أرجوان
20-07-2008, 01:14 PM
الجزء الأول
1- دنيا الأضداد
دجلة تتدافع أمواجه.. تتألق تحت أشعة شمس الغروب.. القباب والمنائر تغمرها غلالة ذهبية.. فبدت شفّافة موحية.. حتّى أشجار النخيل التي تنهض على ضفاف النهر بدت هي الأخرى كرموشِ حسناء ساحرة..
القصور المرمرية الأنيقة.. تتناثر فوق الشطآن كلالئ منثورة، وما يزال قصر الذهب بقبته الخضراء يهيمن على بغداد أجمل مدن الشرق.. وما يزال الفارس يشير برمحه الطويل إلى المَدَيات البعيدة.. حيث تشتعل الثورات(1).
انزلق القارب الصغير في المياه الباردة.. وراح ينساب مع تموجات النهر.. من بعيد بدا قصر ( الخلد ) متألقاً.. ما يزال فتيّاً رغم عقد من السنين.
جلس الفتى في قاربه يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تغتسل بعض الأغصان المتدلّية.
غابت الشمس، توارت خلف ذُرى النخيل.. فبدت متّقدة بلون يشبه توهجات الجمر في المواقد الشتائية.
هبّت نسمة عليلة بدّدت شيئاً من حرّ آب. في دجلة لا يشعر المرء بلهيب آب، فالضفاف الخضراء والمياه الباردة القادمة من أقاصي الشمال، تبعث في النفس شعوراً بالحيوية..
غابت الشمس.. وانتشرت ظلمة خفيفة.. ومن بَعيد كان صوت الأذان ينساب كانسياب المياه..
ضرب الفتى بمجدافه المياه، فاتّجه القارب صوب قصر ( الخُلد ).. وشيئاً فشيئاً تناهت له أصوات الموسيقى والغناء، وكان صوت الأذان يتلاشى في أُذنيه حتّى اختفى تماماً...
توقف القارب في الرمال الناعمة وبدا الشاطئ صفحة ملساء.. قفز الفتى الذي لم يبلغ العشرين بعد.. قفز إلى الشاطئ الرملي، وربط القارب بجذور شجرة معمَّرة.. وراح يشقّ طريقه بين أشجار النخيل..
تعالت أصوات الموسيقى، وارتفع غناء الجواري.. بدا القصر في تلك الليلة صَدَفة جميلة تتألق في الضوء.
مئات القناديل تضيء في الشرفات، والجواري في ثيابهن المزركشة.. شعر الفتى أنّه قد يعيش في عالم آخر.. منذ مدّة وهو يترقّب هذه اللحظة.. لقد سمع منذ أسابيع عن عزم الحاكم ( المهدي )(2) على تزويج ابنه هارون من ابنة عمّه المدلّلة ( زُبَيدة ) أثرى فتيات بغداد.. وسيّدة بني العبّاس الأولى..
اقترب الفتى أكثر.. كان يتلصّص حذراً.. منتظراً فرصة مناسبة ليزجّ بنفسه مع جموع المدعوّين.. سوف تشفع له ثيابه الفاخرة التي جلبها له أبوه التاجر من الهند..
صدحت الموسيقى.. وظهرت عشرات الجواري.. الفتيات الجميلات يخطرن كالظباء.. يَرفَلْن بالحُلل الحريرية المزركشة بالذهب.. فتيات من بلدان عديدة.. فتيان من أرمينيا ومن الهند، والمغرب وإيران.
أروقة القصر مزيّنة بالسجاد الأرمني.. والبُسط الفارسية..
وجاء سِرب من الجواري يَحملنَ أطباقاً من الذهب ملأى بالفضة وأطباقاً من فضة ملأى بالذهب.. وجاء سرب آخر من الجواري يحملن أنواع الحلل.. وسرب من الفتيات يحملن صناديق تزخر بالمجوهرات.. وتلاهُنّ فتيات يحملن آنية العطر.. وأخيراً جاءت حسناوات يحملن أطباق الطعام.. وآنية الخمر.
شعر الفتى لوهلة أنّه في الجنّة.. تذكّر صديقه الفقير الذي مات في ( الوباء )(3) قبل أيّام.. وفي غمرة ذهوله ظهرت ( العروس ).. ظهرت ( زبيدة ) كأجمل ما تكون، تنوء بحلل الذهب، ورأى لأول مرّة تلك الحُلّة العجيبة التي طالما سمع عنها في الأحاديث والحكايات.. رأى شيئاً أُسطورياً..
