سيهاتي 1
28-08-2008, 01:33 AM
من كرامات الإمام الرضا عليه السلام
أيدي الرجاء
فتحت النافذة، فمرَّ نسيم السهل يتهادى بعذوبة ورَواء، وسَرَت إلى كيانها برودة الصباح. تنفّست نفساً عميقاً، ثمّ عادت وألقت نظرة على نُول الحياكة المستند إلى الحائط المقابل في داخل الغرفة، لَكأنّها تود لو تحسّ بنعومة الأزهار التي قضت أياماً في حياكتها وإبداعها. تطلّعت إلى (كُبّات) الصوف الملوّنة المعلّقة في أعلى النُّول، ثمّ هبّطت بصرها إلى السجادة التي ما تزال تحت الشغل، حدّقت بالأزهار التي ستتجلّى في نسيج السجّادة بإبداع أصابعها الماهرة، وكأنّها شتلات في حديقة، وفي وسط السجادة ينبغي أن تكمل صورة لطائرين متقابلَين ينظر أحدهما إلى الآخر نظرة حبّ.
وسَرَحت لحظة مع الخيال، تراءى لها سهل أخضر فسيح، وجدت نفسها في وسطه على حصان جميل أبيض اللون، يمسك بزمامه رجل شاب يبتسم، لكنّها سُرعانَ ما عادت إلى نفسها بارتباكِ عذراء مُستَحيية، تلفّتت يمنةً ويسرة. لم تكن الأمّ في الغرفة، واصطبغت وجنتاها بحمرة الحياء، ثمّ استجمعت همّتها وشرعت تشتغل بالحياكة.
قالت لها أمّها مِن قبل:
ـ إنّ هذه السجّادة ليست للبيع.
ثمّ أضافت:
ـ هذه السجّادة لزواجك.
وقرّ عزمها على أن تحوك أفضل سجّادة ممكنة، وبأحسن ما تقدر عليه من المهارة والإتقان، فكرها يذهب إلى المستقبل، ويداها تشتغلان بلباقة وسرعة وهما تعقدان على سَدى النُّول خيوط النسيج الملوّنة: أصفر، بُنيّ، أخضر، أزرق. ثمّ مدّت يدها لتتناول الخيط الأحمر، لكنّها لم تدرِ كيف فاجأها بغتة وفي لحظة سريعة ألم حادّ، لفَّ كلّ كيانها، كأنّ ناراً قد اضطرمت منها في كلّ مكان، وراحت تتلوّى، ويدها مشتبكة بخيوط النسيج، ومن بين فكَّيها التي كانت تضغطهما بقوّة أصدرت أنّةَ ألم مختنقة، وسقطت من النُّول كُبّة الخيوط الحمراء، وتدجرجت حتّى بلغت باب الغرفة ساحبةً وراءها خطّاً نحيفاً من الخيط الأحمر.
باعَدَت بين أجفانها، فأبصرت أمّها جالسة عند فراشها، كان الدكتور قد ذهب بعد أن نصح بنقلها على جناح السرعة إلى طهران، لإجراء الفحوصات اللازمة، وقرأت هي القلق على مُحيّا الأمّ، وحاولت أن تضحك:
ـ أشفى يا ماما. المسألة بسيطة.. لا شيء.
ابتسمت الأمّ ابتسامة تعبّر ـ أكثر ما تعبّر ـ عن الأسى والحزن، كانت تفكّر بكلام الطبيب:
ـ إذا تأخّر إجراء العمليّة فمن الممكن أن تتلف كليتاها جميعاً.
كان الألم يتمشّى في عروقها، حاولت القيام، فلم تستطع.
قالت الأم: لازم نأخذك إلى طهران، هكذا قال الدكتور .
استدرات الفتاة تتطلّع إلى السجادة التي لم تكتمل، وكانت كُبّة الخيوط الحمراء ما تزال محلولة على الأرض.
يمرّ ظلّ معتم من أمام عينيها، لم تتعرّف فيه على وجه أمّها المتغضِّن البائس إلاّ بعد لحظات،
ابتسمت الأمّ بمرارة: الأطبّاء يقولون تتحسّنين إن شاء الله.
