بنتُ علي
27-07-2008, 11:35 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطاهرين
- ليلة بِشر الحافي
منازل بغداد في ذلك الغروب الحالم بدت وكأنها جوارٍ حِسانٌ جلسنَ على الشاطئ، ينظرن إلى تدافع المياه، وقد تكسرت فوقها بقايا أشعة الشمس قبل أن تغيب.
النوافذ المفتوحة والكوى تبعث ضوءً واهناً لقناديل أُسرجت توّاً استعداداً لليلة طويلة فاتنة، الرجل الأسمر يجوس خلال القصور آخذاً سمته نحو بيت يقبع ما بين مقابر قريش ودير القباب على شاطئ دجلة، حيث تتناثر بيوت الفقراء هنا وهناك.
الأزقّة النظيفة المرصوفة بالحجارة شهدت ذلك الغروب خطىً هادئة لرجل قَدِم من الجزيرة على قدر.
ليس هناك من يسبر آلام موسى في ذلك الزمن النحاسي، زمن حُسبت ساعاته بكُرات من نحاس، حتّى الفارس الذي ما يزال متربعاً فوق القبّة الخضراء يحمل رمحاً نحاسياً، يدور به في كل الجهات، لكأنه يبحث عن أفق تلمع فيه بروق الثورات.
كل شيء كان هادئاً، والنوافذ التي كانت ترسل أضواءً واهنة راحت تبعث بأنغام الموسيقى، وقد ظهر القمر متألّقاً فوق ذرى النخيل.
بغداد تبدأ لَهْوها الليلي، تعدّ موائدها الساهرة، وقد ارتدت الجواري الحسان ثياباً منسوجة من حرير مضمّخة بأنواع الشذى والعطور.
كان الرجل الذي يحمل في صدره هموم النبوّات ما يزال يجوس خلال الديار، خلال زمن نحاسي ضاعت فيه مواعظ الأنبياء.
وفيما كان الرجل الأسمر ينعطف في زقاقٍ مرصوف بالحجارة المفخورة، فُتحت باب خشبية أنيقة، وظهرت جارية حسناء، وتدفقت عبر الباب أصوات الموسيقى والغناء.
وضعت الجارية قمامة في مكان على مبعدة من الباب، ووقفت تتطلع إلى الرجل الغريب، الواثق الخُطى، ربما كانت تقارن بين طلعته وصور الدراويش المخزونة في ذاكرتها.
توقفت الخطى عند الباب حيث تتدفق أصوات اللهو والمجون والعربدة.
قال موسى وهو يسدّد نظرة تكاد تخترق الزمن:
ـ يا جارية! صاحبُ هذه الدار حرٌّ أم عبد ؟
شعرت الجارية أن السؤال قد باغتها تماماً، كانت تتوقع كلمات أخرى طالما سمعتها، كلمة مستعطِفة، أو كلمات غزل عابرة، هتفت الجارية حتّى لا تبدو بَكْماء في نظر الغريب:
ـ بل هو حرّ!
همس أبو إبراهيم بصوت يشوبه حزن غامض:
ـ صدقتِ، لو كان عبداً لخاف مولاه.
ومضى الغريب، فيما وقفت الجارية تنظر مذهولة إلى خطىً هادئة تبتعد رويداً رويداً..
كانت تتطلع إلى رجل نحيف تموج في سُمرته تألقات نور غريب، نور يشبه ما يسطع في أعماق النفوس المطمئنة المفعمة بالسلام.
انبعث صوت من أعماق المنزل:
ـ أين أنتِ يا روحي! كؤوسي فارغة، وفي قلبي تستعر الجحيم.
دخلت الفتاة، وقد علا وجهَها وجوم.. ربما كانت مشغولة بفكّ رموز كلمات لم تسمعها من قبل.. كلمات نفّاذة تسبر الأعماق..
قال الرجل السكران قليلاً:
ـ ماذا دهاكِ ؟! لماذا تقفين هكذا كالمعتوهة ؟!
ـ لا شيء يا سيدي.. لقد مرّ الساعةَ رجل.. رجل غريب سألني عن صاحب هذه الدار.
ـ عنّي أنا ؟! ماذا قال ؟
ـ قال: صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟
ـ حرّ أم عبد ؟!
ـ قلتُ: بل هو حرّ.
ـ هل قال شيئاً آخر ؟
ـ قال: صدقتِ، لو كان عبداً لخاف مولاه.
مثلما يضرب الزلزال الأرض، فترتعش ذرّات التراب وترتجف الأشياء. كانت الكلمات النفّاذة تضرب الأعماق، تطيح بكل الصروح تمزّق خيوط العناكب، تحيل الأنفاق المظلمة إلى خرائب.