كيف يُصاغ الثوب كلّه من الذهب فلا يدخل فيه من الغَزْل سوى القليل القليل من الحرير.
كان منظر اللآلئ وهي تُطرّز ثوب الذهب كنجوم في بركة تغمرها أضواء الشمس..
كانت زبيدة تخطر في مشيتها تحفّها عشرات الصبايا.. وقد استقرّ فوق رأسها تاج ملكي مرصّع بالجواهر النادرة..
وجاء ( هارون )(4) بشبابه المتفجّر وطوله الفارع.. ووجهه الممتلئ نعمةً ودلالاً.
وبالرغم من أنّ الحاكم قد حرص على أن يظهر بمظهر الأُبهة، لكنّه ضاع إلى جانب زوجته ( الخَيزُران ) التي كانت تجلس كملكة، عيناها تتألقان بنفوذ قاهر..
أمّا الحاكم العبّاسي فقد بدت عيناه منطفئتين.. أذهب بريقَهما السُّكْر..
انتصف الليل.. واشتعلت حمّى الشهوات، وتعالت الضحكات الماجنة..
وانسلّ الفتى.. عاد من حيث أتى.. عاد قبل أن يدركه الصباح.. وقبل أن تسكت ( شهرزاد ) عن الكلام المباح!
ألفى قاربه في مكانه لَكأنه ينتظر.. شعر الفتى أنّه كان في عالم الأطياف.. وأنّه قد استيقظ ليجد نفسه في قاربه يجذف باتجاه الجانب الشرقي حيث تنهض أكواخ الفقراء. طفحت في أعماقه دهشة كفقاعات مليئة بالهواء سرعان ما تنفجر وتتبدد.. سمع نفسه يقول:
ـ بغداد، يا مدينةً عجيبة.. كيف أمكنكِ أن تحتضني كل هذا الترف والبذخ إلى جانب البؤس ؟!
كيف لدِجلتك أن تبقى هادئة وهي تمرّ بالقصور مقابل الأكواخ ؟! بغداد أنت حكاية عجيبة! الويل لك يا بغداد!!
فجأة ظهر في قلب الظلمة قارب مليء بوجوه قاسية.. رجال يحملون الرماح. بدا أحدهم بطوله الفارع ووجهه القاسي وشواربه المفتولة كائناً مخيفاً كالذي يتحدّث عنه تجّار البحار..
قفز بعض الرجال إلى قاربه.. واستسلم الفتى.. عرف أن هؤلاء من حرس القصر.. وأنّه قد ارتكب جرماً بالاقتراب من قصر ( الخلد ).
تركهم يفعلون ما يشاؤون، لم يعترضْ ولم يستعطف..
راح القاربان ينسابان وسط صمت مَريع.. سأل الرجلُ المفتول الساعدين والشارب:
ـ ما اسمك ؟
أجاب الفتى:
ـ عليّ.
وصل القاربان الى مرفأ صغيراً عند جسر الرُّصافة. نزل الرجال.. ونزل الفتى. اتّجهوا إلى باب الطاق.. وعبروا الخندق.. واجتازوا المَسناة.. فاستقبلهم حرس الطاقات في باب البصرة. وفي ضوء الشماعل تأمّل الفتى رجال الشرطة..
أدرك أنهم سوف يذهبون به إلى سجن ( المِطْبَق )، فشعر بدوار يعصف برأسه المُثقَل بالهموم.
2- العَودة إلى المدينة
قصر الذهب تضيء أروقتَه القناديل.. انتصف الليل وخفّت حركة الحرّاس وخَبَت بعضُ المشاعل.. أوَت جواري القصر إلى مخادعهنّ الوثيرة. ( الخليفة ) يتقلب فوق سريره بين الوسائد.. تفوح من فمه رائحة الخمر.. من يراه في تلك اللحظات يحسبه نشواناً في خيالات الأحلام.. يقظته حلم لذيذ، ونومه أطياف ملوّنة.
