السلامي
27-07-2008, 01:24 AM
إن قاعدة الرسالات الإلهية قائمة على أساس الإيمان بالغيب ، وأبرز مظاهر الغيب هو العلم به من قبل عباد اللـه المقربين ، أوليس ذات الكتاب الذي يوحى إلى النبي - أيّ نبي - ويؤمر الناس باتباعه من الغيب ؟
كيف علّم اللـه رسوله النبي الأمي كل تلك الرسالة العظيمة وذلك الكتاب الكريم ، الذي تحدّى العالمين أن يأتوا بمثل بعض سوره أو آياته .
إننا نقرأ في الكتاب حجة عيسى ابن مريم على قومه أن ينبئهم بما يدّخرون في بيوتهم .
وهكذا يكون علم الإمام الإلهي الذي تجاوز حدود علم الناس دليلاً على أنه مؤيد باللـه ، وأنه الإمام ، والحجة على الناس أجمعين .
كيف يكون هذا العلم ؟ هل يكون عبر توارث الحديث عن رسول اللـه عن جبرائيل عن اللـه ، أم عبر نكت في القلوب ونقرٍ في الأسماع ، أو عبر عمود من نور ينظر إليه الإمام متى شاء اللـه أن يعلم شيئاً فيعلم ، أم بنزول الروح - وهو أعظم من الملائكة - عليه ليلة القدر ؟!
الصحيح أن كل ذلك وربما غير ذلك مما لا نعلم من سبل العلم الإلهي يكون طريق علم الإمام ، ولم نكلف نحن بمعرفة تفاصيل ذلك ، إنما يكفينا أن الإمام يعلم - بإذن اللـه - بما يجهله الناس ، وبذلك يفضّل عليهم ، ولا بدّ أن يكون مطاعاً فيهم بإذن اللـه .
جاء في حديث شريف عن أبي عبد اللـه الصادق (ع) :
“ فال قلت : أخبرني عن علم عالمكم ؟ قال : وراثة من رسول اللـه (ص) ومن علي بن أبي طالب (ع) ، فقلت : إنَّا نتحدث أنه يقذف في قلبه أو ينكث في إذنه ، فقال : أو ذاك “ .
أي لعله يكون ذلك .
والإمام الكاظم نطق بعلم الرسالة في كافة الحقول ، ويكفيك وصيته لهشام التي تعتبر خلاصة حكم الأنبياء ، وزبدة رؤى الرسالات ، وما نذكره فيما يلي رشح من بحر علمه الزاخر :
1 - روي أن إسحاق بن عمار قال : ( لما حبس هارون أبا الحسن موسى (ع) دخل عليه أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، صاحبا أبي حنيفة فقال أحدهما للآخر : نحن على أحد الأمرين ، إما أن نساويه أو نشكله ، فجلسا بين يديه ، فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك ، فقال : إن نوبتي قد انقضت وأنــا على الإنصراف فإن كان لك حاجة أمرتني حتى آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة ؟ فقـال : مالي حاجة ، فلما أن خرج قال لأبي يوسف :
( ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع وهو ميت في هذه الليلة ) .
فقاما فقال أحدهما للآخر : إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنَّة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب .
ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا : إذهب حتى تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد ، فمضى الرجل فنام في مسجد في باب داره ، فلما أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره فقال : ما هذا ؟ قالوا قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة ، فانصرف إلى أبي يوسف ومحمد واخبرهما الخبر ، فأتيا أبا الحسن (ع) فقالا : قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة ؟ قال :
( من الباب الذي أخبر بعلمه رسول اللـه (ص) علي بن أبي طالب (ع) ) . فلمّا ردّ عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً ) .
هكذا أوتي الإمام موسى بن جعفر (ع) علم المنايا كما أوتي ذلك من قبل أنبياء اللـه وأوليائه الكرام .
2 - وكذلك أوتي علم منطق الناس بإذن اللـه تعالى ، فقد جاء في الحديث عن ابن أبي حمزة قال : (كنت عند أبي الحسن موسى (ع) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اشتروا له ، فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام فأجابه موسى (ع) بلغته ، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم ، فقال له موسى : إني لأدفع إليك مالاً فادفع إلى كل منهم ثلاثين درهماً ، فخرجوا وبعضهم يقول لبعض : إنه أفصح منا بلغاتنا ، وهذه نعمة من اللـه علينا .
