بدر العراقي
21-07-2008, 12:00 AM
عمر بن الخطاب يتشدّد أكثر من ابي بكر في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمنع النّاس من نقله
لقد كانت سياسة أبي بكر في منع الحديث، حتّى وصل به الأمر أن أحرق المجموعة التي جُمعت على عهده، وهي خمسمائة حديث، لئلا تتفشّى عند الصّحابة وغيرهم من المسلمين الذين كانوا يتعطشون لمعرفة سنّة نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما ولي عمر الخلافة بأمر من أبي بكر، كان عليه أن يتوخّى نفس السّياسة ولكن بأُسلوبه المعروف بالشدّة والغلظة، فلم يقتصر على حظر ومنع تدوين الحديث ونقله فحسب، بل تهدّد وتوعّد وضرب أيضاً، واستعمل فرض الحصار هو الآخر.
روى ابن ماجة في سننه من الجزء الأول، باب التوقّي في الحديث. قال: عن قرظة بن كعب، بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيّعنا فمشى معنا إلى موضع صرار، فقال: أتدرون لم مشيتُ معكم؟ قال: قلنا لحقّ صُحبة رسول الله، ولحقِّ الأنصار، قال: لكنّي مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن
____________
1- كنز العمال 10: 285 ح29460، تذكرة الحفاظ 1: 5.
أحدّثكم به، فأردتُ أن تحفظوه لممشاي معكم، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم ازيز كأزيز المرجل، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا أصحاب محمّد! فأقلّوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ أنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدّثنا، قال: نهانا عمر(1).
كما روى مسلم في صحيحه في كتاب الآداب، باب الاستئذان، بأنّ عمر هدّد أبا موسى الأشعري بالضرب من أجل حديث رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال أبو سعيد الخدري: كنا في مجلس عند أُبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مُغضباً، حتى وقفَ فقال: أنشدكم الله هل سمع أحدٌ منكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلاّ فارجع؟ قال أُبي: وما ذاك، قال: استأذنتُ على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات، فلم يؤذن لي فرجعتُ، ثمّ جئته اليوم فدخلتُ عليه، فأخبرته أنّي جئتُ بالأمس فسلمتُ ثلاثاً ثمّ انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك، قلتُ: استأذنت كما سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فوالله لأوجعنّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمنْ يشهد لك على هذا، فقال أُبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلاّ أحدثنا سنّاً، قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيتُ عُمر، فقلت: قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا.
وروى البخاري هذه الحادثة، ولكنّه كعادته بترها وحذف منها تهديد
____________
1- سنن ابن ماجة 1: 25 ح28، ط دار الفكر وصرّح البوصيري في حاشيته على السنن بصحته، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7.
عمر بضرب أبي موسى حفاظاً كعادته على كرامته(1). مع أنّ مسلم في صحيحه زاد قول أُبي بن كعب لعمر: يابن الخطاب فلا تكوننَّ عذاباً على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد روى الذهبي في تذكرة الحفاظ من جزئه الأول الصفحة السابعة عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: أكنتَ تحدّث في زمان عمر هذا؟ فقال: لو كنتُ أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته(2).
كما أنّ عمر بعد منع الحديث والتهديد بالضرب، أقدم هو الآخر على حرق ما دوّنَهُ الصّحابة من الأحاديث، فقد خطب النّاس يوماً قائلا: أيّها النّاس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتبٌ، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقيّن أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي، فظنّوا أنّه يريد النّظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنّار(3).
كما أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله، أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه(4).
____________
1- صحيح البخاري 6: 178 في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً.
2- تذكرة الحفاظ 1: 7.
3- حجيّة السنّة لعبد الغني: 395 ونحوه: الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 188، سير أعلام النبلاء للذهبي 5: 59.
4- كنز العمال 10: 292 ح29476، عن ابن عبد البر وأبي خثيمة، جامع بيان العلم وفضله: 77.
ولمّا أعيته الحيلة ورغم تهديده ووعيده، ومنعه وتحريمه، وحرقه كتب الأحاديث، بقي بعض من الصّحابة يُحدّثون بما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالنّاس اللذين يسألونهم عن أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، رأى عمر أن يحبس هؤلاء النفر في المدينة، ويضرب عليهم حصاراً وإقامة جبريّة.
فقد روى ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: والله ما مات عمر حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة، وأبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق، قالوا: تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت(1).
ثمّ جاء بعده ثالث الخلفاء عثمان الذي اتّبع نفس الطريق، وسلك ما سطّره له صاحباه من قبل، فصعد على المنبر وأعلن صراحة قوله:
لا يحلُّ لأحد أن يرويَ حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر(2).
