المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملف كامل عن حياة السيدة زينب ( ع ), نبذة كاملة عن .....


الحيدرية
05-02-2008, 07:32 PM
http://www.l22l.com/l22l-up-3/cef3126048.gif

http://www.shia4up.net/out.php/i84424_U11PlWbfacbQIU.jpg

النسب الوضاح

ليس في دنيا الإسلام وغيره نسبٌ أرفع ولا أسمى من نسب السّيدة زينب سلام الله عليها، فقد تفرّعت من دوحة النبوة والإمامة، والتقت بها جميع أواصر الشرف والكرامة، فهي فرع زاكٍ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومن الإمام عليّ عليه السّلام، وهما من أفضل ما خلق الله من بني الإنسان، فتبارك هذا النسب الوضّاح وتعالت تلك الاُسرة الكريمة التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين وجعلها مصدر الوعي والإلهام للمسلمين على امتداد التأريخ.

إنّ الاُسرة العلوية هي أسمى اُسرة عرفها التأريخ بجهادها ونضالها وتبنّيها لحقوق الإنسان وقضايا مصيره، ومقاومتها للظلم والطغيان، فليس في اُمم العالم وشعوب الأرض مثل اُسرة العلويين في دفاعهم عن حقوق المظلومين والمضطهدين، وقد استشهد المئات منهم من أجل حرية الإنسان وكرامته.

وعلى أيّ حال فهذه لمحة موجزة عن الاُصول الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام).

الجدّ

أمّا جدّ السيّدة زينب فهو سيّد الكائنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي فجّر ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وأسّس معالم الحضارة والتطوّر، وبنى مجتمعاً كريماً تسوده العدالة والقانون، وسحق خرافات الجاهلية وعاداتها ودمّر أصنامها وأوثانها، ودعى إلى توحيد الله خالق الكون وواهب الحياة، وجاء بالخير العميم لاُمّته، ولكلّ ما تسمو به من التقاليد والعادات، فما أعظم عائدته عليها وعلى البشرية جمعاء، لقد أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، ومنار هداية لخلقه أجمعين، فكان صلوات الله عليه كما قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(1)، فهو رحمة للناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، حريصٌ على هدايتهم وإسعادهم، قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(2).

لقد تشرّفت الإنسانية برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأشرقت الدنيا بدعوته، وتوطدت أركان العدالة بدينه، فهو (صلّى الله عليه وآله) القائد الملهم لقضايا الفكر والوعي في الأرض.

هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ونبيّ الرحمة جدّ سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد ورثت منه خصائصه ومميزاته، والتي منها الدفاع عن الحق، ورفع كلمة الله عالية في الأرض.

الجدة

أمّا جدّة السيّدة زينب فهي أُمّ المؤمنين وسيّدة نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) خديجة الكبرى التي نصرت الإسلام في أيام محنته وغربته، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد، وقد بذلت جميع ما تملكه في نصرة الإسلام، وكانت من أثرى قريش، فلم تعد بعد ثرائها العريض تملك ما تجلس عليه سوى حصيرٍ بالٍ، فكانت رضوان الله عليها من أهم الدعائم لإقامة دين الإسلام، وهي التي أمدّت النبي (صلّى الله عليه وآله) ومن كان معه طوال المدة التي اعتقلهم فيها طغاة قريش في (الشِعب)، وكانت تهوّن على النبي (صلّى الله عليه وآله) المصاعب والمصائب التي كان يعانيها من جهّال قريش وأو غادها، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشكر أياديها البيضاء، وما أسدته عليه من عظيم اللطف والفضل، فكان يذكرها دوماً بعد وفاتها ويترّحم عليها، وكان إذا ذبح شاة بعث بأطيب ما فيها إلى صديقاتها وفاءً لها، وكانت عائشة يثقل عليها ذلك، فكانت تندّد بها وتقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها، فيرد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويقول: (ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزقت منها الولد وقد حرمته من غيرها)، لقد رزقه الله منها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي هي نفحة من روح الله تعالى.

إنّ السيّدة خديجة أسمى امرأة مجاهدة في الإسلام هي جدّة الصدّيقة زينب (عليها السّلام)، وقد ورثت صفات جدتها التي منها الاندفاع في نصرة الحقّ والذبّ عن المثل العليا، وقد ظهرت هذه الصفات بوضوح عند العقيلة، فقد وقفت إلى جانب أخيها الإمام الحسين(عليه السّلام) فهي شريكته في نهضته وجهاده، وهي التي أمدّت ثورته الجبارة الخالدة بعناصر البقاء والخلود.


الام

أمّا السيّدة زينب فهي البتول الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، سيدة نساء العالمين في فضلها وعفّتها وطهارتها من الزيغ والرجس، وهي بضعة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته وأعزّ أبنائه وبناته عنده، وبلغ من عظيم حبّه لها أنّه إذا سافر جعلهــــا آخر من يودّعها لتكون صورتهـــا ماثلة أمامه، كـــما أنّه إذا قدِم من سفره كان أوّل من يستقبلها(3)، وذلك لسموّ مكانتها وعظيم شأنها، وقد عني بها عناية بالغة فغذّاها بمكرماته، وأفاض عليها أشعة من روحه التي ملأ سناها الكون، وغرس في نفسها عناصر حكمته وفضائله، فكانت صورة تحكيه ومثلاً صادقاً عنه، ويقول الرواة: أنّها كانت من أشبه الناس به هدياً وحديثاً ومنطقاً(4).

وكانت فيما أجمع عليه الرواة من أشفق الناس وأخلصهم لأبيها وأبرّهم به، فإذا رأته متأثراً أو حزيناً ذابت أسى وموجدة، ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن أبي ثعلبة، قال: قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزاة له المسجد فصلّى فيه ركعتين - وكان يعجبه إذا قَدِم أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين- ثم خرج فأتى فاطمة (عليها السّلام) فبدأ بها قبل بيوت أزواجه فجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ما يبكيك؟) قالت: (أراك قد شحب لونك) فقال لها: (يا فاطمة، إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر لم يبق على ظهر الأرض مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزّاً أو ذلاً(5)، حيث سطع الليل(6).

تكريم وتعظيم

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) بضعته الطاهرة بهالة من التقديس والتكريم إظهاراً لعظيم شأنها، وسموّ مكانتها عند الله تعالى وعنده، وقد نقل الرواة عنه كوكبة من الأحاديث في ذلك منها ما يلي:

1 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا فاطمة إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)(7).

2 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لفاطمة: (إنّ الربّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)(8).

3 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا فاطمة، أنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك)(9).

ومعنى هذه الأحاديث التي تقاربت في مؤداها أنّ لسيّدة النساء سلام الله عليها منزلة سامية عند الله، فقد أناط رضاه برضاها، وأناط غضبه بغضبها، وهذه أسمى وأرفع منزلة يصل إليها القدّيسون من عباد الله.

لقد انتهت سيّدة النساء إلى هذه المكانة عند الله تعالى، وذلك لما تتمتّع به من طاقات هائلة من الإيمان والتقوى حتى كان ذلك من عناصرها ومقوماتها.

4 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها أغضبني)(10).

5 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمةٌ بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويصيبني ما أصابها)(11).

6 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها)(12).

7 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن فاطمة شجنة منّي، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقضبها)(13)وحكت هذه الأحاديث بصورة واضحة أنّ من يخدش فاطمة الزهراء عليها السلام أو يسيئ إليها بأيّ لن من ألوان الإساءة، فقد واجه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك؛ لأنها كنفسه، وأنها بمقتضى هذه الأحاديث نسخة لا ثاني لها في فضائلها ومواهبها.

8 - روت عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لفاطمة: (يا فاطمة، ألا ترضين أن تكونِ سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء هذه الأُمة، وسيّدة نساء المؤمنين)(14).

9 - روى عمران بن حصين: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (ألا تنطلق بنا نعود فاطمة فإنها تشتكي) فقلت: بلى، فانطلقنا حتى إذا انتهينا إلى بابها فسلّم واستأذن، فقال: (أدخل أنا ومن معي) قالت: (نعم، ومن معك يا أبتاه؟ فو الله ما عليَّ إلاّ عباءة)، فقال: (اصنعي بها كذا)، فعلّمها كيف تستتر، فقالت: (والله ما على رأسي من خمار)، فأخذ ملاءة كانت عليه فقال: (اختمري بها)، ثمّ أذنت لهما فدخلا، فقال: (كيف تجدينك يا بنيّة؟) قالت: (إنّي لوجعة، وإنّه ليزدني أنّه ما لي طعام آكله)، قال: (يا بنيّة، أما ترضين إنّك سيّدة نساء العالمين) قالت: (يا أبتِ، فأين مريم ابنة عمران؟) قال: (تلك سيّدة نساء عالمها، وأنت سيّدة نساء العالمين، أما والله زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة)(15).

10 - روى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: (أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال لفاطمة سلام الله عليها: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنة، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنة)(16).

11 - روى أنس بن مالك، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (خير نساء العالمين أربعٌ: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله))(17).

وكثيراً من أمثال هذه الروايات دُوِّنت في الصحاح والسنن وغيرهما وهي تشيد بفضل سيّدة النساء، وأنّ الله تعالى قد قلّدها أسمى أوسمة الشرف، وفضّلها على جميع نساء العالمين.

وهذه البتول سيّدة نساء العالمين هي أمّ السيّدة زينب سلام الله عليها، وهي التي تولّت تربيتها ونشأتها، فغذتها بمعارف الإسلام وحكمه وآدابه، وغرست في أعماق نفسها الإيمان بالله والانقطاع إليه، حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، فكانت نسخة لا ثاني لها في فضائلها وصفاتها، فلم ير مثلها في نساء المسلمين وغيرهم في كمالها وآدابها وسائر نزعاتها.

يتبع مع الاب :)

الحيدرية
08-02-2008, 08:19 PM
الأبّ


أما أبو الصدّيقة الطاهرة زينب عليها السلام فهو الإمام أمير المؤمنين رائد الحكمة والعدالة في الإسلام، أخو النبي (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى، وهو - فيما أجمع عليه الرواة - أوّل من آمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله) واعتنق مبادئه وأهدافه، وقام إلى جانبه كأعظم قوّة ضاربة، يحمي دعوته ويصون رسالته ويخمد بسيفه نار الحروب التي أشعلتها قريش لتطفئ نور الله وتقضي على الإسلام في مهده، فوهب سلام الله عليه روحه لله تعالى، فحصد ببتّاره رؤوس الطغاة من القرشّيين وأنصارهم المشركين.

لقد كان الإمام أبرز بطل في جيوش المسلمين نازل ببسالة وصمود قوى الكفر والإلحاد، وأنزل بها الخسائر حتى فلّت وشلّت جميع فعاليتها العسكرية وباءت بالهزيمة والخسران، ولولا جهاد الإمام وكفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين.

وكان من عظيم إيمان الإمام ونصرته للإسلام مبيته على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله) ووقايته له بنفسه، حينما أجمعت قريش على قتله، وكانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام، فقد نجا النبي (صلّى الله عليه وآله) من أقسى مؤامرة دُبّرت لاغتياله، فقد فشلت، وأنقذ الله تعالى نبيّه من تلك الوحوش الكاسرة التي أرادت أن تطفئ نور الإسلام وتعيد الظلام للأرض.

لقد صحب الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) منذ نعومة أظفاره النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتخلّق بطباعه وأفكاره، وتغذى بحِكَمِه وعلومه، فكان باب مدينة علمه، وقد أثرت عنه من العلوم ما يبهر العقول، يقول العقاد: إنّه فتح ما يربو على ثلاثين علماً لم تكن معروفة قبله كعلم الكلام والفلسفة والقضاء والحساب وغيرها، وهو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني)، ولم يفه أحد بمثل هذه الكلمة غيره، وقد أخبر عن علمه وإحاطته بأسرار الكون والفضاء، فقال: (سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض)، كما تحدّث عن درايته بما احتوت عليه الكتب السماوية من أحكام قائلاً: (لو ثُنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل الفرقان بفرقانهم، وأهل القرآن بقرآنهم) لقد كان الإمام(عليه السّلام) أعظم عملاق في الميادين العلمية عرفته الإنسانية بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ على طاقاته العلمية الهائلة كتابه نهج البلاغة الذي هو من أعظم ما تملكه الإنسانية من تراثٍ بعد القرآن الكريم.

ومن مظاهر شخصيّة الإمام(عليه السّلام) زهده في الدنيا وعدم احتفائه بأيّ زينةٍ من زين الحياة فقد تقلّد الحكم وتشرفت الدولة الإسلامية بقيادته، فزهد في جميع مظاهر السلطة، وجعل الحكم وسيلة لإقامة الحقّ والعدل ونشر المساواة بين الناس، ولم يستخدم السلطة لتنفيذ رغباته، والظفر بالثراء العريض، ومن المقطوع به إنّه ليس في تأريخ الشرق العربي وغيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، قد عنى بالصالح العام، وتجرّد عن كل منفعة شخصية له، وهو القائل لابن العباس، وكان يصلح نعله الذي هو من ليف:

(يا بن عباس ما قيمة هذا النعل؟).

- لا قيمة له يا أمير المؤمنين!

(والله لَهِيَ أَحَبُ إِليَّ من إِمرتكم، إِلَّا أَن أُقِيمَ حَقَّاً، أَو أَدْفَعَ بَاطِلاً).

لقد تبنّى العدل الخالص والحقّ المحض في جميع مراحل حكمه، فالقريب والبعيد عنده سواء، والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق، والضعيف عنده قوي حتى يأخذ له بحقّه، وقد أوجد في أيام خلافته وعياً سياسياً أصيلاً وهو التمرّد على الظلم ومقارعة الجبابرة والطغاة، وكان أبرز من تغذّى بهذا الوعي ولده أبو الأحرار الإمام الحسين(عليه السّلام) وبطلة الإسلام ابنته سيّدة النساء زينب عليها السلام، وكوكبة من مشاهير أصحابه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وميثم التمّار وغيرهم من بُناة المجد الإسلامي الذين ثاروا على الظالمين.

وعلى أي حال، فهذا العملاق العظيم هو أبو الصدّيقة الطاهرة زينب عليها السلام، فقد غذّاها بمثله ومكوناته النفسية، وأفرغ عليها أشعة من روحه الثائرة على الظلم والطغيان، فكانت تحكيه في انطباعاته واتجاهاته، فقارعت الظالمين، وناجزت الطغاة المستبدين، وأذلت الجبابرة المتكبّرين، وألحقت بهم الخزي والدمار.

لقد وقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومفخرة الإسلام إلى جانب أخيها أبي الأحرار حينما فجّر ثورته الكبرى التي هي أعظم ثورة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني، وقد شابهت بذلك أباها رائد العدالة الاجتماعية حينما وقف إلى جانب جدّها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حينما اعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحرير الفكر البشري من عوامل الانحطاط والتأخّر، وإنارته بالعلوم والعرفان ودفعه إلى إقامة مجتمع متوازن في سلوكه وإرادته.

لقد كانت هذه السيّدة العظيمة في سيرتها وسلوكها من أشبه الناس بأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد تبنّت بصورة إيجابية جميع أهدافه ومخططاته ومواقفه التي منها نصرته للإسلام في أيام محنته وغربته، وكذلك هذه السيّدة العملاقة نصرت الإسلام حينما عاد غريباً في ظل الحكم الاُموي الذي استهدف قلع جذور الإسلام ولفّ لوائه، وإعادة الحياة الجاهلية بأوثانها وأصنامها، ولكنها مع أخيها سلام الله عليها قد أفسدت مخططات الاُمويّين، وأعادت للإسلام نضارته ومجده.

جدّها لأبيها

أمّا جدُّ السيّدة الزكية زينب لأبيها فهو حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس، أبو طالب (مؤمن قريش) الذي نافح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، ولولا حمايته للنبي وقيامه بدور مشرق في الذبّ عنه لأتت عليه قريش وقضت على الدعوة في مهدها.

