دكتورة زهراء
19-08-2008, 02:30 PM
الاخلاص
بحث عقائدي مبسط
بقلم
سماحة آية الله العظمى
السيد محمود الحسني (دام ظله)
مقدمة:
من الواضح جداً الفرق بين الفكر الإسلامي الشرعي وغيره من الأفكار المادية ، فالثابت ان الرأسمالية والماركسية تقيم
العمل وتعطيه درجة في الصلاح ، على أساس ما يؤتيه من الثمار المادية والمنافع الفردية كما في الرأسمالية أو المصالح الطبقية كما في الماركسية . أما الإسلام فإنه يرى ان العمل يستمد قوته وصلاحه من الدوافع لا من المنافع ، وذلك اهتم بدوافع العمل لا بمنافعه ، فلا عمل إلا بنية ، وما لم تتوفر النية الصالحة لا يكون العمل صالحاً ، مهما كانت منافعه التي تنشأ عنه ، فالشارع المقدس يتبنى تربية الإنسان ويستهدف قبل كل شيء تكوين محتواه الداخلي وفقاً للمفهوم الشرعي المتوازن الصحيح، ولهذا اعتبر العمل الصالح ما يصدر عن نية خالصة بحيث ينبثق عن عواطف وميول خيرة تنسجم مع الإيمان بالله واليوم الآخر راجياً رضا الله سبحانه وتعالى ، وقد اشترط في صحة العمل والعبادة وقبولها النية واشترط في النية الإخلاص بما يحقق الدرجة العليا من الرصيد الروحي والنفسي للفرد ، وينظم ويحقق علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ، فالأنبياء والأئمة والصالحون(عليهم السلام) ما هزَوا ولا أثَّروا الوجدان البشري ولا شقَوا الطريق للهدى الإلهي والصلاح الاجتماعي ، إلا لأنهم كانوا يعيشون قضية الله تعالى مع عباده ويتربون بين يدي الله تعالى ساعات وساعات .
فعلينا ان نعيش دائماً مراحل مسيرتنا برؤية واضحة وخطى واثقة وثابتة ، وعلينا ان نبذل الجهد ومضاعفته لتحقيق ذلك من خلال معرفة معنى الإخلاص وكيف أعطى الشارع المقدس المعاني المختلفة للإخلاص بما يحقق الأغراض والأهداف السليمة ، فلنحقق معنى الإخلاص خلال أقوالنا وأفعالنا وعلى مدار ساعات العمر ، واذكر لك في المقام هذا البحث المبسط المختصر وأرجو ان يكون فيه الفائدة لنا جميعاً ، ونسألكم الدعاء .
والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين
محمود الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الإخلاص سر من أسرار الله سبحانه وتعالى لا يعرفه إلا من أحب الله وأحبه الله فانعم عليه وقذف النور في قلبه واستودعه الإخلاص ، كما ورد في الحديث القدسي { الإخلاص سر من أسراري استودعه قلب من أحببت من عبادي } .
وإذا تحدثنا عن معاني الإخلاص فإننا نتحدث عن بعض المعاني الظاهرية التي يدركها عقلنا القاصر ويتذوقها قلبنا المظلم ، وبالتوكل على الله والإستعانة به سبحانه وتعالى أقول :
مقومات الشخصية الإسلامية المؤمنة :
ان الشارع المقدس إصدر العديد من الأوامر والارشادات للوصول بالإنسان إلى الرقي والتكامل , فيجب على كل إنسان امتثال ذلك والالتزام به وتجسيده في شخصيته ويحصل هذا التجسيد بعد تقييم النفس ومراقبتها ومحاسبتها وفق المقياس الشرعي والأخلاقي , والوصول بها إلى التكامل بعد تمتعها العلم , والتفكر , والتوكل , والصبر , والإيمان بالغيب , وغيرها .
والإيمان يترتب عليه عدة آثار , منها , ذكر الله , ووجل القلب , وخشيته , والإخلاص في العبودية , وتفصيل الكلام في مقام آخر إن شاء الله تعالى .
الإخلاص في مقومات الشخصية الإسلامية
بعد ان عرفنا ان الإيمان بالغيب هو أحد مقومات الشخصية المسلمة وانه مما يترتب على ذلك ومن آثاره هو الإخلاص , وهذا معناه ان الإخلاص في العبادة من مقومات الشخصية الإسلامية .