سقط الكأس من يده.. وانتفض كمحموم، مهرولاً باتجاه الباب، لحقت به فتاته تدلّه على وجهة الرجل الأسمر الذي مرّ بها قبل لحظات..
وشهدت ظلمة المساء رجلاً حافياً ينهب الأرض بخطاه، يبحث عن رجل أسمر يحمل في صدره هموم الأنبياء.
هتف الحافي بصوت مخنوق وقد لاح له موسى:
ـ يا سيدي.
توقفت الخطى، والتفت أبو إبراهيم إلى رجل حافٍ يَشرِق بدموعه..
والتقى الرجلان.. رجل أسمر، ورجل حافٍ يبحث عن جادّة الطريق..
وبكى الحافي ما شاء له أن يبكي.. شعر أن روحه تغتسل تحت رشاش من مطر طهور.
جثا الحافي عند قدمَي موسى، ينشده الخلاص.. الأمل.. الطريق إلى ينابيع النور، وانحنى أبو إبراهيم يمسح على رأس العائد إلى الله.
لقد اكتوى بنار الشيطان أمداً طويلاً، قال له موسى عليه السّلام وهو يعظه:
ـ كفى بالتجارب تأديباً، وبممر الأيّام عِظة، وبأخلاق من عاشرتَ معرفة، وبذِكر الموت حاجزاً من الذنوب والمعاصي. والعَجبُ كلّ العجب للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء إن نزل بهم! كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار إذا اشتعلت في أبدانهم ؟!
الرجل الحافي ما يزال مستغرقاً في بكاء صامت، كغيمة حزينة كانت عيناه تهملان الدموع..
الدموع.. دموع الندم والعودة والحنين، تطفئ الحرائق المشتعلة في الأعماق لتنفتح نافذة من نور على سماء صافية ذابت في فضائها الغيوم فبدت مرصّعة بالنجوم.
تساءل الحافي وكان اسمه بُشراً
ـ مَن تكون يا سيّدي ؟
قال الذي قدم من المدينة على قدر:
ـ أنا ابن محمّد حبيب الله، وابن إسماعيل ذبيح الله، وابن إبراهيم خليل الله.. أنا موسى بن جعفر.
وفي تلك اللحظة عندما تحطمت آنية الخمر، ولج ( بُشر ) عالم الملكوت.
مقتبس من " على الجسر ببغداد " لكمال السيد
تحياتي: بنتُ علي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطاهرين
- ليلة بِشر الحافي
منازل بغداد في ذلك الغروب الحالم بدت وكأنها جوارٍ حِسانٌ جلسنَ على الشاطئ، ينظرن إلى تدافع المياه، وقد تكسرت فوقها بقايا أشعة الشمس قبل أن تغيب.
النوافذ المفتوحة والكوى تبعث ضوءً واهناً لقناديل أُسرجت توّاً استعداداً لليلة طويلة فاتنة، الرجل الأسمر يجوس خلال القصور آخذاً سمته نحو بيت يقبع ما بين مقابر قريش ودير القباب على شاطئ دجلة، حيث تتناثر بيوت الفقراء هنا وهناك.
الأزقّة النظيفة المرصوفة بالحجارة شهدت ذلك الغروب خطىً هادئة لرجل قَدِم من الجزيرة على قدر.
ليس هناك من يسبر آلام موسى في ذلك الزمن النحاسي، زمن حُسبت ساعاته بكُرات من نحاس، حتّى الفارس الذي ما يزال متربعاً فوق القبّة الخضراء يحمل رمحاً نحاسياً، يدور به في كل الجهات، لكأنه يبحث عن أفق تلمع فيه بروق الثورات.
كل شيء كان هادئاً، والنوافذ التي كانت ترسل أضواءً واهنة راحت تبعث بأنغام الموسيقى، وقد ظهر القمر متألّقاً فوق ذرى النخيل.
بغداد تبدأ لَهْوها الليلي، تعدّ موائدها الساهرة، وقد ارتدت الجواري الحسان ثياباً منسوجة من حرير مضمّخة بأنواع الشذى والعطور.
كان الرجل الذي يحمل في صدره هموم النبوّات ما يزال يجوس خلال الديار، خلال زمن نحاسي ضاعت فيه مواعظ الأنبياء.
وفيما كان الرجل الأسمر ينعطف في زقاقٍ مرصوف بالحجارة المفخورة، فُتحت باب خشبية أنيقة، وظهرت جارية حسناء، وتدفقت عبر الباب أصوات الموسيقى والغناء.
وضعت الجارية قمامة في مكان على مبعدة من الباب، ووقفت تتطلع إلى الرجل الغريب، الواثق الخُطى، ربما كانت تقارن بين طلعته وصور الدراويش المخزونة في ذاكرتها.