لقد كان أبو طالب من أوثق المسلمين إيماناً، ومن أكثرهم إخلاصاً لدين التوحيد، وهو القائل:

ولقــــد علـــمت بأنّ دين محمّد مــــن خيــــر أديان البرية ديناً

وحكى هذا البيت إيمانه العميق بأنّ دين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من خير أديان البرية، ولهذا اندفع كأعظم قوة ضاربة إلى حماية النبي (صلّى الله عليه وآله) وحراسته من ذئاب الاُسر القرشية التي أجمعت أن تلفّ لواء الإسلام وتطوي رسالته.

لقد وقف هذا العملاق العظيم محامياً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو القائل:

والله لــن يصــلوا إليك بجمعهم حتـــى أُوســــد التــــراب دفيناً

وظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحت حراسة أبي طالب وحمايته، ينشر دعوته ويذيع مبادئه آمناً عزيزاً مهاباً، وقد جنّد أولاده لخدمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وألزمهم بالذبّ عنه، فكان ولده الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من أقوى حرسه، ومن أكثرهم دفاعاً عنه فخاض أعنف الحروب وأقساها لحمايته، ونشر مبادئه وأهدافه.

ولمّا انتقل هذا الصرح العظيم إلى حضيرة القدس حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحزن، فلقد فَقَدَ بموته المحامي والناصر، وأعزّ ما كان يحنو عليه ويعطف، وأطلق على العام الذي توفي فيه مع اُمّ المؤمنين خديجة (عام الحزن)(18)، وقد أجمعت قريش بعد موت أبي طالب على قتل النبي (صلّى الله عليه وآله)،فاضطر (صلّى الله عليه وآله) إلى الهرب من مكة في غلس الليل البهيم بعد أن ترك أخاه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) في فراشه، فرحم الله أبا طالب فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين، وما أكثر ألطافه وأياديه على النبي (صلّى الله عليه وآله).

إنّ هذا العملاق العظيم هو جدّ سيّدة النساء زينب عليها السلام لأبيها، وقد ورثت منه خصائصه وذاتياته التي من أبرزها التفاني في الحق ونكران الذات.

جدّتها لأبيها

وجدّة السيّدة زينب عليها السلام لأبيها هي السيّدة الزكية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب، وهي من سيّدات النساء في إيمانها وطهارتها، وقد برّت بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وتولت تربيته وكانت ترعاه وتعطف عليه أكثر ممّا تعطف على أبنائها، وقدّمت له أعظم الخدمات، وقد قطع (صلّى الله عليه وآله) شوطاً من حياته تحت رعاية هذه السيّدة الزكية التي ما تركت لوناً من ألوان الرعاية والبرّ إلاّ قدّمتها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكانت من أعزّ الناس عنده، ولمّا فجع بوفاتها ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها، فبهر أصحابه وقالوا له:

يا رسول الله، ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بهذه؟

فأخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن عظيم برّها ومعروفها قائلاً:

(إنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها)(19).

إن هذه الاُصول العملاقة التي اتّسمت بالإيمان والشرف والكرامة وبكل ما يسمو به الإنسان من القيم والمبادئ الكريمة، قد تفرّعت منها بطلة الإسلام وصانعة التأريخ السيّدة زينب عليها السلام، فقد ورثت جميع نزعات آبائها وخصائصهم وصفاتهم، حتى صارت صورة مشرقة عنهم.

يتبع مع ولادتها ونشأتها

Dr.Zahra
09-02-2008, 02:31 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهمأجمعين ،،،

اللهم صل على الصديقة الطاهرة فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرالمستودع فيها عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك ،،
السلام على أم الشهيد بكربلاء
السلام على أم الملقى في الهيجاء
السلام على أم المخضّب بالدماء
السلام على أم الشهيد المحروم من الماء
السلام على أم الصريع على الرمضاء
السلام على ذات أعظم بلاء
السلام عليك يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك
***
الله الله يااخيتي الكريمه
موضوعكم يحرر في القلب لواعج الحب وتباريح الهوى الى قبر سيدتي ومولاتي
زينب اه هذه المراه العظيمه الكبيره الصبوره
التي عانت ماعانت ولاقت مالاقت وبقت جبلا صامدا
نستلهم منه الصمود والقوه وبقت شعاعا وهاجا ينير حياتنا
اهدنا الصراط المستقيم
اخيتي الكريمه واصلي الكتابه ويلعم الله مالك جزاء ذلك
واتمنى ان تقبلوا شيءا بسيطا وهو وسام تميز موضوعكم وقد وضعته في بداية الموضوع
ليعلم الجميع ان موضوعكم مميزا جدا



http://al7osiny.com/up/uploads/d97500be38.gif (http://al7osiny.com/up/)

عاشق الزهراء
09-02-2008, 08:09 PM
أسال الله بحق السيدة زينب ومظلوميتها أن يوفقك لكل خير أختي ويثبك أختي العزيزة الحيدرية على هذا الجهد الرائع

الحيدرية
03-03-2008, 11:37 PM
اختي خادمة القضيم اشكرك من القلب

اخي الكريم اشكر تواجدكم الكريم

كما اعتذر على الاطالة عليكم

الحيدرية
03-03-2008, 11:45 PM
ولادتها ونشأتها

ازدهرت حياة الاُسرة النبوية بالسبطين الكريمين الإمامين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم، الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه، وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.

لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول: (هما ريحانتي من الدنيا)(1).

وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران فنزل عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه وقال: (صَدَقَ الله إذ يقول: (واعلموا أما أموالكم وأولادكم فتنة)(2) لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)(3).

وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام): (ادعى ابني فيشمّهما، ويضمّهما إليه)(4).

وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبوية وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أمّا ذلك الحمل فهو:

الوليدة المباركة

ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين على وليدته المراسيم الشرعية، فإذّن في أُذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.

لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله) وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.

وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوماً من مقوماتها.

وجوم النبي وبكاؤه

وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: (ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً). فأجابها بصوت حزين النبرات: (يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا)(5).

لقد استشف النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء. ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبوية يهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(6)، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.

تسميتها

وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:

(سمّ هذه المولودة).

فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضعٍ: (ما كنت لأسبق رسول الله).

وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال: (ما كنت لأسبق ربّي).

وهبط رسول السماء على النبي، فقال له: سمّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم.

وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(7).

كنيتها

وكنيت الصدّيقة الطاهرة زينب بـ(اُمّ كلثوم)، وقيل: إنها تكنى بـ(اُمّ الحسن

ألقابها

أما ألقابها فإنّها تنمّ عن صفاتها الكريمة، ونزعاتها الشريفة وهي:

عقيلة بني هاشم:

و(العقيلة) هي: المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة في بيتها، والسيّدة زينب أفضل امرأة، وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام، وكان هذا اللقب وساماً لذرّيتها فكانوا يلقّبون بـ(بني العقيلة).

العالمة:

وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيّدات العالمات في الاُسرة النبوية، فكانت فيما يقول بعض المؤرخين: مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين يرجعن إليها في شؤونهن الدينية.

عابدة آل عليّ:

وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين، فلم تترك نافلة من النوافل الإسلامية إلاّ أتت بها، ويقول بعض الرواة: إنها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرم.

الكاملة:

وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها وطهارتها من الرجس والزيغ.

الفاضلة:

وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام، وبلائها في سبيل الله. وهذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها.

يتبع مع سنة ولادتهاsmilies/013.gif

الحيدرية
03-03-2008, 11:47 PM
سنة ولادتها

أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب، فقد اختلف المؤرخون والرواة فيها، وهذه بعض أقوالهم:

1 - السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الاُولى.

2 - السنة السادسة من الهجرة.

3 - السنة التاسعة من الهجرة، وفنّد هذا القول الشيخ جعفر نقدي، فقال: وهذا القول غير صحيح لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم، ومتى حملت بالمحسن اسقطته لستة أشهر. وقال: والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وذكر مؤيدات اُخرى لما ذهب إليه(9).

نشأتها

نشأت الصدِّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد غذّتها اُمها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعة من مثلها وقيمها حتى صارت صورة صادقة عنها.

لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودة، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليها السّلام) يشارك اُمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أية كلمة من مرّ القول وهجره، وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام، فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.

لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلامية، فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين يعظّم أخاه الإمام الحسن(عليه السّلام) ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه ولم يجلس إلى جانبه، وشاهدت أخوتها من أبيها، وهم يعظمون أخويها الحسن والحسين، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذات موضع احترام اخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين(عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً وأجلسها في مكانه، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسن(عليه السّلام) عن ذلك، فقال له: (أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك الحوراء)(10).

لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وأخوتها، فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي، يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: (روى أبو الحسنين)، وذلك اشاده بفضلها وعظيم منزلتها.

قدراتها العلمية

كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقريتها، فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ(فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد روت خطبة اًمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.

قد بهر الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من شدّة ذكائها، فقد قالت له: (أتحبّنا يا أبتاه).

فأسرع الإمام قائلاً: (وكيف لا اُحبكم وأنتم ثمرة فؤادي).

فأجابته بأدبٍ واحترامٍ: (يا ابتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا..)(11).

وعجب الإمام(عليه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى، وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: (من أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك)(12).

وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين في حال غيابه فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعية، ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين(عليه السّلام) يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين، ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات فكانت تلقي عليهن محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذن منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه، ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: (حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي)، وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله)، وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين(عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعية، وقد قال(عليه السّلام) في حقها:

(إنها عالمة غير معلّمة)، وكانت ألمع خطيبة في الإسلام، فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.

لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجل العالمات، ومن أكثرهن إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.

يتبع مع

اقترانها بابن عمها

شيعية موالية
04-03-2008, 10:42 AM
احسنتى اختى الحيدريه على هذه المشاركه القيمه وفقكم الله لخير الدنيا والاخرة

والسلام على الحوراء زينب ام المصائب بطلة كربلاء

الحيدرية
04-03-2008, 09:31 PM
مشكورة حبيبتي على مرورك الطيب

الحيدرية
04-03-2008, 09:34 PM
اقترانها بابن عمها

ولما تقدّمت سيدة النساء زينب في السنّ انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها، والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من إجابتهم، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه، وهو ابن أخيه: عبد الله بن جعفر، من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به، ونعرض - بإيجاز- إلى بعض شؤونه.

أبوه جعفر:

أما جعفر فقد كان - فيما يقول الرواة -: من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)(13). يقول فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب(14). وهو من السابقين للإسلام وقد رآه أبوه طالب يصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له: صل جناح ابن عمّك، وصلِّ عن يساره، وكان علي يصلّي عن يمينه)(15). وله هجرتان إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة(16).

وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره، وقد تحدّث عن ذلك، قال: كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته حتى كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(17).

وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفرح فقد صادف قدومه فتح خيبر، فقال (صلّى الله عليه وآله): (ما أدري بأيّهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر..)(18).

واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد، وكان أثيراً عنده، لا لأنه ابن عمه فحسب، وإنما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام، وإشاعة مبادئه وأحكامه..بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها، ويقول الرواة: إنّ اللواء كان بيده اليمنى فقطعت، فرفعه بيده اليسرى، فلمّا قطعت رفعه بيديه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (وإن الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء)(19).

ولهذا لقّب بـ(ذي الجناحين) وبـ(الطيار).

وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر، فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصائبهم الأليم، فقال لزوجته أسماء: (ائتيني ببني جعفر)، فأتته بهم، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها فقالت له:(يا رسول الله، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء).

فأجابها بنبراتٍ تقطرأسىً وحزناً قائلاً:(نعم اُصيب هذا اليوم).

وأخذت أسماء تنوح على زوجها، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يصنع طعام لآل جعفر(20) وأقبلت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين، وقد رفعت صوتها قائلة: (وا عماه).

وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (على مثل جعفر فلتبك البواكي)(21).

لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه.

الاُم أسماء:

أمّا اُم عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً، ثم هاجرت إلى المدينة، ولما استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً، وهو من أعلام الإسلام، ثم توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فولدت له يحيى(22)، وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم، ولها علاقة وثيقة مع سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، فقد قامت بخدمتها، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر، فجاءت عائشة لها فمنعتها أسماء، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر فعاتبها، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(23).

لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل بيت النبوة، كما كانت من الروايات للحديث، ويقول المؤرخون: إنها روت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ستين حديثاً.

وعلى أيّ حال، فإن أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين وأختهما زينب (عليها السّلام)، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً، ترعاهم كما ترعى أبناءها، لأنهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص وشكروا لها رعايتها وعطفها.

عبد الله:

ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر، فقد كان فذاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم، يقول فيه معاوية: هو أهلٌ لكلّ شرفٍ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(24).

وكان يُسمى (بحر الجود)(25)، ويقال: لم يكن في الإسلام أسخى منه(26)، مدحه نصيب فأجزل له في العطاء، فقيل له: تعطي لهذا الأسود مثل هذا فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى(27). وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس، فقال: إن الله عوّدني عادة، وعوّدت الناس عادة، فأخاف إن قطعتها قطعت عني(28).

وأنشد:

لســـــت أخشـــــــــى قلة العدم مـــــا اتـــــقيـــــــــت الله فــي كرمي

كــــــلما أنفــــــقـــــت يـــخـلفه لــــــــي ربّ واســـــــع النـــعم(29)

ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد وسع الله عليه لدعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) له فكان من أثرى أهل المدينة، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة، فقد روى عن عمه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام).

أبناؤه:

وُرزق هذا السيّد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء وهم:

1- عون:

وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله، صحب خاله الإمام الحسين عليه السّلام، حينما هاجر من يثرب إلى العراق، ولازمه في رحلته، فلما كان يوم العاشر من المحرم، اليوم الخالد في دنيا الأحزان، تقدم إلى الشهادة بين يدي خاله، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز:

إن تـــــنكروني فــــــأنا ابــن جعفر شهـــــيد صـــدق في الجنان أزهر

يطيـــــر فـــــيها بــــــجـناح أخضر كفــــى بــــــهذا شــرفـاً من محشر(30)

لقد عرّف نفسه - بهذا الرجز - فقد انتسب إلى جده الشهيد العظيم جعفر، الذي قطعت يداه في سبيل الإسلام، ويكفيه بذلك شـــــرفاً وفخراً، وجعل الفتى يقاتل الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(31)، ورثاه سليمان بن قنة بقوله:

وانـــــدبي إن بــــكيت عـــــوناً أخــــاه ليـــــس فـــــــــــــــيما يــــــنوبهـم بـــخـذول

فــــلعمري لــــقد أصــــبت ذوي القـــر بـــى فكـــــبى عـــلى الـمصاب الطويل(32)

2- علي الزينبي.

3- محمد.

4- عباس.

5- السيّدة اُمّ كلثوم(33):

وبلغت هذه السيّدة مبلغ النساء، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامة بني هاشم، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين، في أن يخطبها لولده يزيد، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه:

أمّا بعد: فأنّ أمير المؤمنين أحب أن يرد الإلفة، ويسلّ السخيمة، ويصل الرحم، فإذا وصل إليك كتابي، فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب إليه في الصداق..

وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيفة، وما يبذله من الأموال الطائلة تغري السادة العلويين الذين تربّوا على الكرامة والشرف، وكل ما يسمو الإنسان، ولم يعلم أن سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر.

ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين، لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر، وسافر الحسين، فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر، فعرض عليه كتاب معاوية، وجعل يحبّذ له الأمر، ويطالبه بالإسراع فيه لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين، واجتماعاً للكلمة ولم يخف عن عبد الله الأمر، فقال لمروان: إنّ خالها الحسين في ينبع(34). وليس لي من سبيل أن أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته.

ولمّا رجع الإمام الحسين(عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً، فعرض عليه الأمر، وما أجاب به مروان، فالتاع الإمام الحسين(عليه السّلام) من (ذلك) إذ كيف تكون ابنة أخته عند فاجر بني أمية، حفيد أبي سفيان، فانطلق الإمام(عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم فلمّا مثلث أمامه، قال لها: إن ابن عمّك القاسم بن محمد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق.

