مشاهدة النسخة كاملة : سيرة علي الأكبر عليه السلام
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:09 PM
حياة علي الأكبر (عليه السلام)
(إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
القرآن الكريم
((.. أشبه النّاس خَلقاً ومنطقاً وخُلقاً برسولك وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه))
الإمام الحسين (عليه السلام)
((.. لا .. إنّ أولى النّاس بهذا الأمر - ويقصد الخلافة - هو عليّ ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: - جدّه رسول الله، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أُمية! وزهو ثقيف)).
معاوية بن أبي سفيان - أثناء اعتراف ذاتي
المقدمة:
عليّ هذا، علمُ من الأعلام، وعظيم من عظماء الشبيبة الهاشمية الذين جسدوا إرادة الإسلام، وواحد من كواكب كربلاء، كوكب سطع في أفق الطف فوق بطحاء كربلاء. مجاهد عنيد لمبادئ يؤمن بها وقضاياً يتبنّاها.
لقد أنجبت عائلة محمد بن عبد الله، حامل رسالة السّماء قائد حركة الانعتاق، رافع مشعل النور، صلّى الله عليه وآله وسلم، أنجبت نخبة ممن شكلوا امتداداً لخطّهِ النبوي ونهجه المحمدي الخلاق، نماذج من الشبان الصارمين الحديين الرافضين، رجالاً من أخطر من شهدتهم عهود الملوك وأدوار الحاكمين وحقب التاريخ.
وليس أدل على ذلك مما شهدته الحقبة التاريخية الحسينية ليس أدل على ذلك مما شهدته مكة والمدينة فميدان كربلاء.
لم تفتح كربلاء مسرحها، أو أبواب ميدانها لتسمح بالدخول من أجل استعراضٍ بطولي ومباريات مجد عسكرية طارئة أو مؤقتة إن كربلاء لقاء على مستوى العقيدة، وصراع على صعيد الفكر، ومباريات قوامها المبادئ.
كربلاء الحسين، ترجمة أمينة النقل من نظرية الإسلام إلى عمل الإسلام وفعالياته في حيز التطبيق، ترجمة أمينة لروح الأصالة في المواقف الرافضة، وترجمة حيوية لروح الحرية، وبالتالي فهي ترجمة عملية واضحة الرؤية للرسوخ الإيماني، والرقي العقائدي.
فتحت كربلاء أبوابها لتسليط الأضواء على حقيقة هويات رجال من الأُمة - وليسوا منها - هوية الأموية ومن ختم بخاتم معاوية.. كذلكم ولتسط الضوء على حقيقة هويات رجال من شباب وكهول وشيوخ حالفوا الحق ومارسوه وأبوا إلاّ الختام جنبه والموت عليه دون أن ينسوه أو يتركوه.
إنه وبغض الطرف عن الأحداث الدموية والاشتباكات المسلحة العسكرية، والنهايات المؤلمة، فإن النتيجة هي غير ما تمخض عنه الصراع من قتل وثكل وسبي وانتهاك الحرمات... النتيجة : هي الإجلاء الكامل والبيان التام لمبدأ خطير من مبادئ الإسلام، مبدأ مطموس لا تنهض به كلمة اللسان وخطب بيان الإنسان . مبدأ لا يبقى خالداً عبر الزمان بكل مكان، هو أُم المبادئ وسنامها، وكل المبادئ باقية وهو قوامها، وإلا فكلها ضعيفة لغيابه وبعدهٍ، انه مبدأ الجهاد الذي لا تنهض به غير النهضة التي أضحت قضية، وأي قضية حيث قد خطت بحبر من دماء أجساد زكية.
ما برحت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في خلود أيامها، ومجد ذكراها مليئة بالأصالة، معبرة عن العز والكرامة والحرية، متمتعة بالجلال والهيبة، لأنها نقية خالية من الشوائب كاملة الصفاء، نزيهة الدوافع، قدسية النية، ولأنها ثرية غنية بالعطاء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها.. ولكن من يأخذ منها يا ترى، أم من ينتهل ويغترف، من ذا الذي يحسن أخذ بعض جودها وسخاء يدها المعطاءة؟؟؟!
وان تجلّت الثورة الحسينية بما تجسد فيها من اعتبارات رسالية جمة، وجليلة، ذات خطر على المنحرفين.. فانها قد أبرزت لنا نجوماً وضاءة، ما زالت ساطعة لامعة وستبقى رهينة الخلود قيد المجد ما بقي للتاريخ حبر يسطّره، وما بقي في الأُمة رجل يترجمه عملاً … نجوماً مشعة في سماء الفكر، وكواكب متآلقة، تمثلت بتلك الشبيبة العملاقة.. وهذا واحد منها أنه علي الأكبر بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
عُرف بالأكبر .. وهو الكبير في كل امتيازاته، في عزمه وعلمه وجهاده، الكبير في نسبه ومصرعه، في كل أوصافهِ وصفائهِ .. ولم تكن كلمة (الأكبر) لتزيد منه أو لترفعه أو لتكبر مقامه.. كلا بل هي تمييز له - من حيث السن - عن أخيه الإمام العظيم علي زين العابدين الأصغر منه سناً.. فعلي ليكن أصغر أو أوسط أو أكبر، أنه واحد لا يتغيّر، انه عليٌّ في علاه، عليٌّ في علمه وهداه، عليٌّ في إيمانه وتقواه، عليُّ عند الناس، وفي السماء عند الله.
نرجو أن يحالفنا التوفيق للكتابة عن هذا العَلم، نجل الحسين، حفيد أمير المؤمنين علي، سليل النبي، وحفيد الزهراء الطاهرة سيدة نساء العالمين صلوات الله عليهم أجمعين.
نبتهل للرحمان بأن لا يحرمنا عطاء هذا البيان..
إنه ولي التوفيق والإحسان.
محمد علي عابدين/ مدينة الكوفة المقدسة
محرم الحرام 1398هـ
القسم الأول:
علي الأكبر في شخصيته الفذة
في ذروة المجد
الهاشميون:
رفض الإسلام أية مفاضلة أممية أو قبلية، وأية مبادرة حتى للتصنيفات الفردية، بمعزل عن المعيار الذي قدره القرآن والمقياس الذي أعلنه، كركيزة لا نحيد عنها عند المفاضلة والتصنيف، إنه مقياس الإيمان، ركيزة التقوى.
ولو أن مشروعاً منصفاً للتفاضل أقيم وعلى مستوى النسب بين فروع العجم وقبائل العرب، لما فاز به غير الهاشميين. إذ لم يكن اعتباطاً أو جزافاً خروج صفوة العرب وأعيان الأُمة الإسلامية وأعلامها منهم، وعلى رأسهم يقف زعيم هاشم وعميد العروبة، سيد الأُمة والإنسانية محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
اختاره الله تبارك وتعالى، من الشجرة الهاشمية بالذات لأنها أقوى عوداً وأعمق جذوراً وأكرم شرفاً وأمعن أصالة .. وما كانت إرادة السماء لتفرط بعملها وبعثة نبيها من موقع عادٍ ونسب بسيط قليل الشأن بمضمونه وطهارته، أو بشرفه عند الناس وسمعته وعلو منزلته، حتى إذا ما أعلن النبي دعوته مثلا للقبائل والبشر قابلوه بمؤاخذات على أصالته نسباً حيث أصله الرديء، أو سيرتهِ حيث وصمات ماضيه..
ما كان الله سبحانه، ليزيل باطلاً ويقيم محله حقاً، بصرح قوي يتوخى اعتبارات المستقبل، وذلك بأيدي ضعيفة قليلة القيمة، بل كان حتماً ترشيح الأيدي النزيهة القوية الكفوءة، قبل تقرير النتيجة.. ترشيح العائلة العاملة بجميع أعضائها وضمان كونها ذات موقع جليل، قبل تقدير الثمرة المصطفاة.
ويؤكد هذا - بما لاشك فيه - تكرار المعنى، وارداً في جملة من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بشأن اختيار الله لهاشم ثم عبد المطلب، ثم عبد الله، ثم هو، شخصه الشريف حيث رشح بلا منافس كصفي ومصطفى، ثم علي أمير المؤمنين وكل أهل بيت النبوة وفق عملية أمينة للاصطفاء .. والأحاديث كثيرة(1).