وأدرات الأمّ ظهرها، لكنّ اهتزاز كتفَيها وصوت عَبرتها المختنقة كانا يقولان شيئاً آخر.
انسلخَتْ ثلاث من السنوات، أُجريت لها في خلالها ثلاث عمليّات جراحيّة، وبعدها فقد الأطبّاء أيّ بارقة أمل:
ـ أمعاؤكِ قد تعفّنت، وتَلفَت الكليتان. نحن نعمل ما نستطيع، والبقيّة على الله.
ثلاث سنوات من الآلام والأوجاع والمشقّات. وها هي ذي قد أمست نحيفة ناحلة الجسم واهنة القوى لا تقدر على شيء، والسجّادة التي ظلّت على النصف ما تزال مصلوبة، الغبار المتراكم دفن تحته الأزهار الحمراء، والطائران اللذان لم تكمل حياكتهما كأنهما في مقبرة للأموات، لقد ضاع منها كلّ شيء. وماتت الآمال.
تهبّ نسمة دافئة من نافذة سيّارة الركّاب الكبيرة إلى الداخل، تلاطف النسمة وجهها الشاحب العليل، أفكار مشتّتة في ذهنها تدور: الحصان الأبيض، أزهار السجّادة، السهل الأخضر، كُبّة الخيوط الحمراء، الأمّ، والأوجاع التي رافقتها طيلة هذه السنوات الثلاث، وها هي ذي تصل إلى آخر الخطّ ، الأطبّاء اعترفوا بصراحة أنهم غير قادرين على شيء، بكت الأمّ، وبكت هي كذلك.
وها هما الآن ذاهبتان بالحافلة، إلى الإمام الرضا (عليه السّلام)، وعلى مشارف مدينة مشهد توقّفت الحافلة قليلاً، وجذب نظر الفتاة منظر القبّة الذهبيّة المتألّقة التي تتلامع من بعيد، فتمتمت بصوتٍ حفيض:
ـ السّلام عليك يا مولاي يا عليّ بن موسى الرضا.
كان الحرم مغموراً بنور مدهش كلّه عظمة وجلال، وتعطّرت مشامُّها بنسيم الليل المجبول من ماء الورد، هي ذي واقفة عند الباب، انحنت أمام القبّة الرضويّة وهمست بالسّلام. الألم لا يدعها لحظة تستريح، وتهالكت جالسةً عند الباب، ثمّ دسّت رأسها ووجهها تحت عباءتها السوداء، من عمق وجودها انبثقت دمعتان سالتا منها على الخدّين، رفعت رأسها. فتجلّت لها القبّة الذهبيّة أكثر جلالاً وعظَمة؛ لقد كانت تنظر إليها من خلال الدموع.
جلست لحظات وعيناها مشدودتان إلى القبّة الباسقة. العابرون يمرّون من قربها، لكنها لم تكن تبصر منهم أحداً، عيناها لا تَرَيان إلاّ هذه القبّة الرفيعة المتألّقة بالنور، شيء يتحرّك في أعماق فؤادها، وماثَمّ سواها مَن يعلم ماذا كان يجول في أعماق الفؤاد، ثمّ قامت واقفة، وصعّدت نفَساً عميقاً كانت تحبسه في الصدر.
أمام الشباك الفولاذيّ، تجمهر فوج من الناس كبير، كلٌّ قد رُبط هنا «دخيلاً» عند الإمام الرؤوف، كانت تتخطّاهم على مهل، حتّى وقفت قبالة النافذة العريضة، شاهدت خيوطاً كثيرة وقطعاً من القماش معقودة على مشبّك النافذة. وأخذتها «حالة»، فتدفّقت فجأة من عينيها أمطار الدموع، انخرطت في البكاء، بلا خجل من أحد، وقعدت عند النافذة، جيث يلوح من وراء المشبّك جلال الضريح، أخفَتْ رأسها تحت عباءتها، وأخذت تنتحب نحيباً متعالياً. لكنّه كان يغيب بين أصوات ضراعات الحاضرين التي تتصاعد من كلّ مكان، ولم تدرِ كم من الوقت ظلّت على هذه الحالة حينما بدأ يهيمن عليها النوم.