واستجابت الفتاة لرأي خالها، ورحّبت أمّها العقيلة بذلك، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين، وقدم لها الإمام مهراً كثيراً.

وكتم الإمام الأمر، فلما كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامة فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة، وكان من جملة المدعوين: مروان، وقد ظنّ أنّه دعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر.

ولمّا سمع مروان تميز غيظاً وغضباً، وفقد صوابه، فقد أفشل الإمام رغبته، فرفع عقيرته قائلاً: أغدراً يا حسين(35).

وخرج مروان يتعثّر بأذياله، وانتهى الأمر إلى معاوية، فحقد على الحسين، وساءه ذلك، فقد فشلت محاولاته في خداع العلويين، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبوية.

يتبع مع عناصرها النفسية

الحيدرية
04-03-2008, 09:36 PM
عناصرها النفسية

وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحية إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم، وسيدة النساء زينب (عليها السّلام)، فقد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، واُمّها سيدة نساء العالمين (عليها السّلام)، وأخويها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.

لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيدة في دنيا الإسلام، فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين، الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه، فقد أظهرت زهراء الرسول بقوة وصلابة عن حقّ سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت، فهي المؤسِّسة الاُولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت(عليهم السّلام)، وكذلك وقفت ابنتها العقلية أمام الحكم الاُموي الأسود الذي استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت(عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي، فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.

وعلى أي حال، فإنا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسية لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما تتمتّع به من القابليات الفذة، التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:


الإيمان الوثيق


وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.

لقد تغذت حفيدة الرسول بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.

إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبوية ومن أبرز خصائصهم، ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين في دعائه:

(عبدتك لا طمعاً في جنتك، ولا خوفاً، من نارك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك).

وهو القائل:(لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً).

أما سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السّلام، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبته وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وأخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كل ذلك في سبيل الله تعالى، فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوة وعقائل الوحي، وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة، لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: (لك العتبى يا ربّ إنّ كان يرضيك هذا، فهذا إلى رضاك قليل)، ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه، قال:(هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله)(1).

أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له!

أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله!

وكانت حفيدة الرسول زينب سلام الله عليها كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، هو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه:(اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان)(2).

إنّ الإنسانية تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها.

لقد تضرعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فأيّ إيمان يماثل هذا الإيمان؟!

وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟!

لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله.

لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان، فقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة وهن يعجن بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهن من الأسر والذلّ إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تؤدي صلاة الشكر لله على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.

تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.


الصبر


من النزعات الفذة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها وأمّها بعد وفاة جدّها، فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلّا أنّها خلدت إلى الصبر، وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي(عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة، حتى أضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألد، ولم تمض سنين يسيرة حتى اغتاله بالسمّ وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدة السمّ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وكان من أقسى ما تجرعتّه من المحن والمصائب يوم الطف، فقد رأت شقيقها الإمام الحسين(عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويين، وشاهدت الأطفال الرضع يذبحون أمامها.

إن أي واحدة من رزايا سيدة النساء زينب لو ابتلي بها أيّ إنسان مهما تذرّع بالصبر وقوة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها سلام الله عليها قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‌‌‌ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)(3)، وقال تعالى: (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب)(4)، وقال تعالى: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانو يعملون)(5)، لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيدة مثلها في قوة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.

يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

لله صــــــبر زيـــــنب العقــــــيلــــة كـــم شـــــاهدت مــــصائباً مهولـة

رأت مـــــن الخــــطوب والــــرزايا أمـــــراً تــــــهون دونــــــه المنايا

رأت كـــــرام قـــــومها الأمــــــاجد مجـــــزرين فـــــي صــــــعيد واحد

تســـــفي عــــلى جـسومـها الرياح وهــــــي لـــــذوبان الفـــــلا تـبـاح

رأت رؤوســـــاً بــــالقـنا تـــــشـال وجثــــــثـاً أكفـــــانهـا الــــــــرمـال

رأت وضيـــــعـاً بـــــــالسهـام يفطم وصبــــــية بـــــعد أبيــــهم أيتمـوا

رأت شـــــماتـة العـــــــدو فـــــيـها وصنـــــعه مــــــــا شاء فـي أخيها

وإن مــــن أدهــــى الخطوب السود وقوفـها بــــــين يــــــدي يــــــزيد

وقال السيّد حسن البغدادي:

يـــــا قـــــلب زينب ما لاقيت من محـن فــيـك الـــرزايا وكل الصـبر قـد جمعـا

لـــو كــان مـا فيك من صبر ومن محن في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعـا

يكــــــفيك صـــــبراً قلوب الناس كلـهم تـــفـطّـرت للـــــذي لاقـــــــيـته جـزعـاّ

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كل كائن حي.


العزة والكرامة


من أبرز الصفات النفسية الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي: العزة والكرامة، فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبية ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفعت العقيلة أن تطلب من أولئك الممسوخين - من شرطة ابن مرجانة- شيئاً من الطعام لهم، ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمن النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوة سارعن إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة:(الصدقة محرّمة علينا أهل البيت...).

ولما سمع أطفال أهل البيت من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إن عمتّنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.

أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.

ولمّا سُيِّرت سبايا أهل البيت من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيّدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها، فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من أولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.

لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة والشرف والإباء، فلم تخضع لأي أحدٍ مهما قست الأيام وتلبدت الظروف، إنها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.


الشجاعة


ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبوية الكريمة، فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:

(لو تضافرت العرب على قتالي لما وليت عنها)، وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال، وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين(عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته، فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوة بأسه، فقد وقف يوم العاشر من المحرم موقفاً لم يقفه أي أحدٍ من أبطال العالم، فإنه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقا وبشراً كلما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً، فإنه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره - وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً- فحمل عليهم وحده وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب - على حد تعبير بعض الرواة- وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كل جانب، لم يوهن له ركن، ولم تضعف له عزيمة.

يقول العلوي السيّد حيدر:

فـــــتــــــلـقى الجـــــــــــمـوع فــــــرداً ولكن كل عضو في الروع منــه جموع

رمــــــحـه مـــــن بـــــنانه وكــــأن من عزمه حـــــــد ســــــــيفه مــــطــبـوع

زوّج الســــــــــيف بـــــــالنفوس ولكن مهرهــــــا الموت والخضـاب النجــيع

ولما سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه خوفاً ورعباً منه، يقول السيّد حيدر:

عفـــــــيراً متـــــى عـــاينته الكمـاة يخــــتطف الــــــرعب ألـــــــوانـها

فـــــما أجـــــلت الحـــرب عن مثله صــــريعاً يجـــــبّن شـــــجعانـــــها

وتمثلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب (سلام الله عليها)، فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً:

الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم...

فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة:

(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنا، وَهُوَ غَيرنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة..)(6).

لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهن رؤوس حماتهن، وشهرت عليهن سيوف الملحدين.

لقد أنزلت العقيلة - بهذه الكلمات- الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر، ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك..؟(7).

وانطلقت عقيلة بن هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة:

(ما رَأَيْتُ إِلاّ جَميلاً، هؤُلاءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَحَاحُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ اُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ..).

أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجلت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزاً للمسلمين ومجداً خالداً للاُسرة النبوية.

أما موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.


الزهد في الدنيا


ومن عناصر سيدة النساء زينب (عليها السّلام): الزهد في الدنيا، قد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول، فقد كانت فيما رواه المؤرّخون لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل وجلد شاه، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا، وقد تأثرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين عليه السّلام(8). وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار، فقد علمت أنه سيستشهد في كربلاء أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذات من الأسر والذل، لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.


يتبع مع أحداث مروّعة

الحيدرية
15-03-2008, 08:22 PM
أحداث مروّعة


وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي ذرى عطفه، وهي ناعمة البال قريرة العين، يتلقاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم، وترى أبويها وقد غمرتهما المودة والاُلفة والتعاون، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام، وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه، فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام، كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوة، فقد اندحرت وأذلّها الله، فقد فتحت مكة وطُهِّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تعبدُ من دون الله تعالى.

ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها، فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته، وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها، وهذه بعضها:

1 - روى زيد بن أرقم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السّلام: (أنا حربٌ لمن حاربتهم، وسلم لمن سالمتم)(1).

2 - روى أحمد بن حنبل بسنده: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين، وقال: (من أحبني وأحبّ هذين وأباهما واُمهما كان معي في درجتي اليوم القيامة)(2).

3 - روى أبو بكر، قال: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: (معاشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحربٌ لمن حاربهم، ووليّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ ردئ الولادة)(3).

4 - روى ابن عباس: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: (النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)(4).

5 - روى زيد بن أرقم: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إني تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(5).

6 - روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: (إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له)(6).

7 - روى أبو برزة، قال: صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته، أتى باب فاطمة (عليها السّلام)، فقال: (السلام عليكم، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(7).

رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم، وأنّه ليس مجرد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة، والقابليات الفذّة التي ترشحهم لقيادة الاُمّة، وتطويرها فكرياً واجتماعياً، وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله).

خطوب مروّعة

ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبوية فقد دهمتهم كارثة مروّعة فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين فاستشعر بدنّو الأجل المحتوم منه(8). وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام)، فقال لها:(إن جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وأنّه عارضني بهذا العام مرتين، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي)(9).

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع، وطافت بها في فجر الصبا تيارات من الأسى.

ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه).

وذُهل المسلمون، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة، فأجابهم: (إن نفسي قد نعيت إليّ)(10).

وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع، فقد وقع عليهم كالصاعقة، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم.

رؤيا العقيلة

ورأت العقيلة في منامها رؤيا أفزعتها، وأذهلتها فأسرعت إلى جدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه، ولما مثلت عنده أجلسها في حجره وجعله يوسعها تقبيلاً، فقالت له:

(يا جدّاه، رأيت رؤيا البارحة..).

(قصّيها عليّ).

رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منه وأظلمت، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلقت بها من شدّة العاصفة، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض، فتعلقت بغصنٍ قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح، فتعلقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعهما فكسرته العاصفة أيضاً، ثم استيقظت من نومي).

فأجهش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وفسّر لها رؤياها قائلاً: (أما الشجرة: فجدّك، وأمّا الفرع الأول: فأمّك فاطمة، والثاني: أبوك عليّ، والفرعان الآخران هما: أخواك الحسنان، تسودّ الدنيا لفقدهم وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم)(11).

وساد الحزن والأسى في البيت النبوي، وصدقت رؤيا العقيلة فلم تمض أيام حتى رزئت بجدّها واُمّها، تتابعت عليها بعد ذلك الرزايا، فقد استشهد أبوها وأخواها، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد.

حجة الوداع

ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين، ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحق والعدل.

وحجّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ(حجة الوداع)، وقد أشاع بين حجاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم، وأنه سيسافر إلى الفردوس الأعلى، وجعل يطوف بين الجماهير، ويعرّفهم سبل النجـــاة، ويرشدهم إلــــى ولاة اُمورهم من بــــعده قائلاً: (أيّها الناس، إني تركت فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)(12).

ثم وقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسية، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة: (إني خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ألا هل بلّغت).

فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين: اللّهمّ نعم(13).

لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامة لاُمّته وجعلها مختصة بأهل بيته، فهم ورثة علومه، وخزنة حكمته، الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كل شيء.

يتبع مع مؤتمر غدير خم

الحيدرية
15-03-2008, 08:24 PM
مؤتمر غدير خم

وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن يُنصب الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) خليفةً من بعده، ومرجعاً عاماً للاُمّة، لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)(14).

ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ أنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين، فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير، ووضع رحله في رمضاء الهجير، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك، وكان الوقت قاسياً في حرارته فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقي به من حرارة الأرض، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل، فصُنع له ذلك، فاعتلى عليه، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فخطب خطاباً مهماً، أعلن فيه ما لاقاه من عناء شاق في سبيل هدايتهم، وتحرير إرادتهم، وإنقاذهم من خرافات الجاهلية وعاداتها، ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم، ثم التفت إليهم فقال: (انظروا كيف تخلفوني في الثقلين..).

فناداه منادٍ من القوم:ما الثقلان يا رسول الله؟.

فأجابه: (الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر: عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا..).

ثم أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين فرفعها حتى بان بياض ابطيهما، ونظر إليهما القوم، ورفع النبي صوته قائلاً:

(أيها الناس، من أوْلىبالمؤمنين من أنفسهم؟).

فانبرت قوافل الحجاج رافعة عقيرتها: الله ورسوله أعلم..

ووضع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً:

(إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أوْلى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليِّ مولاه).

وكرّر هذا القول ثلاث مرات، أو أربع: ثم قال: (اللهمّ والِِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب...).

لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه، فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئن الإمام بهذا المنصب العظيم، ففعلن، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه، وقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(15).

وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(16).

لقد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد خطا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف، فنصب لها القائد والموجّه ولم يتركها فوضى - كما يزعمون- تتلاعب بها الفتن والأهواء وتتقاذفها أمواج من الضلال، إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبيّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ.

لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها، وأنّ جدها قد قلّدها بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض، ولكن القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب، وتجرعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة - من دون شك- عن هذه المؤامرة التي حيكت ضد أبيها، فانّا لله وإنا إليه راحعون.

مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)

ولما قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم، فقد ألمّ به المرض، وأصابته حمى مبرحة، حتى كأن به لهباً منها، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجـــه وعوّاده عليها أيــــديهم شعــــروا بحرّها(17). وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول: (ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ(خيبر)، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)(18). فقد قدمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه.

ولما اُشيع مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه، وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً:

(أيها الناس، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألاّ إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي..).

ثم أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال لهم: (هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض..)(19).

لقد قرّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمته، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها

سرية اُسامة

ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صممت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة، فرأى أن خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزج بجميع أصحابه في بعثة عسكرية حتى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادة لوليّ عهده، فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد، وهو شاب في مقتبل العمر، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجراح، وبشير بن سعد(20). وقال النبي لاُسامة:

(سِر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش فاغزِ صباحاً على أهل أبنى(21) وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاّء وقدّم العيون والطلائع معك..).

ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم العسكرية،ولمّا علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم، فخرج مع ما به من المرض، فحثّ الجند على المسير، وعقد بنفسه اللواء لاُسامة، وقال له: (اغز بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله..).

فخرج اُسامة بلوائه معقوداً، ودفعه إلى بريدة، وعسكر بـ(الجرف)، وتثاقل جمعٌ من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش، يقول له عمر:

مات رسول الله وأنت عليَّ أمير...

وانتهت كلماته إلى النبيّ، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماَ، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه، فقال: (أيّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم الله، إنّه كان خليقاً بالإمارة وأنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها..).

ثم نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(22). وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً:

(جهزوا جيش اُسامة..).

(نفذوا جيش اُسامة..).

(لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة..).

ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة، فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش، واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا، فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب.

رزية يوم الخميس

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحركات السياسية من بعض أصحابه وأنّهم عازمون ومصرون على صرف الخلافة عن أهل بيته، وإفساد ما أعلنه غير مرة من أن عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر، ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ، فقال لمن حضر في مجلسه: (إئتوني بالكتف والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)(23).

حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أن اُمّته لا تصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب.

ما أعظم هذه النعمة على المسلمين، إنه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضل اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنه سينصّ على خلافة عليّ من بعده، ويعزّز بيعة يوم الغدير، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف: حسبنا كتاب الله…

ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة، ولكنه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده.

وكثر الخلاف بين القوم، فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبيّ وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فقلن لهم: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)..

فثار عمر وصاح فيهنّ، خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه، فقال للسيدات:

إنكنّ صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن، وإذا صحّ ركبتن عنقه…

فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله)، بغضبٍ وغيظٍ، وقال له: (دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم..).