ولقد انحدر علي الأكبر (عليه السلام)، من أعلى تلك الشجرة، من فوق شموخها الأشم، كواحدٍ ممن خضع للترشيح الإلهي، والانتخابات وفق إرادة ليس لها معارض، انه جاء إلينا عضواً نزيهاً عاملاً ضمن مجموعة حزب الله وجند الرحمان، من خلال مروره ((بالاصطفاء)) حسبما يصطلح القرآن الكريم..
ولا مراء فيما تلعبه الوراثة من دور فعال في تكوين الشخصية، فضلاً عما يلعبه البيت بتربوياته السليمة السامية من أدوار في البناء الشخصي، حتى ليتجلى كل من معالم الوراثة ومعالم التربية على شخصيته في سيرته من خلال نشاطاته وفعالياته الرسالية، وهذا ما لاحظه الشاعر في علي الأكبر: جمع الصفات الغر وهي تراثه:
في بأس (حمزة) في شجاعة (حيدر) بإبا (الحسين) وفي مهابة (أحمد)
وتراه فـي خلـق وطـيب خلائـق وبليـغ نطـق كالنبـي (محمـد)
__________________
1- أنظر مثلا ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى / لمحب الدين الطبري ، وغيره كثير..
تابع :-
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:12 PM
والده:
عند التحدث عن أي شخصية مهما كانت، لا بد من الرجوع للحديث عن أسرته، لاسيما والده ووالدته، فثمة صلة هامة ورابطة خطيرة بين الحديثين، للوقوف على الحقائق ولإماطة اللثام عن واقع الشخصية المعنية .. نظراً للدور الأبوي الفعال في الشخص، بدءاً من كونه نطفة، ومروراً بمراحل التكوين، حتى الولادة فالتربية والتهذيب .
من ذا الذي يجهل والد سيدنا علي الأكبر، كلنا يعرفه، وكلنا يجهله، نعرفه بالاسم وببعض الأمور، ونجهل حقيقته الكاملة.
ان الإمام سبط الرسول الحسين بن علي صلوات الله عليهم، ليس أباً فحسب، وليس بمستوى الأبوة فقط، انه فوق ذلك المستوى بما يمثله من إشراف على الأُمة بكل أبنائها وبناتها، وبما يتبناه من قضايا أبناء الأُمة ودينهم الإسلامي الحنيف في بعده المستقبلي.
هذا الأب العظيم من شأنه - دونما جدال - أن ينجب ابناً بمثابة أُمة من الناس، أن ينجب من يكون نوراً ونبراساً، وقائداً وقدوة..
وعليه فلا نستكثر على ذلك الإمام إنجاب القادة ورجال العقيدة، وهو الإمام الذي تمكن من أن يصون شعوب الإسلام، ويحفظ الأُمة العملاقة مع دينها ومبادئها الخلاّقة.
ولا نريد هنا أن نتكلم عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فهذه الصفحات خاصة بولده ونجله فقط، كما أن الحديث عن الإمام لا يعدّ محاولة هينة ويسيرة بناءً على أنه ليس شخصاً عادياً يصح عنه الكلام كيفما اتفق الكلام، وإنما هو شخص امتزجت فيه المبادئ، فجسدها عملاً على أرض الواقع، انه صاحب رسالة وسيد قضية.. رسالة ممتدة من رسالة جده الرسول الأعظم، وقضية تبرعمت من شجرة قضية جده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد : فانما نتجنب الخوض في الحديث عن الإمام سيد الشهداء فلسعة مهمته الرسالية التي يلزمنا التحدث فيها وعنها، ولبعد وظيفته الإلهية، ورحابة طرحه لقضيته .. وأخيراً فلأنه حقق عملياً - وعلى المدى البعيد - للأُمة ما لم تستطع كل الأًمة تحقيق بعضه..
***
ذلك هو الوالد والأب والمربي الصارم القويّ، معلم الأُمة، الذي أنجب للانعتاق والتحرير طاقات نورٍ متمثلةٍ بالشخصيات المضيئة التي اخترقت أستار الظلام عبر عصور الظلم والاضطهاد ووسط تفاقم الأوضاع..
أخذ الإمام الحسين عن جدهِ ((مدينة العلم)) ثروة من العلم والحكمة، وثروة من السمات البالغة في السمو...أخذ الإمام الحسين عن أبيه ((باب مدينة العلم)) وافر العلوم والامتيازات، أبوه أمير المؤمنين عليّ الذي ارتشف من نفس منهل النبي صلى الله عليه وعليهم أجمعين.. وراح الحسين بدوره يوزع ما عنده دون أن ينقص مخزونه أو ينضب ويفيض بما لديه على أولاده الأطهار والتابعين له بإحسان ((وكل إناء بالذي فيه ينضح)).
كان حسين رحيماً ورحمة للمؤمنين، فكان علي الأكبر يشاطر والده في هذه الخصوصية الرحمانية.
كان حسين قاسياً وقسوة على الكافرين والمنحرفين، فكان على الأكبر حليف والدهِ، صارماً لا يلين.
كان حسين ثائراً وثورة يأبى الضيم عزيز النفس، وكان نجله مثله ولا يختلف عنه شديد التمسك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حريصاً جداً على الجهاد المصيري..
وكان الإمام الحسين حسيناً بجميع حسنيات الإسلام، وكان نجله علي الأكبر علياً رفيع المقام، يحذو حذو أبيه، حذو الحقائق بعضها وراء بعض.. ولو أن رجالاً وشباباً عاشوا مع الحسين(عليه السلام) بعض الوقت وبعض العمر لما انفكوا عن تأثيره الرسالي الخطير، فكيف يكون تأثر نجله به اذن؟ وكيف ستكون طبيعة الأثر والآثار وهو فلذة كبده، المنحدر من شامخ صلبه الطاهر؟ (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ)
تابع :-
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:14 PM
والدته السيدة ليلى الثقفية:
أما والدته فهي السيدة ليلى الثقفية، وهي عربية الأصل كما يوحي نسبها إلى بني ثقيف ذات الشهرة والصيت الذائع في الطائف وكل البقاع العربية..
السيدة ليلى هذه نالت من الإيمان والحظوة لدى الله سبحانه وتعالى بحيث وُفقت لأن تكون مع نساء أهل بيت النبوة، تعيش أجواء التقى والإيمان، وتعيش آلام آل الرسول وآمالهم، وتشاطر الطاهرات أفراحهن وأتراحهن، وقد ظفرت بتوفيق كبير آخر، حيث أضحت وعاءً لأشبه الناس طراً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. فهي امرأة رشيدة، جليلة القدر، سامية المنزلة، عالية المكانة، رفيعة الشرف في الأوساط الاجتماعية، كيف لا وهي زوجة سبط سيد المرسلين وسيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).
ونرى أن من الضروري التحدث عن أبيها عروة بن مسعود الثقفي كما سيأتي بعد أسطر.
أما والدة ليلى، فهي ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، أي أن أبا سفيان يعد جداّ لليلى، بيد أن شوائب أمية لم تمس من ليلى أو تؤثر فيها، بقدر تأثير العنصر العربي الثقفي فيها.. ونسبتها هذهِ لبني أُمية كانت مسوغاً للجيش الأموي بكربلاء كيما يستميل علي الأكبر إلى جبهته بأسلوب مضحك هزيل وبمحاولة فاشلة، وسنقف عليها في القسم الثاني من هذه الدراسة المتواضعة..
__________________
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:16 PM
أبو مرة عروة بن مسعود الثقفي:
من المعروف تاريخياً أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بذل كثيراً وحرص على الصدع برسالته الخلاّقة، وكانت الطائف هي أحد المراكز التي قصدها (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن المعروف جيداً مبلغ المعاناة من جراء جهل أهل الطائف لهذا الداعية المحرر، فقد عاد النبي من الطائف وهو متعب ومخضب بالدم..
فلم يستجب لدعوته أحد قط، سوى رجل واحد تبع أثره ولحق به، لا يعرف غيره، ثمّ أنه اتصل به فأسلم وحسن إسلامه، ذلك هو قطب ثقيف، والد السيدة ليلى، التي لا يعرف ما إذا كانت مولودة أو غير مولودة في تلك الفترة.
