عاشق عمار الحكيم
07-08-2008, 05:49 PM
تناولنا في القسم الأول من المساهمة الدوافع الأساسية في تأسيس ظاهرة العنف في العراق المحتل وتصاعدها، وبيّنّا دور الأطراف الخارجية ولاسيما الإدارة الأمريكية في نشرها هذه الظاهرة الخطرة واستفحالها. كما تطرقنا إلى دور الأطراف الخارجية الأخرى في دفع شعب إلى حافة الاقتتال. في هذا القسم سنقدم عرضا مركزا للدور التخريبي الذي مارسته بعض التنظيمات الداخلية في تصاعد العنف الدموي واستخدامه كآلية لتنفيذ التزاماتها الخارجية وإنجاح مشاريعها الضيقة.
إن الوصول إلى فهم شامل لظاهرة العنف وأبعادها وتشعباتها، وتحديد سبل محاصرتها وإزالتها يتطلب فهم أدوار جميع المساهمين في لعبة الموت العراقية بمن فيهم اللاعبين المحليين، ويتطلب كذلك تشخيص دوافعهم وحجم تأثير ممارساتهم الدموية الشاذة على امن شعب العراق ومستقبله. هذه الضرورات تفرض علينا طرح السؤال التالي:
هل أن مسؤولية تأسيس العنف ونشره تنحصر في الأطراف الخارجية، أم أن هنالك أطرافا محلية تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية استشراء هذه الظاهرة الدموية المدمرة؟
خيارات الرد على هذا السؤال الصعب محدودة إذا ما توخينا الوصول إلى نتائج صائبة تساعدنا على إيجاد حل حاسم لهذه الظاهرة الهدامة. فالجمع بين الجواب السلبي، أي حصر المسوؤلية بالأطراف الخارجية وبين الموضوعية عملية صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة.
ثمة العديد من القرائن التي تؤكد ضلوع حركات محلية في هدر دماء عراقية بريئة، ومساهمتها في تصعيد الجريمة تحقيقا لأهداف تخدم مصالح القوى الأجنبية الراعية لها أولاً، وتحقيق مشاريعها العنصرية والطائفية ثانيا. تلك الأدوار التخريبية لم تضطلع بها الحركات التي تحالفت مع إدارة بوش إبان فترة التمهيد للاحتلال حصرا، بل مارسته فرق اختارت التعامل مع سلطة الاحتلال سواء عن جهل أم عن إدراك، وتورطت به فرق أخرى رفعت رايات المقاومة والجهاد!
وقد يعتقد البعض بأن طرح مثل هذه التساؤلات في هذه المرحلة المصيرية يلحق أضرارا في الجهد الوطني المقاوم، أو يساهم في زيادة حدة انقسام الصف الوطني المناهض للاحتلال، لكننا نؤمن بأن العكس هو الصحيح. فخطورة المشكلة على وحدة شعب العراق وعلى ديمومة العراق كدولة، والأهم على مشروع مقاومته الوطنية، تستوجب التعامل مع حيثياتها بكل موضوعية وصراحة وشمولية، وتجنب الانتقائية واستخدام التفسير الأحادي الجانب لتحليل هذه الظاهرة الخطيرة . الضرورة الوطنية تفرض عدم التغاضي عن البعد الداخلي لازدهار الجريمة، فتجربة المرحلة المنصرمة من الاحتلال تؤكد وجود أطراف محلية "عراقية" ساهمت في توسيع مساحة الدمار والموت، وتلبية لدوافع اختلفت تبعا لبرامج تلك الأطراف أو ارتباطاتها الخارجية.
من المؤكد أن الأطراف الخارجية لم تكن قادرة على تسويق ظاهرة مستهجنة ومتناقضة مع السلوك الإنساني القويم، ومع تقاليد شعب مؤمن معتدّ بحضارته وبإيمانه بالقيم السماوية والدنيوية كشعب العراق اذ لم يكن هنالك استعداد غريزي لدى بعض الشرائح العراقية لتبني هذا النهج المرضي، واستعداها للانخراط في حملة استباحة أبناء شعبهم!
ما نحن في إزائه إشكالية بالغة التعقيد لا ندّعي امتلاك القدرة على تقديم تقديرات شاملة وحاسمة لأسبابها ونتائجها، لكننا ومن دون الدخول في تحليل التركيبة النفسية لشعب العراق، أو تقديم موجز تاريخي يبرهن أو ينفي وجود مثل هذا الاستعداد، نستطيع ومن خلال مراجعة طبيعة الممارسات الدموية الشاذة التي عانى منها شعب العراق خلال مرحلة الثلاث سنوات ونصف المنصرمة، ترجيح وجود هكذا استعداد.
التوقف أمام هذا الهم الوطني، بل لنقل الكارثة الوطنية، يفرض على المتابع جملة من التساؤلات المحيرة والمحزنة. فإذا كان بالمستطاع تقديم تفسيرات لدوافع الجهات الأجنبية وتحديد مسؤوليتها عن زرع مفخخات الموت في المرافق العامة، واغتيال الطيارين العراقيين وتفجير المراكز الدينية، واغتيال الثروة العلمية، وتصفية وتهجير العلماء العراقيين، وغيرها من مظاهر الجريمة والدمار!.
وإذا كان بالإمكان تحديد أهداف ومسؤولية عمليات التطهير الطائفي والعرقي المنتشرة في المناطق التي تسيطر عليها الأحزاب المساندة للاحتلال، فما هي مبرراتها؟ ومن يتحمل مسؤولية القتل الجماعي للمدنيين في أحياء ومدن العراق كحي الجهاد والعامرية والصليخ والاعظمية والمحمودية واليوسفية والحرية والكاظمية والموصل والضلوعية وبعقوبة والخالص وبلد وغيرها من أحياء بغداد ومدن العراق؟ كيف يمكن تفسير السلوكية الهمجية في قتل المواطنين استنادا إلى انتمائهم المذهبي والعرقي وبناء على أسمائهم وألقابهم المثبتة في بطاقاتهم الشخصية؟ كيف يمكن تبرير الأساليب المفرطة السادية المستخدمة في قتل المنتمين للمذهب المقابل وتصفية الخصوم السياسيين، كاستخدام المثاقب الكهربائية، وتقطيع الأطراف وقطع الأعناق والتمثيل بالجثث؟
أي نظرية تلك التي يمكن استخدامها لتفسر عملية قتل أئمة المساجد والتمثيل بجثثهم بلذة وسادية غريبة؟ ما هي مبررات ذبح الكاهن المسيحي في مدينة الموصل؟ ومن يتحمل مسؤولية هذه الجريمة البشعة؟ من قتل شيخ الطائفة المندائية في الصويرة ولماذا؟ من يتحمل مسوؤلية "شوي" الشيخ أبو عمر المشهداني في فرن مخبزه؟
أي قضية وطنية تلك التي تبرر ذبح الأبرياء وفصل رؤوسهم عن أجسادهم وإحلال رؤوس حيوانات عوضا عنها؟ ما هي الدوافع التي يمكن أن تبرر مثل هذه التصرفات الهمجية؟ وما هي الفوائد الوطنية المتوخاة من زرع عربات مفخخة في وسط أسواق مكتظة بالسكان المدنيين الأبرياء؟
لا نقاش في أن الجرائم المذكورة من أبشع وأحقر ما يمكن أن ينجم عن تصرف بشري، جرائم لا يمتلك مرتكبيها أي قدر من المقومات الأخلاقية والصفات الإنسانية، ناهيك عن كونها خالية من صفات الشجاعة والشعور الوطني والقومي الديني النبيل. جرائم بشعة يخدم ارتكابها مشروع الاحتلال بشكل مباشر، وتساهم في تكوين الامتداد الايراني داخل العمق العراقي، وترفع من حجم التأثير السلبي لتدخلات الأنظمة العربية في الشأن العراقي، وتزيد من احتمالات تقسيم العراق، وتأسيس دولة "مدن الطوائف".