قال علي بن أبي حمزة : فلما خرجوا قلت : يابن رسول اللـه رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ؟! قال : نعم ، قال : وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم ؟ قال : نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً ، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً ، لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم ، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه ، وهو مع هذا غلام صدق ، ثم قال : لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة ؟ قلت : إي واللـه قال : ( لا تعجب فما خفي عليك من امري أعجب وأعجب ، وما الذي سمعته مني إلاّ كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة ، أفترى هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر ؟! والإمام بمنزلة البحر لا ينفذ ما عنده وعجائبه أكثر من عجائب البحر ).
3 - وجاء في حديث آخر يرويه علي بن حمزة قال : ( أرسلني أبو الحسن (ع) إلى رجل قدّامه طبق يبيع بفلس فلس وقال : أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له : يقول لك أبو الحسن : انتفع بهذه الدراهم فإنهــا تكفيك حتى تموت ، فلما أعطيته بكى ، فقلت : وما يبكيك ؟ قال : ولم لا أبكي وقد نعيت إليّ نفسـي ، فقلت : وما عند اللـه خير مما أنت فيه ، فسكت وقال : من أنت يا عبد اللـه ؟ فقلت علي بن أبي حمزة ، قال : واللـه لهكذا قال لي سيدي ومولاي أني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي ، قال علي : فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض فقلت : أوصني بما أحببت أنفذه من مالي ، قال : إذا أنا متّ فزوج ابنتي من رجل دين ، ثم بع داري وادفع ثمنها إلى أبي الحسن ، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة . قال : فلما دفنته زوّجت ابنته من رجل مؤمن وبعت داره وأتيت بثمنها إلى أبي الحسن (ع) فزكاه وترحم عليه وقال : رد هذه الدراهم فادفعها إلى ابنته ) .
4 - وإذا كان علم الأئمة من اللـه ، فإن اللـه سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، وقد تقضي حكمته أن يجعل علمه عند صبي في المهد ، كما فعل بالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا (ع) ، وهكــذا أظهر قدرته في شخص الإمام الكاظم (ع) حيث جاء في حديث شريف مأثور عن عيسى شلقان قال : ( دخلت على أبي عبد اللـه (ع) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب فقال لي مبتدئاً من قبل أن أجلس : ما منعك أن تلقى ابني موسى فتسأله عن جميع ما تريد ؟ قال عيسى : فذهبت إلى العبد الصالح (ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلى شفتيه أثر المداد فقال لي مبتدئاً : يا عيسى إن اللـه أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلم يتحوّلوا عنها ، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً ، وإن قوماً إيمانهم عارية ، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان فسلبه اللـه إياه ، فضممته إليّ وقبلت ما بين عينيه وقلـت : ذرية بعضها من بعض .
ثم رجعت إلى الصادق (ع) فقال : ما صنعت ؟ قلت : أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما اردت ، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر ، فقال : يا عيسى إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف ، لأجابك فيه بعلم ثم اخرجه ذلك اليوم من الكتاب ) .
5 - حينما يسقط الحجاب بين الرب وعبده ، وحينما يبلغ الصفاء الروحي والمعرفة الإلهية القمة ، فإن الدنيا تاتي مطيعة للعبد الصالح ، كما قال اللـه في الحديث القدسي :
“ عبدي ، أطعني تكن مِثلي ( أو مَثَلي ) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “ .
هكذا يروي لنا شقيق البلخي جانباً من الكرامة التي خصها اللـه تعالى لإمامنا السابع موسى بن جعفر (ع) فيقول : ( خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم ، واللـه لأمضين إليه ولأوبخنَّه ، فدنوت فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق :
{ اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحُجُرات/12)
ثم تركني ومضى ، فقلت في نفسي إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق بإسمي ، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنَّه ولأسألنه أن يحللني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلّ وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه .
فصـبرت حتى جلس ، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق اتلُ : { وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه/82)
ثم تركني ومضى ، فقلت : إن هذا الفتى لّمِنَ الأبدال ، لقد تكلّم على سرّي مرتيــن ، فلما نزلنا زُبالـة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركــوة يريد أن يسقي ماءً ، فسقطت الركوة من يده في البئر وانا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :
أنــت ربـي إذ ظمئت إلـى الماء * وقوتـي إذا أردت الطعـــــــــامـا
“ اللـهم سيدي مالي غيرها فلا تعدمنيها “ .
قال شقيق : فواللـه لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماءً ، فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلّمت عليه ، فرد عليّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم اللـه عليك ، فقال : يا شقيق لم تزل نعمة اللـه علينا ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر ، فواللـه ما شربت ألذّ منه ولا أطيب ريحاً فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً .
ثم لم أره حتى دخلنا مكة ، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبّح ، ثم قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته ، وإذا له غاشية وموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته بقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)
كيف علّم اللـه رسوله النبي الأمي كل تلك الرسالة العظيمة وذلك الكتاب الكريم ، الذي تحدّى العالمين أن يأتوا بمثل بعض سوره أو آياته .
إننا نقرأ في الكتاب حجة عيسى ابن مريم على قومه أن ينبئهم بما يدّخرون في بيوتهم .
وهكذا يكون علم الإمام الإلهي الذي تجاوز حدود علم الناس دليلاً على أنه مؤيد باللـه ، وأنه الإمام ، والحجة على الناس أجمعين .
كيف يكون هذا العلم ؟ هل يكون عبر توارث الحديث عن رسول اللـه عن جبرائيل عن اللـه ، أم عبر نكت في القلوب ونقرٍ في الأسماع ، أو عبر عمود من نور ينظر إليه الإمام متى شاء اللـه أن يعلم شيئاً فيعلم ، أم بنزول الروح - وهو أعظم من الملائكة - عليه ليلة القدر ؟!
الصحيح أن كل ذلك وربما غير ذلك مما لا نعلم من سبل العلم الإلهي يكون طريق علم الإمام ، ولم نكلف نحن بمعرفة تفاصيل ذلك ، إنما يكفينا أن الإمام يعلم - بإذن اللـه - بما يجهله الناس ، وبذلك يفضّل عليهم ، ولا بدّ أن يكون مطاعاً فيهم بإذن اللـه .
جاء في حديث شريف عن أبي عبد اللـه الصادق (ع) :
“ فال قلت : أخبرني عن علم عالمكم ؟ قال : وراثة من رسول اللـه (ص) ومن علي بن أبي طالب (ع) ، فقلت : إنَّا نتحدث أنه يقذف في قلبه أو ينكث في إذنه ، فقال : أو ذاك “ .
أي لعله يكون ذلك .
والإمام الكاظم نطق بعلم الرسالة في كافة الحقول ، ويكفيك وصيته لهشام التي تعتبر خلاصة حكم الأنبياء ، وزبدة رؤى الرسالات ، وما نذكره فيما يلي رشح من بحر علمه الزاخر :
1 - روي أن إسحاق بن عمار قال : ( لما حبس هارون أبا الحسن موسى (ع) دخل عليه أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، صاحبا أبي حنيفة فقال أحدهما للآخر : نحن على أحد الأمرين ، إما أن نساويه أو نشكله ، فجلسا بين يديه ، فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك ، فقال : إن نوبتي قد انقضت وأنــا على الإنصراف فإن كان لك حاجة أمرتني حتى آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة ؟ فقـال : مالي حاجة ، فلما أن خرج قال لأبي يوسف :
( ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع وهو ميت في هذه الليلة ) .
فقاما فقال أحدهما للآخر : إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنَّة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب .
ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا : إذهب حتى تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد ، فمضى الرجل فنام في مسجد في باب داره ، فلما أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره فقال : ما هذا ؟ قالوا قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة ، فانصرف إلى أبي يوسف ومحمد واخبرهما الخبر ، فأتيا أبا الحسن (ع) فقالا : قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة ؟ قال :
( من الباب الذي أخبر بعلمه رسول اللـه (ص) علي بن أبي طالب (ع) ) . فلمّا ردّ عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً ) .
هكذا أوتي الإمام موسى بن جعفر (ع) علم المنايا كما أوتي ذلك من قبل أنبياء اللـه وأوليائه الكرام .
2 - وكذلك أوتي علم منطق الناس بإذن اللـه تعالى ، فقد جاء في الحديث عن ابن أبي حمزة قال : (كنت عند أبي الحسن موسى (ع) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اشتروا له ، فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام فأجابه موسى (ع) بلغته ، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم ، فقال له موسى : إني لأدفع إليك مالاً فادفع إلى كل منهم ثلاثين درهماً ، فخرجوا وبعضهم يقول لبعض : إنه أفصح منا بلغاتنا ، وهذه نعمة من اللـه علينا .
قال علي بن أبي حمزة : فلما خرجوا قلت : يابن رسول اللـه رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ؟! قال : نعم ، قال : وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم ؟ قال : نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً ، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً ، لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم ، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه ، وهو مع هذا غلام صدق ، ثم قال : لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة ؟ قلت : إي واللـه قال : ( لا تعجب فما خفي عليك من امري أعجب وأعجب ، وما الذي سمعته مني إلاّ كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة ، أفترى هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر ؟! والإمام بمنزلة البحر لا ينفذ ما عنده وعجائبه أكثر من عجائب البحر ).
