورة ، دخل ، وصعد الدرج ، وانا أتبعه قلقاً ومتوجساً خيفة .. أثناء سيرنا ، لم يلتفت إليّ سيد أبو علي ، إلا عندما وصلنا إلى باب الشقة ، حينها إلتفت وراءه ، واستقبلني بضحكة صفراء تعلو وجهه الكالح .. فتح باب الشقة ، وأدخلني وهو يردد على مسامعي جمل الترحيب والتهليل.
كان الهدوء يخيم على أجواء الشقة ، لا صوت ولا حركة ، إنما صمتٌ مطبق .. دخلنا إلى غرفة ، كانت خالية من الأثاث إلا من بساطٍ قذر ومطارح رثة للجلوس .. لم يكن هناك سوى أنا وسيد أبو علي والعزلة الخانقة ، وهذا ما جعل الخوف يدب في أوصالي ، وصرت أتساءل بيني وبين نفسي ، ماذا لو كان سيد أبو علي مجرم عريق في الإجرام ؟ استدرجني إلى هذا المكان المعزول حتى يعتدي علي بالضرب وينهب ما بحوزتي من أموال ، ماذا بيدي أن أفعل وقتها ؟ أصرخ مثلاً ، ومن سيسمع صراخي هنا ، حتى وإن حاولت التعارك معه ، ففي جميع الحالات سأمنى بهزيمة مدوية ، فلا مقارنة هناك بين جسمي الضئيل وجسمه المفتول العضلات ، وماذا لو أكتشف أني لا أحمل معي سوى خمسمائة ليرة سورية ، ألن يجعله هذا يستشيط غضباً ، فيكيل لي الضرب ، وربما يقت.. حتى يتستر على جريمته .. جاء صوت سيد أبو علي الأجش ليقطع عليّ حبل أفكاري المرعبة : ( تريِد تشوف الحريم ؟ ) .. لم أستوعب السؤال ، واستهجنت كثيراً من كلمة ( الحريم ) .. أحس بتقززي من الكلمة ، فأعاد صياغة السؤال ( تريٍد تشوف البنات ؟ ) .. عندها تكلمت بعد صمتٍ دام دهر .. ولكنك قلت أنها إبنة أختك ، يعني وحدة فقط .. أجاب بضحكة عالية : في أختها معاها .. هززت برأسي أي نعم .. عندها أشار برأسه آمراً لمن هم خارج الغرفة بالدخول .. وفجأة دخل علينا فتاتان في مقتبل العمر ، كانتا محجبتان ولم يظهر منهما سوى وجهيهما ، سلمتا وجلستا قبالتي .. بمجرد دخولهما ، قام سيد أبو علي بتقديهما لي بصوتٍ عالي : هذي ميساء ووردة ، ومهر كل وحدة فيهم ألف ريال سعودي .. قلت : لكن ألف ريال مبلغ كبير ( فقد قررت أن أستمر في هذه المسرحية الهزلية ) .. هنا بدأ سيد أبو علي و ميساء ( الفتاة الجريئة ) بالمفاصلة في المهر ، إلى أن أوصلاه إلى خمسمائة ريال سعودي .. إتفقنا على المهر وبقي الإختيار .. (ميساء ) أو ( وردة ) .. مرت فترة صمت ، قطعتها أنا بسؤالهم : من أي مدينة أنتم ، فأجابوا الثلاثة : من المدينة المقدسة ( .... ) ، ونحن من السادة الأشراف .. عندما وجدتاني الفتاتان محتارٌ في الإختيار ، قالت ميساء : إختار أي وحدة فينا وما راح تزعل التانية .. ولتدخل الإطمئنان في قلبي قالت : هذا برضانا ومحد غصبنا على هذا .. أعجبت بفصاحتها وجرأتها ، فأشرت بإصبعي إليها وقلت : أختارك أنتِ .. وبمجرد نطقي بهذه الجملة ، إنفرجت أسارير ( ميساء ) ، وخرجت الأخرى ( وردة ) من الغرفة .. قام سيد أبو علي من مكانه وقال لي : إذا تعرف احد يتزوج وردة جيبه ، والله خذهم الاتنين وادفع ألف ريال .. أنهى جملته الأخيرة بقهقهة عالية ، ثم قال : هيا قوم أجلس بجانبها ( ميساء ) حتى أقرأ عليكما عقد الزواج .. عندما رأيت المسألة بدأت تأخذ طابعاً جدياً ، قررت إنهاء هذه المسرحية الهزلية ، فقلت له : لا أملك الآن المهر ، سآتي غداً ومعي كامل المهر .. قالت ميساء : الآن يروح معاك سيد أبو لتحضر المهر .. وكأنها كانت خائفة أن أفلت من يدها .. لكنني أصررت على موقفي .. ودعتهم وخرجت من الشقة من غير رجعة.