لا شك في أن مرتكبي هذه الجرائم ينفذون الجانب الأكثر قذارة، والأكثر خطورة من جوانب مشروع الاحتلال بصرف النظر عن هويتهم وعن مفردات خطابهم السياسي، وموقفهم من قضية المقاومة والتحرير. هذه الحقيقة المؤلمة وربما المحرجة للبعض لن تفندها محاولات نفي صفة "العراقية" عن مقترفي تلك الجرائم البشعة، أو إرجاع سلوكهم الإجرامي إلى أصولهم الايرانية، أو ارتباطاتهم لأجنبية! التهرب من مواجهة هذه الحقيقة الصعبة وتجنب تحليلها بشكل واضح ومتوازن نهج لا يخدم قضيتنا الوطنية راهنا ولا مستقبلا. فحصر تبعات هذه الجرائم بالأطراف الخارجية، وتقديم المجتمع العراقي كمجتمع خالي من الشوائب، عملية فيها مغالطة لا تخدم جهود وقف شلالات الدم العراقي المراق عبثا . فالمجتمع العراقي كجزء من المجتمع الإنساني لا تختلف خصائص أفراده النفسية ونزعاتهم وسلوكيتهم عن أفراد المجتمعات الأخرى متقدمة كانت ام متخلفة. فهو أسوة مع غيره من المجتمعات بعيد كل البعد عن الطوبائية والنقاء الأخلاقي والالتزام المطلق بالقيم الوطنية والتعاليم الدينية. إذن مسؤولية بعض الشرائح العراقية في هدر دماء العراقيين حقيقة لا يمكن دحضها.
من الموضوعية أن نثبت بأن هذا الاستعداد الغريزي لارتكاب الجريمة لدى بعض الأفراد والمجاميع العراقية واستخدامها كأداة للإرهاب السياسي والطائفي لم يولد مع دخول قوات الاحتلال الأمريكي أرض العراق، بل له جذوره التاريخية. ولن نثقل القاري في سرد حوادث منتقاة من مراحل تاريخية مختلفة من تاريخ العراق للبرهنة على قيام بعض الأطراف العراقية بهدر دماء أطراف عراقية أخرى دون أية مبررات مشروعه، لكنا سنتوقف أمام محطة تاريخية قريبة من مرحلتنا الراهنة.
المؤسف أن جميع القوى السياسية الرئيسة، بدون استثناء، مارست بشكل أو آخر عمليات التصفية الجسدية للغريم السياسي الوطني خلال العقود الخمس المنصرمة. الشواهد التاريخية على تلك الممارسات عديدة لعل أكثرها توثيقا وبشاعة وأقربها تاريخيا للمرحلة الراهنة، تلك الجرائم التي ارتكبها من أطلقوا على حركتهم تسمية "أنصار السلام" في مدينتي كركوك والموصل عام 1959، وفي بغداد ومدن عراقية أخرى.
لقد شهدت تلك الحقبة أبشع ممارسات الإقصاء والتطهير السياسي واقترفت أبشع الجرائم السياسية. فبذريعة الدفاع عن "الجمهورية الخالدة"، وبناء "الوطن الحر والشعب السعيد"، سُحل الخصوم السياسيون وهم أحياء في شوارع وأزقة المدن العراقية، وعُلقت بقايا أجسادهم العارية الممزقة فوق أعمدة النور (الكهرباء). وفي سبيل الدفاع عن مكتسبات الكادحين وحقوق الشعب، وتحقيق العدالة الاجتماعية علق جسد الشهيدة حفصة العمري على عامود النور (الكهرباء) في الموصل، وارتكبت مذبحة كاورباغي، وأطلقت هتافات "إعدم إعدم" الهستيرية، وازداد عدد الملوحين في "حبال الديمقراطية"، ومورست أبشع أنواع الاجتثاث السياسي، وفي نهج مطابق لنهج الجرائم المرتكبة حاليا، مع اختلاف هوية الفاعلين وشعاراتهم . فالجرائم المرتكبة اليوم بحق الأبرياء، ترتكب أيضا بذريعة الدفاع عن حرمة الدين وعن مصالح المذهب، ومن اجل رفع مظالم تاريخية أو "اجتثاث فكر البعث"!
إننا لا نروم أن ننكأ جراح قديمة، ولا نبغي تصعيد حالة الشرذمة الوطنية، لكننا سقنا تلك الجرائم نموذجا للبرهنة على وجود سابقة تاريخية لقيام أطراف عراقية بارتكاب جرائم سادية لتحقيق أهداف سياسية أو فئوية، لا شكك في أن هذا النهج الشاذ لا يعكس بأي شكل أو محتوى أخلاقية غالبية شعب العراق والتقاليد الإنسانية الحضارية لمكوناته الاجتماعية.
إن أكثر أبعاد ظاهرة العنف المتصاعد في العراق خطورة على أمن شعب العراق ومستقبله، وأكثرها تعقيدا يكمن في أن عددا كبيرا من تلك الجرائم ارتكب لمسوغات دينية وطائفية منها إزالة إجحاف تاريخي وقع بحق أتباع مذهب معين وأئمتهم، أو من أجل إقامة دولة الخلافة والعدالة، أو لتطهير المجتمع العراقي من شرائح اجتماعية دخيلة أو تصفية الدين من ممارسات شاذة؟!
من هي الأطراف الداخلية التي ساهمت في تفجير الجريمة وتصعيدها؟
إن استفحال ظاهرة الجريمة في العراق المحتل بهذه المعدلات المفزعة لا يمكن أن يكون إلا نتاج جهد مركب متعدد المصادر والنوازع، لذا فأن تبعات الجرائم المرتكبة تتقاسمها أطراف عدة، بعضها خارجي كما أشرنا إليه في القسم الأول، والآخر داخلي. هذا لا يلغي حقيقة أن المسؤولية الأعظم لهدر دماء العراقيين تتحملها إدارة بوش، قائمة الإطراف الداخلية المساهمة فعليا في جريمة اغتيال شعب العراق تضم كل من: الحركات الطائفية المرتبطة في ايران كـ"المجلس الأعلى" و"حزب الدعوة" و"حزب العمل الإسلامي"، الأحزاب الانفصالية الكردية المدعومة من الكيان الصهيوني، ما يطلق عليها تنظيمات "جيش المهدي" أو "التيار الصدري"، "فرق الموت" التي أسستها الأجهزة الأمريكية ويشرف عليها عدد من عملائها، التجمعات والفرق الطائفية المضادة للامتداد الايراني، أفراد وتجمعات معزولة، وأخيرا العصابات الإجرامية التقليدية، لنراجع بإيجاز أدور الأطراف المذكورة ودوافعها لتصعيد الجرائم اللانسانية.
الحركات الطائفية المرتبطة بايران
إذا كانت الإدارة الأمريكية مسؤولة عن خلق المناخ الملائم لانتعاش العنف والجريمة وعن تشجيع عملائها على تنفيذ العمليات الإجرامية، وتتحمل مسؤولية التنفيذ المباشر لجانب من تلك العمليات، فأن الأحزاب الطائفية العراقية الجنسية ذات المرجعة الايرانية تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تنفيذ مخططات الاحتلالين الأمريكي والايراني في نشر الجريمة وتوسيعها، وتتحمل التبعات القانونية والأخلاقية لجزء كبير من العمليات الإجرامية، لقد كانت هذه الأحزاب أول من بادر بعد الاحتلال واستخدم نهج " سفك الدماء" كآلية لتحقيق أهداف طائفية وإزالة ما أطلقوا عليه "ظلما تاريخيا!"
بعد أسابيع قليلة من احتلال القوات الأمريكية للعاصمة بغداد عاد ابراهيم الأشيقر إلى مقر إقامته الدائم في لندن واجتمع مع أنصاره، في ذلك الاجتماع أشار الأشيقر متبجحا إلى حملة الاغتيالات التي كانت قد بدأت آنذاك في البصرة ومدن عراقية أخرى، وقدم للمجتمعين تفسيرا مرضيا لها، حيث وصف تلك الجرائم في كونها امتداد للمسيرة الجهادية التي بدأت قبل 1400 عام، وأنها جزء من نضال "حزب الدعوة" ضد أعداء آل البيت، وأن هذه المسيرة الجهادية ستستمر!
