سيهاتي 1
30-08-2008, 08:02 AM
من كرامات الإمام الرضا (عليه السلام)
الإغتسال بماء الحياة
شاع بين سَكَنة الزقاق أنّ السيدة أحمدي قد اشتدّ عليها المرض. كلّهم يعرف أنّ حياتها العائليّة قد انقلبت رأساً على عقب منذ ظهرت في دماغها تلك الغدّة القاتلة، ولم تَذُق طعم الاستقرار. أمّا هي فقد تعوّدت أن تسمع من جاراتها عبارات الاستطلاع أو كلمات المواساة:
ـ ماذا قال الأطبّاء آخر مرّة ؟
ـ أخبِريني عن نتيجة التصوير الأخير، إن شاء الله لا يوجد شرّ.
ـ الله يكون في عونك أيّتها السيدة أحمدي، ونتمنّى لك عافية سريعة.
ـ هل قالوا لك عن عمليّة جراحيّة ؟.. متى؟
ـ يا حسرتي عليك، الله يخلّيكِ لأطفالك، ويدفع عنك المكروه. الإمام الرضا ينظر إليك بعين العطف.
ألِفَتْ مثل هذه العبارات، وكانت تجيب عنها ـ أو لا تجيب ـ وهي مغرورقة العينين بالدموع، وطالما ذرفت بعض عائداتُها دموعَ العين ودَعَون لها بالعافية والسلامة من هذا البلاء الذي نزل عليها على حين غفلة، فأحال نشاطها الدائب الذي عُرفت به إلى نحول ووجوم، وصيّر أيامها زمناً موصول الليل بالنهار يسكنه قلق مُمِضّ وآلام مُبرِّحة تُعاودها بين الحين والحين.
هي الآن وجهاً لوجه أمام المصير القريب الذي يكاد يجرفها من هذه الدنيا إلى عالم البرزخ والآخرة، إنّها لَتعتقد بالبرزخ والآخرة حقّاً، لكنّها لم تستعدّ للانتقال إلى ذلك العالم بعد، إنّها متشبّثة بالبقاء هنا، هنا أطفالها وزوجها وعيشتها، وآمالها العريضة، لم تكن قد فكّرت أنّها ستموت بهذه السرعة وبهذه البساطة، بسبب غدّة مفاجئة في الدماغ لا يتجاوز حجمها حجم حبّة الحمّص! وايْ، ما أخطر هذه الحياة التي يمكن أن يقضي أيُّ شيء فيها على الإنسان دون أن يستشيره أو يستأذنه!
لم يكن أمامها من سبيل سوى الاستسلام لقرار الأطبّاء.
العملية الجراحية لا مفرّ منها كأنّها الموت المحتوم، عليها أن تقصّ ضفائرها وتحلق شعر رأسها ثم ترقد في صالة العمليّات لفتح قحف الرأس واستئصال الغدّة البغيضة استئصالاً محفوفاً بالأخطار، وهي لا تعرف على وجه الدقّة كم هو نصيبها من البقاء على قيد الحياة، ولا الأطبّاء أنفسهم يعرفون، إنّها مغامرة ينقبض لها قلبها كلّما تذكّرتها أو ذكّرها بها أحد، ولكن.. لابدّ من الذهاب إلى المستشفى في اليوم الموعود.
في اليوم الموعود كان عليها أن تكون حاضرة في المستشفى قبيل الظهر، ولمّا ارتفع الضحى خرجت من دارها إلى الزقاق لوداع جاراتها وصديقاتها في بيوتهنّ القريبة، كانت ترشح من كلماتها ـ وهي تودّع الجارات وتطلب منهنّ إبراء ذمّتها من كلّ شيء ـ رائحة الموت.
سألتها جارة لها كهلة السنّ باستغراب:
ـ إلى أين ؟! إن شاء الله خير!
قالت بانكسار بيّن:
ـ إلى المصير، اليوم يوم العملية.. فَتْح الرأس!
