دلال
23-08-2008, 03:27 AM
قد دلت الأبحاث الحديثة كما عرفت على أن كل إنسان يملك مقداراً من هذه القوة الخارقة التي تكشف له عما خبأته أحشاء المستقبل، ولكن الناس إذا تساووا في نوع هذه القوة فإنهم يختلفون في مقدارها.
فقد ثبت أن هذه الحاسة توجد عند بعض الناس بقوة تثير الدهشة، بينما توجد في بعض آخر على حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه، فما السبب في هذا التفاوت؟
لقد تبين للباحثين أن قوة هذه الحاسة تتناسب تناسباً طردياً مع درجة الصفاء الروحي والنقاء الداخلي التي يتمتع بها الشخص، فكلما كان الإنسان صافي النفس، نقي الضمير، منعتقاً من أسر التقاليد الاجتماعية الضارة، متفلتاً من قيد الضرورة وما إليها، خالي النفس من العقد والأحقاد والمطامع، كانت هذه الحاسة فيه قوية بالغة القوة، وكلما كان الإنسان مشوش النفس موزع الضمير مستغرقاً في حواسه، أسيراً لضرورات جسده وشهواته، غارقاً في مجتمعه، كانت هذه الحاسة فيه ضامرة لا تكاد تبين (1) .
فهذه الحاسة لا تنشط إلا في ساعات الصفاء العقلي والروحي والوجداني، فعند ذلك تبلغ أقصى قوتها.
فإذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة في حياة الإمام (عليه السلام) طالعتنا فيه على أتم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحي حداً لم يدانِه فيه إنسان على الإطلاق ولم يَزدْ عليه فيه إلا النبي (صلّى الله عليه وآله).
وتاريخ حياته (عليه السلام) سلسلة ذهبية من هذه الظواهر الرائعة الفاتنة.
وإذا صحّ أن تجرداً وصفاءً وقتيين يقوم بهما إنسان عادي يتيحان له إطلاق قواه الخارقة، فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرداً روحياً وصفاء لا يعدله في بني الإنسان صفاء؟
إن هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخ حياته لتدلّ على أنه كان يدخل في وسعه أن يُطلق قواه الخارقة متى أراد، وإن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متى شاء.
ويصدق قولنا هذا ما أثبته المؤرخون وتسالموا عليه من إخباراته بالمغيّبات وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بأزمان.
لم يعن الشريف رحمه الله، حين آلى على نفسه أن يجمع كلامه (عليه السلام)، بهذه الناحية عناية تستحق الذكر، فما في نهج البلاغة من إخباراته بالمغيبات لا يبلغ عشر ما نسب إليه وصح عنه.
وهذه الطائفة التي ذكرها الشريف من إخباراته تجيء على أقسام:
1- غرق البصرة.
2- تسلط الظالمين على الكوفة.
3- تغلب معاوية على الخلافة.
4- مصير الخوارج ونهاية أمرهم.
5- مروان وخلافته.
6- حرب الزنج.
7- ولاية الحجاج.
8- الأتراك.
9- بنو أمية: ظلمهم ونهايتهم.
10- خروج المهدي عجل الله فرجه.
11- فتن تشمل الدنيا وتهلك الحرث والنسل.
في هذه العناوين ينحصر ما ذكره الشريف في نهج البلاغة من الأخبار بالمغيبات، وسنتكلم في كل واحد من أولئك على حدة. ذاكرين بعد ذلك ما أهمله الشريف ولم يعن به.
لقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن علمه بالمغيبات في مناسبات كثيرة منها قوله:
(.. فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (2) وقائدها، وسائقها، ومُنَاخ (3) ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني، ونزلت بكم كرائه الأمور (4) وحوازب الخطوب (5) ، لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين) (6) .
وقد ذكر (عليه السلام) أنه استقى علمه هذا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد أتى في كلام له بعد أن هزم أصحاب الجمل في البصرة، على ذكر بعض ما يلمّ بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك الإمام وقال للرجل:
(ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ..) (7) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم (8) عليه جوانحي) (9) .
وقال مخاطباً أصحابه في موقف آخر:
(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه (10) وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ألا وإني مفضيه (11) إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (12) .
وقال:
(أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي (13) ولا يستهوينكم (14) عصياني، ولا تتراموا بالأبصار (15) عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة (16) ، إن الذي أنبأكم به عن النبي الأمي (صلّى الله عليه وآله)، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع) (17) .
في هذه النصوص يصرح الإمام (عليه السلام) بأن علمه بالمغيبات جاءه عن طريق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
والذي يستوقفنا في هذا هو أننا لا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة على نحو التفصيل، لأن الظرف الزماني الذي جمع بين النبي والإمام لا يسع شيئاً مثل هذا حتى لو فرضنا أن الإمام قد اختص بأوقات فراغ النبي كلها، فهو (عليه السلام) يقول:
(فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها..) (18) .
ويقول:
(سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض..) (19) .
ويقول:
(.. والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت... وقد عهد إليّ بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (20) .
فهذا علم واسع بالغ السعة متراحب الآفاق، ومهما يكن الظرف الزماني الذي قضاه الإمام مع النبي طويلاً، ومهما تكن الأوقات الخاصة التي يفرغ فيها النبي للإمام وحده طويلة وكثيرة، فإن ذلك كله لا يسع الإفضاء ببعض هذا العلم إلى الإمام على نحو التفصيل، بحيث يتناول التعليم الجزئيات الدقيقة، والتفصيلات الكثيرة، فضلاً عن أن يسع الإفضاء إليه بكل هذا العلم على هذا النحو من الإفضاء.