وهكذا دَام الحصار طيلة حياة الخلفاء الثلاثة، وهي خمسة وعشرون عاماً، ويا ليته كان حصاراً في تلك المدّة فحسب، ولكنّه تواصل بعد ذلك، وعندما جاء معاوية للحكم صعد المنبر هو الآخر وقال: إيّاكم وأحاديث إلاّ
____________
1- كنز العمال 10: 293، تاريخ مدينة دمشق 40: 500.
2- الطبقات لابن سعد 2: 336، كنز العمال 10: 295 ح29490، تاريخ مدينة دمشق 39: 180.
حديثاً كان في عهد عمر، فإنّ عمر كان يخيفُ الناسَ في الله عز وجلَّ. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة من جزئه الثالث.
ونهج الخلفاء الأمويون على هذا المنوال، فمنعوا أحاديث الرسول الصحيحة، وتفنّنوا في وضع الأحاديث المزوّرة والمكذوبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى ابتُلي المسلمون في كلّ العصور بالمتناقضات، وبالأساطير والمخاريق التي لا تمتُّ للإسلام بشيء.
وإليك ما نقله المدائني في كتابه "الأحداث" قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئتْ الذمّة ممن رَوى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته (يقصد علي بن أبي طالب)، فقامَ الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته.
ثمّ كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.
ثمّ كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إلىّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فلا يأتي أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.
ثمّ كتب معاوية إلى عمّاله: إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصّحابة، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقُرأت كتبه على النّاس، فرويت أخبارٌ كثيرة في مناقب الصّحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:
أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوا اسمه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.
ثمّ شفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة، حتّى إنّ الرّجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.
فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم النّاس بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها(1).
وأقول: بأنّ المسؤولية في كلّ ذلك يتحمّلها أبو بكر وعمر وعثمان، الذين منعوا من كتابة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدعوى خوفهم بأن لا تختلط السنّة بالقرآن، هذا ما يقوله أنصارهم والمدافعون عنهم.
وهذه الدّعوى تُضحك المجانين، وهل القرآن والسنّة سُكّر وملح إذا ما اختلطا فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وحتى السكّر والملح لا يختلطان; لأنّ كلّ واحد محفوظ في علبته الخاصّة به، فهل غاب عن الخلفاء أن يكتبوا القرآن في مصحف خاصّ به، والسنّة النّبوية في كتاب خاصّ بها، كما هو الحال عندنا اليوم!! ومنذ دوّنت الأحاديث في عهد عمر ابن عبد العزيز (رضي الله عنه)، فلماذا لم تختلط السنّة بالقرآن، رغم أن كتب الحديث تُعدُّ بالمئات؟! فصحيح البخاري لا يختلط بصحيح مسلم، وهذا لا يختلط بمسند أحمد، ولا بموطأ الإمام مالك، فضلا عن أن يختلط بالقرآن الكريم.
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
فهذه حجّة واهية كبيت العنكبوت لا تقوم على دليل، بل الدليل على عكسها أوضح، فقد روى الزهري عن عروة أنّ عمر بن الخطاب أرادَ أن يكتب السنن، فاستفْتى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأشاروا عليه أن يكتُبها، فطفقَ عمر يستخير الله فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً فقال: إنّي كنت أُريد أن أكتب السُّنن، وإنّي ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً(1).
أنظر أيها القارئ إلى هذه الرواية، كيف أشار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر بأن يكتب السُّنن، وخالفهم جميعاً واستبدّ برأيه، بدعوى أنّ قوماً قبلهم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، فأين هي دعوى الشورى التي يتشدّق بها أهل السنّة والجماعة؟! ثمّ أين هؤلاء القوم الذين أكبّوا على كتبهم وتركوا كتاب الله، لم نسمع بهم إلاّ في خيال عمر بن الخطّاب؟! وعلى فرض وجود هؤلاء القوم فلا وجه للمقارنة، إذ إنّهم كتبوا كتباً من عند أنفسهم لتحريف كتاب الله، فقد جاء في القرآن الكريم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}(2).
أمّا كتابة السنن فليستْ كذلك; لأنّها صادرة عن نبي معصوم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلاّ وحىٌّ يُوحَى، وهي مُبيّنة ومفسّرة لكتاب الله، قال
____________
1- كنز العمال 10: 291 ح29474 عن ابن عبدالبر، المصنّف لعبد الرزاق 11: 257 ح20484، نحوه الطبقات لابن سعد 3: 287، جامع بيان العلم وفضله: 76.
2- البقرة: 79.