الإخلاص في العبادة
والكلام في العبادة أولاً ثم في الإخلاص .
أولاً:- العبادة
العبادة في اللغة , هي , غاية التذلل والخضوع والانقياد , ولذلك لا يستحقها إلا المنعم الأعظم الحقيقي جلت قدرته , ولكن لوجود إبليس والهوى والنفس والدنيا يقال ان العبادة تشمل كل سلوك فبعضهم يعبد شخصاً , وبعضهم يعبد هواه , وثالث يعبد الله الحق الواحد الأحد , وقد صدر عن الشارع المقدس ما يشير إلى هذا :-
1- قوله تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ...} الجاثية /23
2- وقوله تعالى :-{اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ....}التوبة / 31
3- وقوله تعالى:-{... وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة / 31 .
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) :{من أطاع رجلاً في معصية الله فقد عبده } .
ثانياً :- الإخلاص
بما ان العبودية تمثل علاقة بين العبد والمعبود , فالعبودية بين الإنسان والله تعالى يجب ان تكون بالإخلاص لله وحده لا شريك له , فيكون مصداقاً لقوله تعالى :{وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.... }البينة/5 .
فالإخلاص هو الحجر الأساس في كيان العقائد والشرائع , وهو الشرط الأساس والواقعي في صحة وتزكية العمل , وتطهيره , وتنقيته, وقبوله عند الله تعالى فيكون جزاء العامل , رحمة الله ونعمته , والخلود في جَنّاته , فيكون مصداقاً لقول أمير المؤمنين(عليه السلام): {طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء , ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه , ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه , ولم يحزن صدره بما أعطي غيره} .
معنى الإخلاص
قلنا سابقاً ان حقيقة الإخلاص من أسرار الله تعالى , أما الإخلاص في اللغة فهو التمحيص والتصفية والتجديد والتخليص , والإخلاص في الطاعة هو ترك الرياء وتجريد النفس عن طلب المنزلة في قلوب الناس.
وقد استعمل الشارع المقدس بعض المعاني للدلالة على الإخلاص بالمعنى الظاهري بالمطابقة أو الالتزام , منها :
1- الإخلاص ضد الرياء . فهو ترك الرياء
ويشهد لهذا ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن ابائه عن جده أمير المؤمنين (عليهم السلام) :{الدنيا كلها جهل إلا مواضع العلم , والعلم كله جهل إلا ما عمل به , والعمل كله رياء إلا ما كان مخلصاً, والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له } .
2- الإخلاص هو التوحيد
لأن الرياء شرك , ولأن الإخلاص ضد الرياء , ولأن الشرك ضد التوحيد , فينتج ان الإخلاص توحيد ويشير إلى المقدمة الأولى (ان الرياء شرك) :
قوله تعالى:{... فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}الكهف/110 .
وما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :{ أني تخوفت على أمتي الشرك , أما أنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً , ولكنهم يراؤون بأعمالهم } .
3- الإخلاص هو موافقة ومطابقة السر مع العلن
وهذا يبتني على ان الإخلاص ضد الرياء وان الرياء هو عدم مطابقة السر للعلن , ويشير هذا ما ورد عن النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) {سيأتي زمان ... تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا , لا يريدون به ما عند ربهم , يكون دينهم رياء , لا يخالطهم خوف , يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم } .
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام):{ ثلاث علامات للمرائي , ينشط إذا رأى الناس , ويكسل إذا كان وحده , ويحب ان يحمد في كل أموره}.
4- الإخلاص هو النية والإصابة وخشية الله
ويشير إلى هذا :
ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول الله(u):{...لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً...}هود/7 . قال(عليه السلام): { ليس يعني أكثركم عملاً , لكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة , }
ثم قال(عليه السلام): { الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل, والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد إلا الله(u) , والنية أفضل من العمل , ألا وأن النية هي العمل , ثم تلا قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ...}الإسراء/84 , يعني على نيته } .
وما ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) :{ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً , إلا زهده الله تعالى في الدنيا , وبصرّه داءها ودواءها , واثبت الحكمة في قلبه , وانطق بها لسانه }.
وما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): {من أخلص أربعين يوماً فجّرَ الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه }.