أنه (1) ((عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، واسمه قيس بن منبّه بن بكر بن هوزان بن عكرمة بن حصفة بن قيس عيلان الثقفي. أبو مسعود، وقيل أبو يعفور شهد صلح الحديبية )) وكني بأبي مرة..
فعروة بن مسعود الثقفي، زعيم من زعماء العرب، وسيد ممن ساد قومه فأحسن السيادة، وهو رابع أربعة من العرب سادوا قومهم، كما ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قول حول عروة، والثلاثة الآخرون، وهو قوله:
((أربعة سادة في الإسلام: بشر بن هلال العبدي - وعدي بن حاتم - وسراقة بن مالك المدلجي، وعروة بن مسعود الثقفي))(2).
وعلى هذا فان مركز عروة في المجتمع العربي، مركز رفيع مرموق، وذلك قبل أن يُسلم ويعلن إسلامه، بحيث بلغت منزلته عند العرب مبلغاً متزايداً حتى بالغوا به فتطرفوا إذ عظموه تعظيماً على حساب محمد ذي الخلق العظيم، وعظموه ليجعلوا منه شخصية تضاهي النبي الأعظم.. وهذا ما نص عليه القرآن الكريم في موقف معروف، إذ حكى عنهم ما قاله أحدهم - الوليد بن المغيرة - على سبيل المقارنة الفاشلة:
(قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(3)
والمقصود من القريتين هو مكة والطائف، أما المقصود من العظيمين فيهما، فهو القائل نفسه- الوليد بن المغيرة- بمكة ويعني بالثاني عروة الثقفي بالطائف، كما عن قتادة وورد في الإصابة والاستيعاب ذلك..
أجل كان عروة شخصية مرموقة، لكنه أبى أن يزعم العظمة كغيره مثل ابن المغيرة وأمثاله، وكان شجاعاً وجريئاً بحيث أنه صمم على أن يدعو قومه للإسلام حالماً يعود إلى الطائف وهكذا كان .. فبعدما أسلم على يد الرسول الذي تبع أثره من الطائف وأدركه قبل دخول المدينة، وبعد أن تمكن الإسلام والإيمان من قلبه، استأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يرجع لهداية قومه.
((وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه ________
1- أنظر الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ لابن عبد البر ، ق 3 ج 3 ص 1066 ـ 1067 طبعة مصر.
2- انظر نفس المهموم للشيخ القمي .
3- سورة الزخرف : 31.
لمنزلته فيهم، فلما أشرف على قومه(1). وقد دعاهم إلى دينه- رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله-)).
ومن إيمانه ورضاه وقناعته بواجب الصدع بالرسالة مع تحمل دفع الثمن باهظاً أنه أجاب بجواب واضح اليقين حينما سألوه ((وقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال : كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلاّ ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يرتحل عنكم))(2).
هذا وكان من حسن الهيئة كالمسيح عيسى: ((وكان عروة يُشبَّه بالمسيح عليه السلام في صورته))(3). وكان من حسن العاقبة والمصير كما نسب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((ان مثله في قومه مثل صاحب يس من قومه(4) دعا قومه إلى الله فقتلوه))(5).
فضلاً عن ذلك، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((رأيت عيسى ابن مريم، فاذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود))(6).
يتجلى من ذلك أن هذا الصحابي الجليل كان أثيراً عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وله في نفسه موقع ومكانة .. هذا وان التاريخ لم يورد عنه ما يسيء إليه أو يتهمه، فهو رجل نزيه السمعة صاحب مكانة وسامي الرفعة.. كما أنه شخصية عظيمة قياساً لشخصيات القبائل الأُخرى - والله مطلق العظمة - .
أسلم في السنة التاسعة من الهجرة - بعيد رجوع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رحلته الرسالية إلى الطائف - وقتل عروة الثقفي أثناء إعلانه دينه ودعوته، وكان يتأهب لأداء فريضة الصلاة كما جاء في (نفس المهموم).
أما كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي وردت بصدد عروة، فهي لعمرك من أروع أوسمة التقدير التي منحها الرسول القائد إلى جنده الدعاة الصامدين الصابرين أوسمة الشرف المذخور والفخر الخالد في الدنيا والآخرة.. وأهم وسام - بعد إعلان أنه شبيه النبي عيسى (عليه السلام) - هو أنه نظير النبي ياسين في قومه..
ولا نعتقد أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يشبه بياسين لمجرد أنه دعا قومه فقتلوه كياسين (عليه السلام) .. وإنما لأنه رجل دعوة على بينة من دينه ورجل إيمان وتقى وإخلاص ويقين، ولأنه بلغ من شرف الإيمان ما منحه شرف الشهادة، ثم شرف الإشادة به على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ذلك هو والد السيدة ليلى، المجاهد الشهيد عروة بن مسعود الثقفي رضوان الله عليه.
وقد ترك في نفس ابنته ليلى آثار الهدى والإيمان والاستقامة على الدين الحنيف.. وفي أي سن كانت الفتاة ليلى فانها ولا شك قد أحست بفقد والدها الحبيب، وكلما نضجت وكبرت شعرت بأن أباها مضى ضحية ___________
1- ويلفظ : فلما أشرف عليه قومه راجع الاستيعاب.
2- الاستيعاب ، والإصابة ج 3 / ص 112 ـ 113 المطبوع على هامش الاستيعاب .
3- نفس المصدرين .
4- الاستيعاب ، والإصابة .
5- ـ نفس المهموم / للقمي .
6- نفس المهموم.
قضية سماوية مقدسة، حتى بلغت اليقين بأنه صرع وقتل لا كمن صرع وقتل من العرب وأشراف القبائل، لقد راح والدها شهيداً وقرباناً لله من أجل رسالته، وليس قتيلاً أثناء صراع قبلي رخيص..
وعليه فقد كانت أول نكبة أصابت قلبها، هي هذه الحادثة الشديدة الوقع على الفتيات اللواتي يصعب عليهن الاستغناء عن حنان الأبوة وصل الوالد المؤمن الشجاع.. ثم توالت عليها النكبات - بعد أن أضحت ليلى أحد أعضاء هيئة نساء البيت المحمدي الكريم - إذ راحت تعيش أجواء بيت النبوة والرسالة صاحب القوة والأصالة، في مواصلة الصدع بمقررات القرآن ومبادئ الإسلام، حتى ختمت ليلى حياتها وهي صابرة صامدة محتسبة قد تحملت ألوان الأسى والألم وقدمت لرسالة الإسلام ما أنجبت من صالحين وطاهرين.
أي أن استشهاد والدها ليس مجرد أول نكبة، بل أول درس على ضرورة الصمود ووجوب الصبر لمواصلة العمل من قبل المؤمن والمؤمنة، البنت والزوجة، وأول تجربة للسيدة ليلى على تحمل شدة وطأة نتائج الدعوة ودفع ثمن العمل لدين الله سبحانه وتعالى.
أجل تلك هي ليلى الثقفية والدة علي الأكبر، التي لم تستمد قيمتها من أمها ولم تستمد كرامتها ومنزلتها حتى من أبيها، وإنما استمدت رقيها من تقواها وانتمائها ثم انتسابها للأسرة المحمدية المقدسة، ولارتباطها الوشيج بشخص الإمام العظيم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وكفاها بذلك فخراً حين تفتخرُ ..
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:33 PM
الفصل الثاني
علي الأكبر
ميلاده المجيد:
تعودنا الاختلاف في الروايات المدونة حول كثير من الأمور التاريخية.. ووفق هذهِ العادة الملحوظة يأتي الكلام عن زمن ولادة عليّ الأكبر (عليه السلام). أما مكان ولادته فهو مدينة جده المنورة، من دون مبرر للشك والاختلاف في ذلك اللهّم، إذا اعتبرنا ولادته في عهد خلافة الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، فحينئذٍ يكون لدينا اح ل بأن المكان هو مدينة الكوفة، سيما وقد كان الإمام الحسين مقيماً فيها يومذاك.
فزمن ولادته هو : في خلافة عثمان(1).
وقيل قبل قتل عثمان بسنتين (2).
وجاء أنه ولد بعد استشهاد الإمام علي أمير المؤمنين(3).