تغرغرت عينا المرأة الكهلة بالدموع، وباح وجهها بعلامات المحبة والشفقة، وراحت تحتضنها وتقبّل كتفها، ثمّ قالت لها بنبرة يشيع فيها حنان ممتزج بعبرةٍ مكتومة:
ـ أنتِ نفّذتِ كلّ وصايا الأطبّاء لاستعادة عافيتك، وعملتِ بكل ما قالوه، أنا أيضاً لديّ وصيّة، عليك أن تأخذيها بجدّ وتعملي بها.. أرجوك.
نظرت إليها السيدة أحمدي بعينيها الذابلتين نظرة استطلاع، وفكّرت في نفسها: ماذا تريد أن تقول أمّ حسين ؟ عَرَفَتها دائماً حيّة الضمير متوازنة الشخصية.. لكن ماذا تريد أن تقول لها في اللحظة الأخيرة ؟!
تابعت الجارة أمّ حسين:
ـ أنتِ تدرين أنّ المعيشة في مشهد تحت ظلّ الإمام الرضا عليه السّلام هي عزّة وافتخار، ووصيّتي لك أن تروحي الآن إلى حَرَمه قبل أن تستسلمي لسكّين الجرّاح، لعلّه إذا سمع كلامك يمنّ عليك بالعافية، إنّه إمام رؤوف.. رأفته فوق تصوّرنا نحن البشر.
أطرقت السيدة أحمدي برأسها إلى الأرض لحظة، ثم رفعته قائلة:
ـ مئات المرّات ذهبت، ولكن بلا نتيجة!
ـ اذهبي هذه المرّة بقلب منكسر، القلب المنكسر لا يعرف قَدْرَه يا ابنتي إلاّ الله، تقدّمي إليه خطوة محبّة، تسمعي صوت خطوته بمعرفة، إذهبي إليه يا ابنتي، اذهبي.
ارتفعت في الزقاق أصوات مختلطة تتخلّلها الزغاريد. أمّ حسين ذهبت أيضاً لتهنئتها مع أعداد الذاهبات اللاتي تركن أعمالهنّ في المنزل وأسرعن إلى دار السيدة أحمدي بعد أن انتشر خبرها في الزقاق وفي الأزقّة المجاورة، دخلت أمّ حسين باب دار السيدة أحمدي فارتفع صوتها بالصلوات:
ـ اللهمّ صلِّ على محمد وآل محمد.
وودّت لو تُطلق زغردة ابتهاج، لكنّ امرأة أخرى من الحاضرات سبقتها في تلك اللحظة بزغردة طويلة ضاحكة، إنّه يوم فرح وسرور، فرح مفاجئ ما كان يخطر ببال السيدة أحمدي في غرفة الاستقبال ضاحكة مستبشرة تحيط بها بعض صديقاتها وقريباتها، وكأنّها في حلم لم تستفق منه بعد، لكنّها لمّا لمحت أم حسين مقبلة إليها قامت واقفة واحتضنتها بمحبّة وعرفان للجميل.
ـ الله يطوّل عمرك، الله يخلّي لك أولادك يا أمّ حسين، الله يعطيك العافية بحقّ الحسين.
لاحظت أمّ حسين أنّ مُحيّا السيدة رباب أحمدي قد غدا غير ما كان عليه قبل ثلاثة أيّام حين جاءت لتوديعها، إنّه يطفح اليوم بحيويّة فيّاضة وينطق بعافية مفاجئة، كما قرأت فيه معنىً من العمق الغامض لا عهد لها به، وتساءلت في نفسها: أهذه هي السيدة أحمدي نفسها ؟! سبحان الله! لكأنّها خارجة توّاً من ينبوع صافٍ عجيب اغتسلت فيه بماء الحياة.