5- الإخلاص هو قبول الأعمال
وذلك لأن الإخلاص ضد الرياء , والأخير فساد العمل , وعدم قبوله, يشير إلى هذا , وما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :{ ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به , فإذا صعد بحسناته, يقول الله(u) أجعلوها في سجين انه ليس أياي أراد به}.
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : {لا يقبل الله عملاً فيه مثقال ذرة من رياء} .
6- الإخلاص هو التحرر من اغواء الشيطان واضاليله
ويشير إلى هذا قوله تعالى:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين(82) إلا عبادك منهم المخلصين} سورة ص / 82-83 .
7- الإخلاص حب الله
فالحب هو التجرد والاخلاء عن كل شاغل سوى الله تعالى , ويشير لهذا ما ورد في الحديث القدسي :{يا داود أنك تزعم أنك تحبني , فأن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا عن قلبك , فأن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب} .
وعن الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفات :{انت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحباك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك } .
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) : {حب الله إذ أضاء سرّ عبد أخلاه عن كل شاغل , وكل ذكر سوى الله .... والمحب أخلص الناس سراً لله , وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً وأزكاهم عملاً وأصفاهم ذكراً , وأعبدهم نفساً , تتباها الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته , وبه يعمر الله بلاده , وبكرامته يكرم الله عباده , ويعطيهم إذا سألوه بحقه , ويدفع عنهم البلايا برحمته ولو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا إلى الله إلا بتراب قدميه } .
8- الإخلاص أفضل العبادات
ويشهد لهذا :
قوله تعالى :{فأعبدوا الله مخلصاً له الدين (2) ألا لله الدين الخالص...}البينة /2- 3 .
وقوله تعالى :{وما أمروا ألا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ...}البينة/ 5 .
وما ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) {أفضل العبادة الإخلاص} .
9- الإخلاص هو تحقير النفس
ويشير إلى هذا ما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :{يا أبا ذر , لا يفقه الرجل كل الفقه , حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر , ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها } .
درجات الإخلاص
بما ان الإخلاص عند الانسان من الصفات النفسية , فهو قابل للزيادة والنقصان , وهذا يعتمد على محورين :
المحور الأول: عمق الإيمان
من الواضح ان مستوى الايمان وعمقه يختلف من شخص إلى آخر , ويؤثر هذا في مقدار تفاعل الانسان مع الحقائق الربانية , ويؤثر على مدى إدراكه ان الله ربه وخالقه وهو الذي يستحق العبادة , وكل ما غار هذا الادراك في اعماق النفس , فأنه يحرك المشاعر والاحاسيس ويدفع إلى الطاعة الحقيقية والإخلاص الخالي من الشوائب .
المحور الثاني: تربية النفس على الإخلاص
بعد ان يدرك الانسان المؤمن معنى الإخلاص و أثره في بناء الشخصية الإسلامية المؤمنة , عليه ان يربي نفسه على الإخلاص , وذلك بان يلتفت إلى الإخلاص دائماً , فيجعل كل أقواله وأفعاله صغيرها وكبيرها وكل حركاته وسكناته متصلة بالإخلاص ونقية من شوائب النية .
وتربية النفس على الإخلاص تشمل عدة مستويات منها :
المستوى الأول: النية عند أداء الطاعة والعبادة :
والثابت شرعاً ان النية الصحيحة والمقبولة على درجات مختلفة تنحصر بين درجتين :
الدرجة الدنيا: درجة الإخلاص المخلوط .
ففي هذه الدرجة تختلط النية ببعض الشوائب التي فيها غاية أخرى غير رضا الله تعالى , وفي هذه الحالة يكون العمل صحيحاً بشرط خلو النية من الرياء .
الدرجة العليا: درجة الإخلاص التام .
ففي هذه الحالة تتجرد النية عن الشوائب كلها .
ووجود الشوائب وعدمها واختلاف مقدارها يعتمد على عدة عوامل منها :
1- مستوى ايمان الشخص .
2- الحالة النفسية التي يعيشها أثناء العمل . فأن للنفس الاقبال والادبار .
3- نوع العمل الذي يقوم به الشخص , فالعمل الذي يكون موافقاً للهوى تتعرض نفس المؤمن لاحتمال وجود الشائبة في اخلاصه بقيمة احتمالية أكبر .
