سيهاتي 1
19-09-2008, 03:59 PM
من كرامات الإمام الرضا (عليه السلام)
"نافذة بيت الكريم"
المريضة المعافاة: صديقة ظهوريان.
من مدينة مشهد.
الحالة المرضيّة: شلل وعمى.
تاريخ الشفاء كانون الثاني 1989
ما كان يخطر على بالي يوماً أنّ سعادتي وحياتي مرتبطة بنافذة، نافذة كثيراً ما كنت أراها دون أن أُوليها هذا الاهتمام.
مَن ذا يصدّق أنّ نافذة في جدار قادرة على أن تمنح كلّ هذه الرأفة وكلّ هذا الحنان ؟!
إنّها نافذة الحاجات المصيريّة الكثيرة المتنوّعة، والطلبات التي ليس لها حدود.
كلّ نقطة في هذه النافذة تُعقّد عليها آلاف الآمال، أنا أيضاً وجدت آمالي معقودة بهذه النافذة التي كأنّها ليست على الأرض، وجئت إليها أنتظر لحظةً تُفتح فيها، وتمتدّ إليّ منها يد قدسيّة تهبني الشفاء والهناء.
وأتساءل مع نفسي عن السرّ الكامن وراء هذه النافذة، فولاذ هي مشبّك، يُطلّ من باحة الصحن العتيق على الروضة الزاهرة بالأنوار، والذين يقصدونه ويفترشون الأرض أمامه.. لا تكفّ عيون قلوبهم عن التطلّع إلى ما وراءه برجاء، ولا تنقطع ألسنتهم عن المناجاة والطلب والضراعات.
أنا ما جئت إلى هنا إلاّ لألقى خلاصاً عند نافذته، كما لقيَتْ غيري كثيرات، أعرف أنّه يقدر، أعطاه الله من قدرته، وملأ قلبه بالعطف والحنان، ليس لي عمل صالح أستشفع به، جئت طامعة بكرم الكريم، وهذا بالنسبة إليّ أهمّ من كلّ شيء.
وها أنا ذي مُقتعدة الأرض أمام نافذته: إنسانة أضناها المرض، وخذلتها قدرة الأطبّاء، تأخذني حالة من الإعياء وتشتدّ بي الآلام، تعبتُ، والله تعبت، لم أعُد أُطيق، شيء يقبض على حنجرتي بقسوة، ويعاودني الإحساس بأنّي زائدة وإضافيّة في هذا العالم، ليس لي فيه من مكان، إلى متى هذا العذاب والإرهاق ؟! إلى متى هذا الألم والاستغاثات ؟!
أسمع على وهنٍ صوتَ حفيف أجنحة، صوت بكاء، وابتهال، وزفراتِ حاجاتٍ إنسانيّة صادرة من الأعماق، أنا أيضاً أعماقي تصيح بصوت غير مسموع، أستغيث كالغريق، كطفل ضائع تتناهبه المخاوف، أشعر بحرارة بدني تزداد، قطعة مشلولة محترقة مطروحة على الأرض، أمَا لهذا العذاب من نهاية يا مولاي ؟!
كان قد حدث ما حدث على غير انتظار، مَن ذا يصدّق أنّ عيشتي الرَّخيّة الناعمة مع (هادي) الطيّب القلب وطفليّ الصغيرين تنقلب فجأةً وينتهي كلّ شيء ؟! لم تَدُم رفاهيتنا بعد الزواج أكثر من ثلاث سنوات، قطعَتْها نوبات إغماء أخذت تعتريني، وازدادت النوبات، وتكرّرت حالات الإغماء، لا أدري ما الذي كان يحدث لي، لكنّي كنت أحسّ بعد كلّ نوبة أنّ شيئاً يتفسّخ في داخلي، وأذوي يوماً بعد يوم، وأدركتُ أنّي مصابة بداء يعذّبني ولا يريد أن يتركني.
تكرّرت المراجعات الطبيّة، وعاوَدْنا التحليل المختبريّ مرّات ومرّات، وتراءى لي بعد هذه المراجعات شبح مفزع رهيب، أيمكن لهذا أن يكون ؟! أواقعٌ ما فهمته أنّي مصابة بالشلل ؟! كيف ؟! هل يمكن ؟!