سألتها أمّ حسين، بعد أن قعدت إلى جوارها:
ـ إحكي لي.. احكي لي ماذا حدث لك ؟ ماذا فعلتِ ؟
قالت السيدة أحمدي وهي تبتسم ابتسامة صادرة من عمق وجودها:
ـ أنا ماذا فعلتُ ؟! لا شيء! بل قُولي: ماذا فعل الإمام الرضا روحي فداه ؟
ندّت منها ضحكة مؤدَّبة بغير إرادتها، وراحت تنقّل نظرها بمحبة بين النسوة الجالسات، ثمّ عاودت النظر إلى أمّ حسين، وأخذت تقصّ الواقعة.
دخلت السيد أحمدي في الصحن العتيق، وما إن وقع نظرها على القبّة الذهبية العالية المتلألئة في أشعة الشمس حتّى اندفعت تحدّث الإمام الرضا عليه السّلام:
ـ انقطع أملي يا مولاي، جئتك مرّات، أنت تعرف، اليوم امرأة من محبيّك أعادت ليَ الأمل.. وها أنا جئت هذه المرّة طالبة الشفاء. أملي.. أملي أن تَقبَلَني يا ابن الزهراء.. فقدتُ كل شيء.. أرجوك يا سيدي، أرجوك.
خشع قلب السيدة رباب أحمدي، وجرت على خدّيها الدموع وهي لا تشعر بمَن حواليها، ثمّ اتّجهت إلى داخل الروضة المقدّسة. خلعتْ حذاءها عند باب الروضة وسلّمته إلى مسؤول مستودع الأحذية.
خَطَت في داخل الروضة خطوات، تراءت لها على بُعدِ أمتار قليلة حجرة قائمة هناك، وفيما كانت تتطلع حواليها أذهلها أنّها رأت حصانين على يسارها يأكلان العلف.
ـ يا إلهي.. أين أنا الآن ؟! ما هذه الحجرة التي أراها لأوّل مرّة ؟!
كانت الأمور تجري بسرعة مذهلة، خرج رجل من الحجرة، رجلاً إلهيّاً متميّزاً كان مديد القامة، يفيض بروحانيّة عُلويّة، ووجدت نفسها عاجزة عن النطق والسؤال، ناداها الرجل الإلهي:
ـ السيدة أحمدي، اركبي هذا الحصان، فأنت على سفر!
استجابت بلا اختيار وركبت الحصان، وركب هو الحصان الآخر. بدا لها أنّ للحصان جناحَين يقدر بهما على الطيران، أغلقت عينيها ثمّ فتحتهما بأمر منه، رأت أنّها في مكان آخر، هذه حجرة أيضاً، لكنها غير الأولى! ترجّل الرجل وترجّلت.. ودخلا الحجرة. في الداخل كان حرم واسع فيه أناس كثيرون مشغولون بأداء مراسم الزيارة، سارت خلف الرجل وهو يمضي في داخل الازدحام حتّى وصلا إلى الضريح، فانفتح بابه، في داخل الضريح كانت سيدة تحفّ بها الهيبة والجلال جالسة على أريكة، لكنها ما إن رأت هذا الرجل حتّى نهضت واقفة، تقدّمت إليه وأمسكت بكفّه وقبّلتها، تحدّثا قليلاً، ثمّ أوصى هذه السيدة المجلَّلة بالحشمة والوقار:
ـ أختاه، هذه المرأة من مجاورينا، وفي داخل رأسها غدّة، أتيتُ بها إليك لمداواتها.
قال هذا وخرج، أشارت السيدة الجليلة إليها أن تتقدّم، تقدّمت.. ووضعت رأسها في حجر هذه السيدة التي مسحت على رأسها بمحبّة، وقالت لها:
ـ قومي واذهبي، فقد عُوفيتِ من كلّ آلامك بتوصية أخي.
وجدت السيدة أحمدي نفسها إلى جانب الضريح الطاهر، وتذكّرت شيئاً فغلى قلبها:
ـ ويلاه! لقد تأخّرتُ! نسيتُ العملية والمستشفى!
وعلى الفور هرعت إلى مستودع الأحذية عند الباب لتأخذ حذاءها وتخرج، قدّمت الرقم إلى مسؤول المستودع قائلة:
ـ أرجوك بسرعة، أنا على عَجَل!