وفعلا فأن المسيرة الإجرامية لهذا الحزب الايراني – البريطاني المنشأ استمرت مخلّفة ورائها الدمار والممارسات الهمجية والتقاليد الشاذة. هنا لا بد وأن نشير بأن الانجازات الإجرامية لهذا الحزب الطائفي قد بدأت قبل الاحتلال، فالتنظيمات التكفيرية لهذا الحزب العميل مسؤولة عن العديد من العمليات الإرهابية التي ارتكبت بحق الأبرياء العراقيين، منها إلقاء قنبلة يدوية على المساهمين في مهرجان طلابي أقيم في الجامعة المستنصرية، إلقاء قنابل يدوية من بناية المدرسة الايرانية في بغداد على المتظاهرين، محاولة اغتيال القيادة العراقية الشرعية في الدجيل بالاشتراك مع أفراد المخابرات الايرانية، تفجير بناية وزارة التخطيط باستخدام عربة مفخخة، قتل العشرات من أبناء القوات المسلحة العراقية أثناء تمتعهم في إجازاتهم الدورية وغيرها من العمليات الإرهابية.
ولم تختلف الطبيعة الإجرامية لـ"المجلس الأعلى وحزب العمل" وغيرهم من التجمعات الطائفية عن دور "حزب الدعوة" التخريبي. فأطلقت هذه التجمعات ميليشياتها المسلحة المدربة والمعبئة طائفيا، مستفيدة من الغطاء السياسي والأمني الذي وفرها لهم "الشيطان الأكبر"، لتمارس أبشع أنواع الجرائم ضد أبناء العراق المتصدين لنهجهم الطائفي المتخلف. إن أهداف هذه العصابات الطائفية في نشر الجريمة والدمار في العراق، وإن التقت مع أهداف سلطة الاحتلال في نشر الجريمة، إلا أنها تكمن في كونها شروط أساسية لخلق امتداد ايراني داخل العراق وخاصة في مناطقه الجنوبية الغنية في الموارد النفطية.
تجربة "المجلس الأعلى" في هدر دماء العراقيين قديمة وتعود إلى أواسط الثمانينيات، حيث قامت حينذاك في تعذيب وقتل الأسرى العراقيين من أفراد الجيش العراقي الباسل إبان الحرب العراقية-الايرانية، تلك العمليات أشرف عليها بشكل مباشر وموقعي كل من الشقيقين باقر وعبد العزيز الطباطبائي الحكيم.
الأحزاب الانفصالية الكردية
موجة العنف الطائفي التي أطلقتها حركات الاستقطاب الطائفي المرتبطة في ايران تزامنت مع حملة عنف عنصري إجرامي أخرى أطلقتها ميليشيات الأحزاب الكردية الانفصالية في شمال العراق، هذه الحملة وإن تركزت في المدن والقرى المحيطة بحقول نفط كركوك والموصل، إلا أن نشاطاتها طالت جميع المدن العراقية ولاسيما بغداد.
لقد استثمرت الحركات الكردية صفقة بيع الوطن التي وقعتها مع الإدارة الأمريكية لتسهيل احتلال العراق، فشنت حملة تطهير عرقي في المناطق المتاخمة لمراكز التواجد الكردي، وباشرت في ترحيل الآلاف من العوائل العربية والتركمانية والكلدانية من مناطق سكناها الأصلية تحت ذرائع واهية وأكاذيب مفضوحة من أجل توسيع مساحة ما يطلقوا عليه تسمية "كردستان العراق". النشاط الإجرامي للميليشيات الكردية لم ينحصر في نطاق مدينتي كركوك والموصل والمناطق الأخرى المعروفة بثقلها السكاني الكردي، بل هنالك الكثير من الأدلة على ضلوعها في جرائم قتل المدنيين الجماعي، ومساهمتها في كل ما من شانه تحطيم البنية الاجتماعية والسياسية لدولة العراق المركزية . هدف العصابات الكردية من نشر العنف والجريمة في بغداد والمدن العربية الأخرى واضح، فالعنف يقود إلى تفتيت الوحدة التاريخية لشعب العراق ولاسيما صف العراقيين العرب الأمر الذي قد يؤدي إلى نشوب صراع مسلح واسع وطويل بين الأطراف العربية، وبالتالي يخلق مبررات لتحقيق المخطط الكردي الانفصالي في سلخ شمال العراق عن الوطن الأم وإعلان الدولة الكردية.
مفارز "جيش المهدي" ومنظمات "التيار الصدري"
قبل التعرض للدور التخريبي الذي لعبته هذه المجموعات لا بد من التأكيد على أنه من الخطأ التعامل مع "التيار الصدري" ككتلة واحدة متجانسة المواقف والأهداف والسياسات، فهنالك الكثير من المعاير التي يمكن اللجوء إليها للبرهنة على وجود أكثر من شلة وأكثر من تكتل داخل هذا التشكيل الحديث التكوين وذو المشروع الطائفي، الذي لا يختلف كثيرا عن المنطلقات الطائفية التي يستند إليها "حزب الدعوة". حالة عدم التباين والشرذمة السائدة داخل "التيار الصدري" لا تعفي قواعده، ولا تبرىء قيادته من تبعات الجرائم البشعة التي ارتكبتها مفارز وعصابات التيار، أو تلك التي تدّعي علنا انتمائها لـ"جيش المهدي" وتقليدها لمرجعية الصدريين. المفارز التابعة لـ"جيش المهدي" و"تيار مقتدى" مسؤولة عن هدر دماء الكثير من العراقيين، ومسؤولة عن اقتراف الكثير من عمليات الخطف والقتل والحرق والتدمير التي تعرض لها المواطنين العراقيين وممتلكاتهم الخاصة. ويتحملون بشكل خاص مسئولية الكثير من الجرائم ذات الطبيعة الطائفية المرتكبة في بغداد وضواحيها. لا نريد سرد تفاصيل تلك الجرائم التي باتت معروفة لأبناء شعب العراق ولأهالي مدينة بغداد بشكل خاص، ويعترف بها من ساند التيار ودافع عن مواقفه. لكننا نود أن نذكّر القراء بجريمة المذبحة الطائفية البشعة التي ارتكبها أفراد مفرزة "جيش المهدي"/ قطاع مدينة الشعلة في حي الجهاد، ونود أن نذكرهم "بالغزوات" الهمجية التي تشنها "فرق الموت" التابعة لجيش مقتدى على أحياء معينة من بغداد، ونذكرهم بالجرائم التي ارتكبتها عصابات الصدر بحق كل من سبق وأن حمل مسؤولية حكومية في دولة العراق الشرعية التي أنهت قوات الغزو الأمريكي تجربتها الوطنية والقومية وأتاحت للمجرمين فرصة التحرك في بغداد، فلولا سلطة الاحتلال لما تجرأ مقتدى والحكيم والأشيقر والمالكي وإياد علاوي ووفيق السامرائي وغيرهم من سفاحي شعب العراق الاقتراب من حدود العراق..
"فرق الموت"
لم يهدر جون نيغروبونتي فرصة تنصيبه حاكما مطلقا للعراق بعد انتهاء مهمة بريمر التخريبة، فانتهز هذه الفرصة ليعمق الدور التخريبي الأمريكي في العراق، ويعيد تشكيل فرق التدمير والموت الشبيهة بتلك التي سبق وأن شكلها في السلفادور وغيرها من دول أمريكا اللاتينية. "فرق الموت" الأمريكية التشكيل والعراقية التركيبة والتي سلمت قيادتها وتمويلها المحلي إلى عناصر كأحمد الجلبي وإياد علاوي وأيهم لسامرائي وغيرهم من مجرمي الاحتلال وعملائه، مسؤولة عن ارتكاب سلسلة طويلة من جرائم القتل وتدمير الممتلكات العامة، ومسؤولة عن زرع العربات المفخخة في الأسواق والشوارع العراقية. من المهم أن نشير بأن عصابات الموت هذه تتكون من عناصر عراقية تنتمي إلى جميع الأديان والمذاهب التي يتكون منها شعب العراق.