وإذ كانت الحال على هذا فلا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة إلى قيام الساعة على نحو التفصيل، ولكن الإمام (عليه السلام) يصرح بما لا يدع مجالاً للشك بأنه قد استقى علمه هذا من النبي (صلّى الله عليه وآله)، فكيف السبيل إلى ملاءمة هذا الذي يقوله الإمام مع ما تبين لنا من عدم استيعاب الظرف الزماني للإفضاء بكل هذه العلوم؟
الذي أراه هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يُفضِ إلى الإمام بالمغيبات على نحو التفصيل الذي يلمّ بجميع الجزئيات، فقد رأينا أن العقل يحيل ذلك لأن الزمان مهما يطلْ لا يتسع له. وإنما أفضى إليه بهذه المغيبات على نحو الإجمال لا التفصيل.
فقد رأينا أن نشاط هذه القوى الخفية المودعة في الإنسان والتي تَصِله بالمجهول المحجوب في أحشاء الزمان أو ثنايا المكان يتوقف على الحالة العقلية والروحية والوجدانية التي يكون عليها الإنسان، فكلما كان الإنسان على حال رفيعة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني كانت هذه القوى أنشط وأبلغ في النفوذ إلى المغيب المحجوب، والذي نراه بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام) هو أن النبي قد أخبره بالمغيبات على نحو الإجمال ثم هداه إلى أقوم السبل التي تؤدي به إلى أرفع درجات هذه الحالة الروحية التي تتيح لقواه الخفية أن تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما أجمله له رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وبهذا التفسير وحده نستطيع أن نلائم بين علم الإمام الواسع بالمغيبات الذي يسنده إلى الرسول وبين الظرف الزماني الضيق نسبياً الذي جمع بينه وبين الرسول، وليس هذا التفسير اعتباطياً فلدينا عليه شاهد مقبول.
وهذا الشاهد الذي نعني هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) خلى بالإمام فأدخل في ثوبه وناجاه في اللحظات القليلة الأخيرة التي قبض بعدها، فلما فرغ من نجواه خرج الإمام من عنده فسأله الناس عما أفضى به إليه فقال: (علمني ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب).
فمهما كانت اللحظات التي خلا بها النبي مع الإمام كثيرة لا نستطيع أن نتصور كيف أفضى إليه فيها بألف باب من العلم على نحو التفصيل، لأنها مهما طال مداها لا تتسع للإفضاء ببعض هذا العد الكبير، فلابدّ من القول بأنه أفضى إليه بهذه الألف باب على نحو الإجمال وذلك بإعطاء الضوابط الكبرى التي تشمل كثيراً من الأبواب.
ولعل قوله: (ينفتح لي من كل باب ألف باب) أبلغ دلالة على ما نقول من أنه علمه على نحو الإجمال لا على نحو التفصيل، وأنه اتكل في معرفة الجزئيات والتفاصيل إلى ما يتمتع به الإمام من مواهب تسعفه في معرفة ما غاب وتهديه إلى شريعة الصواب.
قلنا إن إخباراته التي ذكرها الشريف تجيء على أقسام، منها إخباره بما يلم بالبصرة من الخطوب.
فأخبر بعد فراغه من أصحاب الجمل، عن غرق البصرة كلها بقوله:
(.. وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) (21) .
وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن البصرة غرقت مرتين: مرة في أيام القادر بالله (22) ، ومرة في أيام القائم بأمر الله (23) ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزاً كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين.. وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم) (24) .
وأخبر عن هلاك البصرة بالزنج، فقال مخاطباً الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل:
(يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجَب (25) ولا قعقعة لجم (26) ولا حَمْحَمة خيل (27) ، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. ويل لسككِكم العامرة (28) والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور (29) ، وخراطيم كخراطيم الفيلة (30) ، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم (31) ، أنا كابّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها) (32) .
هذه النبوءة صدقتها الحوادث، ففي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر المدعو علياً بن محمد بن عبد الرحيم وجمع الزنوج وخرج بهم على المهتدي العباسي (33) ، واستشرى أمره، وكاد يبيد البصرة ويفني أهلها، واستمرت الحرب بينه وبين السلطة المركزية خمسة عشر عاماً، فقد قتل في سنة سبعين ومائتين، وقد كتب ابن أبي الحديد فصلاً كبيراً عن هذه النبوءة (34) .
ولا يفوتنا التنبيه على تنبؤه (عليه السلام) في النص الآنف، بما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانية.
وأخبر عن هلاك البصرة بالتتر فقال:
(.. كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المَجانّ المطرّقة (35) ويلبسون السّرَقَ (36) والديباح، ويعتقبون الخيل العتاق (37) ويكون هناك استحرار (38) قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور) (39) .
هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم لممالك حتى وصلوا إلى العراق فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحل بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الأحداث في زمن ابن أبي الحديد فكتب عنها فصلاً كبيراً (40) .
وقد تنبأ (عليه السلام) بما سيحلّ بالكوفة من الظالمين فقال:
(كأني بك يا كوفة تُمدّين مدّ الأديم العكاظي (41) ، تُعركين بالنوازل (42) وتُركبين بالزلازل (43) ، وإني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل) (44) .
وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور، وأعوان الظلمة، أذاقوها وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيد الله ابن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبد الله القسري وأضرابهم... كلهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وأنهار من الدماء (45) .
وقد تنبّأ (عليه السلام) بتغلب معاوية على الخلافة وسيطرته على الكوفة وأنه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسبّ الإمام والبراءة منه، فقال:
(أمّا أنه سيظهر (46) عليكم بعدي رجل رحب البلعوم (47) ، مندحق البطن (48) ، يكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني، أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرءوا مني (49) ، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة) (50) .