صرت أتخبط في العتمة الخانقة لتلك الأزقة ، إلى أن وصلت الشارع ، عندها تنفست الصعداء .. آليت على نفسي أن لا أكرر هذه التجربة السخيفة مرة أخرى ، حتى لا أقع فريسة في أيدي الدجالين أمثال سيد أبو علي ، الذين يستغلون فقر الفتيات وحاجتهن ، لتحقيق مآربهم الشخصية ، وهذا كله بإسم الدين والتدين.
عندما تضع قدميك على أرض الحرم الزينبي في سوريا ، تلفحك النسمات الروحانية العليلة ، التي تهب من ضريح بطلة كربلاء زينب ( ع ) ، فتتسلل إلى قلبك وتغمره بالطمأنينة والسعادة ، وتُزيل عن جسدك وعثاء السفر .. تسير في الرواق المؤدي إلى الضريح المُقدس ، فرحاً جذلاناً ، مُستذكراً تاريخ هذه المرأة العظيمة ، التي سطرت على صفحات التاريخ أروع قصص البطولة.. إلا أن هذه اللحظات الرومانسية القصيرة، لا تلبث أن تزول ، عندما تصطدم بمنغصات الحياة اليومية في أحياء السيدة زينب ، بدءاَ من الروائح الكريهة المُنبعثة من القمامة المُكدسة في كل شبرٍ من الأرض ، ومروراً بالزحمة الخانقة والضوضاء العالية ، خاصةً أيام العطلات ، وإنتهاءً بالظاهرة التي طفت على السطح في السنوات الأخيرة ، ألا وهي وسطاء المتعة ( سماسرة المتعة ) المنتشرين في جميع أرجاء الصحن الزينبي.
وسيط المتعة ( سمسار المتعة ) رجل علاقات عامة من الدرجة الأولى ، يأخذك فجأة وعلى حين غرة ، مقتحماً عليك المكان من جميع الجهات ، يحدثك والإبتسامة لا تفارق مُحياه ، وكأنه يعرفك منذ أمدٍ بعيد ، يسألك عن أحوالك وأحوال المدينة وأهلها وعن ( أبو محمد وأبو حسن وأبو فهد ....الخ) وعندما تسأله من هؤلاء؟! يجيبك بكل ثقة : فلان الفلاني وفلان العلاني ، وصاحب الحملة الفلانية ... وهم في الغالب من زبائنه الدائمين ، عندها تهز رأسك قائلاً : نعم أعرفهم .. وأثناء هذا الحديث الأخوي الشيق ، ينخفض صوته فجأة - وبدون مقدمات - كأنه يريد أن يُطلعك على سرٍ سياسيٍ خطير ، ويقترب منك وعينيه تلمع من الدهاء ويهمس في أذنك : أنا عندي فتيات للمتعة ، إذا كان عندك رغبة في زواج المتعة ، أو تعرف أحداَ يرغب بذلك ، فهذا رقم جوالي ، وما عليك سوى الإتصال ، وسنكون في الخدمة.