3 - وجاء في حديث آخر يرويه علي بن حمزة قال : ( أرسلني أبو الحسن (ع) إلى رجل قدّامه طبق يبيع بفلس فلس وقال : أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له : يقول لك أبو الحسن : انتفع بهذه الدراهم فإنهــا تكفيك حتى تموت ، فلما أعطيته بكى ، فقلت : وما يبكيك ؟ قال : ولم لا أبكي وقد نعيت إليّ نفسـي ، فقلت : وما عند اللـه خير مما أنت فيه ، فسكت وقال : من أنت يا عبد اللـه ؟ فقلت علي بن أبي حمزة ، قال : واللـه لهكذا قال لي سيدي ومولاي أني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي ، قال علي : فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض فقلت : أوصني بما أحببت أنفذه من مالي ، قال : إذا أنا متّ فزوج ابنتي من رجل دين ، ثم بع داري وادفع ثمنها إلى أبي الحسن ، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة . قال : فلما دفنته زوّجت ابنته من رجل مؤمن وبعت داره وأتيت بثمنها إلى أبي الحسن (ع) فزكاه وترحم عليه وقال : رد هذه الدراهم فادفعها إلى ابنته ) .
4 - وإذا كان علم الأئمة من اللـه ، فإن اللـه سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، وقد تقضي حكمته أن يجعل علمه عند صبي في المهد ، كما فعل بالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا (ع) ، وهكــذا أظهر قدرته في شخص الإمام الكاظم (ع) حيث جاء في حديث شريف مأثور عن عيسى شلقان قال : ( دخلت على أبي عبد اللـه (ع) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب فقال لي مبتدئاً من قبل أن أجلس : ما منعك أن تلقى ابني موسى فتسأله عن جميع ما تريد ؟ قال عيسى : فذهبت إلى العبد الصالح (ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلى شفتيه أثر المداد فقال لي مبتدئاً : يا عيسى إن اللـه أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلم يتحوّلوا عنها ، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً ، وإن قوماً إيمانهم عارية ، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان فسلبه اللـه إياه ، فضممته إليّ وقبلت ما بين عينيه وقلـت : ذرية بعضها من بعض .
ثم رجعت إلى الصادق (ع) فقال : ما صنعت ؟ قلت : أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما اردت ، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر ، فقال : يا عيسى إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف ، لأجابك فيه بعلم ثم اخرجه ذلك اليوم من الكتاب ) .
5 - حينما يسقط الحجاب بين الرب وعبده ، وحينما يبلغ الصفاء الروحي والمعرفة الإلهية القمة ، فإن الدنيا تاتي مطيعة للعبد الصالح ، كما قال اللـه في الحديث القدسي :
“ عبدي ، أطعني تكن مِثلي ( أو مَثَلي ) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “ .
هكذا يروي لنا شقيق البلخي جانباً من الكرامة التي خصها اللـه تعالى لإمامنا السابع موسى بن جعفر (ع) فيقول : ( خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم ، واللـه لأمضين إليه ولأوبخنَّه ، فدنوت فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق :
{ اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحُجُرات/12)
ثم تركني ومضى ، فقلت في نفسي إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق بإسمي ، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنَّه ولأسألنه أن يحللني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلّ وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه .
فصـبرت حتى جلس ، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق اتلُ : { وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه/82)
ثم تركني ومضى ، فقلت : إن هذا الفتى لّمِنَ الأبدال ، لقد تكلّم على سرّي مرتيــن ، فلما نزلنا زُبالـة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركــوة يريد أن يسقي ماءً ، فسقطت الركوة من يده في البئر وانا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :
أنــت ربـي إذ ظمئت إلـى الماء * وقوتـي إذا أردت الطعـــــــــامـا
“ اللـهم سيدي مالي غيرها فلا تعدمنيها “ .
قال شقيق : فواللـه لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماءً ، فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلّمت عليه ، فرد عليّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم اللـه عليك ، فقال : يا شقيق لم تزل نعمة اللـه علينا ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر ، فواللـه ما شربت ألذّ منه ولا أطيب ريحاً فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً .
ثم لم أره حتى دخلنا مكة ، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبّح ، ثم قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته ، وإذا له غاشية وموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته بقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)