ضد المنحرفين
24-03-2008, 08:50 AM
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم أجمعين ..
بمناسبة ذكرى مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .. لابد علينا أن نتطرق إلى الشبهات القائلة ببدعية المولد النبوي الشريف, ونثبت هنا أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والعقل كلهم يثبتون جواز إحياء مولد الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار عليهم السلام , لِمَا لهذه الإحتفالات من أثر على قلوب المسلمين وزيادة تمسكهم بالرسول (ص), وإحياءً لشعائر الله المقدسة والتي من أهمها هي مولد الإنسان الذي أنقذ البشرية من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام ..
ننقل لكم مختصر بحث لسماحة العلامة الشيخ جعفر سبحاني حفظه الله ..
حب النبي (ص) أصل في الكتاب والسنّة :
قد عرفت أن العنصر المقوّم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، وفي ضوء ما ذكر نركّز في هذا الفصل على وجود دليل عام على الإحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأمّا الدليل فكما يلي:
الحبّ والبغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب ..
ولا شك أن حب الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحب، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان ومن هذا المنطلق حبّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً، فهو كما يحبّ نفسه يحب كذلك كلّ ما يمت إليه بصلة، سواء كان إتصاله به جسمانياً، كالأولاد والعشيرة، أو معنوياً، كالعقائد والأفكار والآراء والنظريات التي يتبنّاها، وربّما يكون حبّه للعقيدة أشد من حبّه لأبيه وأمه، فيذبّ عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شيء حتى نفسه التي بين جنبيه ..
فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسّسها ومغذّيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضرّ لها عود، ولأجل ذلك كان الأنبياء والأولياء بل جميع الدعاة إلى الأمور المعنوية والروحية محترمين لدى جميع الأجيال، من غير فرق بين نبي وآخر، ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعاً تجاههم، وإقبالاً عليهم ..
ولهذا لم يكن عجيباً أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة، طبقة الأنبياء والرسل، منذ أن شرّع الله الشرائع وبعث الرسل، فترى أصحابها يقدّمونهم على أنفسهم بقدر ما أوتوا من المعرفة والكمال ..
حب النبي (ص) في الكتاب :
ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشريّة، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حبّ النبي وكلّ ما يرتبط به، ليست الآيات إلا إرشاداً إلى ما توحي إليه فطرته، قال سبحانه : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) . سورة التوبة: الآية 24.
وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) . سورة المائدة: الآية 56.
ويقول سبحانه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . سورة الأعراف: الآية 157.
فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة :
1ـ الإيمان به ..
2ـ تعزيره ..
3ـ نصرته ..
4ـ اتّباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه ..
وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنّه قد ذكره بقوله : (ونصروه) وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما أنّه نبيّ الرحمة والعظيمة، ولا يختصّ تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمّها وغيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به والتبعيّة لكتابه لا يختصّان بحال حياته الشريفة ..
هذه هي العوامل الباعثة إلى حبّ النبي (ص) وهذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك ..
ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحثّ على حبّه ومودّته ..
حب النبي (صلّى الله عليه وآله) في السنة :
قال رسول الله (ص) ..
1ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده والناس أجمعين) ..
2ـ (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده وولده) ..
3ـ (ثلاث من كنّ فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شيء أحبّ إليه من الله ورسوله، ومن كان لئن يحرق بالنار أحبّ إليه من أن يرتدّ عن دينه، ومن كان يحبّ لله ويبغض لله) ..
4ـ (والله لا يكون أحدكم مؤمناً حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده) ..
5ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه) ..
6ـ (من أحبّ الله ورسوله صادقاً غير كاذب، ولقي المؤمنين فأحبّهم، وكان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار ألقي فيها، فقد طعَم طعْم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان) ..
مظاهر الحبّ في الحياة :
إن لهذا الحبّ مظاهر، إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرّفاته، بل أنّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة ..
فحبّ الله ورسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه، والإستنان بسنّته، والإتيان بأوامره والإنتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً لرسول الله (ص) أشدّ الحبّ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادّعى حباً في نفسه وخالفه في عمله، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادّين ..