هذه النبوءة تحققت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن وأمر الناس بسبّ الإمام صلوات الله وسلامه عليه، والبراءة منه، وقتل طائفة من عظماء أصحابه (عليه السلام) لأنهم ثبتوا على ولائه فلم يتبرءوا منه، منهم حجر بن عدي الكندي وجماعته. وقال قوم إن المعنى بهذا الكلام زياد بن أبيه، وقال قوم إنه المغيرة بن شعبة، وكلٌّ ولِيَ الكوفة، وأمر بالسبّ والبراءة (51) .
وتنبأ (عليه السلام) بما سيصير إليه أمر الخوارج من بعده فقال:
(.. أما إنكم ستلقون من بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وأثَرَةً (52) يتخذها الظالمون فيكم سنة) (53) .
وهكذا كان، فإن الخوارج، بعد العدل الذي لاقوه من حكومته والحرية التي تمتعوا بها، لم يعاملوا في جميع العهود التالية إلا بالاضطهاد والحرب والمطاردة.
وقال لما قتل الخوارج وقيل له: هلك القوم بأجمعهم:
(كلا والله، إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء (54) ، كلما نَجمَ منهم قرن قطع (55) حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين) (56) .
وقد صحّت نبوءته، فلم يمضِ زمن طويل حتى نجم أمرهم مرة أخرى واستمرت بينهم وبين السلطات المركزية المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم أن صاروا قطّاع طرق ولصوصاً سلابين..
وقد تنبأ بعدد من يقتل من أصحابه وبقدر من يبقى من الخوارج قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال:
(مصارعهم دون النطفة (57) ، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة) (58) .
فلم يقتل من أصحاب الإمام إلا ثمانية، ولم ينج من الخوارج إلا تسعة (59) .
وقد كثر كلامه عما سيحل بالناس من بني أمية وظلمهم، وكأنه يعد بذلك أنفس الناس لتلقي فادح الظلم.
وقد تنبأ بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحل بالأمة منه ومن أولاده، وتنبأ عن نهاية بني أمية متى تحين.
قال متنبأ بمصير الخلافة إلى مروان:
(أما أن له إمرة كعلقة الكلب أنفه (60) وهو أبو الأكبش الأربعة (61) ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر) (62) .
وقد تم كل ما قال، فقد كانت إمرة مروان قصيرة جداً إذ لم تزد على تسعة أشهر، وقد كان له من الأبناء أربعة هم: عبد الملك، وعبد العزيز، وبشر، ومحمد. ولي عبد الملك الخلافة، وولي محمد الجزيرة، وولي عبد العزيز مصر، وولي بشر العراق. وقد حل بالمسلمين منهم ظلم عظيم (63) .
وقال في ظلم بني أمية:
(.. والله لا يزالون حتى لا يدعو الله محرماً إلا استحلوه (64) ، ولا عقداً إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مَدر ولا وَبَر (65) إلا دخله ظلمهم، ونبأ به سوء رعيهم (66) ، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه) (67) .
ولا يجهل أحد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني أمية وانتهاكهم للحرمات، واستهتارهم بالفضيلة حتى صار خلفاؤهم مثلاً في الظلم والفسق والتهتك (68) .
وقد تحدث (عليه السلام) كثيراً عن نهاية بني أمية وأن الأمر سيصير إلى أعدائهم بعدهم في الوقت الذي يحسب الناس فيه أنهم مخلدون.
قال (عليه السلام):
(حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية (69) ، تمنحهم درّها (70) وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظانّ لذلك. بل هي مجّة (71) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة) (72) .
وقال:
(فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم) (73) .
هذه النبوءات بزوال ملك بني أمية على يد العباسيين، وما يصنعه العباسيون من القتل والتشريد قد تحققت بحذافيرها (74) .
وقد تنبأ بولاية الحجاج وبما سيحل بالعراق من بلوائه فقال:
(أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال (75) ، ويأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم، إيه أبا وَذحة) (76) ، (77) .
وقال فيما رواه ابن أبي الحديد من تتمة خطبة أخرى تنبأ فيها بولاية الحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمرو الثقفي:
(..وستليكم من بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد. وسيأتيكم غلام ثقيف: أخفش وجعبوب، يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكثان).
قال ابن أبي الحديد:
(.. الأخفش الضعيف البصر خلقة، والجعبوب القصير الدميم، وهما الحجاج ويوسف بن عمرو وفي كتاب عبد الملك إلى الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرتين. ومن كلام الحسن البصري (رحمه الله) يذكر فيه الحجاج: أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمرو كان يغضب إذا قيل له قصير) (78) .
***
قلنا أن الشريف رحمه الله لم يذكر في نهج البلاغة كل ما صح عن أمير المؤمنين من إخباره بالمغيبات، ولكن ابن أبي الحديد قد سد هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صح عنه (عليه السلام) في هذا الباب.
ومما يحسن ذكره هنا أن ابن أبي الحديد لم ينقل كلما وقع إليه من أخبار الإمام بالمغيبات، بل حقق فيما وقع إليه من ذلك فطرح المشتبه أمره، وذكر ما صح عنه (عليه السلام).
قال ابن أبي الحديد:
(.. وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم (79) فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه، ووجدت في كثير منها اختلالاً ظاهراً. وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام وجدته متفرقاً في كتب مختلفة) (80) .
وعلل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذة في الإمام بقوله:
(واعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه الكفاية (81) ، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية. فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا على أن يريد به عموم العالمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، ممّا اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله لعلمه..) (82) .
ولابن أبي الحديد هذا نص طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الإمام بالمغيبات، نذكره لطرافته، ولما له من الصلة ببحثنا هذا، على أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن الحديد ذكره في هذا النص وذكره في مناسبات أخرى. قال:
(.. وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.
كإخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته).
وإخباره عن قتل الحسين ابنه (عليهما السلام)، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها.
وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده.
وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمرو.
وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان.
وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب.
وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص (عليه السلام) إلى البصرة لحرب أهلها.
وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه: (خب ضب، يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش).
وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج...
وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون بـ(بني رزيق) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية.
وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله إنه يقتل عند أحجار الزيت.
وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباخمرا: (يقتل بعد أن يظهر ويُقهَر بعد أن يَقهَر).
وقوله أيضاً: (يأتيه سهم غرب تكون فيه منيته، فيا بؤساً للرامي شُلّتْ يده ووهنَ عضده).
وكإخباره عن قتلى وجّ وقوله فيهم: (هم خير أهل الأرض).
وكإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله، وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي، وهو أولهم: (ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء المسجي بالرداء). وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، رخص البدن، تارّ الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد (عليهما السلام) وهو المسجي بالرداء لأن أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.
وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: (ويخرج من ديلمان بنو الصياد) إشارة إليهم، وكان أبوهم صياد السمك، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله (عليه السلام) فيهم: (ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء)، فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: (مائة أو تزيد قليلاً). وكقوله فيهم: (والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة) وهو إشارة إلى عزّ الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه. فأما خلعه للخلفاء، فإن معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر. وكانت مدة ملكهم كما أخبر به (عليه السلام).
وكإخباره (عليه السلام) لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي (عليه السلام)، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك.
وكم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ممّا لو أردنا استقصاءه لكسرنا كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (83) .
وقال:
(.. والمراد بقوله: فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول، وقد صدّق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم وليس عن طريق الصدفة والاتفاق) (84) .
ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في النص السابق وأتى على ذكره في مناسبات أخرى.
1 - لما شجرهم (85) - الخوارج - علي (عليه السلام) بالرماح قال: (اطلبوا ذا الثدية) فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به وإذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور، فكبّر علي (عليه السلام) وكبّر الناس معه (86) .
2 - قال (عليه السلام) لمن قال له: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة الشعر، بعد كلام: (.. وإن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).
قال ابن أبي الحديد: وكان ابنه، قاتل الحسين (عليه السلام) طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي (87) .
3 - وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له، فقال (عليه السلام): والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب، فقال: انت حبيب بن حمار؟ قال: نعم، فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار، فقال: إي والله، قال: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب، وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة. قال ثابت - وهو راوي الحديث -: فوالله ما مات حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي (عليهما السلام)، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل (88) .
4 - كان جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي (عليه السلام): يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء، فقال علي (عليه السلام): (وإنها لهي هذه السلقلقة الجلعة الجعة، وإنها لهي هذه الشبيهة بالرجال والنساء التي ما رأت دماً قط)، قال يزيد الأحمسي - وهو راوي الحديث -: فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها عمرو بن حريث، فلما صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك، فلما دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشفها وقالت: أنا والله كما قال، لي ركب النساء وأنثيان كأنثيي الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها، ورجع إلى مجلسه مع الإمام (عليه السلام) فحدث بذلك (89) .
5 - قام أعشى باهلة وهو يومئذ غلام حدث إلى علي (عليه السلام)، وهو يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة.
فقال علي (عليه السلام):
(إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف)، ثم سكت.
فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟
قال: (غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه).
فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟
قال: عشرين إن بلغها.
قالوا: فيقتل قتلاً أم يموت موتاً؟
قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.
قال إسماعيل بن رجاء - وهو الراوي - فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس (90) .
6 - قال (عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث:
(يا عمرو إنك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس نقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموا برمتك، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك).
قل شمير بن سدير الأزدي - وهو الراوي - فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (91) .
7 - دخل جويرية بن مسهر العبدي على علي (عليه السلام) يوماً وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية:
أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب بها لحيتك.
قال حبة العرني - وهو الراوي - فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: (وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي بيده لتتلنّ إلى العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر).
قال حبة العرني: فوالله ما مضت الأيام على ذلك، حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب ابن مكعبر وكان جذعاً طويلاً فصلبه على جذع قصير إلى جانبه (92) .
8 - قال الإمام لميثم التمار يوماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص:
(يا ميثم إنك تؤخذ بعدي وتُصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتى يخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طُعنت بحربة تقضي عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تُصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، يعني الأرض، ولأرينك النخلة التي تُصلب على جذعها). ثم أراه إيّاه بعد ذلك بيومين.
وقد تحققت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام (93) .
9 - روى إبراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي إلى زياد بن النضر الحارثي أنه قال:
كنت عند زياد وقد أتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي (عليه السلام)، فقال له زياد: ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه، خلو سبيله، فلما أراد أن يخرج، قال: ردوه، لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا سوءً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم. فقال: اصلبوه خنقاً في عقنه، فقال رشيد: قد بقي لكم عندي شيء ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال: نفّسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (94) .
10 - حدث سعد بن وهب، فقال في حديث:
فأتيته - يعني علياً (عليه السلام) - في كربلاء، فوجدته يشير بيده ويقول: هاهنا هاهنا فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: (ثقل لآل محمد (صلّى الله عليه وآله) ينزل هاهنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم). فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: (ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار) (95) .
11 - ذكر ابن أبي الحديد تتمة خطبته في الملاحم تنبأ فيها الإمام بأن السلاح سيحمل على الظهر بقوله: (... وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم..) وكأنه يشير بذلك إلى البندقية وما إليها من الأسلحة الحديثة، وتنبأ فيها بولاية الحجاج ويوسف بن عمر (96) .
12 - قال ابن الحديد: .. ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة: (ينتحلون لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا).
قال ابن أبي الحديد: وصح ما أخبر به، لأن القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقاً كثيراً وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني. وفي هذه الخطبة قال، وهو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: (كأني بالحجر الأسود منصوباً هنا، ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأُسه، يمكث هنا برهة، ثم هاهنا برهة - وأشار إلى البحرين - ثم يعود إلى مأواه وأم مثواه). ووقع الأمر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به (97) .