تعالى: {وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}(1).
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أوتيتُ القرآن ومثله معه"(2)، وهذا أمرٌ بديهي لكلّ من عرف القرآن، فليس هناك الصّلوات الخمس، ولا الزكاة بمقاديرها، ولا أحكام الصّوم، ولا أحكام الحجّ، إلى كثير من الأحكام التي بيّنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكلّ ذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3).
وقال: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(4).
وليتَ عُمر عرف كتاب الله وأكبّ عليه; ليتعلّمَ منه الامتثال إلى أوامر الرّسول، ولا يُناقشها ولا يطعن فيها(5).
وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه، ليتعلّم منه حكم الكلالة(6)التي ما عرفها حتى مات، وحكم فيها أيّام خلافته بأحكام متعدّدة ومتناقضة، وليتَه عرف كتاب الله وأكبْ عليه; ليتعلّم منه حكم التيمّم الذي ما عرفه حتّى أيام خلافته، وكان يفتي بترك الصّلاة لمن لم يجد الماء(7)، وليتَه عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الطّلاق مرّتان، فإمساك بمعروف أو تسريح
____________
1- النحل: 44.
2- مسند أحمد 4: 131، تفسير ابن كثير 1: 4.
3- الحشر: 7.
4- آل عمران: 31.
5- صحيح البخاري1: 37 باب كتابة العلم، و 5: 138، في رزية الخميس.
6- صحيح مسلم 2: 81، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً.
7- صحيح البخاري 1: 90، صحيح مسلم 1: 193 باب التيمّم وفيه: "إنّ رجلا أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال: لا تصلِّ...".
بإحسان، والذي جعله هو طلقةٌ واحدة(1)، وعارض برأيه واجتهاده أحكام الله، وضرب بها عرض الحائط.
والحقيقة التي لا مجال لدفعها، هي أنّ الخلفاء منعوا من انتشار الأحاديث، وهدّدوا من يتحدّث بها، وضربوا عليها الحصار; لأنّها تفضح مخطّطاتهم، وتكشف مؤامراتهم، ولا يجدون مجالا لتأويلها كما يتأولون القرآن; لأنّ كتاب الله صامتٌ وحمّالٌ أوجه، أمّا السُّنن النبويّة فهي أقوال وأفعال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن لأحد من النّاس دفعها.
ولذلك قال أمير المؤمنين علي لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تُخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقُولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً"(2).
لقد كانت سياسة أبي بكر في منع الحديث، حتّى وصل به الأمر أن أحرق المجموعة التي جُمعت على عهده، وهي خمسمائة حديث، لئلا تتفشّى عند الصّحابة وغيرهم من المسلمين الذين كانوا يتعطشون لمعرفة سنّة نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما ولي عمر الخلافة بأمر من أبي بكر، كان عليه أن يتوخّى نفس السّياسة ولكن بأُسلوبه المعروف بالشدّة والغلظة، فلم يقتصر على حظر ومنع تدوين الحديث ونقله فحسب، بل تهدّد وتوعّد وضرب أيضاً، واستعمل فرض الحصار هو الآخر.
روى ابن ماجة في سننه من الجزء الأول، باب التوقّي في الحديث. قال: عن قرظة بن كعب، بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيّعنا فمشى معنا إلى موضع صرار، فقال: أتدرون لم مشيتُ معكم؟ قال: قلنا لحقّ صُحبة رسول الله، ولحقِّ الأنصار، قال: لكنّي مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن
____________
1- كنز العمال 10: 285 ح29460، تذكرة الحفاظ 1: 5.
أحدّثكم به، فأردتُ أن تحفظوه لممشاي معكم، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم ازيز كأزيز المرجل، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا أصحاب محمّد! فأقلّوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ أنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدّثنا، قال: نهانا عمر(1).
كما روى مسلم في صحيحه في كتاب الآداب، باب الاستئذان، بأنّ عمر هدّد أبا موسى الأشعري بالضرب من أجل حديث رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال أبو سعيد الخدري: كنا في مجلس عند أُبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مُغضباً، حتى وقفَ فقال: أنشدكم الله هل سمع أحدٌ منكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلاّ فارجع؟ قال أُبي: وما ذاك، قال: استأذنتُ على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات، فلم يؤذن لي فرجعتُ، ثمّ جئته اليوم فدخلتُ عليه، فأخبرته أنّي جئتُ بالأمس فسلمتُ ثلاثاً ثمّ انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك، قلتُ: استأذنت كما سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فوالله لأوجعنّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمنْ يشهد لك على هذا، فقال أُبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلاّ أحدثنا سنّاً، قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيتُ عُمر، فقلت: قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا.