العصابات ومافيات الجريمة المنظمة
لقد وفرت الفجوة الأمنية التي خلقها الاحتلال إثر تهديم اطر الدولة المركزية الشرعية، فرصة كبيرة للعصابات الإجرامية وقطاعي الطرق والقتلة المحترفين، وخلق موسما ازدهرت به الجريمة وانتشرت الممارسات الشاذة بشكل لم يألفه المجتمع العراقي. فسيطرت مافيات الجريمة على شوارع بغداد والمدن الأخرى، أرهبوا السكان الآمنين وأطلقوا حملة واسعة من الجرائم التي تنوعت نشاطاتها القذرة من اختطاف الأطفال والشابات وتصديرهن، إلى الاختطاف المسلح والسرقة المسلحة والاغتصاب والابتزاز ونشر المخدرات والرذيلة. هذه العمليات الإجرامية تمت بتشجيع مباشر من قبل سلطة الاحتلال، كما وساهم فشل الحكومات الهزيلة المنصّبة من قبل إدارة بوش وتقوقعها في المنطقة السوداء على تفشي الجريمة وانتعاش الجريمة المنظمة.
إن البعد الداخلي لانتشار العنف والجريمة في العراق لم يقتصر على ادوار الحركات المذكورة، بل ساهمت أطراف أخرى في نشر هذه الظاهرة الخطيرة. فساهم نفر في شكل غير مباشر، وبغباء ملحوظ في إنجاح خطة تصعيد الاستقطاب الطائفي والعرقي الذي يشكل أحد مقومات تكريس الاحتلال. في حين ساهم آخرون في دفع الوضع في العراق إلى حافة الهاوية بشكل مباشر ومرتبط بإدارة الاحتلال، هذه الأطراف يمكن تقسيمها إلى مجموعتين أساسيتين:
الأولى: وتمثل مجموعات معزولة وغير منضبطة وطنيا تورطت في ممارسة العنف والجرائم ذي الأبعاد العنصرية والطائفية كفعل مضاد للتركية السياسية الناجمة عن الاحتلال وعن لامتداد الايراني. معظم العمليات التي قامت بها هذه المجاميع اتسمت بالعشوائية وجاءت كردود أفعال على عنف المحتلين وقسوتهم على السكان أو كردود أفعال على الأعمال الإجرامية التي قامت بها العصابات الطائفية والعنصرية المرتبطة بايران . هذا التفسير ليس دفاعا عن تصرفات تلك المجاميع أو إعفائها من تبعات هدر دماء العراقيين، فالجرائم المرتكبة من قبل هذه المجاميع لا تختلف في بشاعتها وأضرارها عن طبيعة الجرائم المرتكبة من قبل الأطراف الداخلية الأخرى.
لقد ساهمت هذه المجاميع بخلق اصطفاف طائفي مقابل للاصطفاف الطائفي المرتبط بـايران، وقدم لسلطة الاحتلال مقوما مهما من مقومات نجاح مشروعها التقسيمي.
أما المجموعة الثانية، فيمثلها العراقيون اللذين استوردوا تفسيرات دينية متطرفة بعيدة عن تقاليد شعب العراق ومُناقضة لتراث الأمة العربية ولمبادئ الدين الإسلامي الراقي وتعاليمه الإنسانية. فقدم هؤلاء نهجا إجراميا خطيرا على أمن شعب العراق وقضيته الوطنية، وشنوا حملة عنف أخرى ضد الأبرياء من أبناء شعب العراق من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى بذريعة حماية الدين والمذهب. هذه التجمعات تشكل امتدادا للمنظمات التي كانت إلى الأمس القريب تسبح لله وتحمده على تسخير أمريكا لقضاياها، والتي لعبت المخابرات المركزية الأمريكية دورا كبيرا في تكوينها ودعمها، وخدمت عملياتها الاستراتيجية الأمريكية، وما زالت، من خلال تقديم العنف الذي تحتاجه الامبريالية الأمريكية لتغذية صراع كوني جديد يساهم في خدمة الاستثمارات الأمريكية المالية والنفطية.
لقد ساهمت العمليات الإجرامية التي قامت بها هذه المجموعات في تشويه قضيتنا الوطنية من خلال إلغائها المشروع الوطني للمقاومة، وربط مشروع المقاومة والجهاد بمشروع صراع ديني غذته واشنطن لخدمة برنامج توسيع حرب المحافظين الجدد على الإرهاب.
إن جانبا كبيرا من العنف الدموي المستفحل في العراق المحتل يشكل جريمة منظمة على أسس وحشية منطلقة بذريعة الحفاظ على مصير ومصالح طائفية بعيدة عن المصلحة المشتركة لشعب العراق. إنها حرب همجية منظمة بكل ما يعنيه مصطلح الحرب الهمجية من أبعاد ومعاني. غايتها الأساسية تشويه القضية المشروعة لشعب العراق، وتغذية الصراع بين أطراف محلية بشكل يتيح للأحزاب الكردية والحركات المرتبطة بايران والأقطار العربية المستفيدة من تقسيم العراق بتنفيذ مخططاتها، ويتيح للإدارة الأمريكية السيطرة على الثروة النفطية. لقد خلقت ظاهرة الجريمة إرباكا واضحا في المشروع التحرري العراقي وحالة من الضبابية التي تحول دون الفرز الواضح بين عمليات المقاومة الوطنية المشروعة، وبين الإرهاب، وألحقت، ومازالت، أضرارا كبيرة بقضيتنا الوطنية، وساعدت على تأخير حسم انتصار المقاومة على قوات الاحتلال.
ويبقى السؤال الأهم، كيف يمكن إنهاء موسم الجريمة ومحاصرة النزف الدموي المشوه لقضية شعب العراق وحقه المشروع في مقاومة الاحتلال؟؟.
لا جدال في صعوبة السؤال وفي تنوع الأجوبة المحتملة وتعددها. لذا فإن حسم هذه القضية المهمة يحتاج إلى الجهود المخلصة لقوى شعب العراق الوطنية والمساهمة الفكرية لكل الملتزمين في قضية شعب العراق وأمنه واستقلاله، ولاسيما الحريصون منهم على منهاج المقاومة الوطنية العراقية ونجاحها في تحقيق هدفها النهائي.
المطلوب من جميع القوى السياسية الوطنية المناهضة للاحتلال أن تعي مخاطر هذه الظاهرة المدمرة والعمل على إيجاد السبل الكفيلة لمحاصرتها. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب إدانة عمليات قتل الأبرياء العراقيين بغض النظر عن هوية القتلة ومبرراتهم وخطابهم السياسي . فلا يمكن لقتلة شعب العراق أن يكونوا جزء من قضيته الوطنية، هذه استحالة منطقية لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها . من المسلم به أن خلاص العراق وإنهاء الاحتلال لن يتم إلا بوحدة شعب العراق التي يشكل العنف الطائفي والعنصري والسياسي أهم معوق لها.