كان هادي ـ بعد كلّ مراجعة طبيّة ـ يصطنع أمامي الابتسام، ليوحي إليّ أنْ لا شيء مهماً في الأمر، لكنّ نظرات أمّي وأبي كانت ترمقني، فأقرأ في عيونهما التأسّف والحزن المكتوم، لم أعُد أطيق، أريد الفرار، لكن.. أين أفرّ ؟!
شدّ انتباهي وأنا أنظر إلى ما وراء النافذة ما يتلالأ من الأروقة والجدران المكسوّة بزخارف المرايا، انكسر قلبي .. فبكيت، أنا جئت في هذا اليوم من شهر شعبان قاصدةً البيت الذي لا يردّ راجياً رجاه، كيف أعود منه كما أتيت ؟! تحوّل بكائي إلى نحيب، وشممت في نحيبي عطراً لافتاً لم يمنعني البكاء أن أتبيّنه: عطر تفّاح، تفّاح أحمر طريّ قد سقط توّاً من غصن شجرة، وفاجأني صوت، صوت شيء يتكسّر ويتهاوى على الأرض .. فجلست منحنية كسجود الصلاة.
عطر التفّاح يعبق في كلّ الأرجاء، وثَمّ ضباب كثيف، غبار.. كمرايا صدئة، ويملأني إحساس بحضورٍ، حضور شاخص متميّز. تسري في بدني قشعريرة هي أقرب إلى الخشوع: عينان وسيعتان نافذتان .. جمال ذو شال أخضر.. نظرات مُحِيية كأنّها سرّ الربيع.. ويهيمن علَيّ حياء، فأغضّ الطرف.
ما يزال عبير التفّاح الأحمر يدنو ويزداد اقتراباً، ويزداد الحضور تألّقاً، قدّم لي بيده ماء في كأس من الفخّار، انحنيت خلال نحيبي، وبمشقّة لامسَتْ شفتي حافّةَ الكأس، استطعت أن أرتشف منه رشفة واحدة فقط ، قطرات دمعي التي تُعتصر من قلبي تهوي على قدميه، صحت:
لا أقدر، لا أقدر!
سمعت صوتاً عذباً يقول لي:
تقدرين، تقدرين.. إمشِ.
تحاملتُ .. وبدأت أقوم على مهل، قلبي وأنا واقفة يخفق كأجنحة الحمام، أنا نفسي صرت حمامة طليقه في سماء حرمه.. ورحت أمشي على هَون إليه، الساعة تدقّ سبع دقّات، أمّا هو.. فقد انصرف، وظللتُ أعاينه على أمل الوصول إليه.
عطر التفّاح يفوح عابقاً في كلّ مكان، ويموج في داخلي إحساس خاصّ، إحساس متّشح بالغموض: غزالة مرحة تجري متواثبة في سهل أخضر واسع بعيد.
خلال أيّام العافية التي مَنّ علَيّ بها الإمام .. وُلدَت ابنتي (سارة)، وكأنّما هي تعويض عن عذابات أيّامي الذاهبات، وكنت في قلب المسرّات لمّا امتُحِنتُ مرّة ثانية، امتحان صعب صعب، سبحانك يا الله، ما أخفى حكمتك! زحفَتْ إليّ هذه المرّة غيوم سُود حالكة السّواد وتجمّعت مستقرّةً في عينَيّ! ليل دائم لا ينجلي عن نهار. حتّى صغيرتي «سارة» لا أراها إلاّ بلمس اليدين.
مرّ عام على اليوم الذي فزتُ فيه برؤية عينيه النافذتين، اليوم الذي عدوتُ فيه كغزالة تتواثب، اليوم الذي ارتبطتْ فيه كلّ سعادتي وحياتي بنافذة من الفولاذ.
هو ذا شهر، بكلّ ساعاته وأيّامه ولياليه، تذوّقت فيه وحشة الظلام المطلق .. دون أن يبشّر العلاج أيّ بشارة، لقد صرت عمياء تماماً .. عمياء منطفئة العينين، تضاعف اضطرابي هذه المرّة، واشتدّت مخاوفي من المستقبل المجهول، قلب مضطرم، وعينان قد غشّاهما الظلام، الأرض تهتزّ تحت قدمي، ولا مأوى لي في كلّ الأرض.
وللمرّة الثانية .. ألجأ، ومعي أسرتي إليه.. إلى النافذة التي قد غدت مرتهنة بها حياتي، يضيق صدري، وأشتاق إلى رؤية الفضاء، النافذة، المنارات، والمرايا، أسندتُ رأسي إلى ركبتيّ وبكيت، بكيت لعينيّ، لشبابي، لسارة وأطفالي الصغار.