وروى البخاري هذه الحادثة، ولكنّه كعادته بترها وحذف منها تهديد
____________
1- سنن ابن ماجة 1: 25 ح28، ط دار الفكر وصرّح البوصيري في حاشيته على السنن بصحته، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7.
عمر بضرب أبي موسى حفاظاً كعادته على كرامته(1). مع أنّ مسلم في صحيحه زاد قول أُبي بن كعب لعمر: يابن الخطاب فلا تكوننَّ عذاباً على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد روى الذهبي في تذكرة الحفاظ من جزئه الأول الصفحة السابعة عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: أكنتَ تحدّث في زمان عمر هذا؟ فقال: لو كنتُ أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته(2).
كما أنّ عمر بعد منع الحديث والتهديد بالضرب، أقدم هو الآخر على حرق ما دوّنَهُ الصّحابة من الأحاديث، فقد خطب النّاس يوماً قائلا: أيّها النّاس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتبٌ، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقيّن أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي، فظنّوا أنّه يريد النّظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنّار(3).
كما أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله، أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه(4).
____________
1- صحيح البخاري 6: 178 في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً.
2- تذكرة الحفاظ 1: 7.
3- حجيّة السنّة لعبد الغني: 395 ونحوه: الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 188، سير أعلام النبلاء للذهبي 5: 59.
4- كنز العمال 10: 292 ح29476، عن ابن عبد البر وأبي خثيمة، جامع بيان العلم وفضله: 77.
ولمّا أعيته الحيلة ورغم تهديده ووعيده، ومنعه وتحريمه، وحرقه كتب الأحاديث، بقي بعض من الصّحابة يُحدّثون بما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالنّاس اللذين يسألونهم عن أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، رأى عمر أن يحبس هؤلاء النفر في المدينة، ويضرب عليهم حصاراً وإقامة جبريّة.
فقد روى ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: والله ما مات عمر حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة، وأبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق، قالوا: تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت(1).
ثمّ جاء بعده ثالث الخلفاء عثمان الذي اتّبع نفس الطريق، وسلك ما سطّره له صاحباه من قبل، فصعد على المنبر وأعلن صراحة قوله:
لا يحلُّ لأحد أن يرويَ حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر(2).
وهكذا دَام الحصار طيلة حياة الخلفاء الثلاثة، وهي خمسة وعشرون عاماً، ويا ليته كان حصاراً في تلك المدّة فحسب، ولكنّه تواصل بعد ذلك، وعندما جاء معاوية للحكم صعد المنبر هو الآخر وقال: إيّاكم وأحاديث إلاّ
____________
1- كنز العمال 10: 293، تاريخ مدينة دمشق 40: 500.
2- الطبقات لابن سعد 2: 336، كنز العمال 10: 295 ح29490، تاريخ مدينة دمشق 39: 180.
حديثاً كان في عهد عمر، فإنّ عمر كان يخيفُ الناسَ في الله عز وجلَّ. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة من جزئه الثالث.
ونهج الخلفاء الأمويون على هذا المنوال، فمنعوا أحاديث الرسول الصحيحة، وتفنّنوا في وضع الأحاديث المزوّرة والمكذوبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى ابتُلي المسلمون في كلّ العصور بالمتناقضات، وبالأساطير والمخاريق التي لا تمتُّ للإسلام بشيء.
وإليك ما نقله المدائني في كتابه "الأحداث" قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئتْ الذمّة ممن رَوى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته (يقصد علي بن أبي طالب)، فقامَ الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته.
ثمّ كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.
ثمّ كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إلىّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فلا يأتي أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.
ثمّ كتب معاوية إلى عمّاله: إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصّحابة، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقُرأت كتبه على النّاس، فرويت أخبارٌ كثيرة في مناقب الصّحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:
أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوا اسمه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.
ثمّ شفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة، حتّى إنّ الرّجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.
فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم النّاس بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها(1).
وأقول: بأنّ المسؤولية في كلّ ذلك يتحمّلها أبو بكر وعمر وعثمان، الذين منعوا من كتابة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدعوى خوفهم بأن لا تختلط السنّة بالقرآن، هذا ما يقوله أنصارهم والمدافعون عنهم.