فقد ثبت أن هذه الحاسة توجد عند بعض الناس بقوة تثير الدهشة، بينما توجد في بعض آخر على حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه، فما السبب في هذا التفاوت؟
لقد تبين للباحثين أن قوة هذه الحاسة تتناسب تناسباً طردياً مع درجة الصفاء الروحي والنقاء الداخلي التي يتمتع بها الشخص، فكلما كان الإنسان صافي النفس، نقي الضمير، منعتقاً من أسر التقاليد الاجتماعية الضارة، متفلتاً من قيد الضرورة وما إليها، خالي النفس من العقد والأحقاد والمطامع، كانت هذه الحاسة فيه قوية بالغة القوة، وكلما كان الإنسان مشوش النفس موزع الضمير مستغرقاً في حواسه، أسيراً لضرورات جسده وشهواته، غارقاً في مجتمعه، كانت هذه الحاسة فيه ضامرة لا تكاد تبين (1) .
فهذه الحاسة لا تنشط إلا في ساعات الصفاء العقلي والروحي والوجداني، فعند ذلك تبلغ أقصى قوتها.
فإذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة في حياة الإمام (عليه السلام) طالعتنا فيه على أتم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحي حداً لم يدانِه فيه إنسان على الإطلاق ولم يَزدْ عليه فيه إلا النبي (صلّى الله عليه وآله).
وتاريخ حياته (عليه السلام) سلسلة ذهبية من هذه الظواهر الرائعة الفاتنة.
وإذا صحّ أن تجرداً وصفاءً وقتيين يقوم بهما إنسان عادي يتيحان له إطلاق قواه الخارقة، فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرداً روحياً وصفاء لا يعدله في بني الإنسان صفاء؟
إن هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخ حياته لتدلّ على أنه كان يدخل في وسعه أن يُطلق قواه الخارقة متى أراد، وإن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متى شاء.
ويصدق قولنا هذا ما أثبته المؤرخون وتسالموا عليه من إخباراته بالمغيّبات وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بأزمان.
لم يعن الشريف رحمه الله، حين آلى على نفسه أن يجمع كلامه (عليه السلام)، بهذه الناحية عناية تستحق الذكر، فما في نهج البلاغة من إخباراته بالمغيبات لا يبلغ عشر ما نسب إليه وصح عنه.
وهذه الطائفة التي ذكرها الشريف من إخباراته تجيء على أقسام:
1- غرق البصرة.
2- تسلط الظالمين على الكوفة.
3- تغلب معاوية على الخلافة.
4- مصير الخوارج ونهاية أمرهم.
5- مروان وخلافته.
6- حرب الزنج.
7- ولاية الحجاج.
8- الأتراك.
9- بنو أمية: ظلمهم ونهايتهم.
10- خروج المهدي عجل الله فرجه.
11- فتن تشمل الدنيا وتهلك الحرث والنسل.
في هذه العناوين ينحصر ما ذكره الشريف في نهج البلاغة من الأخبار بالمغيبات، وسنتكلم في كل واحد من أولئك على حدة. ذاكرين بعد ذلك ما أهمله الشريف ولم يعن به.
لقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن علمه بالمغيبات في مناسبات كثيرة منها قوله:
(.. فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (2) وقائدها، وسائقها، ومُنَاخ (3) ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني، ونزلت بكم كرائه الأمور (4) وحوازب الخطوب (5) ، لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين) (6) .
وقد ذكر (عليه السلام) أنه استقى علمه هذا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد أتى في كلام له بعد أن هزم أصحاب الجمل في البصرة، على ذكر بعض ما يلمّ بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك الإمام وقال للرجل:
(ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ..) (7) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم (8) عليه جوانحي) (9) .
وقال مخاطباً أصحابه في موقف آخر:
(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه (10) وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ألا وإني مفضيه (11) إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (12) .
وقال:
(أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي (13) ولا يستهوينكم (14) عصياني، ولا تتراموا بالأبصار (15) عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة (16) ، إن الذي أنبأكم به عن النبي الأمي (صلّى الله عليه وآله)، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع) (17) .
في هذه النصوص يصرح الإمام (عليه السلام) بأن علمه بالمغيبات جاءه عن طريق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
والذي يستوقفنا في هذا هو أننا لا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة على نحو التفصيل، لأن الظرف الزماني الذي جمع بين النبي والإمام لا يسع شيئاً مثل هذا حتى لو فرضنا أن الإمام قد اختص بأوقات فراغ النبي كلها، فهو (عليه السلام) يقول:
(فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها..) (18) .
ويقول:
(سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض..) (19) .
ويقول:
(.. والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت... وقد عهد إليّ بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (20) .
فهذا علم واسع بالغ السعة متراحب الآفاق، ومهما يكن الظرف الزماني الذي قضاه الإمام مع النبي طويلاً، ومهما تكن الأوقات الخاصة التي يفرغ فيها النبي للإمام وحده طويلة وكثيرة، فإن ذلك كله لا يسع الإفضاء ببعض هذا العلم إلى الإمام على نحو التفصيل، بحيث يتناول التعليم الجزئيات الدقيقة، والتفصيلات الكثيرة، فضلاً عن أن يسع الإفضاء إليه بكل هذا العلم على هذا النحو من الإفضاء.