أترى .. ستَفتح لي هذه الدموع التي أسكبها مجدّداً نافذة بيت الكريم ؟! قلبي تتقاذفه عاصفة من الأفكار والهواجس والآمال. استبدّت بي العاصفة وطوّحتني حتّى أعييتُ وضعفتُ عن التفكير. إنسانة بالية مطروحة تحلم بالعافية تحت نافذة الكريم.
بكيت بكاء عالياً، وذهلت عن كلّ شيء، أهذا صوت يتناهى إلى أذنيّ؟! واه! ما هذا الصوت ؟! صوت مَن ؟! ارتجف قلبي، ومرّةً أخرى .. كأنّ شيئاً يتكسّر ويهوي متناثراً على الأرض! رفعت رأسي إلى النافذة، ومددت باتّجاهها كفَّيّ مبسوطتين، لم أرَ أحداً، لكنّي أحسست أنّ أحداً ينظر إليّ.
ومرّة أخرى.. يتهادى عبير التفّاح. بكيت وصحت:
إشْفِني .. إشفني! لقد تعبتُ يا مولاي!
وبنبرةٍ حازمة دعاني إليه، رأيته! أيضاً: تلك المرايا الصَّدئة انزاحت إلى جانب، ومجدّداً: ذلكم النور الغريب، فجأةً انفتحت كوّة مضيئة إلى داخل سجن آمالي الغارق في الظلام، وتدفّق علَيّ ضوء سخيّ كالشمس، وناغى سمعي صوتٌ شبيه بحفيف أجنحة الحمائم، عيوني تذرف الدمع، وثمَّة مئات من الحمائم تشاركني البكاء.
تطلّعتُ حولي، وقعت عيني على «سارة»، والذين كانوا برفقتي وجوههم متهلِّلة بالدموع، ها أنا ذي أفوز بحضور قدسيّ آخر، وعند النافذة الفولاذيّة نفسها! وكانت روحي تستحمّ بضياء شمس سخيّة ستظلّ ساطعة إلى الأبد.
ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة،
من مجلة الزائر ـ
العدد 23 كانون الثاني 1995
"نافذة بيت الكريم"
المريضة المعافاة: صديقة ظهوريان.
من مدينة مشهد.
الحالة المرضيّة: شلل وعمى.
تاريخ الشفاء كانون الثاني 1989
ما كان يخطر على بالي يوماً أنّ سعادتي وحياتي مرتبطة بنافذة، نافذة كثيراً ما كنت أراها دون أن أُوليها هذا الاهتمام.
مَن ذا يصدّق أنّ نافذة في جدار قادرة على أن تمنح كلّ هذه الرأفة وكلّ هذا الحنان ؟!
إنّها نافذة الحاجات المصيريّة الكثيرة المتنوّعة، والطلبات التي ليس لها حدود.
كلّ نقطة في هذه النافذة تُعقّد عليها آلاف الآمال، أنا أيضاً وجدت آمالي معقودة بهذه النافذة التي كأنّها ليست على الأرض، وجئت إليها أنتظر لحظةً تُفتح فيها، وتمتدّ إليّ منها يد قدسيّة تهبني الشفاء والهناء.
وأتساءل مع نفسي عن السرّ الكامن وراء هذه النافذة، فولاذ هي مشبّك، يُطلّ من باحة الصحن العتيق على الروضة الزاهرة بالأنوار، والذين يقصدونه ويفترشون الأرض أمامه.. لا تكفّ عيون قلوبهم عن التطلّع إلى ما وراءه برجاء، ولا تنقطع ألسنتهم عن المناجاة والطلب والضراعات.
أنا ما جئت إلى هنا إلاّ لألقى خلاصاً عند نافذته، كما لقيَتْ غيري كثيرات، أعرف أنّه يقدر، أعطاه الله من قدرته، وملأ قلبه بالعطف والحنان، ليس لي عمل صالح أستشفع به، جئت طامعة بكرم الكريم، وهذا بالنسبة إليّ أهمّ من كلّ شيء.