ومع أهمية دور القوى السياسية في محاصرة هذه الكارثة، إلا أن حسمها لن يتم إلا من خلال معالجة السبب الحقيقي لها، وتحديدا الاحتلال المزدوج الذي يعاني منه شعب العراق. فالحل النهائي والحاسم لجميع الكوارث والتحديات التي يواجهها شعب العراق ولاسيما كارثة العنف الدموي تكمن في إنهاء الاحتلال وتصفية أثاره، وفي عودة القرار السياسي لأبناء العراق المخلصين الملتزمين في المشروع الوطني المعبر عن طموحات شعب العراق . تجربة المرحلة المنصرمة من نضال شعب العراق برهنت على أن إنهاء الاحتلال لن يتم إلا عبر خيار المقاومة الوطنية، ومن هنا فأن دعم المقاومة وتقديم مستلزمات انتصارها وحمايتها ورعاية مقاتليها يعتبر الأداة الحاسمة لإنهاء دوامة العنف الدموي. فإذا كان الاحتلال وأتباعه وأنصاره هم العامل المسبب لجميع كوارث العراق فان المقاومة الوطنية، الممثل الشرعي الوحيد لشعب العراق، هي الحل، والحل والوحيد لأزمات العراق والطريق الوحيد لبناء العراق الحر الديمقراطي الموحد
إن الوصول إلى فهم شامل لظاهرة العنف وأبعادها وتشعباتها، وتحديد سبل محاصرتها وإزالتها يتطلب فهم أدوار جميع المساهمين في لعبة الموت العراقية بمن فيهم اللاعبين المحليين، ويتطلب كذلك تشخيص دوافعهم وحجم تأثير ممارساتهم الدموية الشاذة على امن شعب العراق ومستقبله. هذه الضرورات تفرض علينا طرح السؤال التالي:
هل أن مسؤولية تأسيس العنف ونشره تنحصر في الأطراف الخارجية، أم أن هنالك أطرافا محلية تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية استشراء هذه الظاهرة الدموية المدمرة؟
خيارات الرد على هذا السؤال الصعب محدودة إذا ما توخينا الوصول إلى نتائج صائبة تساعدنا على إيجاد حل حاسم لهذه الظاهرة الهدامة. فالجمع بين الجواب السلبي، أي حصر المسوؤلية بالأطراف الخارجية وبين الموضوعية عملية صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة.
ثمة العديد من القرائن التي تؤكد ضلوع حركات محلية في هدر دماء عراقية بريئة، ومساهمتها في تصعيد الجريمة تحقيقا لأهداف تخدم مصالح القوى الأجنبية الراعية لها أولاً، وتحقيق مشاريعها العنصرية والطائفية ثانيا. تلك الأدوار التخريبية لم تضطلع بها الحركات التي تحالفت مع إدارة بوش إبان فترة التمهيد للاحتلال حصرا، بل مارسته فرق اختارت التعامل مع سلطة الاحتلال سواء عن جهل أم عن إدراك، وتورطت به فرق أخرى رفعت رايات المقاومة والجهاد!
وقد يعتقد البعض بأن طرح مثل هذه التساؤلات في هذه المرحلة المصيرية يلحق أضرارا في الجهد الوطني المقاوم، أو يساهم في زيادة حدة انقسام الصف الوطني المناهض للاحتلال، لكننا نؤمن بأن العكس هو الصحيح. فخطورة المشكلة على وحدة شعب العراق وعلى ديمومة العراق كدولة، والأهم على مشروع مقاومته الوطنية، تستوجب التعامل مع حيثياتها بكل موضوعية وصراحة وشمولية، وتجنب الانتقائية واستخدام التفسير الأحادي الجانب لتحليل هذه الظاهرة الخطيرة . الضرورة الوطنية تفرض عدم التغاضي عن البعد الداخلي لازدهار الجريمة، فتجربة المرحلة المنصرمة من الاحتلال تؤكد وجود أطراف محلية "عراقية" ساهمت في توسيع مساحة الدمار والموت، وتلبية لدوافع اختلفت تبعا لبرامج تلك الأطراف أو ارتباطاتها الخارجية.
من المؤكد أن الأطراف الخارجية لم تكن قادرة على تسويق ظاهرة مستهجنة ومتناقضة مع السلوك الإنساني القويم، ومع تقاليد شعب مؤمن معتدّ بحضارته وبإيمانه بالقيم السماوية والدنيوية كشعب العراق اذ لم يكن هنالك استعداد غريزي لدى بعض الشرائح العراقية لتبني هذا النهج المرضي، واستعداها للانخراط في حملة استباحة أبناء شعبهم!
ما نحن في إزائه إشكالية بالغة التعقيد لا ندّعي امتلاك القدرة على تقديم تقديرات شاملة وحاسمة لأسبابها ونتائجها، لكننا ومن دون الدخول في تحليل التركيبة النفسية لشعب العراق، أو تقديم موجز تاريخي يبرهن أو ينفي وجود مثل هذا الاستعداد، نستطيع ومن خلال مراجعة طبيعة الممارسات الدموية الشاذة التي عانى منها شعب العراق خلال مرحلة الثلاث سنوات ونصف المنصرمة، ترجيح وجود هكذا استعداد.
التوقف أمام هذا الهم الوطني، بل لنقل الكارثة الوطنية، يفرض على المتابع جملة من التساؤلات المحيرة والمحزنة. فإذا كان بالمستطاع تقديم تفسيرات لدوافع الجهات الأجنبية وتحديد مسؤوليتها عن زرع مفخخات الموت في المرافق العامة، واغتيال الطيارين العراقيين وتفجير المراكز الدينية، واغتيال الثروة العلمية، وتصفية وتهجير العلماء العراقيين، وغيرها من مظاهر الجريمة والدمار!.
وإذا كان بالإمكان تحديد أهداف ومسؤولية عمليات التطهير الطائفي والعرقي المنتشرة في المناطق التي تسيطر عليها الأحزاب المساندة للاحتلال، فما هي مبرراتها؟ ومن يتحمل مسؤولية القتل الجماعي للمدنيين في أحياء ومدن العراق كحي الجهاد والعامرية والصليخ والاعظمية والمحمودية واليوسفية والحرية والكاظمية والموصل والضلوعية وبعقوبة والخالص وبلد وغيرها من أحياء بغداد ومدن العراق؟ كيف يمكن تفسير السلوكية الهمجية في قتل المواطنين استنادا إلى انتمائهم المذهبي والعرقي وبناء على أسمائهم وألقابهم المثبتة في بطاقاتهم الشخصية؟ كيف يمكن تبرير الأساليب المفرطة السادية المستخدمة في قتل المنتمين للمذهب المقابل وتصفية الخصوم السياسيين، كاستخدام المثاقب الكهربائية، وتقطيع الأطراف وقطع الأعناق والتمثيل بالجثث؟
أي نظرية تلك التي يمكن استخدامها لتفسر عملية قتل أئمة المساجد والتمثيل بجثثهم بلذة وسادية غريبة؟ ما هي مبررات ذبح الكاهن المسيحي في مدينة الموصل؟ ومن يتحمل مسؤولية هذه الجريمة البشعة؟ من قتل شيخ الطائفة المندائية في الصويرة ولماذا؟ من يتحمل مسوؤلية "شوي" الشيخ أبو عمر المشهداني في فرن مخبزه؟
أي قضية وطنية تلك التي تبرر ذبح الأبرياء وفصل رؤوسهم عن أجسادهم وإحلال رؤوس حيوانات عوضا عنها؟ ما هي الدوافع التي يمكن أن تبرر مثل هذه التصرفات الهمجية؟ وما هي الفوائد الوطنية المتوخاة من زرع عربات مفخخة في وسط أسواق مكتظة بالسكان المدنيين الأبرياء؟
لا نقاش في أن الجرائم المذكورة من أبشع وأحقر ما يمكن أن ينجم عن تصرف بشري، جرائم لا يمتلك مرتكبيها أي قدر من المقومات الأخلاقية والصفات الإنسانية، ناهيك عن كونها خالية من صفات الشجاعة والشعور الوطني والقومي الديني النبيل. جرائم بشعة يخدم ارتكابها مشروع الاحتلال بشكل مباشر، وتساهم في تكوين الامتداد الايراني داخل العمق العراقي، وترفع من حجم التأثير السلبي لتدخلات الأنظمة العربية في الشأن العراقي، وتزيد من احتمالات تقسيم العراق، وتأسيس دولة "مدن الطوائف".