وبدا صراع رهيب بين القوم، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبيّ وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته، فقال ويا لهول ما قال: إنّ النبيّ ليهجر..(24).

ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته، فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف، وإنه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته، قال تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)(25)، وقال تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون)(26).

إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبيّ وتكامل ذاته، ولكن حبّ الدنيا، والتهالك على السلطة دفعهم للجرأة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته.

وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، وهو يصعد آهاته، ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس!! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)، فقالوا: إن رسول الله يهجر..(27).

حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى، فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال. لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث.

لوعة الزهراء

ونخب الحزن قلب بضعة الرسول، وبرح بها الألم القاسي وذهبت نفسها شعاعاً حينماً علمت أن أباها مفارق لهذه الحياة، فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنها تعاني آلام الاحتضار وسمعته يقول:

(وا كرباه..).

فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة:

(وا كربي لكربك يا أبتي..).

وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته، فقال لها مسلّياً: (لا كرب على أبيك بعد اليوم..)(28).

وهامت زهراء الرسول في تيارات مروعة من الأسى والحزن فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها، وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّبها ويخفّف لوعة مصابها فأسرّ إليها بحديثٍ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع، ثم أسرّ إليها ثانياً، فقابلته ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور، فعجبت عائشة من ذلك وراحت تقول:

ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن..

وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها، فأشاحت بوجهها الكريم عنها وأبت أن تخبرها، ولكنها أخبرت بعض السيّدات بذلك، فقالت: (أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة, وأنّه عارضني في هذا العام به مرتين، ولا أراه إلّا قد حضر أجلي..).

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها، أمّا سبب سرورها وابتهاجها، فقالت: (أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونِعْمَ السلف أنا لك، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة..)(29).

ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى، منهدة الركن، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب، قائلاً: (يا بنية لا تبكي، وإذا متّ فقولي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإنّ فيها من كل ميّت معوضة..).

وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً: (ومنك يا رسول الله...).

(نعم ومنّي...)(30).

واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه وهي تبكي وتقول لأبيها:

(يا أبت، أنت كما قال القائل فيك:

وأبيــــــض يستسقى الغمام بوجهه ثــــمال اليــتامى، عصمة الأرامل)

فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (هذا قول عمّك أبي طالب، وتلا قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئأً وسيجزي الله الشاكرين)(31).

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها، فانكبّت عليه ومعها الحسنان، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء، فأجهش النبي بالبكاء، وهو يقول:

(اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كل مؤمن..).

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرات حسبما يرويه أنس بن مالك(32).

أمّا حفيدة الرسول زينب، فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة.

يتبع مع إلى الفردوس الأعلى

الحيدرية
18-03-2008, 01:29 AM
إلى الفردوس الأعلى

وبعدما أدّى النبيّ العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين، وأقام صروح الإسلام، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى، فقد هبط عليه ملك الموت، فاستأذن بالدخول عليه، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه، فانصرف ثم عاد بعد قليل يطلب الإذن، فأفاق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه، والتفت إلى بضعته فقال لها:

(يا بنية، أتعرفيه؟).

(لا يا رسول الله…).

(إنّه معمّر القبور، ومخرّب الدور، ومفرّق الجماعات..).

وجمدت بضعة الرسول، وأخرسها الخطب، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً:

(وا أبتاه لخاتم الأنبياء، وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء ولانقطاع سيّد الأصفياء، وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء، فقد حرمت اليوم كلامك..).

وتصدّع قلب النبيّ على بضعتة وأشفق عليها، فقال لها مسلياً: (لا تبكي فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي..)(33).

وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً..وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) لملك الموت، فلمّا مثُلَ أمامه، قال له: (يا رسول الله، إنّ الله أرسلني إليك، وأمرني أن اُطيعك في كل ما أمرتني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها..).

فبهر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (أتفعل يا ملك الموت ذلك..).

بذلك اُمرت أن اًطيعك في كل ما أمرتنا..).

وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: (يا أحمد، إن الله قد اشتاق إليك..)(34).

واختار النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما، وهما يذرفان الدموع، والنبي يوسعهما تقبيلاً، وأراد الإمام أمير المؤمنين أن ينحّيهما عنه فأبى النبيّ، وقال له:

(دعمها يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما فسيصيبهما بعدي إثرة..).

والتفت النبيّ إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً:

(قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنتّي، والمضيّع لسنّتي كالمضيع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..)(35).

والتفت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له: (ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله، فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك، ثم وجّهني إلى القبلة، وتولّ أمري، وصلِّ عليِّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رِمسي، واستعن بالله عزّ وجلّ)(36).

وأخذ الإمام أمير المؤمنين رأس النبيّ فوضعه في حجره، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتى فاضت روحه العظيمة فمسح بها الإمام وجهه(37).

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض.

لقد سمت روح النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئها، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض.

لقد أشرقت الآخرة لقدومه، وأظلمت الدنيا لفقده، وما أصيبت الإنسانية بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم.

تجهيزه

وانبرى الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وهو خائر القوى، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) فغسّل الجسد الطاهر، وهو يقول بذوب روحه:

(بأبي أنت واُمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلياً عمّن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنّك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكد مخالفاً)(38).

وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(39).

وكان بدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفوح منه روائح الطيب، والإمام(عليه السّلام) يقول:

(بأبي أنت واُمّي يا رسول الله، طبت حيّاً وميّتاً..)(40).

وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير.

وأوّل من صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً(41).

وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين، ثم أقبل المسلمون للصلاة عليه، فقال لهم الإمام: (لا يقوم عليه إمام منكم، هو إمامكم حيّاً وميّتاً)، فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلّون عليه صفاً واحداً ليس لهم إمام، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان وهو يقول:

(السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، اللّهم إنّا نشهد أنّه قد بلّغ ما اًنزل إليه لاُمّته، وجاهد في سبيل الله حتى أعزّ الله دينه وتمّت كلمته. اللّهم فاجعلنا ممّن يتّبع ما أنزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه..).

وكانت الجماهير تقول: آمين(42). وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات من دعاهم إلى الحق، وحرّرهم من خرافات الجاهلية وأوثانها، وأقام لهم دولة تدعو إلى أنصاف المظلوم، وردع الظالم، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس.

مواراة الجثمان المقدس

وبعد أن أفرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير، قام الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، ويقول:

(إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك، وإنّ المصاب بك لجليل، وإنّه قبلك وبعدك لجلل..)(43).

لقد مادت أركان العدل وانطوت ألوية الحق، فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام.

يتبع

الحيدرية
18-03-2008, 01:30 AM
فجيعة الزهراء

وكان أكثر أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وحبيبته فاطمة الزهراء، فقد أشرفت على الموت، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، وا نبيّ الرحمتاه، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع عنّا جبرئيل. اللّهم إلحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة)(44).

وقالت بذوب روحها:

(وا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه، وا أبتاه جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه وا أبتاه أجاب رباً دعاه..).

وأحاطت بالاُسرة النبوية موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيارات من الفزع والخوف؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وتر الأقربين والأبعدين فخافوا من انقضاض العرب عليهم، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

(لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) بات أهل بيته كأنّ لا سماء تظلّهم ولا أرض تقلّهم، لأنّه وتر الأقرب والأبعد..).

لقد عانت حفيدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) زينب عليها السلام وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليه من أبعاد، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها، وكان عمرها الشريف خمس سنين، وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة، فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه، وشاهدت أمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتى لحقت بالرفيق الأعلى.


في عهد الخلفاء

لا يستطيع أيّ كاتب مهما كان بارعاً في تصوير دقائق النفوس، وكشف أسرار المجتمع وأحداث التأريخ أن يصوّر بدقة عمق الكوارث والأوبئة التي داهمت الاًمّة الإسلامية بعد وفاة نبيّها العظيم، كما صوّرها القرآن الكريم، قال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم…)(1).

إنّه تصوير هائل للأزمات المفجعة والنكبات السود التي مُني بها العالم الإسلامي، إنه انقلاب على الأعقاب، وانسلاخ عن العقيدة الإسلامية، وتدمير لشريعة الله، فأيُّ زلزال مدمّر كهذا الزلزال الذي عصف بالاُمّة الإسلامية وأخلد لها الفتن والكوارث على امتداد التأريخ.

وكان من أقسى ما فجعت به الاُمّة إبعاد العترة الطاهرة عن المسرح السياسي وتحويل القيادة إلى غيرها، الأمر الذي نجم عنه فوز الاُمويين وغيرهم بالحكم، وإمعانهم بوحشية قاسية في ظلم العلويين ومطاردتهم، ومجزرة كربلاء كانت من النتائج المباشرة لصرف الخلافة عن أهل البيت(عليهم السّلام).

وعلى أيّ حال، فإنّا نعرض - بإيجاز- لبعض تلك الأحداث، والتي منها حكومة الخلفاء الذين عاصرتهم حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بالكشف عن حياتها وما عانته من كوارث وأهوال، وفيما يلي ذلك:

مؤتمر السقيفة

أمّا مؤتمر السقيفة فهو مصدر الفتنة الكبرى التي مُني بها المسلمون والتي كان من جرّائها الأحداث المروّعة التي رزئ بها أهل البيت، يقول الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء:

تــــا الله ما كربلاء لولا (سقيفتهم) ومثل هذا الفرع ذاك الأصل أنتجـه

ويقول بولس سلامة:

وتـــــوالـت تـــــحت السقـيفة أحـدا ث أثــــــارت كـــــوامـناً وميــــولا

نــــزعات تــــــفرقت كـغصون الـــ ــعـــوسج الخــــفيّ شائكـاً مدخولاً

لقد أسرع الأنصار إلى عقد مؤتمرهم في (سقيفة بني ساعدة)، لترشيح أحدهم لمنصب الخلافة، وإقامة حكومة تضمن مصالحهم وترعى شؤونهم، لقد عقدوا مؤتمرهم في وقت كان جثمان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يوارَ في مثواه الأخير، وأكبر الظنّ إنّما قاموا بهذه السرعة الخاطفة بذلك لأنهم خافوا من استيلاء المهاجرين على الحكم، فقد رأوا تحرّكهم السياسي في صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين وكراهيتهم له.

وعلى أي حال، فقد خطب سعد بن عبادة زعيم الخزرج في الأنصار، وكان منطق خطابه الإشادة بنضال الأنصار وجهادهم في نصرة الإسلام وقهر القوى المعادية لهم، فهم الذين حملوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروه في أيام محنته، فإذاً هم أوْلى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله) وأحقّ بمنصبه من غيرهم، كما حفل خطابه بالتنديد بالاُسر القرشية التي ناهضت النبي (صلّى الله عليه وآله) وناجزته الحرب حتى اضطر للهجرة إلى يثرب، فهم خصومه وأعداؤه ولا حقّ لهم بأيّ حالٍ في التدخل بشؤون الدولة ومصيرها. وقام زعيم آخر من الأنصار هو الحبّاب بن المنذر، فحذّر الأنصار من القرشييّن، وأهاب بهم أن يجعلوا لهم نصيباً في الحكم، قائلاً:

لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم..

وتحقّق تنبؤ الحبّاب، فإنّه لم يكن ينتهي حكم الخلفاء حتى آل الأمر إلى الاُمويّين فأمعنوا في إذلال الأنصار وإشاعة البؤس والفقر فيهم، وقد انتقم منهم معاوية كأشرّ وأقسى ما يكون الانتقام. ولمّا ولِيَ الأمر من بعده يزيد جهد في الوقيعة بهم، فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم لجيوشه في واقعة (الحرة) التي اُنتهكت فيها جميع ما حرّمه الله.

وعلى أيّ حال، فقد تجاهل سعد وغيره من الأنصار الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) الذي هو من النبيّ بمنزلة هارون من موسى، وأبو سبطيه، وباب مدينة علمه، وسيّد عترته. ولا نرى أيّ مبرر لسعد في إغضائه وتجاهله حق الإمام عليه السّلام، فقد فتح باب الشرّ على الاُمّة، وأخلد لها المصاعب والفتن على امتداد التأريخ.

يتبع مع مباغتة الأنصار

الحيدرية
29-03-2008, 04:53 PM
مباغتة الأنصار

وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة إذ خرج من مؤتمرهم عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار، وكانا من أولياء أبي بكر ومن أعضاء حزبه، وكانا يحقدان على سعد، فانطلقا مسرعَين إلى أبي بكر فأخبراه بالأمر، ففزع أبو بكر، واسرع ومعه عمر وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة وآخرون من المهاجرين(2)، فكبسوا الأنصار في ندوتهم، فذهل الأنصار وأسقط ما بأيديهم لأنّهم أحاطوا ندوتهم بسرّية وكتمان، وتغيّر لون سعد، فقد انهارت جميع مخطّطاته، وفشلت جميع تدابيره.

خطاب أبي بكر

واستغلّ أبو بكر الموقف، وأراد صاحبه عمر أن يفتح الحديث مع الأنصار، فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته، وهي لا تساعد في مثل هذا الموقف الملبّد الذي يجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسية والكلمات الناعمة لكسب الموقف، فبادر أبو بكر فخاطب الأنصار بكلمات معسولة وبسمات فيّاضة بالبشر، قائلاً:

نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين نصرتم الإسلام، وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، ونحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش، فلا تنفسوا على أخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعني: عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجراح -(3).

ولم يعرض هذا الخطاب إلى وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي هي أعظم كارثة مُني بها المسلمون، فكان الواجب أن يعزّي المسلمين بوفاة منقذهم ونبيّهم، كما أنّ الواجب يقضي بتأخير المؤتمر إلى بعد مواراة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتى يجتمع جميع المسلمين وينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم من شاؤوا.وشيء آخر في هذا الخطاب أنّه لم يمعن إلاّ بطلب الإمرة والسلطان، فقد طلب من الأنصار أن يتنازلوا عن الخلافة إلى المهاجرين، وأنّهم سينالون عوض ذلك الوزارة، إلاّ أنّه لمّا تمّ الأمر لأبي بكر أقصاهم ولم يمنحهم أيّ منصبٍ من مناصب الدولة.

وممّا يؤخذ على هذا الخطاب أنّه تجاهل بصورة كاملة أهل البيت الذين هم وديعة النبيّ في اُمّته، والثقل الأكبر فيها، فلم يشر إليهم أبو بكر بقليل ولا بكثير.

بيعة أبي بكر

وانبرى حزب أبي بكر إلى تأييده، فكان من أعظم المناصرين له عمر بن الخطاب، وسارع إلى بيعته مع بقية أعضاء حزبه خوفاً من تطوّر الأحداث، واشتدّ عمر في إرغام الناس على بيعة أبي بكر، وقد لعبت درته شوطاً في الميدان، وقد سمع الأنصار يقولون: قتلتم سعداً!، فجعل يقول بعنف: اقتلوه، قتله الله، فإنّه صاحب فتنة(4).

وبعدما تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة أقبل به حزبه يزفّونه زفاف العروس إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يشترك أبو بكر ولا أي فرد من حزبه في تشييع جثمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومواراته، فقد انشغلوا بالمُلك والسلطان وتدبير اُمورهم.

لقد أهمل في بيعة أبي بكر رأي العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم، فلم يُعنُ بها ولم يؤخذ رأيها، ومنذ ذلك واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات، وما كارثة كربلاء وغيرها من مآسي العترة الطاهرة إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة، حسبما نصّت عليه الوثائق التاريخية والدراسات العلمية.

امتناع الإمام عن البيعة

والتاع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من بيعة أبي بكر، واعتبرها تعدّياً صارخاً عليه، فقد كان محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير - على حدّ تعبيره -، وقد تخلف عن بيعة أبي بكر وأعلن معارضته لها، وقد شاع ذلك بين المسلمين، ومن يقرأ نهج البلاغة يجد فيه لوحات من تذمّره وأساه على ضياع حقّه.