ولكن ما بال وجهه يبدو كدراً.. حاجباه ينعقدان.. ولونه مخطوف، ما تزال الكوابيس تطارده ؟! وفي كل مرّة كان يرى خزائن والده في القَبو ملأى بالجماجم.. جماجم أبناء العمومة. فجأة انتفض النائم مذعوراً.. استوى على فراشه وجبينُه يتصبب عرقاً.
تلفّت حوالَيه قبل أن يتأكد من أنّه زعيم البلاد وخليفة العباد.. الذي تُجبى إليه الأموال من المشارق والمغارب..
كانت حسناء الروم تغطّ في نوم عميق.. غادرَ ( الخليفة ) فراشه..
وقف ( الخليفة ) في شرفة القصر يحدّق في الظلام.. وراح يردد بصوت شجيّ:
ـ ( فهَل عسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسدوا في الأرضِ وتُقطِّعوا أرحامَكم... ).
كان ( الربيع ين يونس )(5) ( وزير الخليفة ) غارقاً في الملاءات في تلك الليلة عندما هب على دويّ طرقات غليظة.. أدرك أنّهم رُسل ( الخليفة ). ارتدى ثيابه على عجل، وانطلق مع الحرّاس إلى قصر ( الذهب ).
ألفى الخليفة يذرع البهو، ويردد بصوت جميل آية من كتاب الله، هتف ( الخليفة ).
ـ علَيَّ بموسى بن جعفر..
لم يكن هناك مجال للتأخير، فالأوامر واضحة وقويّة. انطلق الوزير يحفّه حرّاس غلاظ إلى سكّة المطبق. هناك وإلى يمين الطريق المؤدية إلى بوابة البصرة يقع السجن الرهيب.. زنازين صغيرة في أعماق الأرض تشبه القبور، حَفَرها ( المنصور ) لكل من يعارض ( سلطان الله في الأرض )(6)! لكل من يعارض ( الخليفة )!
لم تُفلح المشاعل في تبديد الظلمات المتراكمة في ( المطبق )، وبدا الهواء المرطوب داخل السجن خانقاً...
اتّجه الوزير بخطىً واسعة إلى زنزانة يعرفها تماماً.. هنا ينزل الرجل المَدنيّ موسى بن جعفر...
كان الرجل المدنيّ ما يزال ساجداً كثوبٍ مطروح.. وقف الوزير مشدوهاً.. ومرّت لحظات صمت رهيب... فهذا الرجل الحجازيّ لا يعبأ بمَن حوله وبما حوله.. لم يسمعه أحدٌ يتضجّر من ظُلمة السجن.. من الزنازين الخانقة.. من القيود القاسية.
همس الوزير باحترام جمّ:
ـ يا أبا الحسن!
رفع الرجل الذي أطلّ على الأربعين رأسَه، تألقت عيناه تحت وهج المشاعل.. وبدا وجهه الأسمر مضيئاً بنور شفّاف..
العينان تُخفيان حزناً عميقاً... والشفتان تكمن وراءهما ابتسامة ملائكية.. والأنف الأشمّ يعكس كبرياء الإنسان الذي لا يسجد لغير الله..
شعر الوزير برهبة تستوعب وجوده.. وتساءل في نفسه عن سرّ هذا الرجل الغريب!
نهض أبو الحسن.. ابتسم الوزير وهو يزفّ له بشرى الحرّية:
ـ لقد استدعاني الخليفة وسمعتُه يقرأ آيةً من كتاب الله..
الوجه الأسمر يطفح بالطمأنينة.. تنعكس فوق ملامحه عوالم السلام..
فكّ الحارس قيداً يربط قدم السجين بصخرة قاسية..
في بوابة المطبق الصخرية.. رأى الفتى رجلاً يطلّ على الأربعين، وجهه الأسمر يطفح طمأنينة.. وجسمه النحيف يشبه نخلة مَيساء..
فاحت رائحة طيّبة.. لكأنّ الربيع قد حلّ في ( المطبق ) يمنح المقهورين الأمل.
توقّف الرجل المدني وقد مرّ بالفتى.. تأمل في وجهه قليلاً وهمس:
ـ زكاة السلطان الإحسان إلى الإخوان.
غادر الرجل المدني ( المطبق )، لاحت له السماء وقد تناثرت آلاف النجوم كلالئ منثورة فوق عباءة كُحْليّةِ اللون.
تمتم الرجل المدني وهو يتطلع إلى السماء المرصّعة بالنجوم.