قال لها مسؤول المستودع بعد أن ألقى نظرة على الرقم:
ـ هذا الرقم ليس لمستودعنا!
قالت: لماذا تؤذيني ؟! ألا تستحي من الإمام الرضا ؟! لقد تأخّرتُ على العملية...
قال لها الرجل:ـ لا تضيّعي وقتي يا سيدة.
ـ لا أضيّع وقتك ؟! ما هذا الكلام ؟! يجب على خادم الإمام الرضا أن لا يؤذي الناس!
تدخّل زميل له كان إلى جانبه، ونظر إلى الرقم بدقّة، ثمّ تبادل الرجلان نظرة خاصّة.
قال زميله: ليس هنا حرم الإمام الرضا (عليه السّلام)، ونحن لسنا من خدّام الإمام الرضا (عليه السلام)!
وفجأة.. تجلّى أمامها كلّ المشهد الذي عاشته قبل قليل، فاندفعت تسأل كالذاهلة:
ـ إذَن.. أين أنا الآن ؟!
قال أحد الرجلين: هنا حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام)، أنت الآن في قم، في مدينة أخت الإمام الرضا (عليه السّلام).
سمعت السيدة أحمدي هذه الكلمات فلم تستطع أن تصدّق. ثمّ غابت ـ من هول الصدمة ـ عن الوعي، أفاقت السيدة أحمدي من غشيتها، فاتّصلت هاتفيّاً بأهلها في مشهد:
ـ إلحقُوني.. أنا في قم!
ـ قم ؟! وكيف ذهبتِ إلى قم ؟!
ـ مولاي الرضا نقلني إلى قم في طَرفة عين، أوصى أخته أن تداويني فداوتني.
كانت السيدة أحمدي تحكي للحاضرات ودموعها تسيل.. كما سالت دموع جاراتها والصديقات. أمّا أمّ حسين فقد أهوَت إلى الأرض في سجدة شكر طويلة.
تأليف: إبراهيم رفاعة، عن أصل الواقعة المنشور في مجلة الزائر، العدد 109 ، ايلول 2003 م
الإغتسال بماء الحياة
شاع بين سَكَنة الزقاق أنّ السيدة أحمدي قد اشتدّ عليها المرض. كلّهم يعرف أنّ حياتها العائليّة قد انقلبت رأساً على عقب منذ ظهرت في دماغها تلك الغدّة القاتلة، ولم تَذُق طعم الاستقرار. أمّا هي فقد تعوّدت أن تسمع من جاراتها عبارات الاستطلاع أو كلمات المواساة:
ـ ماذا قال الأطبّاء آخر مرّة ؟
ـ أخبِريني عن نتيجة التصوير الأخير، إن شاء الله لا يوجد شرّ.
ـ الله يكون في عونك أيّتها السيدة أحمدي، ونتمنّى لك عافية سريعة.
ـ هل قالوا لك عن عمليّة جراحيّة ؟.. متى؟
ـ يا حسرتي عليك، الله يخلّيكِ لأطفالك، ويدفع عنك المكروه. الإمام الرضا ينظر إليك بعين العطف.
ألِفَتْ مثل هذه العبارات، وكانت تجيب عنها ـ أو لا تجيب ـ وهي مغرورقة العينين بالدموع، وطالما ذرفت بعض عائداتُها دموعَ العين ودَعَون لها بالعافية والسلامة من هذا البلاء الذي نزل عليها على حين غفلة، فأحال نشاطها الدائب الذي عُرفت به إلى نحول ووجوم، وصيّر أيامها زمناً موصول الليل بالنهار يسكنه قلق مُمِضّ وآلام مُبرِّحة تُعاودها بين الحين والحين.