لا شك في أن مرتكبي هذه الجرائم ينفذون الجانب الأكثر قذارة، والأكثر خطورة من جوانب مشروع الاحتلال بصرف النظر عن هويتهم وعن مفردات خطابهم السياسي، وموقفهم من قضية المقاومة والتحرير. هذه الحقيقة المؤلمة وربما المحرجة للبعض لن تفندها محاولات نفي صفة "العراقية" عن مقترفي تلك الجرائم البشعة، أو إرجاع سلوكهم الإجرامي إلى أصولهم الايرانية، أو ارتباطاتهم لأجنبية! التهرب من مواجهة هذه الحقيقة الصعبة وتجنب تحليلها بشكل واضح ومتوازن نهج لا يخدم قضيتنا الوطنية راهنا ولا مستقبلا. فحصر تبعات هذه الجرائم بالأطراف الخارجية، وتقديم المجتمع العراقي كمجتمع خالي من الشوائب، عملية فيها مغالطة لا تخدم جهود وقف شلالات الدم العراقي المراق عبثا . فالمجتمع العراقي كجزء من المجتمع الإنساني لا تختلف خصائص أفراده النفسية ونزعاتهم وسلوكيتهم عن أفراد المجتمعات الأخرى متقدمة كانت ام متخلفة. فهو أسوة مع غيره من المجتمعات بعيد كل البعد عن الطوبائية والنقاء الأخلاقي والالتزام المطلق بالقيم الوطنية والتعاليم الدينية. إذن مسؤولية بعض الشرائح العراقية في هدر دماء العراقيين حقيقة لا يمكن دحضها.
من الموضوعية أن نثبت بأن هذا الاستعداد الغريزي لارتكاب الجريمة لدى بعض الأفراد والمجاميع العراقية واستخدامها كأداة للإرهاب السياسي والطائفي لم يولد مع دخول قوات الاحتلال الأمريكي أرض العراق، بل له جذوره التاريخية. ولن نثقل القاري في سرد حوادث منتقاة من مراحل تاريخية مختلفة من تاريخ العراق للبرهنة على قيام بعض الأطراف العراقية بهدر دماء أطراف عراقية أخرى دون أية مبررات مشروعه، لكنا سنتوقف أمام محطة تاريخية قريبة من مرحلتنا الراهنة.
المؤسف أن جميع القوى السياسية الرئيسة، بدون استثناء، مارست بشكل أو آخر عمليات التصفية الجسدية للغريم السياسي الوطني خلال العقود الخمس المنصرمة. الشواهد التاريخية على تلك الممارسات عديدة لعل أكثرها توثيقا وبشاعة وأقربها تاريخيا للمرحلة الراهنة، تلك الجرائم التي ارتكبها من أطلقوا على حركتهم تسمية "أنصار السلام" في مدينتي كركوك والموصل عام 1959، وفي بغداد ومدن عراقية أخرى.
لقد شهدت تلك الحقبة أبشع ممارسات الإقصاء والتطهير السياسي واقترفت أبشع الجرائم السياسية. فبذريعة الدفاع عن "الجمهورية الخالدة"، وبناء "الوطن الحر والشعب السعيد"، سُحل الخصوم السياسيون وهم أحياء في شوارع وأزقة المدن العراقية، وعُلقت بقايا أجسادهم العارية الممزقة فوق أعمدة النور (الكهرباء). وفي سبيل الدفاع عن مكتسبات الكادحين وحقوق الشعب، وتحقيق العدالة الاجتماعية علق جسد الشهيدة حفصة العمري على عامود النور (الكهرباء) في الموصل، وارتكبت مذبحة كاورباغي، وأطلقت هتافات "إعدم إعدم" الهستيرية، وازداد عدد الملوحين في "حبال الديمقراطية"، ومورست أبشع أنواع الاجتثاث السياسي، وفي نهج مطابق لنهج الجرائم المرتكبة حاليا، مع اختلاف هوية الفاعلين وشعاراتهم . فالجرائم المرتكبة اليوم بحق الأبرياء، ترتكب أيضا بذريعة الدفاع عن حرمة الدين وعن مصالح المذهب، ومن اجل رفع مظالم تاريخية أو "اجتثاث فكر البعث"!
إننا لا نروم أن ننكأ جراح قديمة، ولا نبغي تصعيد حالة الشرذمة الوطنية، لكننا سقنا تلك الجرائم نموذجا للبرهنة على وجود سابقة تاريخية لقيام أطراف عراقية بارتكاب جرائم سادية لتحقيق أهداف سياسية أو فئوية، لا شكك في أن هذا النهج الشاذ لا يعكس بأي شكل أو محتوى أخلاقية غالبية شعب العراق والتقاليد الإنسانية الحضارية لمكوناته الاجتماعية.
إن أكثر أبعاد ظاهرة العنف المتصاعد في العراق خطورة على أمن شعب العراق ومستقبله، وأكثرها تعقيدا يكمن في أن عددا كبيرا من تلك الجرائم ارتكب لمسوغات دينية وطائفية منها إزالة إجحاف تاريخي وقع بحق أتباع مذهب معين وأئمتهم، أو من أجل إقامة دولة الخلافة والعدالة، أو لتطهير المجتمع العراقي من شرائح اجتماعية دخيلة أو تصفية الدين من ممارسات شاذة؟!
من هي الأطراف الداخلية التي ساهمت في تفجير الجريمة وتصعيدها؟
إن استفحال ظاهرة الجريمة في العراق المحتل بهذه المعدلات المفزعة لا يمكن أن يكون إلا نتاج جهد مركب متعدد المصادر والنوازع، لذا فأن تبعات الجرائم المرتكبة تتقاسمها أطراف عدة، بعضها خارجي كما أشرنا إليه في القسم الأول، والآخر داخلي. هذا لا يلغي حقيقة أن المسؤولية الأعظم لهدر دماء العراقيين تتحملها إدارة بوش، قائمة الإطراف الداخلية المساهمة فعليا في جريمة اغتيال شعب العراق تضم كل من: الحركات الطائفية المرتبطة في ايران كـ"المجلس الأعلى" و"حزب الدعوة" و"حزب العمل الإسلامي"، الأحزاب الانفصالية الكردية المدعومة من الكيان الصهيوني، ما يطلق عليها تنظيمات "جيش المهدي" أو "التيار الصدري"، "فرق الموت" التي أسستها الأجهزة الأمريكية ويشرف عليها عدد من عملائها، التجمعات والفرق الطائفية المضادة للامتداد الايراني، أفراد وتجمعات معزولة، وأخيرا العصابات الإجرامية التقليدية، لنراجع بإيجاز أدور الأطراف المذكورة ودوافعها لتصعيد الجرائم اللانسانية.
الحركات الطائفية المرتبطة بايران
إذا كانت الإدارة الأمريكية مسؤولة عن خلق المناخ الملائم لانتعاش العنف والجريمة وعن تشجيع عملائها على تنفيذ العمليات الإجرامية، وتتحمل مسؤولية التنفيذ المباشر لجانب من تلك العمليات، فأن الأحزاب الطائفية العراقية الجنسية ذات المرجعة الايرانية تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تنفيذ مخططات الاحتلالين الأمريكي والايراني في نشر الجريمة وتوسيعها، وتتحمل التبعات القانونية والأخلاقية لجزء كبير من العمليات الإجرامية، لقد كانت هذه الأحزاب أول من بادر بعد الاحتلال واستخدم نهج " سفك الدماء" كآلية لتحقيق أهداف طائفية وإزالة ما أطلقوا عليه "ظلما تاريخيا!"
بعد أسابيع قليلة من احتلال القوات الأمريكية للعاصمة بغداد عاد ابراهيم الأشيقر إلى مقر إقامته الدائم في لندن واجتمع مع أنصاره، في ذلك الاجتماع أشار الأشيقر متبجحا إلى حملة الاغتيالات التي كانت قد بدأت آنذاك في البصرة ومدن عراقية أخرى، وقدم للمجتمعين تفسيرا مرضيا لها، حيث وصف تلك الجرائم في كونها امتداد للمسيرة الجهادية التي بدأت قبل 1400 عام، وأنها جزء من نضال "حزب الدعوة" ضد أعداء آل البيت، وأن هذه المسيرة الجهادية ستستمر!