ـ يا مَن لا يعتدي على أهل مملكتِه!
رجف قلب الوزير، تذكّر دسائسه للإطاحة بالوزير السابق ( يعقوب بن داود )(7)، ها هو الآن في ظلمات المطبق سيبقى فيها حتّى ينتقل إلى ظلمات القبر.
* * *
نهض ( الخليفة ) احتفاءً بالرجل المدني.. عانقه وقبّله وأخذ بعَضُده ليجلسه إلى جانبه..
مرّت لحظات صمت قطعها ( الخليفة ) قائلاً:
ـ يا أبا الحسن.. رأيتُ جدَّك أمير المؤمنين عليّاً.. كان حزيناً، قال لي: يا محمد! (فهَل عسَيتُم إن تولّيتُم إنْ تُفسِدوا في الأرضِ وتُقطِّعُوا أرحامَكم)..
ـ وها أنا أريد أن أصل رحمي.. أريد أن أردّك إلى أهلك.. ولكني أخشاك يا موسى.. أخشى أن تخرج علَيّ أو على أحد من ولدي!
أجاب الرجل المدني:
ـ واللهِ ما فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني.
أجاب ( الخليفة ) وقد خامره شعور بالارتياح:
ـ صدقت.
والتفت إلى وزيره وقال:
ـ يا ربيع، أعطِه ثلاثة آلاف دينار، وردّه إلى أهله.
انتهى اللقاء.. ونهض الرجل المدني يودّع القصر والسجن، ويودّع بغداد..
في قلبه شوق للقاء الأحبّة.. هناك في مدينة جدّه أولاد وبنات ينتظرون.. يترقّبون عودة أبيهم...
كانت النجوم تشتدّ سطوعاً في الهزيع الأخير من الليل، لم تَغفُ بغداد بعد.. فبعض الكُوى والنوافذ ما تزال تتدفق نوراً.. وتتناهى لمن يمرّ على بعض بيوتها أصوات موسيقى وغناء..
كان الربيع يدرك تقلّبات ( الخليفة ).. يعرف نزواته ويسبر مدى حقده على أبناء عليّ.. لهذا هيأ لوازم السفر للرجل المدني الذي غادر أسوار بغداد في طريق العودة إلى أرض الوطن..
إنّ من يريد العودة إلى المدينة عليه أن يطوي المسافات ويجتاز محطّات عديدة.. عليه أن يتجه أولاً إلى الفرات قريباً من قرى ( نينوى ) ثم يعبر النهر متّجهاً إلى ( العُذَيب ) ومنها إلى القادسية ثمّ إلى ( الرُّهَيمية ) ومنها إلى ( البيضة ) ومنها إلى عيون (شُراف) وإلى ( بطن العَقَبة ) فإلى ( زُبالة ). وفي زُبالة كان رجل من أهلها ينتظر.. يترقب يوماً يعود فيه الغريب إلى أهله..
منذ الصباح و ( أبو خالد ) يترقّب المسافرين القادمين. لقد انصرمت الشهور والأيّام وما يزال أبو خالد يترقب يوماً يعود فيه ( أبو الحسن ).
الشمس تسافر في بحر السماء.. وما يزال طريق القوافل مقفراً.. لا ناقة ولا جمل..
أبو خالد ما يزال يترقب.. ينتظر.. الشمس تجنح نحو الغروب تبهت أشعتها.. وأصعب شيء أن ينتظر المرء، لَكأنّ الزمن يتوقف.. فتصبح الساعة عاماً واللحظات شهوراً.
أصبح فؤاده خالياً.. بدأت الوساوس تطفو في قلبه كشياطين أيقظها الظلام.. وتساءل في نفسه: أيعود حقاً ؟! الشمس على وشك أن تغيب ولا شيء في الأفق..
غاصت الشمس في الأُفق لم يبق منها سوى ثلمة ضئيلة.. اهتزّ إيمانه كشُجيرة تحرّكها ريحٌ باردة.. فجأة ظهرت في الأفق نقطة.. وشيئاً فشيئاً كانت تكبر وتكبر.. قفز قلبه.. استيقظ في قلبه فرح طفولي، لعلّ في القادمين موسى.. أجل إنه موسى.. يتقدم ( القطار ) يمتطي حيواناً ينحطّ عن خُيَلاء الخيل ويرتفع عن ذلة الحمير..