أما في العمل المخالف للهوى والذي يلقي مقاومة من نفس الانسان فمثل هذا العمل يكون اكثر احتمالاً لتسجيل وتحقيق الإخلاص التام.
4- الالتفات قبل العمل إلى معنى الإخلاص , والاهتمام بجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم سبحانه وتعالى .
5- مواجهة النفس بعد اداء العمل , وتقيميها ومحاسبتها بالنظر في مقدار الشوائب , وخلوها من ذلك .
المستوى الثاني : تعميم الإخلاص
عندما يكون هم الانسان الأكبر هو ارضاء الله سبحانهوتعالى , فانه سيجعل الصفة النفسية للاخلاص عامة , وتشمل حتى تفكير الانسان وعواطفه .
ومن الواضح ان درجة ارضاء الله تعالى تختلف من شخص إلى آخر , ومن حالة إلى أخرى , وتنحصر بين درجتين :
1- الدرجة الدنيا : وفيها لا يبغي المؤمن غير ان يتخلص من العقاب وان يسقط عنه الواجب , وفي هذه الحالة تكون نية الطاعة والإخلاص على الواجبات وبعض المستحبات (مثلاً) , أما باقي أوقاته فتصبح فارغة من نية الطاعة لله .
2- الدرجة العليا : وفيها يصبح هم العبد هو الله سبحانه وتعالى , ويصبح تفكيره خالصاً لله , وتتصاعد هذه الحالة اكثر واكثر حتى تبدأ أحاسيسه وحبه وكرهه وغضبه ورضاه , في التحول من جانب الاهواء إلى جانب رضا الله سبحانه وتعالى , وفي هذه الحالة تكون جميع أعماله لله , من الواجبات والمستحبات وحتى المباحات بل والحركات والسكنات , ويتصاعد الإخلاص عند المؤمن فلا يعيش إلا لله , وهذا هو الإخلاص التام , وهو لا يحصل ألا ممن عانى وجاهد وسعى في تربية نفسه وفي تنقية إخلاصه من الشوائب , وقد ورد في الحديث القدسي : {الإخلاص سر من اسراري استودعه قلب من أحببت من عبادي } .
بحث عقائدي مبسط
بقلم
سماحة آية الله العظمى
السيد محمود الحسني (دام ظله)
مقدمة:
من الواضح جداً الفرق بين الفكر الإسلامي الشرعي وغيره من الأفكار المادية ، فالثابت ان الرأسمالية والماركسية تقيم
العمل وتعطيه درجة في الصلاح ، على أساس ما يؤتيه من الثمار المادية والمنافع الفردية كما في الرأسمالية أو المصالح الطبقية كما في الماركسية . أما الإسلام فإنه يرى ان العمل يستمد قوته وصلاحه من الدوافع لا من المنافع ، وذلك اهتم بدوافع العمل لا بمنافعه ، فلا عمل إلا بنية ، وما لم تتوفر النية الصالحة لا يكون العمل صالحاً ، مهما كانت منافعه التي تنشأ عنه ، فالشارع المقدس يتبنى تربية الإنسان ويستهدف قبل كل شيء تكوين محتواه الداخلي وفقاً للمفهوم الشرعي المتوازن الصحيح، ولهذا اعتبر العمل الصالح ما يصدر عن نية خالصة بحيث ينبثق عن عواطف وميول خيرة تنسجم مع الإيمان بالله واليوم الآخر راجياً رضا الله سبحانه وتعالى ، وقد اشترط في صحة العمل والعبادة وقبولها النية واشترط في النية الإخلاص بما يحقق الدرجة العليا من الرصيد الروحي والنفسي للفرد ، وينظم ويحقق علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ، فالأنبياء والأئمة والصالحون(عليهم السلام) ما هزَوا ولا أثَّروا الوجدان البشري ولا شقَوا الطريق للهدى الإلهي والصلاح الاجتماعي ، إلا لأنهم كانوا يعيشون قضية الله تعالى مع عباده ويتربون بين يدي الله تعالى ساعات وساعات .