وها أنا ذي مُقتعدة الأرض أمام نافذته: إنسانة أضناها المرض، وخذلتها قدرة الأطبّاء، تأخذني حالة من الإعياء وتشتدّ بي الآلام، تعبتُ، والله تعبت، لم أعُد أُطيق، شيء يقبض على حنجرتي بقسوة، ويعاودني الإحساس بأنّي زائدة وإضافيّة في هذا العالم، ليس لي فيه من مكان، إلى متى هذا العذاب والإرهاق ؟! إلى متى هذا الألم والاستغاثات ؟!
أسمع على وهنٍ صوتَ حفيف أجنحة، صوت بكاء، وابتهال، وزفراتِ حاجاتٍ إنسانيّة صادرة من الأعماق، أنا أيضاً أعماقي تصيح بصوت غير مسموع، أستغيث كالغريق، كطفل ضائع تتناهبه المخاوف، أشعر بحرارة بدني تزداد، قطعة مشلولة محترقة مطروحة على الأرض، أمَا لهذا العذاب من نهاية يا مولاي ؟!
كان قد حدث ما حدث على غير انتظار، مَن ذا يصدّق أنّ عيشتي الرَّخيّة الناعمة مع (هادي) الطيّب القلب وطفليّ الصغيرين تنقلب فجأةً وينتهي كلّ شيء ؟! لم تَدُم رفاهيتنا بعد الزواج أكثر من ثلاث سنوات، قطعَتْها نوبات إغماء أخذت تعتريني، وازدادت النوبات، وتكرّرت حالات الإغماء، لا أدري ما الذي كان يحدث لي، لكنّي كنت أحسّ بعد كلّ نوبة أنّ شيئاً يتفسّخ في داخلي، وأذوي يوماً بعد يوم، وأدركتُ أنّي مصابة بداء يعذّبني ولا يريد أن يتركني.
تكرّرت المراجعات الطبيّة، وعاوَدْنا التحليل المختبريّ مرّات ومرّات، وتراءى لي بعد هذه المراجعات شبح مفزع رهيب، أيمكن لهذا أن يكون ؟! أواقعٌ ما فهمته أنّي مصابة بالشلل ؟! كيف ؟! هل يمكن ؟!
كان هادي ـ بعد كلّ مراجعة طبيّة ـ يصطنع أمامي الابتسام، ليوحي إليّ أنْ لا شيء مهماً في الأمر، لكنّ نظرات أمّي وأبي كانت ترمقني، فأقرأ في عيونهما التأسّف والحزن المكتوم، لم أعُد أطيق، أريد الفرار، لكن.. أين أفرّ ؟!
شدّ انتباهي وأنا أنظر إلى ما وراء النافذة ما يتلالأ من الأروقة والجدران المكسوّة بزخارف المرايا، انكسر قلبي .. فبكيت، أنا جئت في هذا اليوم من شهر شعبان قاصدةً البيت الذي لا يردّ راجياً رجاه، كيف أعود منه كما أتيت ؟! تحوّل بكائي إلى نحيب، وشممت في نحيبي عطراً لافتاً لم يمنعني البكاء أن أتبيّنه: عطر تفّاح، تفّاح أحمر طريّ قد سقط توّاً من غصن شجرة، وفاجأني صوت، صوت شيء يتكسّر ويتهاوى على الأرض .. فجلست منحنية كسجود الصلاة.
عطر التفّاح يعبق في كلّ الأرجاء، وثَمّ ضباب كثيف، غبار.. كمرايا صدئة، ويملأني إحساس بحضورٍ، حضور شاخص متميّز. تسري في بدني قشعريرة هي أقرب إلى الخشوع: عينان وسيعتان نافذتان .. جمال ذو شال أخضر.. نظرات مُحِيية كأنّها سرّ الربيع.. ويهيمن علَيّ حياء، فأغضّ الطرف.
ما يزال عبير التفّاح الأحمر يدنو ويزداد اقتراباً، ويزداد الحضور تألّقاً، قدّم لي بيده ماء في كأس من الفخّار، انحنيت خلال نحيبي، وبمشقّة لامسَتْ شفتي حافّةَ الكأس، استطعت أن أرتشف منه رشفة واحدة فقط ، قطرات دمعي التي تُعتصر من قلبي تهوي على قدميه، صحت:
لا أقدر، لا أقدر!
سمعت صوتاً عذباً يقول لي:
تقدرين، تقدرين.. إمشِ.