لم تكن تعلم أنامت حقّاً أم أنّها كانت مستيقظة: امرأتان ورجل على مسافة منها جالسون. نَسِيَت أين هي الآن، ولم تَعُد تتذكّر أيّ شيء. دائخة كانت، قد سلبها الألم كلّ قدرة على التفكير. وسمعت صوتاً! كأنّ أحداً يخاطبها:
ـ قُومي.
هزّت رأسها:
ـ لا أقدر.
إحدى المرأتين التفت إلى الرجل قائلة:
ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا.
هي تتلوّى من الألم، مطأطئةً رأسها تحت العباءة، لا ترى إلاّ قدمَي الرجل الذي يتقدّم إليها، وإلاّ يده التي مسحت على رأسها بحنان. وبغتةً.. سطع نور في مقابل عينيها، حتّى غرق كلّ شيء في لجّة النور.
فتحَت عينيها، ما تزال تبلغ مسامعَها أصوات الحاضرين المرتفعة بالِّذكر والمناجاة، كم من الوقت قد أغفَت ؟ لا تدري، تذكّرت أمّها، لعلّها استبطَأتْها فقلقَتْ عليها، وحاولت أن تستذكر ما رأته قبل قليل، وفاجأها أنّها انتبهت إلى نفسها، وتفطّنت إلى أنّ وضعها طبيعيّ! طبيعيّ جدّاً، فلا آلام ولا أوجاع! واشتملت عليها الدهشة لحظات.
وتذكّرت كلّ شيء: تلكما المرأتين، وذلكم الرجل، والصوت الذي قال:
ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا.
شبكت أصابعها على الشبّاك، وألصقت رأسها به، وراحت تبكي من القلب، ويعلو منها البكاء، بكاء ترفرف في أعماقه المسرّة ويموج فيه الحبّ العظيم، ما ثمّة من ألم يؤذيها وينغّص عليها أيّام الحياة.
في خيالها: أزهار السجّادة الحمراء وهي تهتزّ مرحةً بنسيم السهل الأخضر، وعلى كتفها حطّ طائرا السجّادة يغرّدان بابتهاج، وكانت هي ما تزال تبكي بكاء الفرح والامتنان.
ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة، من مجلة الزائر ـ العدد 31 تشرينالثاني 1996
أيدي الرجاء
فتحت النافذة، فمرَّ نسيم السهل يتهادى بعذوبة ورَواء، وسَرَت إلى كيانها برودة الصباح. تنفّست نفساً عميقاً، ثمّ عادت وألقت نظرة على نُول الحياكة المستند إلى الحائط المقابل في داخل الغرفة، لَكأنّها تود لو تحسّ بنعومة الأزهار التي قضت أياماً في حياكتها وإبداعها. تطلّعت إلى (كُبّات) الصوف الملوّنة المعلّقة في أعلى النُّول، ثمّ هبّطت بصرها إلى السجادة التي ما تزال تحت الشغل، حدّقت بالأزهار التي ستتجلّى في نسيج السجّادة بإبداع أصابعها الماهرة، وكأنّها شتلات في حديقة، وفي وسط السجادة ينبغي أن تكمل صورة لطائرين متقابلَين ينظر أحدهما إلى الآخر نظرة حبّ.
وسَرَحت لحظة مع الخيال، تراءى لها سهل أخضر فسيح، وجدت نفسها في وسطه على حصان جميل أبيض اللون، يمسك بزمامه رجل شاب يبتسم، لكنّها سُرعانَ ما عادت إلى نفسها بارتباكِ عذراء مُستَحيية، تلفّتت يمنةً ويسرة. لم تكن الأمّ في الغرفة، واصطبغت وجنتاها بحمرة الحياء، ثمّ استجمعت همّتها وشرعت تشتغل بالحياكة.
قالت لها أمّها مِن قبل:
ـ إنّ هذه السجّادة ليست للبيع.
ثمّ أضافت:
ـ هذه السجّادة لزواجك.