فعلينا ان نعيش دائماً مراحل مسيرتنا برؤية واضحة وخطى واثقة وثابتة ، وعلينا ان نبذل الجهد ومضاعفته لتحقيق ذلك من خلال معرفة معنى الإخلاص وكيف أعطى الشارع المقدس المعاني المختلفة للإخلاص بما يحقق الأغراض والأهداف السليمة ، فلنحقق معنى الإخلاص خلال أقوالنا وأفعالنا وعلى مدار ساعات العمر ، واذكر لك في المقام هذا البحث المبسط المختصر وأرجو ان يكون فيه الفائدة لنا جميعاً ، ونسألكم الدعاء .
والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين
محمود الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الإخلاص سر من أسرار الله سبحانه وتعالى لا يعرفه إلا من أحب الله وأحبه الله فانعم عليه وقذف النور في قلبه واستودعه الإخلاص ، كما ورد في الحديث القدسي { الإخلاص سر من أسراري استودعه قلب من أحببت من عبادي } .
وإذا تحدثنا عن معاني الإخلاص فإننا نتحدث عن بعض المعاني الظاهرية التي يدركها عقلنا القاصر ويتذوقها قلبنا المظلم ، وبالتوكل على الله والإستعانة به سبحانه وتعالى أقول :
مقومات الشخصية الإسلامية المؤمنة :
ان الشارع المقدس إصدر العديد من الأوامر والارشادات للوصول بالإنسان إلى الرقي والتكامل , فيجب على كل إنسان امتثال ذلك والالتزام به وتجسيده في شخصيته ويحصل هذا التجسيد بعد تقييم النفس ومراقبتها ومحاسبتها وفق المقياس الشرعي والأخلاقي , والوصول بها إلى التكامل بعد تمتعها العلم , والتفكر , والتوكل , والصبر , والإيمان بالغيب , وغيرها .
والإيمان يترتب عليه عدة آثار , منها , ذكر الله , ووجل القلب , وخشيته , والإخلاص في العبودية , وتفصيل الكلام في مقام آخر إن شاء الله تعالى .
الإخلاص في مقومات الشخصية الإسلامية
بعد ان عرفنا ان الإيمان بالغيب هو أحد مقومات الشخصية المسلمة وانه مما يترتب على ذلك ومن آثاره هو الإخلاص , وهذا معناه ان الإخلاص في العبادة من مقومات الشخصية الإسلامية .
الإخلاص في العبادة
والكلام في العبادة أولاً ثم في الإخلاص .
أولاً:- العبادة
العبادة في اللغة , هي , غاية التذلل والخضوع والانقياد , ولذلك لا يستحقها إلا المنعم الأعظم الحقيقي جلت قدرته , ولكن لوجود إبليس والهوى والنفس والدنيا يقال ان العبادة تشمل كل سلوك فبعضهم يعبد شخصاً , وبعضهم يعبد هواه , وثالث يعبد الله الحق الواحد الأحد , وقد صدر عن الشارع المقدس ما يشير إلى هذا :-
1- قوله تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ...} الجاثية /23
2- وقوله تعالى :-{اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ....}التوبة / 31
3- وقوله تعالى:-{... وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة / 31 .
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) :{من أطاع رجلاً في معصية الله فقد عبده } .
ثانياً :- الإخلاص
بما ان العبودية تمثل علاقة بين العبد والمعبود , فالعبودية بين الإنسان والله تعالى يجب ان تكون بالإخلاص لله وحده لا شريك له , فيكون مصداقاً لقوله تعالى :{وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.... }البينة/5 .
فالإخلاص هو الحجر الأساس في كيان العقائد والشرائع , وهو الشرط الأساس والواقعي في صحة وتزكية العمل , وتطهيره , وتنقيته, وقبوله عند الله تعالى فيكون جزاء العامل , رحمة الله ونعمته , والخلود في جَنّاته , فيكون مصداقاً لقول أمير المؤمنين(عليه السلام): {طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء , ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه , ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه , ولم يحزن صدره بما أعطي غيره} .
معنى الإخلاص
قلنا سابقاً ان حقيقة الإخلاص من أسرار الله تعالى , أما الإخلاص في اللغة فهو التمحيص والتصفية والتجديد والتخليص , والإخلاص في الطاعة هو ترك الرياء وتجريد النفس عن طلب المنزلة في قلوب الناس.