ولعل ما أورده الاصفهاني أضبط من غيره، مؤيداً بما أورده النسابة الكلبي ومصعب. حيث ذكرا أنه ولد قبل قتل عثمان بسنتين.. هذا وان للاصفهاني قرائن تؤكد ولادته حين ذلك وتؤكد معاصرته للإمام أمير المؤمنين، فمما قاله الأصفهاني:
((وقد روى عن جده علي بن أبي طالب))(4).
لكنه لم يسجل لنا بعضاً مما رواه علي الأكبر عن جدِه، لضيق الوقت - كما قال الإصفهاني - أو لعدم المناسبة في ذلك الموضوع.
أما فيما يتعلق بأخبار ميلاده الأغر، فليس لدينا شيء منها، بيد أن هناك مجموعة روايات عن عائشة بصدد ميلاد علي الأكبر، فقد جاء بكتاب مطبوع حديثاً ان (لعائشة روايات كثيرة حول تولده (عليه السلام))(5)، ولم يورد الكتاب بعض تلك الروايات والذي يبدو أن تلك المجموعة من الأخبار والروايات ليست موجودة أو مدونة، وانما هي مجرد إشارات ينوهون بها فقط.
ولو تجشم المؤرخون بعض الأتعاب الجزئية لتدوينها وسردها لما أخذت منهم وقتاً كما نرى، سيما وهي خير قرائن تفيد تحديد مدة ولادته الشريفة ومتعلقاتها، وتوحي إلى عدة أمور يمكن الاستفادة منها.
____________
1- انظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني : ص 81 .
2- نسب قريش : ص 57
3- الإرشاد للشيخ المفيد .
4- مقاتل الطالبيين : ص 81 ط 2 بمصر سنة 1970 .
5- وسيلة الدارين - للسيد إبراهيم الزنجاني : ص 286 طبع ببيروت.
نشأته وترعرعه:
ولد علي في بيت يتمتع بالحضور الكامل للإيمان والتقوى بيت رحب الفكر واسع المعرفة مزدحم بالصالحين والطاهرين والذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يفتأون يحرصون على صيانة مبادئ رسالتهم، ويتمسكون بحرفيتها، ويرفعون ألوية العقيدة عالياً.. بيت هو العقيدة بذاتها، الأمر الذي يفسر دعوة الله للناس كي يحبوا ذلك
البيت ويوادوه، ويحاربوا من يكرهه ويعادوه.. بيت عامر بكل ما يمت للإسلام بصلة وللحق والحقائق بروابط وعلائق.
ومن شأن الوليد الذي يفتح عينه في أجواء الصفاء لبيت الصفوة، وأوساط الشرف والسؤدد، وبيئة الخير والصلاح والهدى، من شأنه أن ينشأ على إفاضات ذلك البيت النبيل، وقبسات أهل ذلك البيت من الرجال الذين أنيطت بهم حراسة القضية الإسلامية، وصيانة الشرع الشريف، وحفظ الدين المحمدي الحنيف.
نشأ وهو يرتشف لبن صدور المؤمنات التقيات، وقد تشرب بأخلص العواطف وصادق الحنان، وراح جسده ينمو وتنمو مشاعرهُ السليمة وروحه الطاهرة، ونفسه السوية، أكل وشرب مما أنعم الله به حلالاً طيباً لا يأتيه الباطل والشبهة .. نشأ على أسمى معاني المؤمنين الأتقياء، ومزاحهم الجميل معه.
فمادته ومعنوياته من فيض حوض طاهر نقي، بمعنى أن جسده وروحه تنزها عن الشوائب المكدرة والأدران المقيتة.
ترعرع علي الأكبر في تلك الأوساط النظيفة، حيث قضى سني حياة صباه يدرج بين صفوة الرجال وصفوة النساء، وخيرة الفتيان والصبيان، بين شخصيات جليلة القدر وشباب يسمون نحو الكمال والعز والإباء.
نشأ وترعرع وهو ملء العين، فتخطى الزمن وتجاوز الأيام، مضى يقضي أياماً زاهرة وليالي مباركة، وأشهراً وسنيناً خالدات، متسلقاً الدهر، يعلو فوق هامة التاريخ شخصاً فريداً في مجمل خصوصياته، وشاباً خلاّقاً في ربيع حياته، فرجلاً بطلاً ينفرد في مميزات جمة وجليلة سامية.. إذ نال من التربية ما يصعب على الكثيرين حصوله ونيله، حتى أبناء الملوك والأمراء، أبناء الأكاسرة، والقياصرة، وما هو وجه الشبه حتى نذكر ونمثل بأبناء الملوك؟!
تربيته:
شب نحو العُلى والكمال، فهو بمستوى تعاطي القيم والمثل والتربويات القيمة، والحق أن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مكيفون لذلك منذ الصغر بدءاً من نعومة أظفارهم أي لا يشترط فيهم بلوغ سنٍ معينة ليكونوا على استعداد لأمر ما، كالتربية مثلاً التي تساير نشأتهم وترافق ترعرع صغارهم (الكبار).
أخذ علي الأكبر من التربية الشيء الكثير - دون أن نستكثره عليه سلام الله عليه - وذلك من أعضاء الأسرة الرسالية سواءً الرجال أو النساء، وخصوصاً والده الإمام الحسين الذي يقع عليه عبء إعدادهِ وتعبئتهِ (إن صح قولنا عبء)، والحق أن ذلك لم يكن عبئاً بنظرتهم، أهل البيت، لأنه من أخص خصوصياتهم، فلا يصعب عليهم تكوين النموذج الحي في التربية.
لقد ندرك ببساطة عوامل بلوغ أحدهم مستوىً تربوياً عالياً جداً، وهي بعض عوامل تضلعهم العلم واضطلاعهم بالحكمة فضلاً عن التربية بالذات، وذلك عندما نأخذ بنظر الاعتبار وجود العناصر، أو توفر المقدمات الأساسية هذهِ سلفاً، وهي:
1 - خلو الشخصية من الشوائب السلبية المعكرة والرافضة للإيجابيات والنافرة من الصفاء.
2 - طهارة الروح، وصفاء النفس.
3 - سلامة الضمير.. والتجاوب مع الوجدان.
4 - نزاهة المشاعر، وسمو الأحاسيس..
5 - التطلّع للأفضل والتوق للأحسن .
6 - السعي للاقتراب من الكمال وبلوغ مستوى المسؤوليات ومستوى حمل الرسالة.
هذه كلها مجتمعة تشكل تربة الأرض الخصبة لبذر بذور التربية وغرس أشجار التربية الراسخة الأصول، الضاربة الجذور.. الثابتة في الواقع طالما تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
لقد كانوا - أهل البيت - يحرصون على تطبيق نظرياتهم التربوية الرحبة، ويشددون على ضبط الأساليب التهذيبية، ويخلصون في ممارستهم المنهجية من أجل إعداد الإنسان، إعداداً لا يقبلونه إن لم يكن معادلاً لمهامه ومعادلاً لواجباته ومخاطر مسؤولياته الموكل بها..
انهم لا يقلدون أحداً أو فئة في طرائق التربية، وانما لهم عمقهم الفكري وبعد نظرتهم وإبداع أساليبهم، وممارساتهم المبتكرة، انهم يأخذون من الإسلام ما فيه من شذرات ليضيفوا إليها ليوضحوها ويفصلوها بتحويلها إلى فعل وعمل، إلى ترجمة حيوية صادقة، وذلك بجرها جراً إلى حيز التطبيق، لتدخل دائرة التجربة المؤكدة النجاح والحتمية العطاء..
أضف إلى تلك الممارسات الجادة، امتلاكهم للخبرة الواسعة جداً وإدراكهم للمناهج الفاشلة في هذا المضمار.
ثم إن خريج مدارسهم إنسان رفيع في التربية،عالٍ في العلم، علواً يؤهله وبجدارة لأن يكون هو بشخصه مربياً ومعلماً ينهج ويبدع في المنهج الإسلامي، بل يكون هو بالذات مدرسة مستقلة كفيلة باستيعاب المجتمع وتقديم العطاءات الاصلاحية له، لأن خريج مدارسهم مكيف لذلك جاهز له بحكم مضمونه ومحتواه ((وكل إناء بالذي فيه ينضح)).