وقرّ عزمها على أن تحوك أفضل سجّادة ممكنة، وبأحسن ما تقدر عليه من المهارة والإتقان، فكرها يذهب إلى المستقبل، ويداها تشتغلان بلباقة وسرعة وهما تعقدان على سَدى النُّول خيوط النسيج الملوّنة: أصفر، بُنيّ، أخضر، أزرق. ثمّ مدّت يدها لتتناول الخيط الأحمر، لكنّها لم تدرِ كيف فاجأها بغتة وفي لحظة سريعة ألم حادّ، لفَّ كلّ كيانها، كأنّ ناراً قد اضطرمت منها في كلّ مكان، وراحت تتلوّى، ويدها مشتبكة بخيوط النسيج، ومن بين فكَّيها التي كانت تضغطهما بقوّة أصدرت أنّةَ ألم مختنقة، وسقطت من النُّول كُبّة الخيوط الحمراء، وتدجرجت حتّى بلغت باب الغرفة ساحبةً وراءها خطّاً نحيفاً من الخيط الأحمر.
باعَدَت بين أجفانها، فأبصرت أمّها جالسة عند فراشها، كان الدكتور قد ذهب بعد أن نصح بنقلها على جناح السرعة إلى طهران، لإجراء الفحوصات اللازمة، وقرأت هي القلق على مُحيّا الأمّ، وحاولت أن تضحك:
ـ أشفى يا ماما. المسألة بسيطة.. لا شيء.
ابتسمت الأمّ ابتسامة تعبّر ـ أكثر ما تعبّر ـ عن الأسى والحزن، كانت تفكّر بكلام الطبيب:
ـ إذا تأخّر إجراء العمليّة فمن الممكن أن تتلف كليتاها جميعاً.
كان الألم يتمشّى في عروقها، حاولت القيام، فلم تستطع.
قالت الأم: لازم نأخذك إلى طهران، هكذا قال الدكتور .
استدرات الفتاة تتطلّع إلى السجادة التي لم تكتمل، وكانت كُبّة الخيوط الحمراء ما تزال محلولة على الأرض.
يمرّ ظلّ معتم من أمام عينيها، لم تتعرّف فيه على وجه أمّها المتغضِّن البائس إلاّ بعد لحظات،
ابتسمت الأمّ بمرارة: الأطبّاء يقولون تتحسّنين إن شاء الله.
وأدرات الأمّ ظهرها، لكنّ اهتزاز كتفَيها وصوت عَبرتها المختنقة كانا يقولان شيئاً آخر.
انسلخَتْ ثلاث من السنوات، أُجريت لها في خلالها ثلاث عمليّات جراحيّة، وبعدها فقد الأطبّاء أيّ بارقة أمل:
ـ أمعاؤكِ قد تعفّنت، وتَلفَت الكليتان. نحن نعمل ما نستطيع، والبقيّة على الله.
ثلاث سنوات من الآلام والأوجاع والمشقّات. وها هي ذي قد أمست نحيفة ناحلة الجسم واهنة القوى لا تقدر على شيء، والسجّادة التي ظلّت على النصف ما تزال مصلوبة، الغبار المتراكم دفن تحته الأزهار الحمراء، والطائران اللذان لم تكمل حياكتهما كأنهما في مقبرة للأموات، لقد ضاع منها كلّ شيء. وماتت الآمال.
تهبّ نسمة دافئة من نافذة سيّارة الركّاب الكبيرة إلى الداخل، تلاطف النسمة وجهها الشاحب العليل، أفكار مشتّتة في ذهنها تدور: الحصان الأبيض، أزهار السجّادة، السهل الأخضر، كُبّة الخيوط الحمراء، الأمّ، والأوجاع التي رافقتها طيلة هذه السنوات الثلاث، وها هي ذي تصل إلى آخر الخطّ ، الأطبّاء اعترفوا بصراحة أنهم غير قادرين على شيء، بكت الأمّ، وبكت هي كذلك.
وها هما الآن ذاهبتان بالحافلة، إلى الإمام الرضا (عليه السّلام)، وعلى مشارف مدينة مشهد توقّفت الحافلة قليلاً، وجذب نظر الفتاة منظر القبّة الذهبيّة المتألّقة التي تتلامع من بعيد، فتمتمت بصوتٍ حفيض:
ـ السّلام عليك يا مولاي يا عليّ بن موسى الرضا.