وقد استعمل الشارع المقدس بعض المعاني للدلالة على الإخلاص بالمعنى الظاهري بالمطابقة أو الالتزام , منها :
1- الإخلاص ضد الرياء . فهو ترك الرياء
ويشهد لهذا ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام) عن ابائه عن جده أمير المؤمنين (عليهم السلام) :{الدنيا كلها جهل إلا مواضع العلم , والعلم كله جهل إلا ما عمل به , والعمل كله رياء إلا ما كان مخلصاً, والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له } .
2- الإخلاص هو التوحيد
لأن الرياء شرك , ولأن الإخلاص ضد الرياء , ولأن الشرك ضد التوحيد , فينتج ان الإخلاص توحيد ويشير إلى المقدمة الأولى (ان الرياء شرك) :
قوله تعالى:{... فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}الكهف/110 .
وما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :{ أني تخوفت على أمتي الشرك , أما أنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً , ولكنهم يراؤون بأعمالهم } .
3- الإخلاص هو موافقة ومطابقة السر مع العلن
وهذا يبتني على ان الإخلاص ضد الرياء وان الرياء هو عدم مطابقة السر للعلن , ويشير هذا ما ورد عن النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) {سيأتي زمان ... تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا , لا يريدون به ما عند ربهم , يكون دينهم رياء , لا يخالطهم خوف , يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم } .
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام):{ ثلاث علامات للمرائي , ينشط إذا رأى الناس , ويكسل إذا كان وحده , ويحب ان يحمد في كل أموره}.
4- الإخلاص هو النية والإصابة وخشية الله
ويشير إلى هذا :
ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول الله(u):{...لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً...}هود/7 . قال(عليه السلام): { ليس يعني أكثركم عملاً , لكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة , }
ثم قال(عليه السلام): { الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل, والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد إلا الله(u) , والنية أفضل من العمل , ألا وأن النية هي العمل , ثم تلا قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ...}الإسراء/84 , يعني على نيته } .
وما ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) :{ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً , إلا زهده الله تعالى في الدنيا , وبصرّه داءها ودواءها , واثبت الحكمة في قلبه , وانطق بها لسانه }.
وما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): {من أخلص أربعين يوماً فجّرَ الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه }.
5- الإخلاص هو قبول الأعمال
وذلك لأن الإخلاص ضد الرياء , والأخير فساد العمل , وعدم قبوله, يشير إلى هذا , وما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :{ ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به , فإذا صعد بحسناته, يقول الله(u) أجعلوها في سجين انه ليس أياي أراد به}.
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : {لا يقبل الله عملاً فيه مثقال ذرة من رياء} .
6- الإخلاص هو التحرر من اغواء الشيطان واضاليله
ويشير إلى هذا قوله تعالى:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين(82) إلا عبادك منهم المخلصين} سورة ص / 82-83 .
7- الإخلاص حب الله
فالحب هو التجرد والاخلاء عن كل شاغل سوى الله تعالى , ويشير لهذا ما ورد في الحديث القدسي :{يا داود أنك تزعم أنك تحبني , فأن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا عن قلبك , فأن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب} .
وعن الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفات :{انت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحباك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك } .
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) : {حب الله إذ أضاء سرّ عبد أخلاه عن كل شاغل , وكل ذكر سوى الله .... والمحب أخلص الناس سراً لله , وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً وأزكاهم عملاً وأصفاهم ذكراً , وأعبدهم نفساً , تتباها الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته , وبه يعمر الله بلاده , وبكرامته يكرم الله عباده , ويعطيهم إذا سألوه بحقه , ويدفع عنهم البلايا برحمته ولو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا إلى الله إلا بتراب قدميه } .
8- الإخلاص أفضل العبادات
ويشهد لهذا :
قوله تعالى :{فأعبدوا الله مخلصاً له الدين (2) ألا لله الدين الخالص...}البينة /2- 3 .
وقوله تعالى :{وما أمروا ألا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ...}البينة/ 5 .
وما ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) {أفضل العبادة الإخلاص} .
9- الإخلاص هو تحقير النفس
ويشير إلى هذا ما ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :{يا أبا ذر , لا يفقه الرجل كل الفقه , حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر , ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها } .
درجات الإخلاص
بما ان الإخلاص عند الانسان من الصفات النفسية , فهو قابل للزيادة والنقصان , وهذا يعتمد على محورين :
المحور الأول: عمق الإيمان
من الواضح ان مستوى الايمان وعمقه يختلف من شخص إلى آخر , ويؤثر هذا في مقدار تفاعل الانسان مع الحقائق الربانية , ويؤثر على مدى إدراكه ان الله ربه وخالقه وهو الذي يستحق العبادة , وكل ما غار هذا الادراك في اعماق النفس , فأنه يحرك المشاعر والاحاسيس ويدفع إلى الطاعة الحقيقية والإخلاص الخالي من الشوائب .
المحور الثاني: تربية النفس على الإخلاص
بعد ان يدرك الانسان المؤمن معنى الإخلاص و أثره في بناء الشخصية الإسلامية المؤمنة , عليه ان يربي نفسه على الإخلاص , وذلك بان يلتفت إلى الإخلاص دائماً , فيجعل كل أقواله وأفعاله صغيرها وكبيرها وكل حركاته وسكناته متصلة بالإخلاص ونقية من شوائب النية .
وتربية النفس على الإخلاص تشمل عدة مستويات منها :
المستوى الأول: النية عند أداء الطاعة والعبادة :
والثابت شرعاً ان النية الصحيحة والمقبولة على درجات مختلفة تنحصر بين درجتين :
الدرجة الدنيا: درجة الإخلاص المخلوط .
ففي هذه الدرجة تختلط النية ببعض الشوائب التي فيها غاية أخرى غير رضا الله تعالى , وفي هذه الحالة يكون العمل صحيحاً بشرط خلو النية من الرياء .
الدرجة العليا: درجة الإخلاص التام .
ففي هذه الحالة تتجرد النية عن الشوائب كلها .
ووجود الشوائب وعدمها واختلاف مقدارها يعتمد على عدة عوامل منها :
1- مستوى ايمان الشخص .
2- الحالة النفسية التي يعيشها أثناء العمل . فأن للنفس الاقبال والادبار .
3- نوع العمل الذي يقوم به الشخص , فالعمل الذي يكون موافقاً للهوى تتعرض نفس المؤمن لاحتمال وجود الشائبة في اخلاصه بقيمة احتمالية أكبر .
أما في العمل المخالف للهوى والذي يلقي مقاومة من نفس الانسان فمثل هذا العمل يكون اكثر احتمالاً لتسجيل وتحقيق الإخلاص التام.
4- الالتفات قبل العمل إلى معنى الإخلاص , والاهتمام بجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم سبحانه وتعالى .
5- مواجهة النفس بعد اداء العمل , وتقيميها ومحاسبتها بالنظر في مقدار الشوائب , وخلوها من ذلك .
المستوى الثاني : تعميم الإخلاص
عندما يكون هم الانسان الأكبر هو ارضاء الله سبحانهوتعالى , فانه سيجعل الصفة النفسية للاخلاص عامة , وتشمل حتى تفكير الانسان وعواطفه .
ومن الواضح ان درجة ارضاء الله تعالى تختلف من شخص إلى آخر , ومن حالة إلى أخرى , وتنحصر بين درجتين :
1- الدرجة الدنيا : وفيها لا يبغي المؤمن غير ان يتخلص من العقاب وان يسقط عنه الواجب , وفي هذه الحالة تكون نية الطاعة والإخلاص على الواجبات وبعض المستحبات (مثلاً) , أما باقي أوقاته فتصبح فارغة من نية الطاعة لله .
2- الدرجة العليا : وفيها يصبح هم العبد هو الله سبحانه وتعالى , ويصبح تفكيره خالصاً لله , وتتصاعد هذه الحالة اكثر واكثر حتى تبدأ أحاسيسه وحبه وكرهه وغضبه ورضاه , في التحول من جانب الاهواء إلى جانب رضا الله سبحانه وتعالى , وفي هذه الحالة تكون جميع أعماله لله , من الواجبات والمستحبات وحتى المباحات بل والحركات والسكنات , ويتصاعد الإخلاص عند المؤمن فلا يعيش إلا لله , وهذا هو الإخلاص التام , وهو لا يحصل ألا ممن عانى وجاهد وسعى في تربية نفسه وفي تنقية إخلاصه من الشوائب , وقد ورد في الحديث القدسي : {الإخلاص سر من اسراري استودعه قلب من أحببت من عبادي } .