ولمن يريد الوقوف على مدارس التربية عند أهل البيت ومناهجهم الواعية، ولمن يريد التوفر على نظرياتهم الثرية، فما عليه إلا أن يراجع مذخوراتهم والثروة الكبيرة من التراث الذي خلفوه. سلام الله عليهم.
ان خصوصيات مناهجهم، التربوية قد انعكست على مواقفهم الصارمة الحاسمة، ففوق أنها سر كمالهم، فهي تفسير مواقفهم المبدئية وقراراتهم الخطيرة التي آلوا على ألا يفرطوا في جنبها.
ونحن إذ نمجد، والمسلمون إذ يمجدون ذلك فيهم فليس من باب الزهو بهم، وانما من باب التأثر والاقتداء بهم لندرك أسرار سيرتهم وأبعاد أعمالهم الصعبة وأمرهم المستصعب، الذي عجز الرجال عن تحمله لافتقارهم للرجولة ولأن رجولتهم الضعيفة تنقصها تربويات الإسلام وفق منهاجه التام..
أوصافه وصفاته:
تمتع آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأوصاف جميلة وصفات جليلة، أوصاف ظاهرة على شخصياتهم للعيان وصفات كامنة تتجلى منهم عند التعرف إليهم ومعايشتهم كما لاحظها وعاشها المعاصرون لهم.
تمتعوا بتجميع الكمالات لديهم دون استثناء أو افتقار لشيء صغير أو كبير.. تمتعوا بتجمع كبريات المواصفات وحسنيات الصفات النبيلة الساميات، فلم يتركوا جميلاً جليلاً إلا ولهم فيه خصوصية، وما من قبيح حقير إلا ولهم في النهي عنه وحربه ممارسات وظيفية..
ذلك لأن تمتعهم بما ذكرنا هو من أخص خصوصياتهم، التي أهلتهم للرسالة، بل هو من أهم اختصاصاتهم - بتعبير أدق -، إذ أنهم ينبغي أن يكونوا في مستوى ما يدعون إليه، وليس من المعقول أن يكونوا رواداً لنظريات ومبادئ، وهم بعيدون عنها أو يفتقرون لمؤهلاتها ومتطلباتها سواء أثناء الدعوة أو خلال التطبيق لما لديهم من مقررات، فالنظرية والتطبيق مما لا يمكن فصلهما قط.. وبذلك فان اختصاصهم الفعال هو كونهم المثل الأعلى، والقدوة الحسنى..
ولو قمنا باستقصاء النظر في مميزاتهم، واستقرأنا مواصفاتهم وأخص خصوصيات شخصياتهم، لما عدونا علي الأكبر عنهم فيما كانوا عليه مما لم يشاركهم أحد فيه .. بل هو في ذروة المميزات وله الحظ الأكبر والقسط الأوفر منها، بحكم أنه شبيه جده النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي حاز قصب السبق إذ كان الأول كما كان المنبع والمصدر(صلى الله عليه وآله وسلم).
وما قولنا بأنه شبيه جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مأخوذ من راوٍ أو مؤرخ أو شاهد عيان بسيط ومعاصر عادي، وإنما هو مأخوذ عن شاهد دقيق النظر، صادق صدوق، فقد صرح بذلك والده الإمام الحسين (عليه السلام)، وعنه روى الراوي وأرخ المؤرخ. سيما وأن الإمام أعرف الناس برسول الله، وأكثرهم التصاقاً به وأشدهم تعلقاً به كما أنه ورث منه واكتسب عنه، فلما ولد نجله علي الأكبر وشب يافعاً، فقد أخذ يوحي بصورته وأخلاقه ومنطقه إلى الرسول، فأضحى ذكراه وتذكاره حتى كان الناس - من أهل المدينة - يشتاقون لرؤياه، سلام الله عليه .. ثم ليس أكثر من أبيه الإمام الحسين حضوراً لملامح جده ومعالم تلك الشخصية العظيمة.. وعليه فان كلامه - والذي سنسجل نصه في القسم الثاني بمكانه المناسب - الذي يؤكد محاكاة علي للنبي وأنه أشبه الناس به خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، كلام بمستوى الحضور الحقيقي.
(وكان (علي الأكبر) من أصبح الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً)(1) حسبما اتفق المؤرخون فضلاً عن اتفاقهم واجماعهم على مضمون تصريح أبيه الحسين من كونه مثيل الرسول من حيث الخلقة، والأخلاق، والنطق.
وحري بنا أن نعود لتسجيل بعض ما ورد عن النبي الأعظم بالذات، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (أي الطويل القامة)، عظيم الهامة رجل الشعر(2).. أزهر اللون واسع الجبين، أزج الحواجب سوابع في غير قرن(3)، بينهما عِرق يدرّه الغضب، أقنى العِرنين(4)،
_______
1- كتاب (لواعج الأسجان) للسيد الأمين : ص 136 .
2- رجل الشعر ـ أي ليس بمجعد ولا مسترسل .
3- أي دقيق وطويل الحاجبين ، والسوابغ ، الاتصال بينهما.
4- أي محدب الأنف .
ولـه نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم(1)، كث اللحية(2)، سهل الخدين(3)، أدعج، ضليع الفم(4)، أشنب مفلج الأسنان(5)، دقيق المسرٌبة كأن عُنقه جيد دُمية في صفاء الفضة (6)، معتدل الخلق بادناً متماسكاً، سواء البطن والصدر عريض الصدر.. حتى يقول: خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويبدر من لقي بالسلام))(7)
تلك بعض أوصافه المقدسة، ومن بعض صفاته الجليلة تقرأ:
((كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليس له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه(:cool:، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضولاً ولا قصيراً فيه، دمثاً (9) ليس بالجافي ولا بالمهين، يُعظم النعمة وان دقت ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها.. وإذا غضب أعرض وأشاح(10)، وإذا فرح غضّ من طرفه، جُلّ ضحكه التبسم(11).
وغير تلك الصفات والأوصاف الشيء الكثير لذلك الرجل الكامل، سيد الكمالات وصاحبها، على أن ما يروى بهذا الصدد إنما هو محاولة لتقريب شخصه الشريف للأذهان.
وبعد : فلنا أن نؤكد حقائق هامة قبل أن نختم الموضوع، فنقول: بأن حرصنا للوقوف على الأوصاف والصفات وتأكيد التقاء علي الأكبر بالنبي الأعظم في مميزاته يرجع إلى أسباب هامة ومبررات موضوعية جادة، منها مثلاً:
1 - إجلاء الشخصية الحيوية السامية، لا لأنها منتسبة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما لما اتسمت به مما توفر في شخص الرسول بالذات، ولمضمون الشخصية ومحتواها، وبحكم أنها تشكل المثل الأعلى.
_________
1- الشمم ، ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه.
2- أي كثيف الشعر في اللحية.
3- أي قليل اللحم .
4- يعني واسع وعظيم الفم .
5- أشنب الأسنان : أي أبيضها ومفلج أي مفرج بينها.
6- المسربة : الشعر وسط الصدر الي البطن.
7- أنظر كتاب (مكارم الأخلاق) للشيخ الطوسي : ص 11 ، 12 ط 6 بيروت 1292.
8- الأشداق : جوانب الفم ، ويعني أنه لا يفتح كل فاه، وفي بعض النسخ (بابتدائه) وليس بأشداقه.
9- الدماثة : سهولة الخلق .
10- أشاح بمعنى أظهر الغيرة ، والشائح : الغيور.
11- للمزيد راجع نفس الصدر (مكارم الأخلاق).
2 - إن الانتساب للرسول كان يكفي للاحترام والامتناع عن القتل، ولكن الأوصاف والصفات كانت تشكل حجة أكبر بجمعها مع النسب الشريف المقدس، ومن هنا كان العدو يخشى قتل علي الأكبر أو يتجنبه كما قيل، لا لأنه سليل الرسول بل لما فيه من اجتماع لمواصفات الرسول(1) بيد أنهم تناسوا ذلك كله فانتهكوا حرمته..