إرغامه على البيعة

وأجمع أبو بكر وسائر أعضاء حزبه على إرغام الإمام على البيعة لأبي بكر وحمله بالقوّة عليها، فأرسلوا إليه شرطتهم، فكبسوا داره وأخرجوه منها بالقسر والقوّة، وجاءوا به إلى أبي بكر، فصاحوا به:

بايع أبا بكر…

فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض وحجّته الحاسمة، قائلاً:

(أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا اُبايعكم وأنتم أوْلى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً‍!

ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أوْلى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أوْلى برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون..).

وأعلن الإمام بهذا الخطاب الرائع أنّه أوْلى بمركز النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وأحق بخلافته من غيره، فهو أقرب الناس وألصق بالرسول (صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين الذين فازوا بالحكم لقربهم من النبيّ، فهو ابن عمّه وأبو سبطيه، ولا يملك أحد من القرب إلى النبيّ غيره.. وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجة والبرهان، فاندفع بعنفٍ قائلاً:

إنّك لست متروكاً حتى تبايع..

فزجره الإمام قائلاً: احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره، ويردده عليك غداّ...).

وكشف الإمام الوجه في اندفاع ابن الخطاب وتهالكه على نصرة أبي بكر، فأنّه يأمل أن ترجع إليه الخلافة والملك بعد أبي بكر.

وثار الإمام وهتف قائلاً: (والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه...).

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث، وخشي أن ترجع إلى المسلمين حوازب أحلامهم فيقصوه عن منصبه، فخاطب الإمام بناعم القول: إن لم تبايع فلا اُكرهك..

وانبرى أبو عبيدة بن الجراح وهو من أبرز حزب أبي بكر، فخاطب الإمام قائلاً:

يا بن عمّ، إنك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى إلاّ أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق، وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك..).

وليس في هذا القول إلاّ الخداع والتضليل فإن التقدّم في السن ليس له أي ترجيح في منصب الخلافة التي تتطلّب الطاقات الخلاّقة بما تحتاج إليه الاُمّة في الميادين السياسية والاقتصادية والقضائية، ولا يملك أحد من المسلمين ذلك غير الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

وأثارت مخادعة أبي عبيدة كوامن الألم في نفس الإمام، فانبرى يخاطب المهاجرين قائلاً:

الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه. فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الاُمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنّه لفينا، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بُعداً..(5). وحفلت هذه الكلمات بالصفات الرفيعة الماثلة في أهل بيت النبوة من الفقه بدين الله، والعلم بسنن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والإحاطة بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والسياسية، ولا تتوفر بعض هذه الصفات في غيرهم، ولو أنّ القوم استجابوا لنداء الإمام لجنّبوا العالم الإسلامي الكثير من المشكلات والأزمات ولكنّهم انسابوا وراء أطماعهم وشهواتهم وتهالكهم على الإمرة والسلطان.

وعلى أيّ حال، فقد رجع الإمام (عليه السّلام) إلى داره لم يبايع أبا بكر، وقد أحاطت به موجات من الأسى على ضياع حقّه وحرمان الاُمّة من قيادته، وقد التاعت سيّدة النساء زينب وغزاها الحزن على ما حلّ بأبيها من الآلام والكوارث، فقد رأته جالساً في بيته يساور الهموم والأحزان، وحوله اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وهي تبكي أباها وتندبه بأشجى ما تكون الندبة، وقد شاركت زوجها في مصابه على ضياع حقّه، ونهب مركزه ومقامه.

يتبع مع إجراءات صارمة

الحيدرية
29-03-2008, 04:54 PM
إجراءات صارمة

وقضت سياسة أبي بكر أن يقابل الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) بجميع الإجراءات الصارمة لأنّه الممثّل الوحيد للقوى المعارضة لحكومته، ومن بين تلك الوسائل التي سلكها أبو بكر:

1 - إسقاط الخمس:

أمّا الخمس فهو حق مفروض لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه القرآن الكريم، قال تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)(6)، وأجمع الرواة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أرحامه بسهم آخر منه، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى جواره، ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبيّ وسهم ذي القربى، ومنع بني هاشم من الخمس(7).

وبذلك فقد قضى على أهم مورد اقتصادي لهم، وقد أرسلت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) إلى أبي بكر تسأله أن يدفع إليها ما بقي من خمس (خيبر)، فأبى أن يدفع إليها شيئاً(8). وبذلك فقد ترك شبح الفقر على آل النبي، وحجب عنهم ما فرضه الله لهم.

2 - الاستيلاء على تركة النبيّ:

واستولى أبو بكر على جميع ما تركه الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بلغة العيش وحازه إلى بيت المال، وبذلك فقد فرض حصاراً اقتصادياً على آل الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى لا يتمكّنون من القيام بأيّ حركة ضده.

3 - تأميم فدك:

وأمّم أبو بكر (فدكاً) وصادرها من أهل البيت، ومنعهم من أخذ وارداتها،وقد ضيّق عليهم بذلك غاية التضييق. ومنع عنهم جميع وسائل العيش.

الزهراء مع أبي بكر

والتاعت بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبي بكر، فقد سدّ عليها جميع نوافذ الحياة الاقتصادية، فخرجت سلام الله عليها غضبى، فلاثت خمارها، واشتملت بجلباتها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى دخلت على أبي بكر وهو في جامع أبيها، وكان في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة فوقفت مفخرة الإسلام فأنّت أنّه أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس، فأمهلتهم حتى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه، وانحدرت في خطابها كالسيل، فلم يُسمع أخطب ولا أبلغ منها، وحسبها أنّها بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أفاض عليها بمكرمات نفسه، وغذّاها بحكمة وآدابه.

وتحدّثت في خطابها عن معارف الإسلام، وفلسفة تشريعاته، وعلل أحكامه، وعرضت إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها اُمم العالم وشعوب الأرض قبل أن يشرق عليها نور الإسلام، فقد غرقت الاُمم بالجهل والانحطاط خصوصاً (الجزيرة العربية) فقد كانت في أقصى مكان من الذّل والهوان، وكانت الأكثرية الساحقة تقتاد القِدَّ، وتشرب الطَّرْقَ، وترسف في قيود الفقر والبؤس إلى أن أنقذها الله بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فرفعها إلى واحات الحضارة وجعلها سادة الاُمم والشعوب، فما أعظم عائدته على العرب والمسلمين!

وعرضت سيدة نساء العالمين في خطبتها إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وعظيم جهاده في نصرة الإسلام، وذبّه عن حياض الدين، في حين أنّ المهاجرين من قريش بالخصوص كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين، لم يكن لهم أي ضلع في نصرة القضية الإسلامية والدفاع عنها. فلم يُؤثر عن أعلامهم أنّهم قتلوا مشركاً أو برزوا ببسالة وصمود إلى مقارعة الأقران في الحروب، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال، ويفرّون من القتال - على حدّ تعبيرها- وكانوا يتربّصون الدوائر بأهل بيت النبوة ويتوقعون بهم نزول الأحداث.

وأعربت مفخرة الإسلام في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُنِي به المسلمون من الزيغ والانحراف والاستجابة لدواعي الهوى والغرور وذلك بإقصائهم لأهل البيت عن مركز القيادة العامة، وتنبّأت عمّا سيحلّ بهم من الكوارث والخطوب التي تدع فيئهم حصيداً، وجمعهم بديداً من جرّاء إبعادهم لأهل بيت النبوة عن مقامهم الذي نصبهم فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثم عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقالت:

(وَأَنتُم تَزْعُمُونَ أَنْ لا إِرْثَ لِي مِن أَبِي، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنُونَ..وَيْهاً أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَاُغْلَبُ عِلى تُرَاثَ أَبِي..).

ثم وجهت خطابها إلى أبي بكر:(يَا بْنَ أبي قُحَافَةَ!! أَفِي كِتَابِ اللهِ أَن تَرِبَ أَبَاكَ وَلاَ أَرِثُ أَبِي؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً. أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ إِذْ يَقُولُ: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ).

وَقَال فِيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيى بن زَكَرِيّا، إِذْ يَقُولُ: 0فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَليّاً* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً).

وَقَالَ: (وَاُولُوا الأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ).

وَقَالَ: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ).

وَقالَ: (إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ).

وَزَعَمْتُمْ أَنْ لاَ حَظْوَةَ لِي وَلاَ إِرْثُ مِنْ أَبِي، وَلاَ رَحِمَ بَيْنَنَا أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بآيَةٍ أَخْرَجَ مِنْهَا أَبِي؟

أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَهْلَ مِلَّتَيْنِ لاَ يَتَوَارَثَانِ، أَوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؟ أَمْ أَنْتُم أَعْلَمُ بِخُصوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمِّي؟).

وبعدما ما أدلت بهذه الحجج الدامغة المدعمة بآيات من القرآن الكريم التي فنّدت فيها مزاعم أبي بكر من أنّ الأنبياء لا يورثون، ثم التفتت إليه فوجّهت إليه هذه الكلمات اللاذعة قائلةً:

فدُونَكها مَرْحُولَةً مَزْمُومَة تَكُونُ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، وَتَلْقَاكَ يَومَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَنِعْمَ الزَّعِيمُ مُحَمَّدُ، وَالمَوعِدُ الْقِيَامَةُ، وَعِنْدَ السَّاعَةِ يَخْسَرُ الْمُبْطلُونَ، ولِكُلِّ نَبأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، (مَن يَأتيهِ عَذَابُ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابُ مُقِيمُ).

ثم اتّجهت نحو فتيان المسلمين تستنهض هممهم، وتوقظ عزائمهم للمطالبة بحقها والثورة على الحكم القائم، قائلة:

(يَا مَعْشَرَ النَّقيبَةِ، وَأَعْضَادَ المِلَّةِ، وَحَضَنَةَ اٌلإِسْلاَمِ، مَا هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلاَمَتِي؟ أَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله): (الْمَرءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ)؟ لَسَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُم! وعَجْلاَنَ ذَا إهالَةً!

أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحمَّدُ؟ لًعَمْرِي، خَطبُ جَليلُ، إِسْتَوْسَعَ وَهْبُةُ، وَاسْتَنْهَرُ فَتْقُهُ، وَفُقِدَ رَاتِقُهُ، وَأَظْلَمتِ الأَرْضُ لِغَيبَتِهِ، واكْتأَبَتْ خِيرَةُ اللهِ لمُصِيبَتِهِ، وَخشَعَتِ الْجِبَالُ، وَأَكْدَتِ الآمَالُ، واُضِيعَ الْحَرِيمُ، وَأُزِيلَتِ الْحُرْمَةُ، فَتلك نَازِلَةُ أَعْلَنَ بِهَا كِتَابُ اللهِ فِي أَفْنِيَتِكُمْ، مُمْساكُمْ وَمُصْبِحِكُمْ، هِتافاَ هِتافاً: (وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرُّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).

وأخذت سيّدة النساء تحفّز الأنصار، وتذكّرهم بجهادهم المشرق في نصرة الإسلام وحماية مبادئه وأهدافه وكفاحهم لأعدائه القرشيّين، طالبة منهم الثورة ضد الحكم القائم وإرجاع الحق إلى عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلة:

(أَيهاً بَنِي قِيلَةَ(9) أَأُهْضَمُ تُرَاثَ أَبِي وَأَنْتُمْ بِمَرْأى مِنِّي وَمَسْمَعٍ وَمُنْتَدى وَمَجْمَعٍ، تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وَتَشْمَلُكُمُ الْخُبْرَةُ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعُدَّةِ وَالْعَدَدِ وَالأَدَاةِ وَالْقُوَةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاَحُ وَالْجُنَّةُ(10).تُوافِيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلاَ تُجِيبُونَ، وَتَأتِيكُمُ الصَّرخَةُ فَلاَ تُغِيثُونَ وَأَنتُمْ مَوصُوفُون بِالكِفاحِ، مَعْرُوفُونَ بِالخَيْرِ وَالصَّلاَحِ، وِالنُّخْبَةُ الَّتِي انتُخِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتِيرتْ لَنَا - أهل البيت - قَاتَلتُمُ اَلَعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَنَاطَحْتُمُ الأُمَمَ، وَكَافَحتُمُ البُهَمَ، فَلاَ نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُم فَتَأْتَمِرُونَ، حَتّى إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَى الإِسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيَّامِ، وَخَضَعَتْ نُعرَةُ الشِّركِ، وَسَكَنَت فَوْرَةُ الإِفْكِ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الْكُفْرِ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرَجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّينِ، فَأَنْى جرْتُمْ(11)بَعْدَ الْبَيَانِ، وَأَسْرَرتُمْ بَعْدَ الإِعْلاَنِ، وَنَكصْتُمْ بَعْدَ الإقْدَامِ، وَأَشرَكْتُمْ بَعْدَ الإِيمَانِ، بُؤسَاً لِقَوْمٍ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَونَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ولما رأت وهن الأنصار وتخاذلهم عن إجابة الحق، وجّهت لهم أعنف القول وأشد العتب قائلة لهم:

(ألا وَقَدْ قُلْتُ هذَا عَلى مَعْرِفَةٍ مِنِّي بِالْجِذْلَةِ الَّتِي خَامَرْتُكُمْ، وَالْغَدْرَةِ الَّتِي اسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّهَا فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَبَثَّةُ الصَّدْرِ، وَنَفْثَةُ الَغَيْظِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ، فَدُونَكُمُوهَا فَاحْتَقِبُوهَا دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، بَاقِيَةَ الْعَارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ، وَشَنَارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بـ(نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُؤْصَدَةَ) عَيْنِ اللهِ مَا تَفْعَلُونَ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)).

وَأَنَا إِبْنَةُ نّذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابُ شَدِيدُ، فَاعْمَلُوا إِنَّا عَامِلُونَ، (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(12).

وهذا أروع خطاب ثوري عرفه التأريخ الإسلامي، فقد وضعت فيه مفخرة الإسلام النقاط على الحروف، ووضعت المسلمين أمام الأمر الواقع، وكشفت لهم عمّا سيواجهونه من الويلات والكوارث والأزمات من جراء تخاذلهم عن نصرة الإسلام أمام هذه المحنة الحازبة، وقد وجلت القلوب وخشعت الأبصار، وأوشكت الثورة أن تحدث على أبي بكر ويقصى عن منصبه إلّا أنّه سيطر على الموقف بلباقة مذهلة فقد قابل بضعة الرسول بكل حفاوة وتكريم، وتصاغر أمامها، وأظهر لها أنّه لم يتقلّد منصب الحكم، ولم يتّخذ معها الإجراءات القاسية عن رأيه الخاص، وإنّما كان عن رأي المسلمين واتّفاقهم، متى ولا نعلم أنّه حتى استشار أحداً في تقمصه للخلافة، ومصادرته لتركة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأميمه لفدك وغيرها، مما أوجب التضييق الاقتصادي على العترة الطاهرة.

وعلى أي حال، فقد حفظت السيّدة زينب وهي في عهد الصبا هذا الخطاب الخالد، وهي إحدى رواته، وكان ذلك آية في نبوغها فقد روته بحرفيته، وكانت مع اُمّها حينما أدلت بهذا الخطاب الذي هو أحد الركائز المهمة في مذهب أهل البيت(عليهم السّلام)، وقد رجعت معها وهي تجرّ أذيال الخيبة، قد مزّق الأسى فؤادها فلم يرع أبو بكر مكانتها، ولم يستجب المسلمون لمطالبها، وقد استولت عليها الآلام والهموم على ما تُمنى به الاُمّة من الكوارث والأزمات من جراء إقصاء أهل البيت(عليهم السّلام) عن القيادة العامة للعالم الإسلامي.

يتبع مع اعتذار مرفوض

الحيدرية
05-04-2008, 07:37 PM
اعتذار مرفوض

وجهد أبو بكر وعمر على إرضاء زهراء الرسول وتطييب خاطرها على ما اقترفاه في حقها، فاستأذنا بالدخول عليها فأبت أن تأذن لهما، وعرضا على الإمام (عليه السّلام) رغبتهما الملحّة في مقابلة سيّدة النساء، فانطلق الإمام نحو الصدّيقة والتمس منها إجابتهما، فسمحت لهما بالدخول، فلمّا مثلا عندها أشاحت بوجهها عنهما، وقدّما إليها اعتذارهما، فقالت:

(أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعرفانه وتعملان به؟).