ولنعم ما قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد موجهاً كلامه إلى مدّعي الحبّ الإلهي كاذباً:
تعصــــي الإله وأنت تظهر حبّه ** هذا لعمــــري فــي الفعال بديع
لو كــــان حبّـــك صادقاً لأطعته ** إن المحــبّ لمن يحبّ مطيع
للحبّ مظاهر وراء الإتباع :
أنّ حب النبي (ص) وتكريمه أصل من أصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، ومن المعلوم أن المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكلّ ما يعدّ مظهراً لحبّ النبي (ص)، شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات، ولا يكون منكراً في الشريعة، نظير :
1ـ تنظيم السنّة النبوية, وإعراب أحاديثها، وطبعها، ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت وأحاديثهم ..
2ـ نشر المقالات والكلمات، وتأليف الكتب المختصرة والمطوّلة حول حياة النبي (ص) وعترته عليهم السلام، وإنشاء القصائد بشتّى اللغات والألسن في حقّهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل.
فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أن إنشاء القصائد في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ممّا يعبّر به أصحابها عن حبّهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله). فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطوّلة في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منطلقاً من إعجابه وحبّه له (عليه السلام)، فيقول في جملة ما يقول:
بانــت سعـاد فقلبي اليوم متبول ** متـــــيّم إثـــــرها لم يُفْد مكبول
نُبِّئــــتُ أنّ رسـول الله أوعدني ** والعـــفوُ عند رسول الله مأمول
وقد ألقى هذه القصيدة في حضرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه، ولم ينكر عليه رسول الله (ص) ..
وهذا هو حسّان بن ثابت الأنصاري يرثي النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويذكر فيه مدائحه، ويقول:
بطيبة رسم للرسول ومَعْهَد ** مُنير وقد تعفو الرسوم وتحمد
إلى أن قال:
يدلّ علـــــى الرحـمن من يقتدي به ** وينقذ من هـــــول الخــزايا ويرشد
إمام لهم يهديــــهم الحـــــقّ جاهداً ** معلم صدقٍ إن يطيعوه يَسْعَدوا
وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبي ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة، مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة في هذا المجال، فشكر الله مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة ..
3ـ تقبيل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة .. كباب داره، وضريحه وأستار قبره، انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته. وهذا أمر طبيعي وفطري، فبما أن الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبي (ص) من تقبيل الرسول (ص) فيقبّل ما يتّصل به بنوع من الإتصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه ..
فهذا هو المجنون العامري كان يقبّل جدار بيت ليلى ويصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول :
امرّ علــــى الـــــديار ديـار ليلى ** أقبّل ذا الجـــــدار وذا الجـــدارا
فما حبّ الديار شغــــفن قلـــبي ** ولكن حـــــبّ مـــن سكن الديارا
4ـ إقامة الاحتفالات في مواليدهم, وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنّة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيّات والمحرّمات ..
ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبي في أي قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ، أي حبّ النبي الذي أمر به القرآن والسنّة بهذا العمل ..
هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد : (لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كرامته كلّ فضل عظيم) . الديار بكري، تاريخ الخميس، ج1، ص323.
وقال أبو شامة المقدسي في كتابه : (ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده (عليه السلام) من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فإنّ في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعاراً لمحبّته) . الحلبي، السيرة، ج1، ص83-84.
أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للإحتفال بالبدعة إلا أن يريد البدعة بالمعنى اللغوي، كما أنّ الاحتجاج على حسن الإحتفال بالأعمال الجانبيّة من صدقات ومعروف وإظهار الزينة ..، فإنّ هذه الأمور الجانبيّة لا تسوغ الإحتفال، ولا تضفي عليه صبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب والسنّة، وقد عرفت وجوده ..
وقال القسطلاني : (ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (عليه السلام)، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم .. فرحم الله امرئً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعيا داء) . المواهب اللدنية، ج1، ص148.
إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الإحتفال بمولد النبي الأكرم (ص)، إحتفالاً دينياً في رضا الله ورسوله (ص)، ولا تصحّ تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، وليس المراد من الأصل، الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك ..
ويرشدك إلى أن هذه الإحتفالات تجسيد لتكريم النبي (ص)، وجدانك الحرّ، فإنّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبي (ص) وإشادة بكرامته وعظمته، يتلقاها كلّ من شاهدها عن كثب، على أن المحتفلين يعزّرون نبيّهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) . سورة الانشراح: الآية 4.