1- دنيا الأضداد
دجلة تتدافع أمواجه.. تتألق تحت أشعة شمس الغروب.. القباب والمنائر تغمرها غلالة ذهبية.. فبدت شفّافة موحية.. حتّى أشجار النخيل التي تنهض على ضفاف النهر بدت هي الأخرى كرموشِ حسناء ساحرة..
القصور المرمرية الأنيقة.. تتناثر فوق الشطآن كلالئ منثورة، وما يزال قصر الذهب بقبته الخضراء يهيمن على بغداد أجمل مدن الشرق.. وما يزال الفارس يشير برمحه الطويل إلى المَدَيات البعيدة.. حيث تشتعل الثورات(1).
انزلق القارب الصغير في المياه الباردة.. وراح ينساب مع تموجات النهر.. من بعيد بدا قصر ( الخلد ) متألقاً.. ما يزال فتيّاً رغم عقد من السنين.
جلس الفتى في قاربه يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تغتسل بعض الأغصان المتدلّية.
غابت الشمس، توارت خلف ذُرى النخيل.. فبدت متّقدة بلون يشبه توهجات الجمر في المواقد الشتائية.
هبّت نسمة عليلة بدّدت شيئاً من حرّ آب. في دجلة لا يشعر المرء بلهيب آب، فالضفاف الخضراء والمياه الباردة القادمة من أقاصي الشمال، تبعث في النفس شعوراً بالحيوية..
غابت الشمس.. وانتشرت ظلمة خفيفة.. ومن بَعيد كان صوت الأذان ينساب كانسياب المياه..
ضرب الفتى بمجدافه المياه، فاتّجه القارب صوب قصر ( الخُلد ).. وشيئاً فشيئاً تناهت له أصوات الموسيقى والغناء، وكان صوت الأذان يتلاشى في أُذنيه حتّى اختفى تماماً...
توقف القارب في الرمال الناعمة وبدا الشاطئ صفحة ملساء.. قفز الفتى الذي لم يبلغ العشرين بعد.. قفز إلى الشاطئ الرملي، وربط القارب بجذور شجرة معمَّرة.. وراح يشقّ طريقه بين أشجار النخيل..
تعالت أصوات الموسيقى، وارتفع غناء الجواري.. بدا القصر في تلك الليلة صَدَفة جميلة تتألق في الضوء.
مئات القناديل تضيء في الشرفات، والجواري في ثيابهن المزركشة.. شعر الفتى أنّه قد يعيش في عالم آخر.. منذ مدّة وهو يترقّب هذه اللحظة.. لقد سمع منذ أسابيع عن عزم الحاكم ( المهدي )(2) على تزويج ابنه هارون من ابنة عمّه المدلّلة ( زُبَيدة ) أثرى فتيات بغداد.. وسيّدة بني العبّاس الأولى..
اقترب الفتى أكثر.. كان يتلصّص حذراً.. منتظراً فرصة مناسبة ليزجّ بنفسه مع جموع المدعوّين.. سوف تشفع له ثيابه الفاخرة التي جلبها له أبوه التاجر من الهند..
صدحت الموسيقى.. وظهرت عشرات الجواري.. الفتيات الجميلات يخطرن كالظباء.. يَرفَلْن بالحُلل الحريرية المزركشة بالذهب.. فتيات من بلدان عديدة.. فتيان من أرمينيا ومن الهند، والمغرب وإيران.
أروقة القصر مزيّنة بالسجاد الأرمني.. والبُسط الفارسية..
وجاء سِرب من الجواري يَحملنَ أطباقاً من الذهب ملأى بالفضة وأطباقاً من فضة ملأى بالذهب.. وجاء سرب آخر من الجواري يحملن أنواع الحلل.. وسرب من الفتيات يحملن صناديق تزخر بالمجوهرات.. وتلاهُنّ فتيات يحملن آنية العطر.. وأخيراً جاءت حسناوات يحملن أطباق الطعام.. وآنية الخمر.
شعر الفتى لوهلة أنّه في الجنّة.. تذكّر صديقه الفقير الذي مات في ( الوباء )(3) قبل أيّام.. وفي غمرة ذهوله ظهرت ( العروس ).. ظهرت ( زبيدة ) كأجمل ما تكون، تنوء بحلل الذهب، ورأى لأول مرّة تلك الحُلّة العجيبة التي طالما سمع عنها في الأحاديث والحكايات.. رأى شيئاً أُسطورياً..