في أحد الأيام كنت واقفاً أمام المُصلى الكائن في الحرم الزينبي ، مُنتظراً أن تُشرّع أبوابه أمام الزوار لأداء صلاة المغرب والعشاء ، حيث كانت الشمس وقتها تشد الرحال من سماء حي السيدة ، إيذاناً بحلول المساء. كنت أقلب ناظري في الأرتال البشرية الداخلة والخارجة من الحرم الزينبي ، عندما لمحت على بُعد خطوات مني ، رجلً طويل القامة ، حاسر الرأس ، على خده الأيمن شامة كبيرة ، في العقد الرابع من عمره، وممسكاً بيده طفلاً صغيراً بهي الطلعة ، يحث الخُطى نحوي .. مد يده وصافحني بحرارة ، وقدم إليّ نفسه: معك سيد أبو علي ، سألني هل أنت من المدينة ؟ لقد رأيتك بالأمس برفقة أبو محمد ، أجبته بإبتسامة باهتة وهزة من رأسي تفيد الإيجاب .. لم تمر سوى لحظات سريعة على حفلة التعارف هذه ، حتى دخل في صلب الموضوع مباشرةً .. هذا إبني ( مشيراً للطفل ) عمره 5 سنوات ويعاني من مرضٍ عُضالٍ ، لأول وهلة ظننت أنه يطلب المساعدة ، لكنه – فجأةً - أدار دفة الحديث نحو منحى آخر .. إبنة أختي عمرها لا يتجاوز ال 19 عاماً ، مطلقة منذ أربعة شهور فقط ، وهي الآن في طريقها للعودة إلى ( .... ) بعد أسبوعٍ تقريباً ، فما رأيك أن تتزوجها زواجاً مؤقتاً خلال هذا الاسبوع ، وبالمهر الذي تدفعه ، تساعدها على قضاء بعض حوائجها وحوائج أسرتها الفقيرة .. حقيقةً حرت جواباً ، وأطرقت برأسي ، فهذه تجربتي الأولى مع أمثال سيد أبو علي ، لكنني تشجعت وسألته : وكم مهرها إبنة أختك ، عندها إنفرجت أساريره وقال: إنت شوف وعاين واحكم بنفسك .. عندما شاهدت إصراره على الذهاب الآن للمعاينة ، تنصلت منه بشق الأنفس وأخبرته بأني لا أستطيع الآن .. فأخرج من جيبه ورقة ، وكتب عليها بعض الأرقام وأعطاني إياها وقال: هذا رقم جوالي ، عندما تغير رأيك ، إتصل على هذا الرقم.
في مساء تلك الليلة ، كنت جالساً لوحدي في إحدى المقاهي المُطلة على الحرم الزينبي ، أرتشف كوباً من الشاي العراقي اللذيذ ، عندما خطر ببالي – فجأة – شبح سيد أبو علي ، فتحسست جيبي وأخرجت الورقة المكتوب عليها رقم جواله ، وتمعنت فيها طويلاً وقلت في نفسي : عش التجربة بنفسك ، وعاين ماذا يدور خلف الكواليس .. ذهبت إلى أقرب كابينة هاتف ، واتصلت على الرقم ، بعد لحظات أجابني سيد أبو علي بصوته الأجش : آلو .. من معي ، عرفته بنفسي وبالموقف الذي جمعنا قبل صلاة المغرب ، عندها تذكر ورفع صوته: أهلين ، إنت وين الآن ، أخبرته عن مكاني ، فقال لي : إنتظرني عند البوابة المؤدية إلى المصلى الزينبي ، وسآتيك في الحال.
ذهبت إلى المكان المحدد ، وبعد دقائق قصيرة ، أقبل سيد أبو علي مُسرعاً ، صافحني بحرارة ، وقال لي : سأسير أمامك وأنت إتبعني ، ولكن إجعل بيني وبينك عدة أمتار ، حتى لا يشك أحد بأننا نعرف بعض ( قلت في نفسي: الموضوع من بدايته لف ودوران ). سرت خلفه .. كان يحي المارة والمارة يردون له التحية ( أهلين سيد ابو علي ) ، يظهر أنه كان معروفاً في منطقته .. قبل نهاية الشارع ، دلف إلى زقاق مُظلم وضيق ، وأنا وراءه .. ومن زقاق إلى آخر ، إلى أن وصل إلى عمارة شبه مهجورة ، دخل ، وصعد الدرج ، وانا أتبعه قلقاً ومتوجساً خيفة .. أثناء سيرنا ، لم يلتفت إليّ سيد أبو علي ، إلا عندما وصلنا إلى باب الشقة ، حينها إلتفت وراءه ، واستقبلني بضحكة صفراء تعلو وجهه الكالح .. فتح باب الشقة ، وأدخلني وهو يردد على مسامعي جمل الترحيب والتهليل.