وفعلا فأن المسيرة الإجرامية لهذا الحزب الايراني – البريطاني المنشأ استمرت مخلّفة ورائها الدمار والممارسات الهمجية والتقاليد الشاذة. هنا لا بد وأن نشير بأن الانجازات الإجرامية لهذا الحزب الطائفي قد بدأت قبل الاحتلال، فالتنظيمات التكفيرية لهذا الحزب العميل مسؤولة عن العديد من العمليات الإرهابية التي ارتكبت بحق الأبرياء العراقيين، منها إلقاء قنبلة يدوية على المساهمين في مهرجان طلابي أقيم في الجامعة المستنصرية، إلقاء قنابل يدوية من بناية المدرسة الايرانية في بغداد على المتظاهرين، محاولة اغتيال القيادة العراقية الشرعية في الدجيل بالاشتراك مع أفراد المخابرات الايرانية، تفجير بناية وزارة التخطيط باستخدام عربة مفخخة، قتل العشرات من أبناء القوات المسلحة العراقية أثناء تمتعهم في إجازاتهم الدورية وغيرها من العمليات الإرهابية.
ولم تختلف الطبيعة الإجرامية لـ"المجلس الأعلى وحزب العمل" وغيرهم من التجمعات الطائفية عن دور "حزب الدعوة" التخريبي. فأطلقت هذه التجمعات ميليشياتها المسلحة المدربة والمعبئة طائفيا، مستفيدة من الغطاء السياسي والأمني الذي وفرها لهم "الشيطان الأكبر"، لتمارس أبشع أنواع الجرائم ضد أبناء العراق المتصدين لنهجهم الطائفي المتخلف. إن أهداف هذه العصابات الطائفية في نشر الجريمة والدمار في العراق، وإن التقت مع أهداف سلطة الاحتلال في نشر الجريمة، إلا أنها تكمن في كونها شروط أساسية لخلق امتداد ايراني داخل العراق وخاصة في مناطقه الجنوبية الغنية في الموارد النفطية.
تجربة "المجلس الأعلى" في هدر دماء العراقيين قديمة وتعود إلى أواسط الثمانينيات، حيث قامت حينذاك في تعذيب وقتل الأسرى العراقيين من أفراد الجيش العراقي الباسل إبان الحرب العراقية-الايرانية، تلك العمليات أشرف عليها بشكل مباشر وموقعي كل من الشقيقين باقر وعبد العزيز الطباطبائي الحكيم.
الأحزاب الانفصالية الكردية
موجة العنف الطائفي التي أطلقتها حركات الاستقطاب الطائفي المرتبطة في ايران تزامنت مع حملة عنف عنصري إجرامي أخرى أطلقتها ميليشيات الأحزاب الكردية الانفصالية في شمال العراق، هذه الحملة وإن تركزت في المدن والقرى المحيطة بحقول نفط كركوك والموصل، إلا أن نشاطاتها طالت جميع المدن العراقية ولاسيما بغداد.
لقد استثمرت الحركات الكردية صفقة بيع الوطن التي وقعتها مع الإدارة الأمريكية لتسهيل احتلال العراق، فشنت حملة تطهير عرقي في المناطق المتاخمة لمراكز التواجد الكردي، وباشرت في ترحيل الآلاف من العوائل العربية والتركمانية والكلدانية من مناطق سكناها الأصلية تحت ذرائع واهية وأكاذيب مفضوحة من أجل توسيع مساحة ما يطلقوا عليه تسمية "كردستان العراق". النشاط الإجرامي للميليشيات الكردية لم ينحصر في نطاق مدينتي كركوك والموصل والمناطق الأخرى المعروفة بثقلها السكاني الكردي، بل هنالك الكثير من الأدلة على ضلوعها في جرائم قتل المدنيين الجماعي، ومساهمتها في كل ما من شانه تحطيم البنية الاجتماعية والسياسية لدولة العراق المركزية . هدف العصابات الكردية من نشر العنف والجريمة في بغداد والمدن العربية الأخرى واضح، فالعنف يقود إلى تفتيت الوحدة التاريخية لشعب العراق ولاسيما صف العراقيين العرب الأمر الذي قد يؤدي إلى نشوب صراع مسلح واسع وطويل بين الأطراف العربية، وبالتالي يخلق مبررات لتحقيق المخطط الكردي الانفصالي في سلخ شمال العراق عن الوطن الأم وإعلان الدولة الكردية.
مفارز "جيش المهدي" ومنظمات "التيار الصدري"
قبل التعرض للدور التخريبي الذي لعبته هذه المجموعات لا بد من التأكيد على أنه من الخطأ التعامل مع "التيار الصدري" ككتلة واحدة متجانسة المواقف والأهداف والسياسات، فهنالك الكثير من المعاير التي يمكن اللجوء إليها للبرهنة على وجود أكثر من شلة وأكثر من تكتل داخل هذا التشكيل الحديث التكوين وذو المشروع الطائفي، الذي لا يختلف كثيرا عن المنطلقات الطائفية التي يستند إليها "حزب الدعوة". حالة عدم التباين والشرذمة السائدة داخل "التيار الصدري" لا تعفي قواعده، ولا تبرىء قيادته من تبعات الجرائم البشعة التي ارتكبتها مفارز وعصابات التيار، أو تلك التي تدّعي علنا انتمائها لـ"جيش المهدي" وتقليدها لمرجعية الصدريين. المفارز التابعة لـ"جيش المهدي" و"تيار مقتدى" مسؤولة عن هدر دماء الكثير من العراقيين، ومسؤولة عن اقتراف الكثير من عمليات الخطف والقتل والحرق والتدمير التي تعرض لها المواطنين العراقيين وممتلكاتهم الخاصة. ويتحملون بشكل خاص مسئولية الكثير من الجرائم ذات الطبيعة الطائفية المرتكبة في بغداد وضواحيها. لا نريد سرد تفاصيل تلك الجرائم التي باتت معروفة لأبناء شعب العراق ولأهالي مدينة بغداد بشكل خاص، ويعترف بها من ساند التيار ودافع عن مواقفه. لكننا نود أن نذكّر القراء بجريمة المذبحة الطائفية البشعة التي ارتكبها أفراد مفرزة "جيش المهدي"/ قطاع مدينة الشعلة في حي الجهاد، ونود أن نذكرهم "بالغزوات" الهمجية التي تشنها "فرق الموت" التابعة لجيش مقتدى على أحياء معينة من بغداد، ونذكرهم بالجرائم التي ارتكبتها عصابات الصدر بحق كل من سبق وأن حمل مسؤولية حكومية في دولة العراق الشرعية التي أنهت قوات الغزو الأمريكي تجربتها الوطنية والقومية وأتاحت للمجرمين فرصة التحرك في بغداد، فلولا سلطة الاحتلال لما تجرأ مقتدى والحكيم والأشيقر والمالكي وإياد علاوي ووفيق السامرائي وغيرهم من سفاحي شعب العراق الاقتراب من حدود العراق..
"فرق الموت"
لم يهدر جون نيغروبونتي فرصة تنصيبه حاكما مطلقا للعراق بعد انتهاء مهمة بريمر التخريبة، فانتهز هذه الفرصة ليعمق الدور التخريبي الأمريكي في العراق، ويعيد تشكيل فرق التدمير والموت الشبيهة بتلك التي سبق وأن شكلها في السلفادور وغيرها من دول أمريكا اللاتينية. "فرق الموت" الأمريكية التشكيل والعراقية التركيبة والتي سلمت قيادتها وتمويلها المحلي إلى عناصر كأحمد الجلبي وإياد علاوي وأيهم لسامرائي وغيرهم من مجرمي الاحتلال وعملائه، مسؤولة عن ارتكاب سلسلة طويلة من جرائم القتل وتدمير الممتلكات العامة، ومسؤولة عن زرع العربات المفخخة في الأسواق والشوارع العراقية. من المهم أن نشير بأن عصابات الموت هذه تتكون من عناصر عراقية تنتمي إلى جميع الأديان والمذاهب التي يتكون منها شعب العراق.