كيف يُصاغ الثوب كلّه من الذهب فلا يدخل فيه من الغَزْل سوى القليل القليل من الحرير.
كان منظر اللآلئ وهي تُطرّز ثوب الذهب كنجوم في بركة تغمرها أضواء الشمس..
كانت زبيدة تخطر في مشيتها تحفّها عشرات الصبايا.. وقد استقرّ فوق رأسها تاج ملكي مرصّع بالجواهر النادرة..
وجاء ( هارون )(4) بشبابه المتفجّر وطوله الفارع.. ووجهه الممتلئ نعمةً ودلالاً.
وبالرغم من أنّ الحاكم قد حرص على أن يظهر بمظهر الأُبهة، لكنّه ضاع إلى جانب زوجته ( الخَيزُران ) التي كانت تجلس كملكة، عيناها تتألقان بنفوذ قاهر..
أمّا الحاكم العبّاسي فقد بدت عيناه منطفئتين.. أذهب بريقَهما السُّكْر..
انتصف الليل.. واشتعلت حمّى الشهوات، وتعالت الضحكات الماجنة..
وانسلّ الفتى.. عاد من حيث أتى.. عاد قبل أن يدركه الصباح.. وقبل أن تسكت ( شهرزاد ) عن الكلام المباح!
ألفى قاربه في مكانه لَكأنه ينتظر.. شعر الفتى أنّه كان في عالم الأطياف.. وأنّه قد استيقظ ليجد نفسه في قاربه يجذف باتجاه الجانب الشرقي حيث تنهض أكواخ الفقراء. طفحت في أعماقه دهشة كفقاعات مليئة بالهواء سرعان ما تنفجر وتتبدد.. سمع نفسه يقول:
ـ بغداد، يا مدينةً عجيبة.. كيف أمكنكِ أن تحتضني كل هذا الترف والبذخ إلى جانب البؤس ؟!
كيف لدِجلتك أن تبقى هادئة وهي تمرّ بالقصور مقابل الأكواخ ؟! بغداد أنت حكاية عجيبة! الويل لك يا بغداد!!
فجأة ظهر في قلب الظلمة قارب مليء بوجوه قاسية.. رجال يحملون الرماح. بدا أحدهم بطوله الفارع ووجهه القاسي وشواربه المفتولة كائناً مخيفاً كالذي يتحدّث عنه تجّار البحار..
قفز بعض الرجال إلى قاربه.. واستسلم الفتى.. عرف أن هؤلاء من حرس القصر.. وأنّه قد ارتكب جرماً بالاقتراب من قصر ( الخلد ).
تركهم يفعلون ما يشاؤون، لم يعترضْ ولم يستعطف..
راح القاربان ينسابان وسط صمت مَريع.. سأل الرجلُ المفتول الساعدين والشارب:
ـ ما اسمك ؟
أجاب الفتى:
ـ عليّ.
وصل القاربان الى مرفأ صغيراً عند جسر الرُّصافة. نزل الرجال.. ونزل الفتى. اتّجهوا إلى باب الطاق.. وعبروا الخندق.. واجتازوا المَسناة.. فاستقبلهم حرس الطاقات في باب البصرة. وفي ضوء الشماعل تأمّل الفتى رجال الشرطة..
أدرك أنهم سوف يذهبون به إلى سجن ( المِطْبَق )، فشعر بدوار يعصف برأسه المُثقَل بالهموم.
2- العَودة إلى المدينة
قصر الذهب تضيء أروقتَه القناديل.. انتصف الليل وخفّت حركة الحرّاس وخَبَت بعضُ المشاعل.. أوَت جواري القصر إلى مخادعهنّ الوثيرة. ( الخليفة ) يتقلب فوق سريره بين الوسائد.. تفوح من فمه رائحة الخمر.. من يراه في تلك اللحظات يحسبه نشواناً في خيالات الأحلام.. يقظته حلم لذيذ، ونومه أطياف ملوّنة.
ولكن ما بال وجهه يبدو كدراً.. حاجباه ينعقدان.. ولونه مخطوف، ما تزال الكوابيس تطارده ؟! وفي كل مرّة كان يرى خزائن والده في القَبو ملأى بالجماجم.. جماجم أبناء العمومة. فجأة انتفض النائم مذعوراً.. استوى على فراشه وجبينُه يتصبب عرقاً.