توقفت الخطى عند الباب حيث تتدفق أصوات اللهو والمجون والعربدة.
قال موسى وهو يسدّد نظرة تكاد تخترق الزمن:
ـ يا جارية! صاحبُ هذه الدار حرٌّ أم عبد ؟
شعرت الجارية أن السؤال قد باغتها تماماً، كانت تتوقع كلمات أخرى طالما سمعتها، كلمة مستعطِفة، أو كلمات غزل عابرة، هتفت الجارية حتّى لا تبدو بَكْماء في نظر الغريب:
ـ بل هو حرّ!
همس أبو إبراهيم بصوت يشوبه حزن غامض:
ـ صدقتِ، لو كان عبداً لخاف مولاه.
ومضى الغريب، فيما وقفت الجارية تنظر مذهولة إلى خطىً هادئة تبتعد رويداً رويداً..
كانت تتطلع إلى رجل نحيف تموج في سُمرته تألقات نور غريب، نور يشبه ما يسطع في أعماق النفوس المطمئنة المفعمة بالسلام.
انبعث صوت من أعماق المنزل:
ـ أين أنتِ يا روحي! كؤوسي فارغة، وفي قلبي تستعر الجحيم.
دخلت الفتاة، وقد علا وجهَها وجوم.. ربما كانت مشغولة بفكّ رموز كلمات لم تسمعها من قبل.. كلمات نفّاذة تسبر الأعماق..
قال الرجل السكران قليلاً:
ـ ماذا دهاكِ ؟! لماذا تقفين هكذا كالمعتوهة ؟!
ـ لا شيء يا سيدي.. لقد مرّ الساعةَ رجل.. رجل غريب سألني عن صاحب هذه الدار.
ـ عنّي أنا ؟! ماذا قال ؟
ـ قال: صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟
ـ حرّ أم عبد ؟!
ـ قلتُ: بل هو حرّ.
ـ هل قال شيئاً آخر ؟
ـ قال: صدقتِ، لو كان عبداً لخاف مولاه.
مثلما يضرب الزلزال الأرض، فترتعش ذرّات التراب وترتجف الأشياء. كانت الكلمات النفّاذة تضرب الأعماق، تطيح بكل الصروح تمزّق خيوط العناكب، تحيل الأنفاق المظلمة إلى خرائب.
سقط الكأس من يده.. وانتفض كمحموم، مهرولاً باتجاه الباب، لحقت به فتاته تدلّه على وجهة الرجل الأسمر الذي مرّ بها قبل لحظات..
وشهدت ظلمة المساء رجلاً حافياً ينهب الأرض بخطاه، يبحث عن رجل أسمر يحمل في صدره هموم الأنبياء.
هتف الحافي بصوت مخنوق وقد لاح له موسى:
ـ يا سيدي.
توقفت الخطى، والتفت أبو إبراهيم إلى رجل حافٍ يَشرِق بدموعه..
والتقى الرجلان.. رجل أسمر، ورجل حافٍ يبحث عن جادّة الطريق..
وبكى الحافي ما شاء له أن يبكي.. شعر أن روحه تغتسل تحت رشاش من مطر طهور.
جثا الحافي عند قدمَي موسى، ينشده الخلاص.. الأمل.. الطريق إلى ينابيع النور، وانحنى أبو إبراهيم يمسح على رأس العائد إلى الله.
لقد اكتوى بنار الشيطان أمداً طويلاً، قال له موسى عليه السّلام وهو يعظه:
ـ كفى بالتجارب تأديباً، وبممر الأيّام عِظة، وبأخلاق من عاشرتَ معرفة، وبذِكر الموت حاجزاً من الذنوب والمعاصي. والعَجبُ كلّ العجب للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء إن نزل بهم! كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار إذا اشتعلت في أبدانهم ؟!
الرجل الحافي ما يزال مستغرقاً في بكاء صامت، كغيمة حزينة كانت عيناه تهملان الدموع..
الدموع.. دموع الندم والعودة والحنين، تطفئ الحرائق المشتعلة في الأعماق لتنفتح نافذة من نور على سماء صافية ذابت في فضائها الغيوم فبدت مرصّعة بالنجوم.
تساءل الحافي وكان اسمه بُشراً
ـ مَن تكون يا سيّدي ؟
قال الذي قدم من المدينة على قدر:
ـ أنا ابن محمّد حبيب الله، وابن إسماعيل ذبيح الله، وابن إبراهيم خليل الله.. أنا موسى بن جعفر.
وفي تلك اللحظة عندما تحطمت آنية الخمر، ولج ( بُشر ) عالم الملكوت.
مقتبس من " على الجسر ببغداد " لكمال السيد
تحياتي: بنتُ علي