3 - إن أوصافهم وصفاتهم تعطي إيحاءات راقية ومفاهيم خلقية وقيماً ومثلاً نبيلة، لها دورها في إبراز مصداقية المعاني السامية الكريمة التي تكمن فيهم والتي يتسربلون بها.
4 - وأخيراً فمن الضروري جداً إدراك هذه الناحية وهي أنه ليست المميزات المتطابقة مهمة بقدر أهمية تطابق المواقف الرسالية.. وقد شهد التاريخ لعلي الأكبر مواقف جده الصلبة الصارمة، وشهد له أنه شبيه جده رسول الله خلقاً وخُلقاً ومنطقاً وموقفاً وعملاً..
فنحن إذ نقف على الخصال الخيرة المتطابقة، فليس على حساب تطابق النتائج، لاسيما وأن ثمة علاقة بين المميزات
المتشابهة - كمقدمات - وبين المواقف المصيرية - كنتائج - ولنختم هذا الفصل ببيتين لشاعر الرسول حسان بن
ثابت الذي قالها في علي الأكبر وهي:
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرّءاً من كل عيـب كأنك قد خلقت كما تشـاء
________
1- جاء عنه أثناء دخوله ساحة المعركة أنه أخذ ((يكر عليهم وهم لا يجسرون على قتله لأنه شبيه بجده رسول الله وفيه شجاعة حيدر.. )) سفينة النجاة ج 1 : ص 74.
تابع :-
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:35 PM
الفصل الثالث:
شخصيته .. واعتراف معاوية
أشواق أهل المدينة المنورة:
دخل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يثرب التي نارت به وتنوّرت بوجوده فأضحت تدعى ((المدينة المنورة)) .
وعاش الرسول معهم حتى ألفوه، وما أن رحل عنهم منتقلاً الى الرفيق الأعلى حتى اتخذوا من سبطيه الحسنين عوضاً عن صورته وأخلاقه الخلاقة، فهم ينظرون إلى الحسن والحسين فيتذكرون بهما رسول الله ذلك المنقذ العملاق، سيد المُحررين من شتى أشكال العبوديات.
وبعد أن ولد علي الأكبر وتسلق السنوات، فشب فتى هاشمياً محمدياً وظهرت عليه مجمل خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى راحوا يتشوقون إليه، ليستمدوا من ملامحه وشمائله ومعانيه وجماله ذكرى الرسول وذكرياتهم الماضية مع رسولهم الهادي..
فعلي الأكبر يعكس لهم الصورة الحيوية لسيد البشرية الراحل، فهو صورة طبق الأصل كما تبدو لناظريهم وبرؤية واضحة ليست غامضة، وقد روي أنهم إذا اشتاقوا للنظر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، طفقوا إلى عليّ الأكبر يزورونه ويتزودون من طلعته البهية، بحيث أن هذا الانعكاس الحيوي للصورة النبوية المقدسة أقرها والده الحسين وهو إذا اشتاق لجده تطلع إلى ولده..
على أن عواطف أهل المدينة وأشواقهم لنبيهم وأهل بيته كانت تقابل بالتجاوب طبعاً، فلم يضن عليهم ـ علي الأكبر - بلقاء أو مجالسة في المدينة وأحيائها أو داخل المسجد النبوي الشريف أو في بيته الخاص... إذ روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) أفرد له بيتاً مستقلاً خاصاً به، فأخذ يستقبل المحبين معرباً عن خاصية الكرم، ومترجماً عملياً موقفه من الضيافة، فمن الناس من يفد عليه للتحدث إليه والتعلم بين يديه، ومن الناس من يزوره نوالاً لجوده وعطاء يده الكريمة، فضلاً عما يهدفون إليه من التزود من ذكريات الماضي المجيد ويوميات الرسالة والرسول الذي تتجلى معالمه على سليله علي (عليه السلام) ..
كان يؤم داره أناس من جميع الطبقات والمستويات، لاسيما الفقراء.. كان داره عبارة عن منتدىً ثقافي للوفود، ومنتجع للكرم والجود.
أما الشعراء فلم تفتهم الفرصة لدخول بيت كرمهِ من باب جوده وعلو شرفه.. حتى وصفه أحدهم فقال عنه:
لـم تـرَ عيـن نظـرت مثله من محتفٍ يمشي ومن ناعلِ
يغلـي بنـيّ اللحـم حتـى إذا أنضـج لـم يغـل على الآكل
كـان إذا شــبت لـه نـاره أوقـدها بالشـرف القـابـلِ
كيـما يـراها بائـس مرمـل أو فـرد حـي ليـس بالآهلِ
أعني ابن ليلى ذا السدى والندى أعني ابن بنت الحسب الفاضلِ
لا يـؤثر الـدنيا علـى ديـنه ولا يبيـع الحـق بالباطلِ (1)
تلك القطعة الأدبية والمقطوعة الشعرية، تعتبر وثيقة على حقيقة فتح بابه لكل الطبقات والهيئات والفئات.
والذي نستشفه من تلك الأبيات، هو أن الشاعر قد شاهد علياً وكان له معاصراً،
أنه رآه عياناً، بمشيته ومظهره ـ حسبما يوحي البيت الأول.. أما البيت الثاني فيفيد بأنه كان حريصاً على السخاء والبذل، بحيث أنه يعلن عن موقع الجود وذلك بإيقاد النار فوق المكان العالي المرتفع كعادة الكرام المحسنين، تلك النار التي تدلل على البيت والمضيف، وقد كان الغرباء والفقراء المعسرون يتطلعون دوماً إلى الأماكن التي تتصاعد منها ألسنة النيران كيما ترشدهم إلى صاحب الضيافة، وسيد الكرم، حسبما عبر البيت الثالث والرابع.
ثم يمجد السيدة ليلى ذات الشرف والحسب الفاضل، ليختم ببيت هو في غاية الأهمية، إذ يؤكد عقائدية هذهِ الشخصية وصرامتها وحديتها بحيث لا قيمة للحياة ولا فائدة من التعامل بالباطل، بل لا معنى للحياة بحضور الباطل، أنه لا يؤثر الدنيا، كما لا يستعيض عن الحق والحقيقة بالأثمان القليلة الرخيصة لأنه ليس من عشاق الحياة الدنيا، انه صاحب قضية فهو صاحب موقف لا يغيره لأنه رائد من رواد الحق.. ذلك هو البيت الأخير وهو أيضاً بيت القصيد.
كان أهل المدينة يرتادون منزله الرحب الواسع بما فيه وبما يحويه، فالبائس بحاجة ماسة إلى من يطعمه، وإن من ليس له أهل أو لا يملك قوت يومه، بحاجة ملحة إلى تلك النار التي تعلو لتدعو الجائع ولتعلن مدى كرم من أوقدها وأشعلها...
هكذا كان نظير جده في الخَلق والخُلق والمنطق. ولا أكتمكم سراً، لو قلت بحقيقة أن أهل المدينة ينطلقون في أشواقهم لرؤيا النبي بلقاء علي من باب العواطف والذكرى فحسب، لا من باب تجديد عهد
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تأكيد ولاء لعلي.. بدلالة موقفهم من الثورة الحسينية المتمثل بالإحجام والتهرب وعدم الأسهام، إلاّ من عصم ربك من المؤمنين حقاً (وقليل ما هم).. المؤمنون فقط لا غيرهم.. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) قرآن كريم.
ذلك هو الذي كانت المدينة عامرة به وبأبيه العظيم، كانت عامرة بوجوده وجوده، بكيانه وكرمه، بسموه وسخائه.. الذي كان موطن حب للمسلمين، والذي عاش وهو محط أشواق الناس لنبيهم.
تابع :-
ولد الشيخ
19-05-2008, 10:37 PM
اعتراف معاوية:
مما سبق يتضح جلياً ما لعليّ من شخصية ذات مؤهلات وكفاءات عالية رفيعة... وهو ما لم يدركه المحبون والمؤمنون والذين يشتاقون لرؤيته وزيارته، فقط، بل يدركه أيضاً أولئك الكارهون والمعادون.. وعليه فقد كان علي الأكبر مثار إعجاب الأعداء فضلاً عن الأصدقاء والتابعين باحسان.