كان الهدوء يخيم على أجواء الشقة ، لا صوت ولا حركة ، إنما صمتٌ مطبق .. دخلنا إلى غرفة ، كانت خالية من الأثاث إلا من بساطٍ قذر ومطارح رثة للجلوس .. لم يكن هناك سوى أنا وسيد أبو علي والعزلة الخانقة ، وهذا ما جعل الخوف يدب في أوصالي ، وصرت أتساءل بيني وبين نفسي ، ماذا لو كان سيد أبو علي مجرم عريق في الإجرام ؟ استدرجني إلى هذا المكان المعزول حتى يعتدي علي بالضرب وينهب ما بحوزتي من أموال ، ماذا بيدي أن أفعل وقتها ؟ أصرخ مثلاً ، ومن سيسمع صراخي هنا ، حتى وإن حاولت التعارك معه ، ففي جميع الحالات سأمنى بهزيمة مدوية ، فلا مقارنة هناك بين جسمي الضئيل وجسمه المفتول العضلات ، وماذا لو أكتشف أني لا أحمل معي سوى خمسمائة ليرة سورية ، ألن يجعله هذا يستشيط غضباً ، فيكيل لي الضرب ، وربما يقت.. حتى يتستر على جريمته .. جاء صوت سيد أبو علي الأجش ليقطع عليّ حبل أفكاري المرعبة : ( تريِد تشوف الحريم ؟ ) .. لم أستوعب السؤال ، واستهجنت كثيراً من كلمة ( الحريم ) .. أحس بتقززي من الكلمة ، فأعاد صياغة السؤال ( تريٍد تشوف البنات ؟ ) .. عندها تكلمت بعد صمتٍ دام دهر .. ولكنك قلت أنها إبنة أختك ، يعني وحدة فقط .. أجاب بضحكة عالية : في أختها معاها .. هززت برأسي أي نعم .. عندها أشار برأسه آمراً لمن هم خارج الغرفة بالدخول .. وفجأة دخل علينا فتاتان في مقتبل العمر ، كانتا محجبتان ولم يظهر منهما سوى وجهيهما ، سلمتا وجلستا قبالتي .. بمجرد دخولهما ، قام سيد أبو علي بتقديهما لي بصوتٍ عالي : هذي ميساء ووردة ، ومهر كل وحدة فيهم ألف ريال سعودي .. قلت : لكن ألف ريال مبلغ كبير ( فقد قررت أن أستمر في هذه المسرحية الهزلية ) .. هنا بدأ سيد أبو علي و ميساء ( الفتاة الجريئة ) بالمفاصلة في المهر ، إلى أن أوصلاه إلى خمسمائة ريال سعودي .. إتفقنا على المهر وبقي الإختيار .. (ميساء ) أو ( وردة ) .. مرت فترة صمت ، قطعتها أنا بسؤالهم : من أي مدينة أنتم ، فأجابوا الثلاثة : من المدينة المقدسة ( .... ) ، ونحن من السادة الأشراف .. عندما وجدتاني الفتاتان محتارٌ في الإختيار ، قالت ميساء : إختار أي وحدة فينا وما راح تزعل التانية .. ولتدخل الإطمئنان في قلبي قالت : هذا برضانا ومحد غصبنا على هذا .. أعجبت بفصاحتها وجرأتها ، فأشرت بإصبعي إليها وقلت : أختارك أنتِ .. وبمجرد نطقي بهذه الجملة ، إنفرجت أسارير ( ميساء ) ، وخرجت الأخرى ( وردة ) من الغرفة .. قام سيد أبو علي من مكانه وقال لي : إذا تعرف احد يتزوج وردة جيبه ، والله خذهم الاتنين وادفع ألف ريال .. أنهى جملته الأخيرة بقهقهة عالية ، ثم قال : هيا قوم أجلس بجانبها ( ميساء ) حتى أقرأ عليكما عقد الزواج .. عندما رأيت المسألة بدأت تأخذ طابعاً جدياً ، قررت إنهاء هذه المسرحية الهزلية ، فقلت له : لا أملك الآن المهر ، سآتي غداً ومعي كامل المهر .. قالت ميساء : الآن يروح معاك سيد أبو لتحضر المهر .. وكأنها كانت خائفة أن أفلت من يدها .. لكنني أصررت على موقفي .. ودعتهم وخرجت من الشقة من غير رجعة.
صرت أتخبط في العتمة الخانقة لتلك الأزقة ، إلى أن وصلت الشارع ، عندها تنفست الصعداء .. آليت على نفسي أن لا أكرر هذه التجربة السخيفة مرة أخرى ، حتى لا أقع فريسة في أيدي الدجالين أمثال سيد أبو علي ، الذين يستغلون فقر الفتيات وحاجتهن ، لتحقيق مآربهم الشخصية ، وهذا كله بإسم الدين والتدين.