العصابات ومافيات الجريمة المنظمة
لقد وفرت الفجوة الأمنية التي خلقها الاحتلال إثر تهديم اطر الدولة المركزية الشرعية، فرصة كبيرة للعصابات الإجرامية وقطاعي الطرق والقتلة المحترفين، وخلق موسما ازدهرت به الجريمة وانتشرت الممارسات الشاذة بشكل لم يألفه المجتمع العراقي. فسيطرت مافيات الجريمة على شوارع بغداد والمدن الأخرى، أرهبوا السكان الآمنين وأطلقوا حملة واسعة من الجرائم التي تنوعت نشاطاتها القذرة من اختطاف الأطفال والشابات وتصديرهن، إلى الاختطاف المسلح والسرقة المسلحة والاغتصاب والابتزاز ونشر المخدرات والرذيلة. هذه العمليات الإجرامية تمت بتشجيع مباشر من قبل سلطة الاحتلال، كما وساهم فشل الحكومات الهزيلة المنصّبة من قبل إدارة بوش وتقوقعها في المنطقة السوداء على تفشي الجريمة وانتعاش الجريمة المنظمة.
إن البعد الداخلي لانتشار العنف والجريمة في العراق لم يقتصر على ادوار الحركات المذكورة، بل ساهمت أطراف أخرى في نشر هذه الظاهرة الخطيرة. فساهم نفر في شكل غير مباشر، وبغباء ملحوظ في إنجاح خطة تصعيد الاستقطاب الطائفي والعرقي الذي يشكل أحد مقومات تكريس الاحتلال. في حين ساهم آخرون في دفع الوضع في العراق إلى حافة الهاوية بشكل مباشر ومرتبط بإدارة الاحتلال، هذه الأطراف يمكن تقسيمها إلى مجموعتين أساسيتين:
الأولى: وتمثل مجموعات معزولة وغير منضبطة وطنيا تورطت في ممارسة العنف والجرائم ذي الأبعاد العنصرية والطائفية كفعل مضاد للتركية السياسية الناجمة عن الاحتلال وعن لامتداد الايراني. معظم العمليات التي قامت بها هذه المجاميع اتسمت بالعشوائية وجاءت كردود أفعال على عنف المحتلين وقسوتهم على السكان أو كردود أفعال على الأعمال الإجرامية التي قامت بها العصابات الطائفية والعنصرية المرتبطة بايران . هذا التفسير ليس دفاعا عن تصرفات تلك المجاميع أو إعفائها من تبعات هدر دماء العراقيين، فالجرائم المرتكبة من قبل هذه المجاميع لا تختلف في بشاعتها وأضرارها عن طبيعة الجرائم المرتكبة من قبل الأطراف الداخلية الأخرى.
لقد ساهمت هذه المجاميع بخلق اصطفاف طائفي مقابل للاصطفاف الطائفي المرتبط بـايران، وقدم لسلطة الاحتلال مقوما مهما من مقومات نجاح مشروعها التقسيمي.
أما المجموعة الثانية، فيمثلها العراقيون اللذين استوردوا تفسيرات دينية متطرفة بعيدة عن تقاليد شعب العراق ومُناقضة لتراث الأمة العربية ولمبادئ الدين الإسلامي الراقي وتعاليمه الإنسانية. فقدم هؤلاء نهجا إجراميا خطيرا على أمن شعب العراق وقضيته الوطنية، وشنوا حملة عنف أخرى ضد الأبرياء من أبناء شعب العراق من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى بذريعة حماية الدين والمذهب. هذه التجمعات تشكل امتدادا للمنظمات التي كانت إلى الأمس القريب تسبح لله وتحمده على تسخير أمريكا لقضاياها، والتي لعبت المخابرات المركزية الأمريكية دورا كبيرا في تكوينها ودعمها، وخدمت عملياتها الاستراتيجية الأمريكية، وما زالت، من خلال تقديم العنف الذي تحتاجه الامبريالية الأمريكية لتغذية صراع كوني جديد يساهم في خدمة الاستثمارات الأمريكية المالية والنفطية.
لقد ساهمت العمليات الإجرامية التي قامت بها هذه المجموعات في تشويه قضيتنا الوطنية من خلال إلغائها المشروع الوطني للمقاومة، وربط مشروع المقاومة والجهاد بمشروع صراع ديني غذته واشنطن لخدمة برنامج توسيع حرب المحافظين الجدد على الإرهاب.
إن جانبا كبيرا من العنف الدموي المستفحل في العراق المحتل يشكل جريمة منظمة على أسس وحشية منطلقة بذريعة الحفاظ على مصير ومصالح طائفية بعيدة عن المصلحة المشتركة لشعب العراق. إنها حرب همجية منظمة بكل ما يعنيه مصطلح الحرب الهمجية من أبعاد ومعاني. غايتها الأساسية تشويه القضية المشروعة لشعب العراق، وتغذية الصراع بين أطراف محلية بشكل يتيح للأحزاب الكردية والحركات المرتبطة بايران والأقطار العربية المستفيدة من تقسيم العراق بتنفيذ مخططاتها، ويتيح للإدارة الأمريكية السيطرة على الثروة النفطية. لقد خلقت ظاهرة الجريمة إرباكا واضحا في المشروع التحرري العراقي وحالة من الضبابية التي تحول دون الفرز الواضح بين عمليات المقاومة الوطنية المشروعة، وبين الإرهاب، وألحقت، ومازالت، أضرارا كبيرة بقضيتنا الوطنية، وساعدت على تأخير حسم انتصار المقاومة على قوات الاحتلال.
ويبقى السؤال الأهم، كيف يمكن إنهاء موسم الجريمة ومحاصرة النزف الدموي المشوه لقضية شعب العراق وحقه المشروع في مقاومة الاحتلال؟؟.
لا جدال في صعوبة السؤال وفي تنوع الأجوبة المحتملة وتعددها. لذا فإن حسم هذه القضية المهمة يحتاج إلى الجهود المخلصة لقوى شعب العراق الوطنية والمساهمة الفكرية لكل الملتزمين في قضية شعب العراق وأمنه واستقلاله، ولاسيما الحريصون منهم على منهاج المقاومة الوطنية العراقية ونجاحها في تحقيق هدفها النهائي.
المطلوب من جميع القوى السياسية الوطنية المناهضة للاحتلال أن تعي مخاطر هذه الظاهرة المدمرة والعمل على إيجاد السبل الكفيلة لمحاصرتها. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب إدانة عمليات قتل الأبرياء العراقيين بغض النظر عن هوية القتلة ومبرراتهم وخطابهم السياسي . فلا يمكن لقتلة شعب العراق أن يكونوا جزء من قضيته الوطنية، هذه استحالة منطقية لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها . من المسلم به أن خلاص العراق وإنهاء الاحتلال لن يتم إلا بوحدة شعب العراق التي يشكل العنف الطائفي والعنصري والسياسي أهم معوق لها.
ومع أهمية دور القوى السياسية في محاصرة هذه الكارثة، إلا أن حسمها لن يتم إلا من خلال معالجة السبب الحقيقي لها، وتحديدا الاحتلال المزدوج الذي يعاني منه شعب العراق. فالحل النهائي والحاسم لجميع الكوارث والتحديات التي يواجهها شعب العراق ولاسيما كارثة العنف الدموي تكمن في إنهاء الاحتلال وتصفية أثاره، وفي عودة القرار السياسي لأبناء العراق المخلصين الملتزمين في المشروع الوطني المعبر عن طموحات شعب العراق . تجربة المرحلة المنصرمة من نضال شعب العراق برهنت على أن إنهاء الاحتلال لن يتم إلا عبر خيار المقاومة الوطنية، ومن هنا فأن دعم المقاومة وتقديم مستلزمات انتصارها وحمايتها ورعاية مقاتليها يعتبر الأداة الحاسمة لإنهاء دوامة العنف الدموي. فإذا كان الاحتلال وأتباعه وأنصاره هم العامل المسبب لجميع كوارث العراق فان المقاومة الوطنية، الممثل الشرعي الوحيد لشعب العراق، هي الحل، والحل والوحيد لأزمات العراق والطريق الوحيد لبناء العراق الحر الديمقراطي الموحد