هي الآن وجهاً لوجه أمام المصير القريب الذي يكاد يجرفها من هذه الدنيا إلى عالم البرزخ والآخرة، إنّها لَتعتقد بالبرزخ والآخرة حقّاً، لكنّها لم تستعدّ للانتقال إلى ذلك العالم بعد، إنّها متشبّثة بالبقاء هنا، هنا أطفالها وزوجها وعيشتها، وآمالها العريضة، لم تكن قد فكّرت أنّها ستموت بهذه السرعة وبهذه البساطة، بسبب غدّة مفاجئة في الدماغ لا يتجاوز حجمها حجم حبّة الحمّص! وايْ، ما أخطر هذه الحياة التي يمكن أن يقضي أيُّ شيء فيها على الإنسان دون أن يستشيره أو يستأذنه!
لم يكن أمامها من سبيل سوى الاستسلام لقرار الأطبّاء.
العملية الجراحية لا مفرّ منها كأنّها الموت المحتوم، عليها أن تقصّ ضفائرها وتحلق شعر رأسها ثم ترقد في صالة العمليّات لفتح قحف الرأس واستئصال الغدّة البغيضة استئصالاً محفوفاً بالأخطار، وهي لا تعرف على وجه الدقّة كم هو نصيبها من البقاء على قيد الحياة، ولا الأطبّاء أنفسهم يعرفون، إنّها مغامرة ينقبض لها قلبها كلّما تذكّرتها أو ذكّرها بها أحد، ولكن.. لابدّ من الذهاب إلى المستشفى في اليوم الموعود.
في اليوم الموعود كان عليها أن تكون حاضرة في المستشفى قبيل الظهر، ولمّا ارتفع الضحى خرجت من دارها إلى الزقاق لوداع جاراتها وصديقاتها في بيوتهنّ القريبة، كانت ترشح من كلماتها ـ وهي تودّع الجارات وتطلب منهنّ إبراء ذمّتها من كلّ شيء ـ رائحة الموت.
سألتها جارة لها كهلة السنّ باستغراب:
ـ إلى أين ؟! إن شاء الله خير!
قالت بانكسار بيّن:
ـ إلى المصير، اليوم يوم العملية.. فَتْح الرأس!
تغرغرت عينا المرأة الكهلة بالدموع، وباح وجهها بعلامات المحبة والشفقة، وراحت تحتضنها وتقبّل كتفها، ثمّ قالت لها بنبرة يشيع فيها حنان ممتزج بعبرةٍ مكتومة:
ـ أنتِ نفّذتِ كلّ وصايا الأطبّاء لاستعادة عافيتك، وعملتِ بكل ما قالوه، أنا أيضاً لديّ وصيّة، عليك أن تأخذيها بجدّ وتعملي بها.. أرجوك.
نظرت إليها السيدة أحمدي بعينيها الذابلتين نظرة استطلاع، وفكّرت في نفسها: ماذا تريد أن تقول أمّ حسين ؟ عَرَفَتها دائماً حيّة الضمير متوازنة الشخصية.. لكن ماذا تريد أن تقول لها في اللحظة الأخيرة ؟!
تابعت الجارة أمّ حسين:
ـ أنتِ تدرين أنّ المعيشة في مشهد تحت ظلّ الإمام الرضا عليه السّلام هي عزّة وافتخار، ووصيّتي لك أن تروحي الآن إلى حَرَمه قبل أن تستسلمي لسكّين الجرّاح، لعلّه إذا سمع كلامك يمنّ عليك بالعافية، إنّه إمام رؤوف.. رأفته فوق تصوّرنا نحن البشر.
أطرقت السيدة أحمدي برأسها إلى الأرض لحظة، ثم رفعته قائلة:
ـ مئات المرّات ذهبت، ولكن بلا نتيجة!
ـ اذهبي هذه المرّة بقلب منكسر، القلب المنكسر لا يعرف قَدْرَه يا ابنتي إلاّ الله، تقدّمي إليه خطوة محبّة، تسمعي صوت خطوته بمعرفة، إذهبي إليه يا ابنتي، اذهبي.