وإذ كانت الحال على هذا فلا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الإمام بكل حادثة من الحوادث المقبلة إلى قيام الساعة على نحو التفصيل، ولكن الإمام (عليه السلام) يصرح بما لا يدع مجالاً للشك بأنه قد استقى علمه هذا من النبي (صلّى الله عليه وآله)، فكيف السبيل إلى ملاءمة هذا الذي يقوله الإمام مع ما تبين لنا من عدم استيعاب الظرف الزماني للإفضاء بكل هذه العلوم؟
الذي أراه هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يُفضِ إلى الإمام بالمغيبات على نحو التفصيل الذي يلمّ بجميع الجزئيات، فقد رأينا أن العقل يحيل ذلك لأن الزمان مهما يطلْ لا يتسع له. وإنما أفضى إليه بهذه المغيبات على نحو الإجمال لا التفصيل.
فقد رأينا أن نشاط هذه القوى الخفية المودعة في الإنسان والتي تَصِله بالمجهول المحجوب في أحشاء الزمان أو ثنايا المكان يتوقف على الحالة العقلية والروحية والوجدانية التي يكون عليها الإنسان، فكلما كان الإنسان على حال رفيعة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني كانت هذه القوى أنشط وأبلغ في النفوذ إلى المغيب المحجوب، والذي نراه بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام) هو أن النبي قد أخبره بالمغيبات على نحو الإجمال ثم هداه إلى أقوم السبل التي تؤدي به إلى أرفع درجات هذه الحالة الروحية التي تتيح لقواه الخفية أن تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما أجمله له رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وبهذا التفسير وحده نستطيع أن نلائم بين علم الإمام الواسع بالمغيبات الذي يسنده إلى الرسول وبين الظرف الزماني الضيق نسبياً الذي جمع بينه وبين الرسول، وليس هذا التفسير اعتباطياً فلدينا عليه شاهد مقبول.
وهذا الشاهد الذي نعني هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) خلى بالإمام فأدخل في ثوبه وناجاه في اللحظات القليلة الأخيرة التي قبض بعدها، فلما فرغ من نجواه خرج الإمام من عنده فسأله الناس عما أفضى به إليه فقال: (علمني ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب).
فمهما كانت اللحظات التي خلا بها النبي مع الإمام كثيرة لا نستطيع أن نتصور كيف أفضى إليه فيها بألف باب من العلم على نحو التفصيل، لأنها مهما طال مداها لا تتسع للإفضاء ببعض هذا العد الكبير، فلابدّ من القول بأنه أفضى إليه بهذه الألف باب على نحو الإجمال وذلك بإعطاء الضوابط الكبرى التي تشمل كثيراً من الأبواب.
ولعل قوله: (ينفتح لي من كل باب ألف باب) أبلغ دلالة على ما نقول من أنه علمه على نحو الإجمال لا على نحو التفصيل، وأنه اتكل في معرفة الجزئيات والتفاصيل إلى ما يتمتع به الإمام من مواهب تسعفه في معرفة ما غاب وتهديه إلى شريعة الصواب.
قلنا إن إخباراته التي ذكرها الشريف تجيء على أقسام، منها إخباره بما يلم بالبصرة من الخطوب.
فأخبر بعد فراغه من أصحاب الجمل، عن غرق البصرة كلها بقوله:
(.. وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) (21) .
وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن البصرة غرقت مرتين: مرة في أيام القادر بالله (22) ، ومرة في أيام القائم بأمر الله (23) ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزاً كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين.. وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم) (24) .
وأخبر عن هلاك البصرة بالزنج، فقال مخاطباً الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل:
(يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجَب (25) ولا قعقعة لجم (26) ولا حَمْحَمة خيل (27) ، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. ويل لسككِكم العامرة (28) والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور (29) ، وخراطيم كخراطيم الفيلة (30) ، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم (31) ، أنا كابّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها) (32) .
هذه النبوءة صدقتها الحوادث، ففي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر المدعو علياً بن محمد بن عبد الرحيم وجمع الزنوج وخرج بهم على المهتدي العباسي (33) ، واستشرى أمره، وكاد يبيد البصرة ويفني أهلها، واستمرت الحرب بينه وبين السلطة المركزية خمسة عشر عاماً، فقد قتل في سنة سبعين ومائتين، وقد كتب ابن أبي الحديد فصلاً كبيراً عن هذه النبوءة (34) .
ولا يفوتنا التنبيه على تنبؤه (عليه السلام) في النص الآنف، بما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانية.
وأخبر عن هلاك البصرة بالتتر فقال:
(.. كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المَجانّ المطرّقة (35) ويلبسون السّرَقَ (36) والديباح، ويعتقبون الخيل العتاق (37) ويكون هناك استحرار (38) قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور) (39) .
هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم لممالك حتى وصلوا إلى العراق فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحل بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الأحداث في زمن ابن أبي الحديد فكتب عنها فصلاً كبيراً (40) .
وقد تنبأ (عليه السلام) بما سيحلّ بالكوفة من الظالمين فقال:
(كأني بك يا كوفة تُمدّين مدّ الأديم العكاظي (41) ، تُعركين بالنوازل (42) وتُركبين بالزلازل (43) ، وإني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل) (44) .
وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور، وأعوان الظلمة، أذاقوها وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيد الله ابن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبد الله القسري وأضرابهم... كلهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وأنهار من الدماء (45) .
وقد تنبّأ (عليه السلام) بتغلب معاوية على الخلافة وسيطرته على الكوفة وأنه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسبّ الإمام والبراءة منه، فقال:
(أمّا أنه سيظهر (46) عليكم بعدي رجل رحب البلعوم (47) ، مندحق البطن (48) ، يكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني، أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرءوا مني (49) ، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة) (50) .
هذه النبوءة تحققت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن وأمر الناس بسبّ الإمام صلوات الله وسلامه عليه، والبراءة منه، وقتل طائفة من عظماء أصحابه (عليه السلام) لأنهم ثبتوا على ولائه فلم يتبرءوا منه، منهم حجر بن عدي الكندي وجماعته. وقال قوم إن المعنى بهذا الكلام زياد بن أبيه، وقال قوم إنه المغيرة بن شعبة، وكلٌّ ولِيَ الكوفة، وأمر بالسبّ والبراءة (51) .