يتبع بإذن الله ..
بمناسبة ذكرى مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .. لابد علينا أن نتطرق إلى الشبهات القائلة ببدعية المولد النبوي الشريف, ونثبت هنا أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والعقل كلهم يثبتون جواز إحياء مولد الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار عليهم السلام , لِمَا لهذه الإحتفالات من أثر على قلوب المسلمين وزيادة تمسكهم بالرسول (ص), وإحياءً لشعائر الله المقدسة والتي من أهمها هي مولد الإنسان الذي أنقذ البشرية من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام ..
ننقل لكم مختصر بحث لسماحة العلامة الشيخ جعفر سبحاني حفظه الله ..
حب النبي (ص) أصل في الكتاب والسنّة :
قد عرفت أن العنصر المقوّم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، وفي ضوء ما ذكر نركّز في هذا الفصل على وجود دليل عام على الإحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأمّا الدليل فكما يلي:
الحبّ والبغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب ..
ولا شك أن حب الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحب، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان ومن هذا المنطلق حبّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً، فهو كما يحبّ نفسه يحب كذلك كلّ ما يمت إليه بصلة، سواء كان إتصاله به جسمانياً، كالأولاد والعشيرة، أو معنوياً، كالعقائد والأفكار والآراء والنظريات التي يتبنّاها، وربّما يكون حبّه للعقيدة أشد من حبّه لأبيه وأمه، فيذبّ عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شيء حتى نفسه التي بين جنبيه ..
فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسّسها ومغذّيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضرّ لها عود، ولأجل ذلك كان الأنبياء والأولياء بل جميع الدعاة إلى الأمور المعنوية والروحية محترمين لدى جميع الأجيال، من غير فرق بين نبي وآخر، ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعاً تجاههم، وإقبالاً عليهم ..
ولهذا لم يكن عجيباً أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة، طبقة الأنبياء والرسل، منذ أن شرّع الله الشرائع وبعث الرسل، فترى أصحابها يقدّمونهم على أنفسهم بقدر ما أوتوا من المعرفة والكمال ..
حب النبي (ص) في الكتاب :
ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشريّة، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حبّ النبي وكلّ ما يرتبط به، ليست الآيات إلا إرشاداً إلى ما توحي إليه فطرته، قال سبحانه : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) . سورة التوبة: الآية 24.
وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) . سورة المائدة: الآية 56.
ويقول سبحانه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . سورة الأعراف: الآية 157.
فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة :
1ـ الإيمان به ..
2ـ تعزيره ..
3ـ نصرته ..
4ـ اتّباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه ..
وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنّه قد ذكره بقوله : (ونصروه) وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما أنّه نبيّ الرحمة والعظيمة، ولا يختصّ تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمّها وغيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به والتبعيّة لكتابه لا يختصّان بحال حياته الشريفة ..
هذه هي العوامل الباعثة إلى حبّ النبي (ص) وهذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك ..
ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحثّ على حبّه ومودّته ..
حب النبي (صلّى الله عليه وآله) في السنة :
قال رسول الله (ص) ..
1ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده والناس أجمعين) ..
2ـ (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده وولده) ..
3ـ (ثلاث من كنّ فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شيء أحبّ إليه من الله ورسوله، ومن كان لئن يحرق بالنار أحبّ إليه من أن يرتدّ عن دينه، ومن كان يحبّ لله ويبغض لله) ..
4ـ (والله لا يكون أحدكم مؤمناً حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده) ..
5ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه) ..
6ـ (من أحبّ الله ورسوله صادقاً غير كاذب، ولقي المؤمنين فأحبّهم، وكان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار ألقي فيها، فقد طعَم طعْم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان) ..
مظاهر الحبّ في الحياة :
إن لهذا الحبّ مظاهر، إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرّفاته، بل أنّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة ..
فحبّ الله ورسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه، والإستنان بسنّته، والإتيان بأوامره والإنتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً لرسول الله (ص) أشدّ الحبّ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادّعى حباً في نفسه وخالفه في عمله، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادّين ..