ارتفعت في الزقاق أصوات مختلطة تتخلّلها الزغاريد. أمّ حسين ذهبت أيضاً لتهنئتها مع أعداد الذاهبات اللاتي تركن أعمالهنّ في المنزل وأسرعن إلى دار السيدة أحمدي بعد أن انتشر خبرها في الزقاق وفي الأزقّة المجاورة، دخلت أمّ حسين باب دار السيدة أحمدي فارتفع صوتها بالصلوات:
ـ اللهمّ صلِّ على محمد وآل محمد.
وودّت لو تُطلق زغردة ابتهاج، لكنّ امرأة أخرى من الحاضرات سبقتها في تلك اللحظة بزغردة طويلة ضاحكة، إنّه يوم فرح وسرور، فرح مفاجئ ما كان يخطر ببال السيدة أحمدي في غرفة الاستقبال ضاحكة مستبشرة تحيط بها بعض صديقاتها وقريباتها، وكأنّها في حلم لم تستفق منه بعد، لكنّها لمّا لمحت أم حسين مقبلة إليها قامت واقفة واحتضنتها بمحبّة وعرفان للجميل.
ـ الله يطوّل عمرك، الله يخلّي لك أولادك يا أمّ حسين، الله يعطيك العافية بحقّ الحسين.
لاحظت أمّ حسين أنّ مُحيّا السيدة رباب أحمدي قد غدا غير ما كان عليه قبل ثلاثة أيّام حين جاءت لتوديعها، إنّه يطفح اليوم بحيويّة فيّاضة وينطق بعافية مفاجئة، كما قرأت فيه معنىً من العمق الغامض لا عهد لها به، وتساءلت في نفسها: أهذه هي السيدة أحمدي نفسها ؟! سبحان الله! لكأنّها خارجة توّاً من ينبوع صافٍ عجيب اغتسلت فيه بماء الحياة.
سألتها أمّ حسين، بعد أن قعدت إلى جوارها:
ـ إحكي لي.. احكي لي ماذا حدث لك ؟ ماذا فعلتِ ؟
قالت السيدة أحمدي وهي تبتسم ابتسامة صادرة من عمق وجودها:
ـ أنا ماذا فعلتُ ؟! لا شيء! بل قُولي: ماذا فعل الإمام الرضا روحي فداه ؟
ندّت منها ضحكة مؤدَّبة بغير إرادتها، وراحت تنقّل نظرها بمحبة بين النسوة الجالسات، ثمّ عاودت النظر إلى أمّ حسين، وأخذت تقصّ الواقعة.
دخلت السيد أحمدي في الصحن العتيق، وما إن وقع نظرها على القبّة الذهبية العالية المتلألئة في أشعة الشمس حتّى اندفعت تحدّث الإمام الرضا عليه السّلام:
ـ انقطع أملي يا مولاي، جئتك مرّات، أنت تعرف، اليوم امرأة من محبيّك أعادت ليَ الأمل.. وها أنا جئت هذه المرّة طالبة الشفاء. أملي.. أملي أن تَقبَلَني يا ابن الزهراء.. فقدتُ كل شيء.. أرجوك يا سيدي، أرجوك.
خشع قلب السيدة رباب أحمدي، وجرت على خدّيها الدموع وهي لا تشعر بمَن حواليها، ثمّ اتّجهت إلى داخل الروضة المقدّسة. خلعتْ حذاءها عند باب الروضة وسلّمته إلى مسؤول مستودع الأحذية.
خَطَت في داخل الروضة خطوات، تراءت لها على بُعدِ أمتار قليلة حجرة قائمة هناك، وفيما كانت تتطلع حواليها أذهلها أنّها رأت حصانين على يسارها يأكلان العلف.
ـ يا إلهي.. أين أنا الآن ؟! ما هذه الحجرة التي أراها لأوّل مرّة ؟!
كانت الأمور تجري بسرعة مذهلة، خرج رجل من الحجرة، رجلاً إلهيّاً متميّزاً كان مديد القامة، يفيض بروحانيّة عُلويّة، ووجدت نفسها عاجزة عن النطق والسؤال، ناداها الرجل الإلهي:
ـ السيدة أحمدي، اركبي هذا الحصان، فأنت على سفر!