إعجاب يجبرهم عليه شخصه، إذ يفرض نفسه فرضاً بما يتمتع به من مواصفات كبرى، بحيث شهدوا له رغماً عنهم واعترفوا به وهو غني عنهم، ومدحوه وهم له ولأسرته كارهون ولرسالته وأهدافه مبغضون، هكذا هم الأعداء، فما ظنك بما ينبغي أن يقوله الأصدقاء؟!
والعدو يندر أن يتكلم ويقول الحقيقة، ولكنه يأتي بها مشوهة نسبياً، وفي حالات ونوبات نفسية معينة، وخلال شكهٍ بنفسه وفقدانه الثقة بشخصه، ولهذا قال معاوية - وغيره كثيرون - في الإمام عليّ أمير المؤمنين وعموم أهل البيت النبوي ما قال وصرح بعظمة علي أمير المؤمنين، ولا يسعنا هنا أن نذكر ذلك..
والآن نذكر الرواية التالية عن أبي الفرج الأصفهاني التي سجلها في معرض حديثه عن علي الأكبر فقال:
((وإياه عنى معاوية في الخبر الذي حدثني به محمد بن محمد ابن سليمان. قال حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال حدثنا جرير، عن مغيرة قال؛ قال معاوية: من أحق الناس بهذا الأمر (أي الخلافة) ؟؟))(2).
فأجابه جلساؤه فوراً. بأنه هو هو أحق بهذا الأمر وبالخلافة.. لم تكن الجلسة جلسة مداعبة أو لهو.. وبالضبط لم يكن السؤال لمجرد التفكه، كما قد يتوهم الساذج، ولم يطرحه معاوية على سبيل الفكاهة.. وقد تتجلى جدية السؤال من خلال نفي معاوية نفسه للجواب الفوري الذي حصل عليه.
((من أحق الناس بهذا الأمر؟ قالوا: أنت.. قال: لا)) (3).
وهم يعلمون أنّهم أكذب الناس طراً حينما أجابوه فوراً دونما تفكير.. ورفض معاوية جوابهم الذي يعرفه ويعرفهم سلفاً.. ولم يسكت معاوية إذ أردف بالجواب بعد نفيه، فيبدو أن في خلده شيء وقد اختلج في صدره شيء فاعتملت فيه واستحوذت عليه، سيما وأن الحقيقة لا يمكن أن تخفى، بل كل شيء عموماً خاضع للكشف: ((ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه)) (4) وهكذا اعترف معاوية:
((.. لا .. ان أولى الناس بهذا الأمر: علي بن الحسين بن علي (عليه السلام)، جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أمية وزهو ثقيف)) (5). (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) قرآن كريم.
لنقف كيما نعقب فنقول:
1 - إن كلام معاوية قاصر عن تحديد حقيقة مواصفات الخليفة المرجو، وما ينبغي أن يكون عليه من يجب أن يتولى الأمر..
فثمة شروط للخلافة لم يذكرها معاوية وهي متوفرة في علي الأكبر.. ترى هل نسيها أو تناساها؟ أم خشي الفضيحة لو ذكرها وهو خلو منها.. فقد تجاهل الاعتبارات الكبرى والشرائط العظمى للخليفة وولي الأمر، ذكراً ثلاث صفات سنعلق عليها..
2 - وتجنب معاوية إبراز خصوصيات الهاشميين ومؤهلاتهم الجليلة، فلم يذكر سوى ما هو مشهور عنهم وهي الشجاعة ((وفيه شجاعة بني هاشم)) وكأن ليس لني هاشم غير الشجاعة! وكأن هذه الصفة ركيزة يعول عليها الخليفة..!!.
3 - ثمّ أن عليّ الأكبر - وعموم أهل البيت - يتنزهون عن الزهو، حتى يصفه.. معاوية بأن له زهو ثقيف..
4 - وحاول بكلامه جر مواصفات علي إلى الأموية، وأراد فرض العنصر الأموي في سلوك عليّ الأكبر - لأن جدته لأمه من بني أمية -، فقال عنه وفيه ((سخاء بني أمية)) والحق أن سبب ربط السخاء بالاموية، يرجع إلى شهرة عليّ الأكبر بالجود والكرم والعطاء، وإلى تصنع معاوية لتلبس شخصه وحكمه ألبسة براقة، فلطالما، أخذ مواصفات ومميزات أهل الحق والحقيقة، كالحلم والعفو، كالذكاء والدهاء، كالعدل وحسن السيرة.. لقد قام معاوية باقتباسها له.. فتوشح بها واستعار أوستمها دون معانيها.. وأسماءها دون مسمياتها...
5 - وعلى كل حال، فنحن نرى أن الزهو ليس مما يشترط توفرها عند الخليفة، كما أن السخاء ليس ضرورة أو من أوليات صفات الخليفة، أما قوله ((جده رسول الله)) فهذا صحيح ولكنه لا يكفي مبرراً لتولي الأمر - حسبما علمنا أهل البيت أبناء الرسول وأحفاده - فبعد النسب لآل الرسول يجب حضور الشرائط والكفاءات.. فلماذا لم يذكر معاوية أهم تلك الشرائط، وأولويات صفات ولي الأمر..
6 - لماذا تجاهل معاوية والد علي وهو الإمام الحسين بن علي.. ؟؟ لابدّ أنّ تجاهله الإمام (عليه السلام)، لأنه في مقام الندِّ له والواقف له بالمرصاد، بحيث لو تحرك لحرب الأموية بنفسه لكان هناك مستساغاً حتى عند معاوية وجلسائه، بينما ذكره لعلي الأكبر أهون وأخف لأن علياً لا يخرج لحرب معاوية لوحده..
7 ـ وسواء كان أولى الناس هو علي الأكبر أو والده الإمام الحسين أو أهل البيت، فما المبرر الذي يبقي معاوية على عرش الملك بصفة ولي الأمر وخليفة رسول الله، (وأبناء رسول الله محكومون مهددون)؟؟ . يبدو أن مجلسه يخلو من رجل صريح يسأله عن سبب قعوده وعدم تسليمه الحكم لبني هاشم أو لعلي..
8 - وانما سجلنا الرواية مع وقفة وتأمل، فليست لأن الرواية تزيد ايمانناً بقضايانا، كلا فنحن علي إيمان راسخ بحقيقة الخلافة والإمامة ولمن تجب. ولو أن معاوية وأبناءه وأمثالهم قد كذبوا الحق وحاربوه ومهما عملوا، كما قد فعلوا، لما ارتبك القلب واضطرب الفؤاد أو ضعف الإيمان..
وليس كلام معاوية بمفرح مبهج لنا، بقدر ما هو برهان ودليل وحجة، هكذا نأخذه لا كلام نفرح به ونتسلى به.. أو ندهش ونعجب له.. ((والفضل ما شهدت به الأعداء)).
ذلك هو علي الأكبر في شخصيته الفذة العظيمة، ذلك هو الشاب المبدئي صاحب المواقف الجريئة والملامح المضيئة، الذي أضحى ملء العين.. رضى لله وعطاءاً للأمة.
وأخيراً فقد أطلقنا لفظة (( اعتراف.. ولم نقل شهادة معاوية فلأسباب موضوعية. منها:
1- أننا لا نحتاج لشاهد على ما نقول، ولا نحتاج لشهادة العدو.
2 - أنه اعتراف بمعنى الكلمة على أولاً الشخصية الفذة لعلي. وثانياً عدم جدارته هو - معاوية - وافتقاره للكفاءة في منصبه.. هذا الفهم وهذه الإفادة ليست مجرد شهادة وإنما اعتراف.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) قرآن كريم..
________
1- مقاتل الطالبيين : 81 .
2- مقاتل الطالبيين : 80 .
3 - مقاتل الطالبيين : 80 .
4- نهج البلاغة : ج 4، ص 569 .. وهذه قاعدة يخضع لها محب علي وعدو علي عليه السلام.
5- مقاتل الطالبيين : 80 .
ولد الشيخ
19-05-2008, 11:05 PM
اعتراف معاوية:
مما سبق يتضح جلياً ما لعليّ من شخصية ذات مؤهلات وكفاءات عالية رفيعة... وهو ما لم يدركه المحبون والمؤمنون والذين يشتاقون لرؤيته وزيارته، فقط، بل يدركه أيضاً أولئك الكارهون والمعادون.. وعليه فقد كان علي الأكبر مثار إعجاب الأعداء فضلاً عن الأصدقاء والتابعين باحسان.