وهذه الدّعوى تُضحك المجانين، وهل القرآن والسنّة سُكّر وملح إذا ما اختلطا فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وحتى السكّر والملح لا يختلطان; لأنّ كلّ واحد محفوظ في علبته الخاصّة به، فهل غاب عن الخلفاء أن يكتبوا القرآن في مصحف خاصّ به، والسنّة النّبوية في كتاب خاصّ بها، كما هو الحال عندنا اليوم!! ومنذ دوّنت الأحاديث في عهد عمر ابن عبد العزيز (رضي الله عنه)، فلماذا لم تختلط السنّة بالقرآن، رغم أن كتب الحديث تُعدُّ بالمئات؟! فصحيح البخاري لا يختلط بصحيح مسلم، وهذا لا يختلط بمسند أحمد، ولا بموطأ الإمام مالك، فضلا عن أن يختلط بالقرآن الكريم.
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
فهذه حجّة واهية كبيت العنكبوت لا تقوم على دليل، بل الدليل على عكسها أوضح، فقد روى الزهري عن عروة أنّ عمر بن الخطاب أرادَ أن يكتب السنن، فاستفْتى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأشاروا عليه أن يكتُبها، فطفقَ عمر يستخير الله فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً فقال: إنّي كنت أُريد أن أكتب السُّنن، وإنّي ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً(1).
أنظر أيها القارئ إلى هذه الرواية، كيف أشار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر بأن يكتب السُّنن، وخالفهم جميعاً واستبدّ برأيه، بدعوى أنّ قوماً قبلهم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، فأين هي دعوى الشورى التي يتشدّق بها أهل السنّة والجماعة؟! ثمّ أين هؤلاء القوم الذين أكبّوا على كتبهم وتركوا كتاب الله، لم نسمع بهم إلاّ في خيال عمر بن الخطّاب؟! وعلى فرض وجود هؤلاء القوم فلا وجه للمقارنة، إذ إنّهم كتبوا كتباً من عند أنفسهم لتحريف كتاب الله، فقد جاء في القرآن الكريم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}(2).
أمّا كتابة السنن فليستْ كذلك; لأنّها صادرة عن نبي معصوم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلاّ وحىٌّ يُوحَى، وهي مُبيّنة ومفسّرة لكتاب الله، قال
____________
1- كنز العمال 10: 291 ح29474 عن ابن عبدالبر، المصنّف لعبد الرزاق 11: 257 ح20484، نحوه الطبقات لابن سعد 3: 287، جامع بيان العلم وفضله: 76.
2- البقرة: 79.
تعالى: {وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}(1).
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أوتيتُ القرآن ومثله معه"(2)، وهذا أمرٌ بديهي لكلّ من عرف القرآن، فليس هناك الصّلوات الخمس، ولا الزكاة بمقاديرها، ولا أحكام الصّوم، ولا أحكام الحجّ، إلى كثير من الأحكام التي بيّنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكلّ ذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3).
وقال: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(4).
وليتَ عُمر عرف كتاب الله وأكبّ عليه; ليتعلّمَ منه الامتثال إلى أوامر الرّسول، ولا يُناقشها ولا يطعن فيها(5).
وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه، ليتعلّم منه حكم الكلالة(6)التي ما عرفها حتى مات، وحكم فيها أيّام خلافته بأحكام متعدّدة ومتناقضة، وليتَه عرف كتاب الله وأكبْ عليه; ليتعلّم منه حكم التيمّم الذي ما عرفه حتّى أيام خلافته، وكان يفتي بترك الصّلاة لمن لم يجد الماء(7)، وليتَه عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الطّلاق مرّتان، فإمساك بمعروف أو تسريح
____________
1- النحل: 44.
2- مسند أحمد 4: 131، تفسير ابن كثير 1: 4.
3- الحشر: 7.
4- آل عمران: 31.
5- صحيح البخاري1: 37 باب كتابة العلم، و 5: 138، في رزية الخميس.
6- صحيح مسلم 2: 81، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً.
7- صحيح البخاري 1: 90، صحيح مسلم 1: 193 باب التيمّم وفيه: "إنّ رجلا أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال: لا تصلِّ...".
بإحسان، والذي جعله هو طلقةٌ واحدة(1)، وعارض برأيه واجتهاده أحكام الله، وضرب بها عرض الحائط.
والحقيقة التي لا مجال لدفعها، هي أنّ الخلفاء منعوا من انتشار الأحاديث، وهدّدوا من يتحدّث بها، وضربوا عليها الحصار; لأنّها تفضح مخطّطاتهم، وتكشف مؤامراتهم، ولا يجدون مجالا لتأويلها كما يتأولون القرآن; لأنّ كتاب الله صامتٌ وحمّالٌ أوجه، أمّا السُّنن النبويّة فهي أقوال وأفعال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن لأحد من النّاس دفعها.
ولذلك قال أمير المؤمنين علي لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تُخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقُولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً"(2).