استجابت بلا اختيار وركبت الحصان، وركب هو الحصان الآخر. بدا لها أنّ للحصان جناحَين يقدر بهما على الطيران، أغلقت عينيها ثمّ فتحتهما بأمر منه، رأت أنّها في مكان آخر، هذه حجرة أيضاً، لكنها غير الأولى! ترجّل الرجل وترجّلت.. ودخلا الحجرة. في الداخل كان حرم واسع فيه أناس كثيرون مشغولون بأداء مراسم الزيارة، سارت خلف الرجل وهو يمضي في داخل الازدحام حتّى وصلا إلى الضريح، فانفتح بابه، في داخل الضريح كانت سيدة تحفّ بها الهيبة والجلال جالسة على أريكة، لكنها ما إن رأت هذا الرجل حتّى نهضت واقفة، تقدّمت إليه وأمسكت بكفّه وقبّلتها، تحدّثا قليلاً، ثمّ أوصى هذه السيدة المجلَّلة بالحشمة والوقار:
ـ أختاه، هذه المرأة من مجاورينا، وفي داخل رأسها غدّة، أتيتُ بها إليك لمداواتها.
قال هذا وخرج، أشارت السيدة الجليلة إليها أن تتقدّم، تقدّمت.. ووضعت رأسها في حجر هذه السيدة التي مسحت على رأسها بمحبّة، وقالت لها:
ـ قومي واذهبي، فقد عُوفيتِ من كلّ آلامك بتوصية أخي.
وجدت السيدة أحمدي نفسها إلى جانب الضريح الطاهر، وتذكّرت شيئاً فغلى قلبها:
ـ ويلاه! لقد تأخّرتُ! نسيتُ العملية والمستشفى!
وعلى الفور هرعت إلى مستودع الأحذية عند الباب لتأخذ حذاءها وتخرج، قدّمت الرقم إلى مسؤول المستودع قائلة:
ـ أرجوك بسرعة، أنا على عَجَل!
قال لها مسؤول المستودع بعد أن ألقى نظرة على الرقم:
ـ هذا الرقم ليس لمستودعنا!
قالت: لماذا تؤذيني ؟! ألا تستحي من الإمام الرضا ؟! لقد تأخّرتُ على العملية...
قال لها الرجل:ـ لا تضيّعي وقتي يا سيدة.
ـ لا أضيّع وقتك ؟! ما هذا الكلام ؟! يجب على خادم الإمام الرضا أن لا يؤذي الناس!
تدخّل زميل له كان إلى جانبه، ونظر إلى الرقم بدقّة، ثمّ تبادل الرجلان نظرة خاصّة.
قال زميله: ليس هنا حرم الإمام الرضا (عليه السّلام)، ونحن لسنا من خدّام الإمام الرضا (عليه السلام)!
وفجأة.. تجلّى أمامها كلّ المشهد الذي عاشته قبل قليل، فاندفعت تسأل كالذاهلة:
ـ إذَن.. أين أنا الآن ؟!
قال أحد الرجلين: هنا حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام)، أنت الآن في قم، في مدينة أخت الإمام الرضا (عليه السّلام).
سمعت السيدة أحمدي هذه الكلمات فلم تستطع أن تصدّق. ثمّ غابت ـ من هول الصدمة ـ عن الوعي، أفاقت السيدة أحمدي من غشيتها، فاتّصلت هاتفيّاً بأهلها في مشهد:
ـ إلحقُوني.. أنا في قم!
ـ قم ؟! وكيف ذهبتِ إلى قم ؟!
ـ مولاي الرضا نقلني إلى قم في طَرفة عين، أوصى أخته أن تداويني فداوتني.
كانت السيدة أحمدي تحكي للحاضرات ودموعها تسيل.. كما سالت دموع جاراتها والصديقات. أمّا أمّ حسين فقد أهوَت إلى الأرض في سجدة شكر طويلة.
تأليف: إبراهيم رفاعة، عن أصل الواقعة المنشور في مجلة الزائر، العدد 109 ، ايلول 2003 م