تحاملتُ .. وبدأت أقوم على مهل، قلبي وأنا واقفة يخفق كأجنحة الحمام، أنا نفسي صرت حمامة طليقه في سماء حرمه.. ورحت أمشي على هَون إليه، الساعة تدقّ سبع دقّات، أمّا هو.. فقد انصرف، وظللتُ أعاينه على أمل الوصول إليه.
عطر التفّاح يفوح عابقاً في كلّ مكان، ويموج في داخلي إحساس خاصّ، إحساس متّشح بالغموض: غزالة مرحة تجري متواثبة في سهل أخضر واسع بعيد.
خلال أيّام العافية التي مَنّ علَيّ بها الإمام .. وُلدَت ابنتي (سارة)، وكأنّما هي تعويض عن عذابات أيّامي الذاهبات، وكنت في قلب المسرّات لمّا امتُحِنتُ مرّة ثانية، امتحان صعب صعب، سبحانك يا الله، ما أخفى حكمتك! زحفَتْ إليّ هذه المرّة غيوم سُود حالكة السّواد وتجمّعت مستقرّةً في عينَيّ! ليل دائم لا ينجلي عن نهار. حتّى صغيرتي «سارة» لا أراها إلاّ بلمس اليدين.
مرّ عام على اليوم الذي فزتُ فيه برؤية عينيه النافذتين، اليوم الذي عدوتُ فيه كغزالة تتواثب، اليوم الذي ارتبطتْ فيه كلّ سعادتي وحياتي بنافذة من الفولاذ.
هو ذا شهر، بكلّ ساعاته وأيّامه ولياليه، تذوّقت فيه وحشة الظلام المطلق .. دون أن يبشّر العلاج أيّ بشارة، لقد صرت عمياء تماماً .. عمياء منطفئة العينين، تضاعف اضطرابي هذه المرّة، واشتدّت مخاوفي من المستقبل المجهول، قلب مضطرم، وعينان قد غشّاهما الظلام، الأرض تهتزّ تحت قدمي، ولا مأوى لي في كلّ الأرض.
وللمرّة الثانية .. ألجأ، ومعي أسرتي إليه.. إلى النافذة التي قد غدت مرتهنة بها حياتي، يضيق صدري، وأشتاق إلى رؤية الفضاء، النافذة، المنارات، والمرايا، أسندتُ رأسي إلى ركبتيّ وبكيت، بكيت لعينيّ، لشبابي، لسارة وأطفالي الصغار.
أترى .. ستَفتح لي هذه الدموع التي أسكبها مجدّداً نافذة بيت الكريم ؟! قلبي تتقاذفه عاصفة من الأفكار والهواجس والآمال. استبدّت بي العاصفة وطوّحتني حتّى أعييتُ وضعفتُ عن التفكير. إنسانة بالية مطروحة تحلم بالعافية تحت نافذة الكريم.
بكيت بكاء عالياً، وذهلت عن كلّ شيء، أهذا صوت يتناهى إلى أذنيّ؟! واه! ما هذا الصوت ؟! صوت مَن ؟! ارتجف قلبي، ومرّةً أخرى .. كأنّ شيئاً يتكسّر ويهوي متناثراً على الأرض! رفعت رأسي إلى النافذة، ومددت باتّجاهها كفَّيّ مبسوطتين، لم أرَ أحداً، لكنّي أحسست أنّ أحداً ينظر إليّ.
ومرّة أخرى.. يتهادى عبير التفّاح. بكيت وصحت:
إشْفِني .. إشفني! لقد تعبتُ يا مولاي!
وبنبرةٍ حازمة دعاني إليه، رأيته! أيضاً: تلك المرايا الصَّدئة انزاحت إلى جانب، ومجدّداً: ذلكم النور الغريب، فجأةً انفتحت كوّة مضيئة إلى داخل سجن آمالي الغارق في الظلام، وتدفّق علَيّ ضوء سخيّ كالشمس، وناغى سمعي صوتٌ شبيه بحفيف أجنحة الحمائم، عيوني تذرف الدمع، وثمَّة مئات من الحمائم تشاركني البكاء.
تطلّعتُ حولي، وقعت عيني على «سارة»، والذين كانوا برفقتي وجوههم متهلِّلة بالدموع، ها أنا ذي أفوز بحضور قدسيّ آخر، وعند النافذة الفولاذيّة نفسها! وكانت روحي تستحمّ بضياء شمس سخيّة ستظلّ ساطعة إلى الأبد.
ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة،
من مجلة الزائر ـ
العدد 23 كانون الثاني 1995