فأجابا: نعم.

فقالت: (نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟).

فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فانبرت حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي مغيظة محنقة فخاطبت أبا بكر وشاركت معه صاحبه قائلة:

(إنّي اُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيّ لأشكونكما إليه..).

وفزع أبو بكر وقال رافعاً عقيرته: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه ومن سخطك يا فاطمة.

ووجّهت إليه أعنف القول قائلة: (والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة اُصليها)(13).

وخرج أبو بكر ولم يظفر برضا زهراء الرسول (صلّى الله عليه وآله) وكان ذلك من أعظم الصدمات التي واجهها في أيام حكومته.

ومن الطبيعي أن عقيلة بني هاشم قد شاركت اُمها البتول في سخطها على أبي بكر، وعدم رضائها عنه.

مآسي البتول

وطافت موجات قاسية من الآلام والأحزان ببضعة الرسول ووديعته، فقد استغرق الأسى قلبها الرقيق المعذّب وغشيتها سُحب قاتمة من اللوعة والحزن على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تزور بلهفة جسده الطاهر فتطوف حوله وهي ذاهلة اللبّ منهدة الكيان فتلقي بنفسها عليه، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول:

مّـــــاذا عــــّلى مّــــــن شّمَّ تُربَةَ أَحمَـدٍ أَن لاَ يَـــــشم مـــــدى الــزمان غواليـا

صـــــبت عــــــلىّ مــــــصائب لو أنـها صــــبـت عـــــلـى الأيــــام صرن لياليا

قــــــل لـــــلمغيب تـــحت أطباق الثرى إن كنـــــت تـــــــسمع صرختي وندائيا

قـــــد كــــنت ذات حمى بــــــظل محمد لا أختشي ضـــــيمـاً وكـــــــان جمالـيا

فـــــاليوم أخـــــضع لــــلذليـل وأتـــقى ضـيمي وأدفــــــع ظـــــالـمي بـــردائيا

فـــــإذا بـــــكت قـــمرية فــــــي لـيلـهـا شجناُ عــــلى غـــــصن بكيـت صباحيا

فـــــلأجعلن الــــحزن بــــعدك مـؤنسي ولأجــــعلــنّ الـــدمع فـــــيك وشـــاحيا(14)

وحكت هذه الأبيات ما عانته زهراء الرسول من لوعة وشجون على فراق أبيها الذي استوعب حبّه عواطفها ومشاعرها، وقد بلغ من عظيم حزنها عليه أنّه لو صبّت مصائبها على الأيام لخلعت ضياءها ولبست السواد القاتم.

كما صوّرت هذه الأبيات الرقيقة مدى عزّتها وعظيم مكانتها في أيام أبيها سيّد الكائنات، فقد كانت من أعزّ وأمنع نساء المسلمين، ولكنها بعد فقد أبيها تنكّر لها أصحابه، وأجمعوا على هضمها والغضّ من شأنها حتى صارت تخضع للذليل، وتتقي الظالمين لها بردائها، إذ ليس عندها قوة تحميها ولم تكن تأوي إلى ركن شديد.

وقد خلدت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ووديعته إلى الأسى والحزن، وقد وجدت في البكاء راحة نفسية لها، وبلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصاب أبيها، وكان ممّن وسّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مثواه الأخير فقالت له: (هذا أنس بن مالك؟).

نعم، يا بنت رسول الله.

فانبرت وهي تلفظ قطعاً من قلبها المذاب قائلة:

(كيف طابت نفوسكم أن تحثّوا التراب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟)(15).

وغرق أنس في البكاء، وانصرف وقد نخب الأسى فؤاده. وبلغ من عظيم حزن الصدّيقة على أبيها أنّها كانت تطالب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يريها القميص الذي غُسِّل فيه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا جاء به إليها تأخذه بلهفة وتوسعه تقبيلاً وشمّاً لأنّها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه.

وخلدت زهراء الرسول إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل، وظل شبح أبيها يطاردها في كل فترة من حياتها القصيرة الأمد، وكانت ابنتها الصدّيقة الطاهرة زينب في حزن بهيم تنظر إلى اُمّها وقد أشرفت على الموت من كثرة البكاء على أبيها فكانت تشاركها في أحزانها وآلامها ولوعتها.

وثقل على أتباع أبي بكر بكاء الصدّيقة على أبيها فشكوا ذلك إلى الإمام أمير المؤمنين، وطلبوا منه أن يجعل لبكائها وقتاً خاصاً، فعرض الإمام عليها ذلك فأجابته، فكانت في نهارها تمضي إلى خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين وزينب فتجلس تحت شجرة من الأراك، وتأخذ باللوعة والبكاء على أبيها طيلة النهار فإذا أوشكت الشمس أن تغرب قفلت مع أبنائها إلى الدار، وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقلعوها فكانت تبكي في حرّ الشمس، فسارع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فبنى لها بيتاً سماه (بيت الأحزان)، وظل هذا البيت رمزاً لأساها وغضبها على القوم على مرّ العصور، ويقول الرواة إن الإمام قائم آل محمد(عليه السّلام) قال في هذا البيت:

أم تــــــراني اتـــــخذت لا وعــلاها بـــعد بــــيت الأحــزان بيت سرور

وكانت بضعة رسول الله وحبيبته مع أطفالها يمكثون طيلة النهار في ذلك البيت الحزين، وهي تناجي أباها وتندبه وتبكيه، فإذا جاء الليل أقبل الإمام (عليه السّلام) فأرجعها مع أطفالها إلى الدار.

واستولى الحزن على بضعة الرسول وذاب جسمها، وقد فتكت بها الأمراض فلازمت فراشها، ولم تتمكّن من النهوض والقيام، وكانت ابنتها العقيلة إلى جانبها تقوم بخدماتها ورعايتها، وبادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها فقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟

فرمقتهن بطرفها وأجابتهن بصوتٍ خافت مشفوع بالأسى والحسرات قائلة:

(أجدني كارهة لدنياكن، مسرورة لفراقكن، ألقى الله ورسوله بحسرات، فما حُفِظ لي الحق، ولا رعيت مني الذّمة، ولا قبلت الوصية، ولا عُرِفت الحرمة..)(16).

أجل لم يحفظ حقّها، ولم ترع ذمّتها، فقد أصرّ القوم على هضمها والتنكر لها، وانصرفن النسوة وقد غامت عيونهن بالدموع، وعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول وغضبها عليهم، وقد عرفوا مدى تقصيرهم في حقها..وهرعت بعض اُمّهات المؤمنين إلى عيادتها فقلن لها:

يا بنت رسول الله، صيري لنا في حضور غسلك حظاً(17).

فلم تجبهن إلى ذلك، وقالت: (لا حاجة لي في حضوركن).

إلى جنة المأوى

وذوت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما تذوي الأزهار، ومشى إليها الموت سريعاً وهي في شبابها الغضّ الإهاب، وبدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة التي استهانت بها، وطلبت حضور ابن عمّها أمير المؤمنين عليه السّلام، فعهدت إليه بوصيتها، وأهم ما فيها:

1 - أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم.

2 - أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين هضموها وظلموها فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها على حدّ تعبيرها.

3 - أن يعفي موضع قبرها ويخفيه ليكون رمزاً لغضبها على القوم غير قابل للتأويل والتصحيح على ممر الأجيال الصاعدة. وضمن لها الإمام جميع ما عهدت به إليه، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون.

وطلبت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أسماء بنت عميس أن يصنع لها سرير يواري جسدها الطاهر، فقد كانت العادة بوضع الأموات على لوحة تبدو فيها أجسامهم، وكرهت ذلك سيّدة النساء، فعملت لها أسماء سريراً يستر من فيه كانت قد رأته حينما كانت في الحبشة، فلما نظرت إليه ابتسمت وهي أول ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى(18).

وفي آخر يوم من حياة الصدّيقة أصبحت وقد ظهر عليها بعض التحسّن، وبدا عليها الفرح والسرور فقد علمت أن هذا اليوم هو خاتمة حياتها وفيه تلتحق بأبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة، وعمدت الصدّيقة إلى أطفالها فغسلتهم وصنعت لهم من الطعام ما يكفيهم يومهم، ثم أمرت ولديها الحسن والحسين أن يخرجا لزيارة قبر جدهما ولا يشاهدا وفاتها، وألقت عليهما وعلى بنتها زينب نظرة الوداع وقلبها الزاكي يذوب ألماً وحزناً، وخرج الحسنان وقد هاما في تيارات من الهواجس وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان.

والتفتت وديعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى أسماء بنت عميس، وكانت تتولّى تمريضها وخدمتها، فقالت لها: (يا اُمّاه).

نعم يا حبيبة رسول الله.

(اسكبي لي غسلاً).

فسارعت أسماء وأتتها بالماء فاغتسلت فيه، وقالت لها: (ايتيني بثيابي الجدد).

فأحضرتها لها، وقالت لها: (اجعلي فراشي في وسط البيت).

وذعرت أسماء، وعلمت أن الموت قد دنا من وديعة النبيّ، وصنعت لها ما أرادت فاضطجعت في فراشها، واستقبلت القبلة ونادت أسماء قائلة بصوت خافت: (يا اُمّاه، إني مقبوضة الآن، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد).

وأخذت تتلو آيات من القرآن الكريم حتى صعدت روحها الطاهرة إلى الله تحفّها ملائكة الرحمن، ويستقبلها أبوها التي كرهت الحياة من بعده.

لقد سمت تلك الروح إلى جنان الخلد فأشرقت الآخرة بقدومها، وأظلمت الأرض لفقدها، فما أضلّت سماء الدنيا مثلها في قداستها وطهرها، وقد انقطع بموتها آخر من كان في الدنيا من نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانت زينب إلى جانب اُمّها وقد رأتها جثة هامدة قد انقطعت عنها الحياة فذابت أسى، وعجّت بالبكاء والعويل.

وقفل الحسنان من مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الدار فلم يجدا اُمّهما فيها فبادرا يسألان أسماء قائلين: (أين اُمنّا؟).

فأجابتهما وهي غارقة في البكاء قائلة:

يا سيّدي إنّ اُمّكما قد ماتت فأخبرا بذلك أباكما.

وكانت هذه المفاجأة كالصاعقة فهرعا إلى جثمان اُمّهما، فوقع عليها الحسن وهو يقول:

(يا اُمّاه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني..).

وألقى الحسين بنفسه وهو يعجّ بالبكاء قائلاً: (يا اًمّاه أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي..).

وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً وتواسيهما بمصابهما الأليم، وطلبت منهما أن يخبرا أباهما بموت سيّدة النساء وسارعا نحو مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد علا صوتهما بالبكاء فاستقبلهما المسلمون قائلين: ما يبكيكما يا بْني رسول الله، لعلّكما نظرتما قبر جدكما فبكيتما.

فأجابا: (أوَليس قد ماتت اُمّنا فاطمة!).

وهزّ النبأ المؤلم مشاعرهم، فقد ندموا على تقصيرهم تجاه بضعة الرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد ماتت وهي ساخطة عليهم لأنّهم لم يحفظوا مكانتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولمّا علم الإمام بموت الصدّيقة تصدّع قلبه وودّ مفارقة الحياة، ورفع صوته قائلاً:

(بمن العزاء يا بنت محمّد، كنت بك أتعزّى، ففيم العزاء من بعدك..).

وخفّ مسرعاً نحو البيت وهو يذرف أحرّ الدموع، وألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يقول:

لكـــــل اجـــــتماع من خليلين فرقة وكل الــــذي دون الفـــــراق قــليل

وإن افتـــــقادي فـــــاطماً بعد أحمد دلـــيل عـــلى أن لا يــــــدوم خليل

وكانت العقيلة زينب إلى جانبها أُمّها وهي تعجّ بالبكاء قد ذاب قلبها فقد فقدت جميع آمالها، وليس شيء أوجع على الطفل من فراق اُمّه.

وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام، وقد ساد فيهم وجوم رهيب، وعهد الإمام إلى سلمان الفارسي أن يخبر الجماهير بأن مواراة جثمان بضعة الرسول قد اُجّل هذه العشية فقفلوا إلى منازلهم، وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الإمام لتشاهد جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فحجبتها أسماء ومنعتها من الدخول قائلة: قد عهدت إليّ أن لا يدخل عليها أحد(19).

ولمّا مضى شطر من الليل قام الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فغسّل الجسد الطاهر، ومعه الحسنان وأسماء وزينب وهي تنظر إلى جثمان اُمّها وقد نخب الحزن قلبها، وتبكي عليها كأقسى وأمرّ ما يكون البكاء، وبعد الفراغ من الغسل أدرجها في أكفانها، ودعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان اُمّهم ليلقوا عليها نظرة الوداع، فألقوا بنفوسهم على جثمان اُمّهم وهم يوسعونها تقبيلاً وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم، وبعد انتهائهم من الوداع عقد الإمام عليها الرداء، ولمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل قام فصلى على الجسد الطيب، وعهد إلى من كان معه من خلّص صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمثال سلمان الفارسي وبني هاشم فحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير، وأودعها في قبرها، وأهال عليها التراب، وعفى موضع قبرها ليكون دليلاً حاسماً على غضبها ونقمتها على من غصب حقها، ووقف الإمام الثاكل الحزين على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، وقد طافت به موجات من الحزين والألم القاسي، فأخذ يؤبّن زهراء الرسول بهذه الكلمات التي تحكي لوعته وأساه على هذا الرزء القاصم وقد وجّه خطابه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعزّيه قائلاً:

(السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك السريعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسّهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودعٍ لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن اُقم فلا عن سوء ظنٍ بما وعد الله الصابرين..)(20).

وحكت هذه الكلمات الحزن العميق والألم الممض الذي في نفس الإمام، فقد أعلن شكواه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على ما منيت به حبيبته من الخطوب والنكبات، ويطلب منه أن يلحّ في السؤال منها لتخبره بما جرى عليها من الظلم في الفترة القصيرة التي عاشتها بعده.

كما أعلن الإمام عن أساه وشجاه على فقده لبضعة الرسول، فهو في حزن دائم وليل مسهد، لا تنطفئ عنه نار اللوعة عليها حتى يلتحق إلى جوار الله، وإنّه إذ ينصرف عن قبرها المقدّس فليس ذلك عن سأم ولا عن ملالة وكراهية، ولكن استجابة لتعاليم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر، ولولا ذلك لأقام عنده ولا يريم عنه.

وعاد الإمام إلى داره بعد أن وارى جثمان سيّدة نساء العالمين في مثواها الأخير، وقد نخب الحزن فؤاده ينظر إلى أطفاله وهم يبكون اُمّهم أمّر البكاء وأشجاه خصوصاً العقيلة زينب فكانت تندب اُمّها بذوب روحها تبكي عليها صباحاً ومساءً قد خلدت إلى الأسى والحزن.

لقد قطعت عقيلة بني هاشم دور طفولتها الحزينة وقد طافت بها الآلام القاسية والرزايا الموجعة، فقد فقدت جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يفيض عليها بعطفه وحنانه، ولم تمض بعد وفاته إلاّ أيام يسيرة حتى فقدت اُمّها الرؤوم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغضّ الأهاب، فقد صبّت عليها الكوارث والمصائب، والتي كان من أقساها جحد القوم لحقّها وإجماعهم على هضمها وهي ابنة نبيّهم الذي بر بدينهم ودنياهم.

لقد وعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي في سنّها الباكر الأهداف الأساسية التي دعت القوم إلى هضم اُمّها وجحد حقوقها وإقصاء أبيها عن قيادة الاُمّة، كل ذلك طمعاً بالحكم والظفر بالإمرة والسلطان.