تلفّت حوالَيه قبل أن يتأكد من أنّه زعيم البلاد وخليفة العباد.. الذي تُجبى إليه الأموال من المشارق والمغارب..
كانت حسناء الروم تغطّ في نوم عميق.. غادرَ ( الخليفة ) فراشه..
وقف ( الخليفة ) في شرفة القصر يحدّق في الظلام.. وراح يردد بصوت شجيّ:
ـ ( فهَل عسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسدوا في الأرضِ وتُقطِّعوا أرحامَكم... ).
كان ( الربيع ين يونس )(5) ( وزير الخليفة ) غارقاً في الملاءات في تلك الليلة عندما هب على دويّ طرقات غليظة.. أدرك أنّهم رُسل ( الخليفة ). ارتدى ثيابه على عجل، وانطلق مع الحرّاس إلى قصر ( الذهب ).
ألفى الخليفة يذرع البهو، ويردد بصوت جميل آية من كتاب الله، هتف ( الخليفة ).
ـ علَيَّ بموسى بن جعفر..
لم يكن هناك مجال للتأخير، فالأوامر واضحة وقويّة. انطلق الوزير يحفّه حرّاس غلاظ إلى سكّة المطبق. هناك وإلى يمين الطريق المؤدية إلى بوابة البصرة يقع السجن الرهيب.. زنازين صغيرة في أعماق الأرض تشبه القبور، حَفَرها ( المنصور ) لكل من يعارض ( سلطان الله في الأرض )(6)! لكل من يعارض ( الخليفة )!
لم تُفلح المشاعل في تبديد الظلمات المتراكمة في ( المطبق )، وبدا الهواء المرطوب داخل السجن خانقاً...
اتّجه الوزير بخطىً واسعة إلى زنزانة يعرفها تماماً.. هنا ينزل الرجل المَدنيّ موسى بن جعفر...
كان الرجل المدنيّ ما يزال ساجداً كثوبٍ مطروح.. وقف الوزير مشدوهاً.. ومرّت لحظات صمت رهيب... فهذا الرجل الحجازيّ لا يعبأ بمَن حوله وبما حوله.. لم يسمعه أحدٌ يتضجّر من ظُلمة السجن.. من الزنازين الخانقة.. من القيود القاسية.
همس الوزير باحترام جمّ:
ـ يا أبا الحسن!
رفع الرجل الذي أطلّ على الأربعين رأسَه، تألقت عيناه تحت وهج المشاعل.. وبدا وجهه الأسمر مضيئاً بنور شفّاف..
العينان تُخفيان حزناً عميقاً... والشفتان تكمن وراءهما ابتسامة ملائكية.. والأنف الأشمّ يعكس كبرياء الإنسان الذي لا يسجد لغير الله..
شعر الوزير برهبة تستوعب وجوده.. وتساءل في نفسه عن سرّ هذا الرجل الغريب!
نهض أبو الحسن.. ابتسم الوزير وهو يزفّ له بشرى الحرّية:
ـ لقد استدعاني الخليفة وسمعتُه يقرأ آيةً من كتاب الله..
الوجه الأسمر يطفح بالطمأنينة.. تنعكس فوق ملامحه عوالم السلام..
فكّ الحارس قيداً يربط قدم السجين بصخرة قاسية..
في بوابة المطبق الصخرية.. رأى الفتى رجلاً يطلّ على الأربعين، وجهه الأسمر يطفح طمأنينة.. وجسمه النحيف يشبه نخلة مَيساء..
فاحت رائحة طيّبة.. لكأنّ الربيع قد حلّ في ( المطبق ) يمنح المقهورين الأمل.
توقّف الرجل المدني وقد مرّ بالفتى.. تأمل في وجهه قليلاً وهمس:
ـ زكاة السلطان الإحسان إلى الإخوان.
غادر الرجل المدني ( المطبق )، لاحت له السماء وقد تناثرت آلاف النجوم كلالئ منثورة فوق عباءة كُحْليّةِ اللون.
تمتم الرجل المدني وهو يتطلع إلى السماء المرصّعة بالنجوم.
ـ يا مَن لا يعتدي على أهل مملكتِه!