إعجاب يجبرهم عليه شخصه، إذ يفرض نفسه فرضاً بما يتمتع به من مواصفات كبرى، بحيث شهدوا له رغماً عنهم واعترفوا به وهو غني عنهم، ومدحوه وهم له ولأسرته كارهون ولرسالته وأهدافه مبغضون، هكذا هم الأعداء، فما ظنك بما ينبغي أن يقوله الأصدقاء؟!
والعدو يندر أن يتكلم ويقول الحقيقة، ولكنه يأتي بها مشوهة نسبياً، وفي حالات ونوبات نفسية معينة، وخلال شكهٍ بنفسه وفقدانه الثقة بشخصه، ولهذا قال معاوية - وغيره كثيرون - في الإمام عليّ أمير المؤمنين وعموم أهل البيت النبوي ما قال وصرح بعظمة علي أمير المؤمنين، ولا يسعنا هنا أن نذكر ذلك..
والآن نذكر الرواية التالية عن أبي الفرج الأصفهاني التي سجلها في معرض حديثه عن علي الأكبر فقال:
((وإياه عنى معاوية في الخبر الذي حدثني به محمد بن محمد ابن سليمان. قال حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال حدثنا جرير، عن مغيرة قال؛ قال معاوية: من أحق الناس بهذا الأمر (أي الخلافة) ؟؟))(2).
فأجابه جلساؤه فوراً. بأنه هو هو أحق بهذا الأمر وبالخلافة.. لم تكن الجلسة جلسة مداعبة أو لهو.. وبالضبط لم يكن السؤال لمجرد التفكه، كما قد يتوهم الساذج، ولم يطرحه معاوية على سبيل الفكاهة.. وقد تتجلى جدية السؤال من خلال نفي معاوية نفسه للجواب الفوري الذي حصل عليه.
((من أحق الناس بهذا الأمر؟ قالوا: أنت.. قال: لا)) (3).
وهم يعلمون أنّهم أكذب الناس طراً حينما أجابوه فوراً دونما تفكير.. ورفض معاوية جوابهم الذي يعرفه ويعرفهم سلفاً.. ولم يسكت معاوية إذ أردف بالجواب بعد نفيه، فيبدو أن في خلده شيء وقد اختلج في صدره شيء فاعتملت فيه واستحوذت عليه، سيما وأن الحقيقة لا يمكن أن تخفى، بل كل شيء عموماً خاضع للكشف: ((ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه)) (4) وهكذا اعترف معاوية:
((.. لا .. ان أولى الناس بهذا الأمر: علي بن الحسين بن علي (عليه السلام)، جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أمية وزهو ثقيف)) (5). (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) قرآن كريم.
لنقف كيما نعقب فنقول:
1 - إن كلام معاوية قاصر عن تحديد حقيقة مواصفات الخليفة المرجو، وما ينبغي أن يكون عليه من يجب أن يتولى الأمر..
فثمة شروط للخلافة لم يذكرها معاوية وهي متوفرة في علي الأكبر.. ترى هل نسيها أو تناساها؟ أم خشي الفضيحة لو ذكرها وهو خلو منها.. فقد تجاهل الاعتبارات الكبرى والشرائط العظمى للخليفة وولي الأمر، ذكراً ثلاث صفات سنعلق عليها..
2 - وتجنب معاوية إبراز خصوصيات الهاشميين ومؤهلاتهم الجليلة، فلم يذكر سوى ما هو مشهور عنهم وهي الشجاعة ((وفيه شجاعة بني هاشم)) وكأن ليس لني هاشم غير الشجاعة! وكأن هذه الصفة ركيزة يعول عليها الخليفة..!!.
3 - ثمّ أن عليّ الأكبر - وعموم أهل البيت - يتنزهون عن الزهو، حتى يصفه.. معاوية بأن له زهو ثقيف..
4 - وحاول بكلامه جر مواصفات علي إلى الأموية، وأراد فرض العنصر الأموي في سلوك عليّ الأكبر - لأن جدته لأمه من بني أمية -، فقال عنه وفيه ((سخاء بني أمية)) والحق أن سبب ربط السخاء بالاموية، يرجع إلى شهرة عليّ الأكبر بالجود والكرم والعطاء، وإلى تصنع معاوية لتلبس شخصه وحكمه ألبسة براقة، فلطالما، أخذ مواصفات ومميزات أهل الحق والحقيقة، كالحلم والعفو، كالذكاء والدهاء، كالعدل وحسن السيرة.. لقد قام معاوية باقتباسها له.. فتوشح بها واستعار أوستمها دون معانيها.. وأسماءها دون مسمياتها...
5 - وعلى كل حال، فنحن نرى أن الزهو ليس مما يشترط توفرها عند الخليفة، كما أن السخاء ليس ضرورة أو من أوليات صفات الخليفة، أما قوله ((جده رسول الله)) فهذا صحيح ولكنه لا يكفي مبرراً لتولي الأمر - حسبما علمنا أهل البيت أبناء الرسول وأحفاده - فبعد النسب لآل الرسول يجب حضور الشرائط والكفاءات.. فلماذا لم يذكر معاوية أهم تلك الشرائط، وأولويات صفات ولي الأمر..
6 - لماذا تجاهل معاوية والد علي وهو الإمام الحسين بن علي.. ؟؟ لابدّ أنّ تجاهله الإمام (عليه السلام)، لأنه في مقام الندِّ له والواقف له بالمرصاد، بحيث لو تحرك لحرب الأموية بنفسه لكان هناك مستساغاً حتى عند معاوية وجلسائه، بينما ذكره لعلي الأكبر أهون وأخف لأن علياً لا يخرج لحرب معاوية لوحده..
7 ـ وسواء كان أولى الناس هو علي الأكبر أو والده الإمام الحسين أو أهل البيت، فما المبرر الذي يبقي معاوية على عرش الملك بصفة ولي الأمر وخليفة رسول الله، (وأبناء رسول الله محكومون مهددون)؟؟ . يبدو أن مجلسه يخلو من رجل صريح يسأله عن سبب قعوده وعدم تسليمه الحكم لبني هاشم أو لعلي..
8 - وانما سجلنا الرواية مع وقفة وتأمل، فليست لأن الرواية تزيد ايمانناً بقضايانا، كلا فنحن علي إيمان راسخ بحقيقة الخلافة والإمامة ولمن تجب. ولو أن معاوية وأبناءه وأمثالهم قد كذبوا الحق وحاربوه ومهما عملوا، كما قد فعلوا، لما ارتبك القلب واضطرب الفؤاد أو ضعف الإيمان..
وليس كلام معاوية بمفرح مبهج لنا، بقدر ما هو برهان ودليل وحجة، هكذا نأخذه لا كلام نفرح به ونتسلى به.. أو ندهش ونعجب له.. ((والفضل ما شهدت به الأعداء)).
ذلك هو علي الأكبر في شخصيته الفذة العظيمة، ذلك هو الشاب المبدئي صاحب المواقف الجريئة والملامح المضيئة، الذي أضحى ملء العين.. رضى لله وعطاءاً للأمة.
وأخيراً فقد أطلقنا لفظة (( اعتراف.. ولم نقل شهادة معاوية فلأسباب موضوعية. منها:
1- أننا لا نحتاج لشاهد على ما نقول، ولا نحتاج لشهادة العدو.
2 - أنه اعتراف بمعنى الكلمة على أولاً الشخصية الفذة لعلي. وثانياً عدم جدارته هو - معاوية - وافتقاره للكفاءة في منصبه.. هذا الفهم وهذه الإفادة ليست مجرد شهادة وإنما اعتراف.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) قرآن كريم..
________
1- مقاتل الطالبيين : 81 .
2- مقاتل الطالبيين : 80 .
3 - مقاتل الطالبيين : 80 .
4- نهج البلاغة : ج 4، ص 569 .. وهذه قاعدة يخضع لها محب علي وعدو علي عليه السلام.
5- مقاتل الطالبيين : 80 .
نهاية
مع تحياتي ( ولد الشيخ)
إنشاء الله نشوف الردود
vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
Jannat Alhusain Network © 2024