ولنعم ما قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد موجهاً كلامه إلى مدّعي الحبّ الإلهي كاذباً:
تعصــــي الإله وأنت تظهر حبّه ** هذا لعمــــري فــي الفعال بديع
لو كــــان حبّـــك صادقاً لأطعته ** إن المحــبّ لمن يحبّ مطيع
للحبّ مظاهر وراء الإتباع :
أنّ حب النبي (ص) وتكريمه أصل من أصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، ومن المعلوم أن المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكلّ ما يعدّ مظهراً لحبّ النبي (ص)، شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات، ولا يكون منكراً في الشريعة، نظير :
1ـ تنظيم السنّة النبوية, وإعراب أحاديثها، وطبعها، ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت وأحاديثهم ..
2ـ نشر المقالات والكلمات، وتأليف الكتب المختصرة والمطوّلة حول حياة النبي (ص) وعترته عليهم السلام، وإنشاء القصائد بشتّى اللغات والألسن في حقّهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل.
فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أن إنشاء القصائد في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ممّا يعبّر به أصحابها عن حبّهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله). فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطوّلة في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منطلقاً من إعجابه وحبّه له (عليه السلام)، فيقول في جملة ما يقول:
بانــت سعـاد فقلبي اليوم متبول ** متـــــيّم إثـــــرها لم يُفْد مكبول
نُبِّئــــتُ أنّ رسـول الله أوعدني ** والعـــفوُ عند رسول الله مأمول
وقد ألقى هذه القصيدة في حضرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه، ولم ينكر عليه رسول الله (ص) ..
وهذا هو حسّان بن ثابت الأنصاري يرثي النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويذكر فيه مدائحه، ويقول:
بطيبة رسم للرسول ومَعْهَد ** مُنير وقد تعفو الرسوم وتحمد
إلى أن قال:
يدلّ علـــــى الرحـمن من يقتدي به ** وينقذ من هـــــول الخــزايا ويرشد
إمام لهم يهديــــهم الحـــــقّ جاهداً ** معلم صدقٍ إن يطيعوه يَسْعَدوا
وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبي ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة، مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة في هذا المجال، فشكر الله مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة ..
3ـ تقبيل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة .. كباب داره، وضريحه وأستار قبره، انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته. وهذا أمر طبيعي وفطري، فبما أن الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبي (ص) من تقبيل الرسول (ص) فيقبّل ما يتّصل به بنوع من الإتصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه ..
فهذا هو المجنون العامري كان يقبّل جدار بيت ليلى ويصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول :
امرّ علــــى الـــــديار ديـار ليلى ** أقبّل ذا الجـــــدار وذا الجـــدارا
فما حبّ الديار شغــــفن قلـــبي ** ولكن حـــــبّ مـــن سكن الديارا
4ـ إقامة الاحتفالات في مواليدهم, وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنّة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيّات والمحرّمات ..
ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبي في أي قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ، أي حبّ النبي الذي أمر به القرآن والسنّة بهذا العمل ..
هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد : (لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كرامته كلّ فضل عظيم) . الديار بكري، تاريخ الخميس، ج1، ص323.
وقال أبو شامة المقدسي في كتابه : (ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده (عليه السلام) من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فإنّ في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعاراً لمحبّته) . الحلبي، السيرة، ج1، ص83-84.
أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للإحتفال بالبدعة إلا أن يريد البدعة بالمعنى اللغوي، كما أنّ الاحتجاج على حسن الإحتفال بالأعمال الجانبيّة من صدقات ومعروف وإظهار الزينة ..، فإنّ هذه الأمور الجانبيّة لا تسوغ الإحتفال، ولا تضفي عليه صبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب والسنّة، وقد عرفت وجوده ..
وقال القسطلاني : (ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (عليه السلام)، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم .. فرحم الله امرئً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعيا داء) . المواهب اللدنية، ج1، ص148.
إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الإحتفال بمولد النبي الأكرم (ص)، إحتفالاً دينياً في رضا الله ورسوله (ص)، ولا تصحّ تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، وليس المراد من الأصل، الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك ..
ويرشدك إلى أن هذه الإحتفالات تجسيد لتكريم النبي (ص)، وجدانك الحرّ، فإنّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبي (ص) وإشادة بكرامته وعظمته، يتلقاها كلّ من شاهدها عن كثب، على أن المحتفلين يعزّرون نبيّهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) . سورة الانشراح: الآية 4.
يتبع بإذن الله ..