كان الحرم مغموراً بنور مدهش كلّه عظمة وجلال، وتعطّرت مشامُّها بنسيم الليل المجبول من ماء الورد، هي ذي واقفة عند الباب، انحنت أمام القبّة الرضويّة وهمست بالسّلام. الألم لا يدعها لحظة تستريح، وتهالكت جالسةً عند الباب، ثمّ دسّت رأسها ووجهها تحت عباءتها السوداء، من عمق وجودها انبثقت دمعتان سالتا منها على الخدّين، رفعت رأسها. فتجلّت لها القبّة الذهبيّة أكثر جلالاً وعظَمة؛ لقد كانت تنظر إليها من خلال الدموع.
جلست لحظات وعيناها مشدودتان إلى القبّة الباسقة. العابرون يمرّون من قربها، لكنها لم تكن تبصر منهم أحداً، عيناها لا تَرَيان إلاّ هذه القبّة الرفيعة المتألّقة بالنور، شيء يتحرّك في أعماق فؤادها، وماثَمّ سواها مَن يعلم ماذا كان يجول في أعماق الفؤاد، ثمّ قامت واقفة، وصعّدت نفَساً عميقاً كانت تحبسه في الصدر.
أمام الشباك الفولاذيّ، تجمهر فوج من الناس كبير، كلٌّ قد رُبط هنا «دخيلاً» عند الإمام الرؤوف، كانت تتخطّاهم على مهل، حتّى وقفت قبالة النافذة العريضة، شاهدت خيوطاً كثيرة وقطعاً من القماش معقودة على مشبّك النافذة. وأخذتها «حالة»، فتدفّقت فجأة من عينيها أمطار الدموع، انخرطت في البكاء، بلا خجل من أحد، وقعدت عند النافذة، جيث يلوح من وراء المشبّك جلال الضريح، أخفَتْ رأسها تحت عباءتها، وأخذت تنتحب نحيباً متعالياً. لكنّه كان يغيب بين أصوات ضراعات الحاضرين التي تتصاعد من كلّ مكان، ولم تدرِ كم من الوقت ظلّت على هذه الحالة حينما بدأ يهيمن عليها النوم.
لم تكن تعلم أنامت حقّاً أم أنّها كانت مستيقظة: امرأتان ورجل على مسافة منها جالسون. نَسِيَت أين هي الآن، ولم تَعُد تتذكّر أيّ شيء. دائخة كانت، قد سلبها الألم كلّ قدرة على التفكير. وسمعت صوتاً! كأنّ أحداً يخاطبها:
ـ قُومي.
هزّت رأسها:
ـ لا أقدر.
إحدى المرأتين التفت إلى الرجل قائلة:
ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا.
هي تتلوّى من الألم، مطأطئةً رأسها تحت العباءة، لا ترى إلاّ قدمَي الرجل الذي يتقدّم إليها، وإلاّ يده التي مسحت على رأسها بحنان. وبغتةً.. سطع نور في مقابل عينيها، حتّى غرق كلّ شيء في لجّة النور.
فتحَت عينيها، ما تزال تبلغ مسامعَها أصوات الحاضرين المرتفعة بالِّذكر والمناجاة، كم من الوقت قد أغفَت ؟ لا تدري، تذكّرت أمّها، لعلّها استبطَأتْها فقلقَتْ عليها، وحاولت أن تستذكر ما رأته قبل قليل، وفاجأها أنّها انتبهت إلى نفسها، وتفطّنت إلى أنّ وضعها طبيعيّ! طبيعيّ جدّاً، فلا آلام ولا أوجاع! واشتملت عليها الدهشة لحظات.
وتذكّرت كلّ شيء: تلكما المرأتين، وذلكم الرجل، والصوت الذي قال:
ـ أعِنْها.. يا أخي الرضا.
شبكت أصابعها على الشبّاك، وألصقت رأسها به، وراحت تبكي من القلب، ويعلو منها البكاء، بكاء ترفرف في أعماقه المسرّة ويموج فيه الحبّ العظيم، ما ثمّة من ألم يؤذيها وينغّص عليها أيّام الحياة.
في خيالها: أزهار السجّادة الحمراء وهي تهتزّ مرحةً بنسيم السهل الأخضر، وعلى كتفها حطّ طائرا السجّادة يغرّدان بابتهاج، وكانت هي ما تزال تبكي بكاء الفرح والامتنان.
ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة، من مجلة الزائر ـ العدد 31 تشرينالثاني 1996