رجف قلب الوزير، تذكّر دسائسه للإطاحة بالوزير السابق ( يعقوب بن داود )(7)، ها هو الآن في ظلمات المطبق سيبقى فيها حتّى ينتقل إلى ظلمات القبر.
* * *
نهض ( الخليفة ) احتفاءً بالرجل المدني.. عانقه وقبّله وأخذ بعَضُده ليجلسه إلى جانبه..
مرّت لحظات صمت قطعها ( الخليفة ) قائلاً:
ـ يا أبا الحسن.. رأيتُ جدَّك أمير المؤمنين عليّاً.. كان حزيناً، قال لي: يا محمد! (فهَل عسَيتُم إن تولّيتُم إنْ تُفسِدوا في الأرضِ وتُقطِّعُوا أرحامَكم)..
ـ وها أنا أريد أن أصل رحمي.. أريد أن أردّك إلى أهلك.. ولكني أخشاك يا موسى.. أخشى أن تخرج علَيّ أو على أحد من ولدي!
أجاب الرجل المدني:
ـ واللهِ ما فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني.
أجاب ( الخليفة ) وقد خامره شعور بالارتياح:
ـ صدقت.
والتفت إلى وزيره وقال:
ـ يا ربيع، أعطِه ثلاثة آلاف دينار، وردّه إلى أهله.
انتهى اللقاء.. ونهض الرجل المدني يودّع القصر والسجن، ويودّع بغداد..
في قلبه شوق للقاء الأحبّة.. هناك في مدينة جدّه أولاد وبنات ينتظرون.. يترقّبون عودة أبيهم...
كانت النجوم تشتدّ سطوعاً في الهزيع الأخير من الليل، لم تَغفُ بغداد بعد.. فبعض الكُوى والنوافذ ما تزال تتدفق نوراً.. وتتناهى لمن يمرّ على بعض بيوتها أصوات موسيقى وغناء..
كان الربيع يدرك تقلّبات ( الخليفة ).. يعرف نزواته ويسبر مدى حقده على أبناء عليّ.. لهذا هيأ لوازم السفر للرجل المدني الذي غادر أسوار بغداد في طريق العودة إلى أرض الوطن..
إنّ من يريد العودة إلى المدينة عليه أن يطوي المسافات ويجتاز محطّات عديدة.. عليه أن يتجه أولاً إلى الفرات قريباً من قرى ( نينوى ) ثم يعبر النهر متّجهاً إلى ( العُذَيب ) ومنها إلى القادسية ثمّ إلى ( الرُّهَيمية ) ومنها إلى ( البيضة ) ومنها إلى عيون (شُراف) وإلى ( بطن العَقَبة ) فإلى ( زُبالة ). وفي زُبالة كان رجل من أهلها ينتظر.. يترقب يوماً يعود فيه الغريب إلى أهله..
منذ الصباح و ( أبو خالد ) يترقّب المسافرين القادمين. لقد انصرمت الشهور والأيّام وما يزال أبو خالد يترقب يوماً يعود فيه ( أبو الحسن ).
الشمس تسافر في بحر السماء.. وما يزال طريق القوافل مقفراً.. لا ناقة ولا جمل..
أبو خالد ما يزال يترقب.. ينتظر.. الشمس تجنح نحو الغروب تبهت أشعتها.. وأصعب شيء أن ينتظر المرء، لَكأنّ الزمن يتوقف.. فتصبح الساعة عاماً واللحظات شهوراً.
أصبح فؤاده خالياً.. بدأت الوساوس تطفو في قلبه كشياطين أيقظها الظلام.. وتساءل في نفسه: أيعود حقاً ؟! الشمس على وشك أن تغيب ولا شيء في الأفق..
غاصت الشمس في الأُفق لم يبق منها سوى ثلمة ضئيلة.. اهتزّ إيمانه كشُجيرة تحرّكها ريحٌ باردة.. فجأة ظهرت في الأفق نقطة.. وشيئاً فشيئاً كانت تكبر وتكبر.. قفز قلبه.. استيقظ في قلبه فرح طفولي، لعلّ في القادمين موسى.. أجل إنه موسى.. يتقدم ( القطار ) يمتطي حيواناً ينحطّ عن خُيَلاء الخيل ويرتفع عن ذلة الحمير..