وتنبأ (عليه السلام) بما سيصير إليه أمر الخوارج من بعده فقال:
(.. أما إنكم ستلقون من بعدي ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وأثَرَةً (52) يتخذها الظالمون فيكم سنة) (53) .
وهكذا كان، فإن الخوارج، بعد العدل الذي لاقوه من حكومته والحرية التي تمتعوا بها، لم يعاملوا في جميع العهود التالية إلا بالاضطهاد والحرب والمطاردة.
وقال لما قتل الخوارج وقيل له: هلك القوم بأجمعهم:
(كلا والله، إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء (54) ، كلما نَجمَ منهم قرن قطع (55) حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين) (56) .
وقد صحّت نبوءته، فلم يمضِ زمن طويل حتى نجم أمرهم مرة أخرى واستمرت بينهم وبين السلطات المركزية المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم أن صاروا قطّاع طرق ولصوصاً سلابين..
وقد تنبأ بعدد من يقتل من أصحابه وبقدر من يبقى من الخوارج قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال:
(مصارعهم دون النطفة (57) ، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة) (58) .
فلم يقتل من أصحاب الإمام إلا ثمانية، ولم ينج من الخوارج إلا تسعة (59) .
وقد كثر كلامه عما سيحل بالناس من بني أمية وظلمهم، وكأنه يعد بذلك أنفس الناس لتلقي فادح الظلم.
وقد تنبأ بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحل بالأمة منه ومن أولاده، وتنبأ عن نهاية بني أمية متى تحين.
قال متنبأ بمصير الخلافة إلى مروان:
(أما أن له إمرة كعلقة الكلب أنفه (60) وهو أبو الأكبش الأربعة (61) ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر) (62) .
وقد تم كل ما قال، فقد كانت إمرة مروان قصيرة جداً إذ لم تزد على تسعة أشهر، وقد كان له من الأبناء أربعة هم: عبد الملك، وعبد العزيز، وبشر، ومحمد. ولي عبد الملك الخلافة، وولي محمد الجزيرة، وولي عبد العزيز مصر، وولي بشر العراق. وقد حل بالمسلمين منهم ظلم عظيم (63) .
وقال في ظلم بني أمية:
(.. والله لا يزالون حتى لا يدعو الله محرماً إلا استحلوه (64) ، ولا عقداً إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مَدر ولا وَبَر (65) إلا دخله ظلمهم، ونبأ به سوء رعيهم (66) ، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه) (67) .
ولا يجهل أحد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني أمية وانتهاكهم للحرمات، واستهتارهم بالفضيلة حتى صار خلفاؤهم مثلاً في الظلم والفسق والتهتك (68) .
وقد تحدث (عليه السلام) كثيراً عن نهاية بني أمية وأن الأمر سيصير إلى أعدائهم بعدهم في الوقت الذي يحسب الناس فيه أنهم مخلدون.
قال (عليه السلام):
(حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية (69) ، تمنحهم درّها (70) وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظانّ لذلك. بل هي مجّة (71) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة) (72) .
وقال:
(فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم) (73) .
هذه النبوءات بزوال ملك بني أمية على يد العباسيين، وما يصنعه العباسيون من القتل والتشريد قد تحققت بحذافيرها (74) .
وقد تنبأ بولاية الحجاج وبما سيحل بالعراق من بلوائه فقال:
(أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيّال الميّال (75) ، ويأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم، إيه أبا وَذحة) (76) ، (77) .
وقال فيما رواه ابن أبي الحديد من تتمة خطبة أخرى تنبأ فيها بولاية الحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمرو الثقفي:
(..وستليكم من بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد. وسيأتيكم غلام ثقيف: أخفش وجعبوب، يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكثان).
قال ابن أبي الحديد:
(.. الأخفش الضعيف البصر خلقة، والجعبوب القصير الدميم، وهما الحجاج ويوسف بن عمرو وفي كتاب عبد الملك إلى الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرتين. ومن كلام الحسن البصري (رحمه الله) يذكر فيه الحجاج: أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمرو كان يغضب إذا قيل له قصير) (78) .
***
قلنا أن الشريف رحمه الله لم يذكر في نهج البلاغة كل ما صح عن أمير المؤمنين من إخباره بالمغيبات، ولكن ابن أبي الحديد قد سد هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صح عنه (عليه السلام) في هذا الباب.
ومما يحسن ذكره هنا أن ابن أبي الحديد لم ينقل كلما وقع إليه من أخبار الإمام بالمغيبات، بل حقق فيما وقع إليه من ذلك فطرح المشتبه أمره، وذكر ما صح عنه (عليه السلام).
قال ابن أبي الحديد:
(.. وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم (79) فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه، ووجدت في كثير منها اختلالاً ظاهراً. وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام وجدته متفرقاً في كتب مختلفة) (80) .
وعلل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذة في الإمام بقوله:
(واعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه الكفاية (81) ، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية. فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا على أن يريد به عموم العالمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، ممّا اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله لعلمه..) (82) .
ولابن أبي الحديد هذا نص طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الإمام بالمغيبات، نذكره لطرافته، ولما له من الصلة ببحثنا هذا، على أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن الحديد ذكره في هذا النص وذكره في مناسبات أخرى. قال:
(.. وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.
كإخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته).
وإخباره عن قتل الحسين ابنه (عليهما السلام)، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها.
وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده.
وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمرو.
وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان.
وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب.
وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص (عليه السلام) إلى البصرة لحرب أهلها.
وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه: (خب ضب، يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش).
وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج...
وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون بـ(بني رزيق) وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية.
وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله إنه يقتل عند أحجار الزيت.
وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباخمرا: (يقتل بعد أن يظهر ويُقهَر بعد أن يَقهَر).
وقوله أيضاً: (يأتيه سهم غرب تكون فيه منيته، فيا بؤساً للرامي شُلّتْ يده ووهنَ عضده).
وكإخباره عن قتلى وجّ وقوله فيهم: (هم خير أهل الأرض).
وكإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله، وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي، وهو أولهم: (ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء المسجي بالرداء). وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، رخص البدن، تارّ الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد (عليهما السلام) وهو المسجي بالرداء لأن أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.
وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: (ويخرج من ديلمان بنو الصياد) إشارة إليهم، وكان أبوهم صياد السمك، يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله (عليه السلام) فيهم: (ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء)، فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: (مائة أو تزيد قليلاً). وكقوله فيهم: (والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة) وهو إشارة إلى عزّ الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه. فأما خلعه للخلفاء، فإن معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر. وكانت مدة ملكهم كما أخبر به (عليه السلام).
وكإخباره (عليه السلام) لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي (عليه السلام)، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك.
وكم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ممّا لو أردنا استقصاءه لكسرنا كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (83) .
وقال:
(.. والمراد بقوله: فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول، وقد صدّق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم وليس عن طريق الصدفة والاتفاق) (84) .
ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في النص السابق وأتى على ذكره في مناسبات أخرى.
1 - لما شجرهم (85) - الخوارج - علي (عليه السلام) بالرماح قال: (اطلبوا ذا الثدية) فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به وإذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور، فكبّر علي (عليه السلام) وكبّر الناس معه (86) .
2 - قال (عليه السلام) لمن قال له: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة الشعر، بعد كلام: (.. وإن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).
قال ابن أبي الحديد: وكان ابنه، قاتل الحسين (عليه السلام) طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي (87) .
3 - وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له، فقال (عليه السلام): والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب، فقال: انت حبيب بن حمار؟ قال: نعم، فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار، فقال: إي والله، قال: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب، وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة. قال ثابت - وهو راوي الحديث -: فوالله ما مات حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي (عليهما السلام)، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل (88) .
4 - كان جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي (عليه السلام): يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء، فقال علي (عليه السلام): (وإنها لهي هذه السلقلقة الجلعة الجعة، وإنها لهي هذه الشبيهة بالرجال والنساء التي ما رأت دماً قط)، قال يزيد الأحمسي - وهو راوي الحديث -: فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها عمرو بن حريث، فلما صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك، فلما دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشفها وقالت: أنا والله كما قال، لي ركب النساء وأنثيان كأنثيي الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها، ورجع إلى مجلسه مع الإمام (عليه السلام) فحدث بذلك (89) .
5 - قام أعشى باهلة وهو يومئذ غلام حدث إلى علي (عليه السلام)، وهو يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة.
فقال علي (عليه السلام):
(إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف)، ثم سكت.
فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟
قال: (غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه).
فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟
قال: عشرين إن بلغها.
قالوا: فيقتل قتلاً أم يموت موتاً؟
قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.
قال إسماعيل بن رجاء - وهو الراوي - فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس (90) .
6 - قال (عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث:
(يا عمرو إنك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس نقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموا برمتك، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك).
قل شمير بن سدير الأزدي - وهو الراوي - فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (91) .
7 - دخل جويرية بن مسهر العبدي على علي (عليه السلام) يوماً وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية:
أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب بها لحيتك.
قال حبة العرني - وهو الراوي - فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: (وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي بيده لتتلنّ إلى العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر).
قال حبة العرني: فوالله ما مضت الأيام على ذلك، حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب ابن مكعبر وكان جذعاً طويلاً فصلبه على جذع قصير إلى جانبه (92) .
8 - قال الإمام لميثم التمار يوماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص:
(يا ميثم إنك تؤخذ بعدي وتُصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتى يخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طُعنت بحربة تقضي عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تُصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، يعني الأرض، ولأرينك النخلة التي تُصلب على جذعها). ثم أراه إيّاه بعد ذلك بيومين.
وقد تحققت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام (93) .
9 - روى إبراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي إلى زياد بن النضر الحارثي أنه قال:
كنت عند زياد وقد أتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي (عليه السلام)، فقال له زياد: ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه، خلو سبيله، فلما أراد أن يخرج، قال: ردوه، لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا سوءً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم. فقال: اصلبوه خنقاً في عقنه، فقال رشيد: قد بقي لكم عندي شيء ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال: نفّسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (94) .
10 - حدث سعد بن وهب، فقال في حديث:
فأتيته - يعني علياً (عليه السلام) - في كربلاء، فوجدته يشير بيده ويقول: هاهنا هاهنا فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: (ثقل لآل محمد (صلّى الله عليه وآله) ينزل هاهنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم). فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: (ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار) (95) .
11 - ذكر ابن أبي الحديد تتمة خطبته في الملاحم تنبأ فيها الإمام بأن السلاح سيحمل على الظهر بقوله: (... وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم..) وكأنه يشير بذلك إلى البندقية وما إليها من الأسلحة الحديثة، وتنبأ فيها بولاية الحجاج ويوسف بن عمر (96) .
12 - قال ابن الحديد: .. ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة: (ينتحلون لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا).
قال ابن أبي الحديد: وصح ما أخبر به، لأن القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقاً كثيراً وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني. وفي هذه الخطبة قال، وهو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: (كأني بالحجر الأسود منصوباً هنا، ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأُسه، يمكث هنا برهة، ثم هاهنا برهة - وأشار إلى البحرين - ثم يعود إلى مأواه وأم مثواه). ووقع الأمر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به (97) .