يتبع مع وفاة ابي بكر

الحيدرية
05-04-2008, 07:37 PM
وفاة أبي بكر

ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه، وقد قلّد صاحبة عمر شؤون الخلافة، وقد لاقى معارضة شديدة من أعلام الصحابة كان من بينهم طلحة، فقد قال له:

ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً، تفرق منه النفوس، وتنفض منه القلوب(21).

وسكت أبو بكر فاندفع طلحة يشجب عهده لعمر قائلاً:

يا خليفة رسول الله، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يده، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة.

وسارع أكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر وهم يعلنون رفضهم وسخطهم وكراهيتهم لخلافة عمر قائلين: نراك استخلفت علينا عمراً وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا ولّيت عنّا، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك، فما أنت قائل.

فأجابهم أبو بكر: لئن سألني الله لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم من نفسي(22).

وكان الأجدر به أن يستجيب لعواطف أكثر المسلمين ورغباتهم إلاّ أنّه لم يحفل بهم، وأقام صاحبه خليفة من بعده، وتوفّي أبو بكر وانتهت بذلك خلافته القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة كان من بينها معاملة العترة الطاهرة التي هي وديعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في أمّته كأشخاص عاديّين فقد جرّد عنها هالة التقديس الذي أضفاه عليها النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، كما فتحت الباب للحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلم آل البيت والإمعان في قتلهم تحت كل حجر ومدر، ولعلّ أقسى ما جرى عليهم من الكوارث فاجعة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان، فقد استشهد الإمام الحسين ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصورة مروّعة ومُثّل بجثمانه المقدّس بوحشية لم يعهد لها مثيل، وسبيت عائلته ومعها حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم من كربلاء إلى الشام، كل هذه الرزايا كانت ناجمة عن إقصاء أهل البيت عن مركز القيادة العامة للمسلمين.


في عهد عمر

وتولّى عمر بعد وفاة أبي بكر شؤون الدولة الإسلامية، وقد قبض على الحكم بيد من حديد، وساس البلاد بعنفٍ حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة، فإنّ درته - فيما يقول المؤرخون - كانت أهيب من سيف الحجاج، حتى أن ابن عباس مع قربه للنبي (صلّى الله عليه وآله) ومكانته العلمية لم يستطع أن يجهر برأيه في حلّية المتعة إلاّ بعد وفاته، كما تحاماه أهله وعياله فلم يستطع أحد منهم أن يجهر برأيه أو يفرض إرادته عليه.

وعلى أي حال فقد نهج عمر في سياسته منهجاً خاصاً لا يتّفق في كثير من بنودها مع سياسة أبي بكر، خصوصاً في السياسة المالية، فقد كان السائد في سياسة أبي بكر المساواة بين المسلمين إلاّ أنّ عمر عدل عنها، وميّز بعض المسلمين على بعض، ففضّل العرب على الموالي، وقريشاً على سائر العرب، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين


يتبع مع اعتزال الإمام

عشق فاطمي
05-04-2008, 09:28 PM
موضوع حلو
يسلموو اختي

وننتظر البقيه

الحيدرية
11-04-2008, 03:19 PM
مرورك اسعدني جدا

الحيدرية
11-04-2008, 05:00 PM
اعتزال الإمام

واعتزل الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) عن الحياة الاجتماعية والسياسية طيلة خلافة عمر كما اعتزل في أيام أبي بكر، وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير على ضياع حقه وسلب تراثه، فقد جهد القوم على الغضّ من شأنه، وعزله عن جميع ما يتعلّق بأمر الدولة، حتى ألصق خده بالتراب - على حد تعبير بعض المؤرخين-، يقول محمد بن سليمان في أجوبته عن أسئلة جعفر بن مكي: إنّ عليّاً وضعه الأولون - يعني الشيخين- واسقطاه وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً منسياً(24).

وقد صار جليس بيته تساوره الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسّد الأرق، ويتجرّع الغصص، قد كظم غيظه، وأسلم أمره إلى الله.

وانطوت نفوس أبنائه على حزن لاذع وأسىً عميق على عمر، فقد روى المؤرخون أن الحسين خفّ إلى عمر وكان على المنبر يخطب فصاح به: (انزل، انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك..).

وبهت عمر، واستولت عليه الحيرة، وراح يقول: صدقت لم يكن لأبي منبر.

وأخذه فأجلسه إلى جنبه وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً: من علّمك؟

(والله ما علّمني أحد).

شعور طافح بالأسى والألم انبعث عن إلهام وعبقرية، ورأى الإمام الحسين(عليه السّلام) منبر جدّه الملهم الأوّل لقضايا الفكر الإنساني وأنّه لا يليق أن يرقاه غير أبيه باب مدينة علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورائد العلم والحكمة في دنيا الإسلام.

وعلى أي حال فقد كان هذا الشعور سائداً عند ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يقتصر على الإمام الحسين وإنّما كان شاملاً للعقيلة زينب كما يدلّل على ذلك خطابها الرائع في البلاط الاُموي، فقد قالت ليزيد: (وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين)، وهذه الكلمات صريحة فيما ذكرناه.

وقد بحثنا عن شؤون عمر وأيام حكومته في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، فلا نعيد تلك البحوث.

اغتيال عمر

وبقي عمر على دست الحكم يتصرّف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله، وكان فيما يقول المؤرخون شديد البغض والكراهية للفرس، يبغضهم ويبغضونه، فقد حظر عليهم دخول يثرب إلاّ من كان سنّه دون البلوغ(25). وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد، وأفتى بعدم إرثهم إلاّ من ولد منهم في بلاد العرب(26)، وكان يعبر عنه بالعلوج(27).

وقد قام باغتياله أبو لؤلؤة وهو فارسي، أمّا السبب في اغتياله له فهو أنّه كان فتى متحمّساً لوطنه واُمّته، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس وإذلالهم، وقد خفّ إليه يشكو ممّا ألمّ به من ضيق وجهد من جراء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج، وكان مولى له، فزجره عمر وصاح به:

ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها.

وألهبت هذه الكلمات قلبه فأضمر له الشر، وزاد في حنقه عليه أنّه اجتاز على عمر فسخر منه وقال له: بلغني أنّك تقول: لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت.

ولذعته هذه السخرية فخاطب عمر: لأصنعن لك رحى يتحدّث الناس بها.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(28). فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(29)، وهي التي قضت عليه، ثم هجم على من في المسجد فطعن أحد عشر رجلاً، وعمد إلى نفسه فانتحر(30)، وحمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً، فقال لمن حوله: من طعنني؟

غلام المغيرة.

ألم أقل لكم: لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً فغلبتموني(31).

وأحضر أهله له طبيباً فقال له: أيّ الشراب أحبّ إليك؟

النبيذ.

فسقوه منه فخرج من بعض طعناته صديداً، ثم سقوه لبناً فخرج من بعض طعناته، فيئس منه الطبيب، وقال له: لا أرى أن تمسي

الحيدرية
11-04-2008, 05:01 PM
الشورى

ولمّا أيقن عمر بدنوّ الأجل المحتوم منه أخذ يطيل التفكير فيمن يتولّى شؤون الحكم من بعده، وقد تذكّر أعضاء حزبه الذين شاركوه في تمهيد الحكم لأبي بكر، فأخذ يبدي حسراته عليهم لأنّهم جميعاً قد اقتطعتهم المنية، فقال بأسى وأسف:

لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه الاُمّة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله تعالى.

لقد استعرض الأموات، وتمنّى أن يقلّدهم الحكم ولم يعرض لسيّد العترة الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) ولا للصفوة الطاهرة من صحابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب، ولا لأبي ذرّ، ولا لرؤساء الأنصار من الذين ساهموا في بناء الإسلام واستشهد أبناؤهم في سبيله.

لقد تمنّى حضور أبي عبيدة وسالم ليقلّدهما منصب رئاسة الدولة، مع العلم أنّهما لم يكن لهما أية سابقة تُذكر في خدمة الإسلام.

لقد رأى عمر أن يجعلها شورى بين المسلمين وانتخب من يمثلهم، وهم ستة:

1 - الإمام أمير المؤمنين

2 - عثمان بن عفان الاُموي.

3 - طلحة.

4 - عبد الرحمن بن عوف.

5 - الزبير.

6 - سعد بن أبي وقاص.

وقد اختار عمر هؤلاء النفر لصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين، فقد كان معظم أعضائها من المنحرفين عن الإمام والموالين لبني اُميّة، ولم يكن مع الإمام سوى الزبير، وهو لا يغني شيئاً، وقد جمع عمر أعضاء الشورى، وقدم في كلّ واحد منهم سوى الإمام فانصرف عنه، فقال عمر لمن حضر عنده:

والله إني لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء.

فقالوا له: من هو؟.

هذا المولي من بينكم.

ما يمنعك من ذلك؟.

ليس إلى ذلك من سبيل(33).

ودعا عمر بأبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى فقال له:

يا أبا طلحة، إن الله أعزّ بكم الإسلام فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، والتفت إلى المقداد فعهد إليه بمثل ما عهد إلى أبي طلحة ثم قال له:

إذا اتفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقهما، وإن اتّفق ثلاثة على رجل ورضي ثلاثة منهم برجلٍ آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس.

والتاع الإمام وعرف أنّها مكيدة دبّرت ضدّه، فقد قال لعمّه العباس:

(يا عمّ، لقد عدلت عنّا).

وسارع العباس قائلاً: من أعلمك بذلك؟.

وكشف الإمام الغطاء عمّا دبّره عمر ضدّه قائلاً:

(لقد قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، ثم قال: كونوا مع عبد الرحمن وسعد، لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر لعثمان، وهم لا يختلفون، فإمّا أن يولّيها عبد الرحمن عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن).

وصدق تفرّس الإمام، فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثاراً لمصالحه، وابتغاءً لرجوعها إليه من بعده.

إنّ أدنى تأمل في وضع الشورى يتّضح منه صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، ووضعها عند القوى المنحرفة عنه.

وعلى أي حال فإنّ الشورى بأسلوبها الهزيل، قد ألقت الاُمّة في شرّ عظيم، وفرّقت كلمتها، وأشاعت الطمع والتهالك على الحكم والسلطان بين أبنائها، وقد أعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان، فقد قال لأبي الحصين:

بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً فأخبرني عن شيء أسألك عنه.

سلني عمّا بدا لك.

أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملأهم وخالف بيتهم؟.

قتل الناس عثمان.

ما صنعت شيئاً.

مسير عليّ إليك وقتاله إياك.

ما صنعت شيئاً

مسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم.

ما صنعت شيئاً.

ما عندي غير هذا.

وطفق معاوية يبيّن أسباب الخلاف والفرقة بين المسلمين قائلاً:

أنا اُخبرك أنّه لم يشتّت بين المسلمين، ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر.

وأضاف يقول:

ثم جعلها - عمر - شورى بين ستّة نفر، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه(34).

لقد شاعت الأطماع السياسية بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد.

وعلى أي حال فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، وقد ألمحنا أليها في هذه البحوث؛ وذلك لأنّها تلقي الأضواء على الحياة الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم والتي أدت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كل كائن حيّ.


يتبع مع انتخابات عثمان وحكومته

الحيدرية
11-04-2008, 05:02 PM
انتخابات عثمان وحكومته


واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين، وكثر الجدل فيما بينهم، فانبرى الإمام أمير المؤمنين فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين قائلاً:

(لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ وصلة رحم وعائدة كرم، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف، وتخالف منه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال وشيعة لأهل الجهالة).

ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته، فقد استجابوا لعواطفهم، وكان الاُمويون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان.

وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعّدهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) لأنه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة، ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف، وأصبح رأيه هو الفيصل لأن عمر وضع ثقته به، وكان رأيه مع عثمان لأنّه صهره وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان؛ لأنه يحقّق رغباتهم وأطماعهم، وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار الإمام أمير المؤمنين وعثمان بن عفان، فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم:

أيّها الناس، إن الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم فأشيروا عليّ.

وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً:

إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً.

وأيد المقداد مقالة صاحبه عمار فقال:

(صدق عمار إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا..

وشجبت الاُسر القرشية المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار، ورشحت عميد الاُمويين عثمان بن عفان، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً:

إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان.

وكأن شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وناهضت دعوته وعذّبت أنصاره حتى هرب منها، وتابعته إلى يثرب بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه، ولكن الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم، ونصر نبيّه العظيم، ولولا سماحة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة، ولكنّه عفا عنهم، وجعلهم من الطلقاء.

وعلى أي حال فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً:

إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.

وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً:

متى كنت تنصح للمسلمين.

وصدق عمار فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد أمر بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة(35).

واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويين، وانبرى ابن الإسلام البار عمار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً:

أيّها الناس، إن الله أكرمنا بنبيّه، وأعزنا بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟

وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً:

لقد عدوت طورك يا بن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها.

وطفحت الروح الجاهلية على هذه الكلمات، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل، فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام، فأيّ حق لها في خلافة المسلمين، وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين: أبت قريش أن تجتمع النبوة والإمامة في بيت واحد.

إن أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء الذين أعزهم الله بدينه، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب.

وعلى أي حال فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلامية وبين القرشيّين، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبوية بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له:

يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس.

والتفت عبد الرحمن إلى الإمام فقال له:

هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟.

فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً:

(بل على كتاب الله وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي).

إن ابن عوف يعلم علماً جازماُ أن الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين ولا يحفل بها، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه.

ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط، ثم خالفه، ولكنه سلام الله عليه في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف.

وعلى أي حال فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد، فصفق بكفّه على يده وقال له:

اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.

والتاع الإمام فخاطب ابن عوف:

(والله ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه، دقّ الله بينكما عطر منشم).

لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم:

(ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون).

ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده:

يا عليّ، لا تجعل على نفسك سبيلاً.

وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول: (سيبلغ الكتاب أجله..).

والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف:

يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون.

وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً:

تالله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! وا عجباً لقريش لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أنقى منه، لو أجد أعواناً.

وصاح به عبد الرحمن: اتّق الله يا مقداد، فإنّي خائف عليك الفتنة.

وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوة ومنحها لبني اُميّة، وقد رأت عقيلة الوحي السيّدة زينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها، وإنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي، وإشاعة الخير والهدى بين الناس.

لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين وحجبت الاُسرة النبوية عن القيادة العامة للعالم الإسلامي، وسلّطت عليهم شرار خلق الله، فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم، وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي - من دون شك - من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة فإنهما الأساس لكل ما لحق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) من الكوارث والخطوب.

حكومة عثمان


وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط، وأخذوا يتصرفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسية والاقتصادية، فقد كان بمعزل عنها، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ ابن الوزغ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل، وذلك لخبثه وسوء سريرته، فكان وزيره ومستشاره.

وقد هام عثمان بحبّ اُسرته، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول: لو كانت مفاتيح الجنة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(36).

وقد أسند مناصب الدولة لهم، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلامية، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي، وقد عرضنا في بعض كتبنا(37) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته، كما عرض لها الحجّة الأميني والدكتور طه حسين والعقّاد وغيرهم، وقد أدت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلامية.

الجبهة المعارضة


ونقمت على عثمان، وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام وفي طليعتهم:

1 - أبو ذرّ الغفاري.

2 - عمّار بن ياسر.

3 - السيّدة عائشة.

4 - طلحة.

5 - الزبير.

6 - عبد الرحمن بن عوف.

7 - عبد الله بن مسعود.

وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه، فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام، ثمّ نفاه إلى الربذة، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقومات الحياة، وقد أنهكه الجوع حتى توفي غريباً جائعاً مظلوماً، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وقطع عنه مرتبة فلم يسعفه شيء حتى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها، كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتى أصابه فتق واُغمي عليه.

وقد رفعت السيّدة عائشة قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي تقول: هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته، كما أفتت بحلّية قتله فقالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت، وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلامية، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من عثمان وبطانته، فخفتّ بعض الكتائب العسكرية فزحفت إلى يثرب، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه أو الاستقالة من منصبه، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم وهي إقصاء بني اُميّة إلّا أنّه خان بوعده، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمن استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب.

وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب، وعرضوا عليه رسائله، طالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه، فلم يستجب لهم، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب استهانة به، ولم يسمحوا بمواراته إلّا أنّ الإمام أمير المؤمنين توسط في دفنه فاستجاب له الثوار على كره فدفنوه في حش كوكب.

لقد انتهت حكومة عثمان، وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن، وألقتهم في شر عظيم، فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسية فراحت تطالب الإمام بدمه، وهي التي أفتت بقتله وكفره، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه.

وعلى أي حال فقد رأت حفيدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسية فكان لها أعمق الأثر في نفسها، فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رزئت فيها السيّدة زينب، فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال.

حكومة الإمام


وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين وهم يهتفون بحياته، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير، فهو ابن عمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأبو سبطيه، ومن كان منه بمنزل هارون من موسى، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه، وليس في المسلمين من يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم، ولم يستجب لهم لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسية، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشية التي تريد السيطرة على السلطة، وإخضاعها لرغباتها الخاصة، فقال(عليه السّلام) للثوار:

(لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به..).

فهتفوا بلسان واحد: ما نختار غيرك.

وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام للمسلمين، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وأحاطوا به رافعين عقيرتهم: البيعة.. البيعة..

فامتنع الإمام من إجابتهم، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين:

أما ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من أبناء القرى.

فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً: (دعوني، والتمسوا غيري..).

ثم أعرب لهم الإمام عما ستعانيه الاُمة من الأزمات قائلاً:

(أيها الناس، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب، ولا تثبت له العقول..).

لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض، فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلامية، فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم، وإنهم حتماً سيقاومون كل من يريد الإصلاح الاجتماعي، فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم.

ثم عرض الإمام على القوات المسلحة، وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً:

(إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه..).

واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين: ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك.

وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم، فأقبل الإمام فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس، وكان من جملة خطابه:

(أيها الناس، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس، وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم وإلاّ فلا آخذ على أحد..).

وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين:

نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.

وطفق الإمام قائلاً: (اللّهمّ اشهد عليهم..).

وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه، وأوّل من بايعه طلحة فبايعه

بيده الشلّاء التي سرعان ما نكث بها عهد الله فتطيّر منها الإمام وقال:

(ما أخلفه أن ينكث..)(38).

ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بــيعته، وبايعته القـــوات العسكرية، كما بايعه من بقي من أهل بدر والـــمهاجرين والأنصار كافة(39)، ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا ووصف الإمام (عليه السّلام) مدى سرورهم بقوله:

(وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب..).

لقد ابتهج المسلمون، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلامية بخلافة الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) رائد العدالة الاجتماعية، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم، القائل:

(أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش).

الحيدرية
17-04-2008, 01:57 PM
وجوم القرشيين


واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب، كما استقبلوا نبوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ الروح الجاهلية بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحق لم تزل ماثلة فيهم ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أي شيء.

وقريش تعرف الإمام جيداً فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه، ومحق كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه، وقد خفّ إليه الاُمويّون، وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام:

إنّك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأمّا مروان فشتمت أباه، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه. فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا، وتقتل صاحبنا.

فرد الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحق قائلاً:

(أما ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحق وتركم، وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله، وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه، فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم)(40).

إن الاُمويّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحق والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له.

وعلى أي حال فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام(عليه السّلام) وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء، لقد أيقنوا أن الإمام سيعاملهم معاملة عادية، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين، وقد كان سيء الظنّ بهم، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله:

(ما لي ولقريش لقد قاتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، والله لابقرنّ الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فليضج ضجيجها..).

لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم، وإلى عدي اُخرى، وإلى بني اُمية ثالثة، وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين.

إجراءات حاسمة


وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعية بإجراءات حاسمة ضد الحكم المباد كان منها:

1 - مصادرة الأموال المنهوبة:

وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط لأنّها أخذت بغير وجه مشروع، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه، وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها:

ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه، كما تقشّر عن العصا لحاها..

وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض، فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام.

2- عزل الولاة:

وقام رائد العدالة الاجتماعية بعزل ولاة عثمان لأنّهم أظهروا الجور والفساد في الأرض، فقد عزل معاوية بن هند، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية فأبى وامتنع من المداهنة في دينه، وكيف يبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوتهم.

وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان، ولم يبق واحداً منهم والياُ على قطر من الأقطار.

3- المساواة بين المسلمين:

وأعلن الإمام(عليه السّلام) المساواة العادلة بين جميع المسلمين، مساواة في العطاء ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعية، وقد عوتب على مساواته في العطاء، فأجاب:

(أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنّما المال مال الله! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله…).

وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه، فطبق العدل ونشر المساواة، فلم يؤثر أي أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم، ولم يمنحهم أي امتياز في دولته، وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين فتناولت منه شيئاً فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال، فقال له أصحابه:

يا أمير المؤمنين، إن لها فيه حقّاً..

فأنكر عليهم ذلك وقال:

(إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء)(41).

لقد تحرج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرج وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً، فلم يرق الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ.

على خطة العدل والشرف غذّى أبناءه، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء.


التمرّد على حكومة الإمام

وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحق والعدالة في دنيا الإسلام، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه، ويسير وفق مخططاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم، ومنحهم الامتيازات الخاصة، فأبى(عليه السّلام) إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن، ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد، وهم:

طلحة والزبير


وبايع طلحة والزبير الإمام أمير المؤمنين، وانعقدت بيعته في أعناقهما، ولكن الأطماع السياسية والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد، وقد خفّا إلى الإمام(عليه السّلام) وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام فقالا للإمام:

هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟

فأسرع الإمام قائلاً:

(نعم على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان..).

فرفضا ذلك، وقالا: لا، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر.

فرمقهما الإمام بطرفه، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً:

(لا، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة، والعون على العجز والأولاد).

لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم، وقاما مغضبين، فقال الزبير في ملأ من قريش: هذا جزاؤنا من عليّ، قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب، وسبّبنا له القتل، وهو جالس في بيته، وكفي الأمر، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا…

وقال طلحة: ما اللوم إلّا أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(1) وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا..

والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم، ولو عرفاه ما نازعاه، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته، وانتهى حديثهما إلى الإمام فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له: (بلغك قول الرجلين..).

نعم.

(أرى أنّهما أحبّا الولاية فولِّ البصرة الزبير، وولِّ طلحة الكوفة..).

ولم يرتض الإمام رأي ابن عباس، فقال مفنّداً لرأيه:

(ويحك إنّ العراقين - البصرة والكوفة- بهما الرجال والأموال، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملاً أحداً لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي..).

لقد كان الإمام عالماً بأطماعهما، وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الامرة والسلطان، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة.

ولمّا علم طلحة والزبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين: ائذن لنا يا أمير المؤمنين...

(إلى أين؟).

نريد العمرة.

فرمقهما الإمام بطرفه، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما: (والله ما العمرة تريدان، بل الغدرة ونكث البيعة..).

فأقسما له بالإيمان المغلظة أنّهما لا يخلعان بيعته، وأنّهما يريدان أن يعتمران بالبيت الحرام، وطلب منهما الإمام أن يعيدا له البيعة ثانياً، ففعلا دون تردد، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدها على الحق وشقّ كلمة المسلمين.

يتبع http://www.alhashimia.net/ib/html/emoticons/1.gif

مالي خلق احد..
24-04-2008, 04:07 AM
مشكوووره ع المجهووووووووووود

في انتضاار الجزء القاادم

الحيدرية
26-04-2008, 06:52 PM
اشكر متابعتكم للموضوع

الحيدرية
26-04-2008, 06:58 PM
تمرّد عائشة


ويجمع المؤرخون على أنّ عائشة في طليعة من أشعل نار الثورة على عثمان، فقد أفتت بقتله ومروقه من الدين، وكانت تسمّية نعثلاً، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان، فلمّا انتهت إلى ســـرف لقيها رجل من أخـــوالها كان قادمــــاً من المدينة، فأسرعت قائلة: مهيم..(2).

قتلوا عثمان..

وأسرعت قائلة: ثم صنعوا ماذا؟

واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز.

ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) انهارت أعصابها وتحطّمت قواها، وهتفت وهي حانقة، وبصرها يشير إلى السماء ثم ينخفض فيشير إلى الأرض قائلة:

والله ليت هذه انطبقت على هذه، إن تمّ الأمر لابن أبي طالب، قتل عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه..

وبهر عبيد من منطقها، فقال لها باستهزاء وسخرية:

ولِمَ؟ فوالله إنّ أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر!!

وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها، فقالت له:

إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل.وهي حجّة واهية لا واقع لها، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها، وعدوا عليه فقتلوه، كما تقول ولم يخف على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها، فراح يرد عليها:

مِنــــــكِ البَـــــداءُ وَمِــنــــكِ الغـَيـَرْ وَمِنْـــــكِ الـــــريَاحُ وَمِـــنْكِ المَطر

وأنــــــتِ أمــــــرْتِ بِـــقَـتْلِ الإمــام وقُــــــلـْتِ لنـــــــا إِنّــــــه قـــد كَفَر

فَـــــهَبْنا(3) أطَـــعْنَاكِ فـي قَتلِــــــهِ وقــــــاتِلُهُ عِـــــنْدَنَا مَــــن أمـــــــَر

وَلــــــمْ يســــقُطِ السـقْفُ من فـَوْقِنا ولَمْ يَـــــنْكَسِفْ شَــــــمْسُنَا وَالـقَمرَ

وقــــد بايعَ النـــــاسُ ذو تـُدْرؤ(4) يُزيلُ الشَّـــــبَا ويُــــــقيمُ الصَّــــعـرَ

وَيَلْبـَــــــسُ للـــــحرَبِ أثـــــــوابـَها ومـــــا مَــــنْ وفى مِثْلُ مَنْ قدغَدَر

وغاظها قوله فأعرضت عنه، وقفلت راجعة إلى مكة(5) وهي كئيبة حزينة؛ لأن الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأبي سبطيه.

وراحت تندب عثمان، فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام، يقول شوقي:

أثـــــأر عـــــثمان الـــذي شــــجاها أم غـــــصّة لـــــم يـــنتزع شجاها

ذلـــــك فـــــتق لـــــم يــــكن بالـبال كيـــــد النـــسـاء مــــــوهن الجبال

إنّ دم عثمان لا يصلح بأي حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام، فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تحمد عليه، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الزحف إلى البصرة


وانضمّ طلحة والزبير إلى عائشة، ومعهما جميع رجال الحكم المباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها، ونادى المنادي في مكة:

أيّها الناس، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يريد إعزاز الإسلام، وقتال المحلين والطلب بدم عثمان، ولم يكن عنده مركب ولا جهاز فهذا جهازه، وهذه نفقته..

وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال، وقد كان قسم من النفقات من يعلي ابن اُمية والي عثمان، فقد أعان بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلاً(6).

واعتلت عائشة على جملها، ولم ترغب فيه، وصادفوا في الطريق العرني، وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة، فقالوا للعرني:يا صاحب الجمل تبيع جملك؟

نعم.

بِكَم؟

بألف درهم.

مجنون أنت، جمل يباع بألف درهم!!

نعم، جملي هذا.

وممّ ذلك؟

ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه.

لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا.

لمن تريده؟

لاُمّك.

قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً.

إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة.

هو لكم، خذوه بغير ثمن.

لا.

ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم.

ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية وزادوه أربعمائة أو ستمائة درهم(7).

واعتلت عليه عائشة، وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويين وغيرهم من الطامعين في الحكم.

الحيدرية
26-04-2008, 06:59 PM
ماء الحوأب

وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء، فاجتازت على مكان يقال له الحوأب، قتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح، فقالت لمحمّد بن طلحة:

أيّ ماء هذا؟

ماء الحوأب.

فذعرت عائشة، وقالت: ما أراني إلاّ راجعة.

لِمَ يا اُمّ المؤمنين؟

سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه: (كأنّي بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب(8)، وإيّاك أن تكوني يا حميراء..) فرد عليها محمّد وقال لها:

تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول..

ولم تقتنع عائشة وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها. وعلم طلحة والزبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب فأقبلا يلهثان؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما، فجاءوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب، وهي أوّل شهادة زور تقام في الإسلام(9)، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه.

في ربوع البصرة

وأشرفت قافلة عائشة على البصرة، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها، ولمّا التقى بها قال:

ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين؟

أطلب بدم عثمان.

فردّ عليها من منطقه الفياض قائلاً:

ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.

صدقت ولكنّهم مع عليّ بن أبي طالب بالمدينة، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم.

فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً:

ما أنت من السوط والسيف، إنّما أنت حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك، وليس على النساء قتال، ولا لهنّ الطلب بالدماء، وأنّ عليّاً لأوْلى منك وأمسّ رحماً، فإنّهما إبنا عبد مناف.

ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام، وقالت لأبي الأسود:

لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه، أفتظنّ أبا الأسود أنّ أحداً يقدم على قتالي.

فأجابها أبو الأسود:

أما والله لتقاتلن قتالاً أهونه الشديد.

ثمّ تركها وانصرف صوب الزبير فقابله، وذكّره بماضي جهاده وولائه للإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) قائلاً له:

يا أبا عبد الله، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول: لا أحد أوْلى بهذا الأمر من ابن أبي طالب، وأين هذا المقام من ذاك؟

فأجابه الزبير: نطلب بدم عثمان.

ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية:

أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا.

ورأى الزبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة وعرض الأمر عليه، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب.

وعقد الفريقان هدنة مؤقتة، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب، حتى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

مظاهرة نسوية لتأييد عائشة

وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهن يجبن في شوارع يثرب ويضربن بالدفوف، وقد رفعن أصواتهن بهذا النشيد:

ما الخبر، ما الخبر، إن عليّاً كالأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر..

ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيّدة اُمّ سلمة، خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها فجعلت توبخهنّ، وقالت لهنّ: إن تظاهرتن على أبي، فقد تظاهرتن من قبل على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فاستحيت النساء وتفرّقن، وعادت السيّدة زينب (عليها السّلام) إلى بيتها

نقض الاتفاق


وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة، فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف، وكان مقيماً في دار الإمارة، فاعتقلوه ونكّلوا به، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، ونهبوا ما في بيت المال، وثارت الفتنة في البصرة، فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام وحزب عائشة، وقد حملوها على جمل، وسمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين

زحف الإمام للبصرة


وزحف الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام، وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام، فحملوا عليه فقطعوا يمينه فأخذ المصحف بيساره، وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب، فحملوا عليه فقطعوا يساره، فأخذ المصحف بأسنانه وجعل يناديهم: الله في دمائنا ودمائكم.

فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتى سقط إلى الأرض جثة هامدة، ولم تجد معهم هذه الدعوة الكريمة وأصرّوا على الحرب.

إعلان الحرب


ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام إلى السلم وعدم إراقة الدماء، فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحق، فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم، فعبّأ جنوده، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف فقالت: انظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر، أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس.

ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كيف ساغ لها أن تحاربه، وخاطبها الإمام فقال لها: (يا عائشة، عمّا قليل ليصبحن نادمين)(12).

وأعطى الإمام خطته العسكرية لجنوده، فقال لهم:

(أيها الناس.. إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تتّبعوا مولّياً، ولا تطلبوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، ولا تهتكوا ستراً، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله..).

ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة، كما وضعت الاُصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء.

واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام(عليه السّلام) وقالت: شاهت الوجوه، فأجابها رجل من شيعة الإمام: يا عائشة وما رميت ولكن الشيطان رمى.

وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش.

وبدأ القتال كأشدّه، وقد حمل الإمام على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

واشتدّ القتال، وقد بان الانكسار في جيش عائشة وقد قتل طلحة والزبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين.