تراب البقيع...
18-10-2008, 08:49 AM
أسطورة نزول القرآن على سبعة أحرف
قال أهل البيت عليهم السلام : القرآن واحد نزل من عند واحد:
في الكافي:2/630 ، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (إن القرآن واحدٌ نزل من عند واحد ، ولكن الإختلاف يجئ من قبل الرواة... عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام : إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال: كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد ! ). انتهى.
بدعة عمر بأن القرآن نزل على سبعة أحرف:
إذا كنت سُنِّيّاً وكنت من أعلم العلماء فلن تستطيع أن تقنع أطفالك بنظرية عمر ، بأن القرآن نزل على سبعة حروف ! بل سوف تتحير من أول الأمر هل تقول لهم إن الله تعالى أنزل القرآن بسبعة نصوص؟ يعني أنزل سبعة قرائين؟ أو أنزله بسبع طبعات منقحة ؟
وماذا تُجيب إذا سألك ولدك الناشئ فقال: يا أبتي نحن نعرف أن الملك أو رئيس الجمهورية يصدر المرسوم بنسخة واحدة ونصٍّ واحد ! وأنت تقول إن جبرئيل كان يضبط نص القرآن على النبي كل سنة مرة ، فهل تقصد أنه نزل على النبي من الأول سبع نسخ ، وكان جبرئيل يضبط عليه سبعة نسخ ؟! ولماذا السبع نسخ ، ألا تكفي نسخة واحدة ؟ وما هو الفرق بين هذه النسخ ؟!
تقول لابنك: لا يا ولدي ، القرآن نسخة واحدة ، ومعنى السبعة حروف أن الله تعالى استعمل فيه سبعة أنواع من لغات العرب .
فيقول لك: ولكن هذا لا يقال له نزل على سبعة حروف ، بل يقال إنه نصٌّ واحد ، وألفاظه مختارة من كلمات سبع قبائل !
ثم تقول له..ويقول لك.. حتى تعجز أمام ابنك ! وتقول له: أسكت فهذه المقولة حديث نبوي رواه عنه الفاروق عمر ، فيجب عليك أن تقبلها حتى ولو لم تفهمها ولم يفهمها أبوك وعلماؤك !
وقد يسكت ابنك لكن يبقى السؤال في نفسه: هل يمكن أن يتكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغير المعقول؟ ألا يمكن أن يكون عمر مشتبهاً أو مخطئاً؟!
لقد تحير كبار علماء السنة ومفسروهم وما زالوا متحيرين إلى اليوم والى غد في أحرف عمر السبعة ! فلا هم يستطيعون أن يردوها لأنها بتصورهم حديث نبوي رواه عمر ! ولا يستطيعون أن يقتنعوا بها ! وسيظلون متحيرين إلى آخر الدهر لأنهم يبحثون عن معنى معقول لمقولة ليس لها معنى معقول !
من كبار العلماء المتحيرين الإمام ابن جزي المشهود له في التفسير وعلوم القرآن ، فقد نقل في تاريخ القرآن/87 قوله: (ولا زلت أستشكل هذا الحديث(نزول القرآن على سبعة أحرف) وأفكر فيه وأمعن النظر ، من نحو نيف وثلاثين سنة ، حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله تعالى، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وضعيفها وشاذها، فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه)! انتهى.
فقد توصل هذا المسكين بعد تفكير أكثر من ثلاثين سنة غير مطمئن إلى ما توصل إليه ! الى أن نسخة القرآن نزلت من عند الله تعالى مفصلةً على حسب قراءات سوف يولد أصحابها ! وسوف يكون اختلافهم في سبعة وجوه لا أكثر ! فكيف تَعَقَّلَ هذا العالم أن نسخة القرآن نزل بها جبرئيل عليه السلام مفتوحة لاجتهادات القراء الذين سوف يأتون ! ثم اعتبر ذلك فتحاً علمياً؟! بالله عليك هل تتعقل أن مؤلفاً يؤلف كتاباً بسبعة نصوص ستظهر على يد أشخاص بعد نشره!
قال السيوطي في الإتقان:1/176: (قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولا لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف ، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضاً وكلها محتملة ويحتمل غيرها).انتهى. وقد صدق فجميع هذه الأقاويل احتمالات إستنسابية غير مقنعة !
ثم نقل قول المرسي: (هذه الوجوه أكثرها متداخلة ، ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر ، مع أن كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصيص ! وفيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة ، وأكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الذي في الصحيح فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه، إنما اختلفا في قراءة حروفه . وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع، وهو جهل قبيح).
إن أقوال كبار علمائهم هذه دليل كاف على أن مقولة عمر غير قابلة للتعقل، فلا يجوز نسبتها الى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
أما السبب الذي جعل عمر يبتدعها ويورط فيها من بعده ، فهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حياته يُصَحِّحُ نصَّ القرآن لمن يقرؤه ، فكان مصدر نص القرآن واحداً مضبوطاً ، أما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وأحداث السقيفة وبيعة أبي بكر، فقد جاءهم عليٌّ بنسخة القرآن بخط يده حسب أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرفضوا اعتمادها ، لأنههم خافوا أن يكون فيها تفسير لمصلحة علي والعترة عليهم السلام ! فأخذها علي عليه السلام وقال: لهم لن تروها بعد اليوم ، إني مأمور بحفظها وأن أقرأ النسخة التي تعتمدونها حتى لا يكون في أيدي الناس نسختان للقرآن ! ففي الكافي:2/633: (عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد الله عليه السلام وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله: كف عن هذه القراءة ، إقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم قرأ كتاب الله عز وجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام ! وقال: أخرجه علي إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جمعته من اللوحين فقالوا: هو ذا عندنا مصحفٌ جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه ! فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً ، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه) ! انتهى. ومن ذلك اليوم ولدت أرضية التفاوت في النص القرآني، فالناس يقرؤون ولا يستطيع عمر أن يصحح لهم كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفعل، فيقول لهم كله صحيح!
وزاد التفاوت بينهم ، ثم تحول إلى اختلاف بين القراء في هذه الكلمة وتلك ، وهذه الآية وتلك ، فهذا يقرأ في صلاته أو يعلم المسلمين بنحو وذاك بنحو آخر ! وكلٌّ يؤكد صحة قراءته وخطأ ماخالفها، ووقع الخلاف فكان لابد أن تتدخل الدولة لحل المشكلة ، وأن يختار عمر نسخة من القرآن ويعتمدها، من علي عليه السلام أو من غيره كما فعل عثمان ، ولكنه لم يفعل بل اختار حل المشكلة بتوسيع نص القرآن ! وأخذ حديثاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاني القرآن وأنه نزل على سبعة أحرف أي أقسام من المعنى ، فجعلها لألفاظ القرآن وقال إن ألفاظه نزلت على سبعة وأفتى بصحة كل القراءات المختلف عليها ! روى النسائي:2/150:(عن ابن مخرمة أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام(من الطلقاء)يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها حروفاً لم يكن نبي الله أقرأنيها قلت من أقرأك هذه السورة؟!قال رسول الله قلت كذبت! ما هكذا أقرأك رسول الله ! فأخذت بيده أقوده إلى رسول الله وقلت: يا رسول الله إنك أقرأتني سورة الفرقان وإني سمعت هذا يقرأ فيها حروفاً لم تكن أقرأتنيها ! فقال رسول الله: إقرأ يا هشام فقرأ كما كان يقرأ ، فقال رسول الله: هكذا أنزلت ! ثم قال إقرأ يا عمر فقرأت فقال: هكذا أنزلت ! ثم قال رسول الله: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف)! وبخاري:6/100 و:6/110 و:3/90 و: 8/215 ، ومسلم: 2/201 بروايتين ، وأبو داود:1/331 ، والترمذي:4/263 ، والبيهقي:2/383 ، وأحمد:1/24 و39 و45 و264).
وكلام عمر صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزلت من عند الله هكذا وهكذا ! أي بلفظين مختلفين بل بسبعة ألفاظ ! وقد تصور عمر أنه بذلك حلَّ مشكلة التفاوت في القراءة بزعمه التفاوت في أصل النص القرآني ! ولكنه سكَّن المشكلة آنياً ثم حيَّر أتباعه أربعة عشر قرناً في تصور معنى معقول لنظريته المزعومة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
قبلوا رواية عمر غير المعقولة وردوا الصحيح المعقول:
فقد ردوا أحاديث اهل البيت عليهم السلام في وحدة نص القرآن ، والأحاديث الصحيحة عندهم التي توافقها، وتمسكوا ببدعة عمر غير المعقولة ! روى الحاكم:1/553 و:2/289: (عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجراً وآمراً وحلالاً وحراماً ومحكماً ومتشابهاً وأمثالاً ، فأحِلُّوا حلاله وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نُهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا). والدر المنثور:2/6 ، عن الحاكم وصححه والسجزي في الإبانة ، والطبراني وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر ، ونحوه شعب الإيمان عن أبي هريرة ، والإتقان/170 ونحوه مجمع الزوائد:7/152، عن البزار وأبي يعلى والطبراني ، ووثقه .
وروى المجلسي في بحار الأنوار:90/3، عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: (إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شاف كاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص. وفي القرآن ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدم ومؤخر ، وعزائم ورخص ، وحلال وحرام ، وفرائض وأحكام ومنقطع معطوف ، ومنقطع غير معطوف ، وحرف مكان حرف ، ومنه ما لفظه خاص ، ومنه ما لفظه عام محتمل العموم ، ومنه مالفظه واحد ومعناه جمع ، ومنه ما لفظه جمع ومعناه واحد ، ومنه ما لفظه ماض ومعناه مستقبل، ومنه ما لفظه على الخبر ومعناه حكاية عن قوم أخر ، ومنه ما هو باق محرف عن جهته ، ومنه ما هو على خلاف تنزيله ، ومنه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ما تأويله قبل تنزيله ، ومنه ما تأويله بعد تنزيله ، ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة أخرى ، ومنه آيات نصفها منسوخ ونصفها متروك على حاله ، ومنه آيات مختلفة اللفظ متفقة المعنى ، ومنه آيات متفقه اللفظ مختلفة المعنى ، ومنه آيات فيها رخصة وإطلاق بعد العزيمة..الخ.),انتهى. لاحظ أنه عليه السلام استعمل لفظة أقسام بدل حروف حتى لايحرف كلامه .
ومما يدل على بطلان أسطورة السبعة أحرف أيضاً:
أن صاحب المقولة لم يطبقها ! فلم يسمح عمر لأحد بذلك ، وكان يتدخل في القراءات ويحاسب عليها، ويرفض منها ويقبل ، ويأمر بمحو هذا وإثبات ذاك ! وكم وقعت مشاكل بينه وبين أبي بن كعب وغيره من القراء ، بسبب أنه قرأ آية بلفظ لم يعجب عمر ! فقد كانت هذه التوسعة المزعومة خاصة به دون غيره !
ثانياً: أن عثمان نقضها وألزم المسلمين بأن يقرؤوا القرآن بالحرف الذي كتب عليه مصحفه ! فأين صارت السبعة أحرف التي قلتم إن حديثها صحيح متواتر؟! صار معناها أن القرآن نزل من عند الله تعالى على سبعة أحرف، ثم صار في زمن عثمان على حرف واحد ! فيكون حديث عمر مُفَصَّلاً لمشكلة اضطراب القراءة في زمنه فقط ! فهل رأيتم حديثاً نبوياً لا دور له إلى يوم القيامة إلا أداء وظيفة خاصة ، وهي تسكين مشكلة اختلاف القراءات آنياً؟!
ثالثاً: بسبب بدعة عمر أفتى فقهاؤهم بجواز تحريف القرآن:
أثمرت بدعة عمر في فقه المذاهب السنية فأفتى فقهاؤهم بجواز التغيير في نص القرآن ، وفي نص التشهد في الصلاة لأنه أخف من نص القرآن ! قال الشافعي في اختلاف الحديث/489 ، وكتاب الأم:1/142: (وقد اختلف بعض أصحاب النبي(ص) في بعض لفظ القرآن عند رسول الله ولم يختلفوا في معناه فأقرهم وقال: هكذا أنزل إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه. فما سوى القرآن من الذكر أولى أن يتسع ، هذا فيه إذا لم يختلف المعنى) !
وقال البيهقي:2/145: (قال الشافعي: فإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف، معرفة منه بأن الحفظ قد نَزُرَ ليجعل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُخِلَّ معناه)! والمغني:1/575 ، والمحلى:3/253 .
وسترى أن نظرية التسامح في نص القرآن لم تقف عند حد التفاوت في بعض الحروف والكلمات في الآيات ، بل أخذت نموها السرطاني حتى وصلت الى نظرية تعويم نص القرآن وجواز قراءته بالمعنى بدون التقيد بألفاظه ! هذا ، وقد أوردنا إشكالات أخرى في تدوين والقرآن وألف سؤال في المسألة74.
عمر يفتي بنسف النص القرآني
ماذا يقول علماء المذاهب في الفتوى التالية: ( لا يجب على المسلمين أن يتقيدوا في قراءة القرآن بنصه ! لا في صلاتهم ولا في غيرها ، بل يجوز أن يقرؤوه بالمعنى حسب تصورهم بأي ألفاظ شاؤوا ! والشرط الوحيد أن لايَقْلِبُوا المعنى رأساً على عقب فتصير آية الرحمة آية عذاب وآية العذاب آية رحمة ! فإذا قرؤوا بهذا الشرط فقراءاتهم صحيحة شرعاً ! وكلها قرآن أنزله الله تعالى! فهو الذي اجاز قراءة كتابه بأي لفظ بهذا الشرط؟!
لابد أنهم سيصبُّون غضبهم على هذه الفتوى وصاحبها أياً كان ، وقد يقولون إنه رافضي كافر بالقرآن ! لكن إذا كان صاحبها عمر الذي سموه الفاروق فسيختلف الحال ! ويتحمسون لتفسير نظريته ، ويكثرون من ذكر الوجوه والإحتمالات ، ويفكر بعضهم نيفاً وثلاثين سنة حتى يفتح الله عليه بوجه جديد معقول ! بينما يسكت آخرون طالبين من الله الستر والسلامة للخليفة !!
روى أحمد في مسنده:4/30: (قرأ رجل عند عمر فَغَيَّر عليه فقال: قرأت على رسول الله (ص) فلم يغيِّر عليَّ ! قال فاجتمعنا عند النبي قال فقرأ الرجل على النبي(ص) فقال له: قد أحسنت ! قال فكأن عمر وَجَدَ من ذلك فقال النبي: يا عمر إن القرآن كله صواب ، ما لم يجعل عذابٌ مغفرةً أو مغفرةٌ عذاباً). ونحوه في:5/41 ، و51 ، و124، وفيه: (إن قلت غفوراً رحيماً أو قلت سميعاً عليماً أو عليماً سميعاً فالله كذلك ، مالم تختم آية عذاب برحمة أوآية رحمة بعذاب) !
وقال في مجمع الزوائد:7/150، عن رواية أحمد الأولى: (رواه أحمد ورجاله ثقات) ثم وثق حديث: (كل شاف كاف مالم يختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع واعجل) ! ونحوه بخاري في تاريخه:1/382، وفي أسد الغابة:5/156: أبوجارية الأنصاري ، روى عن النبي (ص) أنه قال: القرآن كله صواب ، وقال السيوطي في الإتقان:1/168، عن أبي هريرة (من حديث عمر: أن القرآن كله صواب ، ما لم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة . أسانيدها جياد ) !
وفي كنز العمال:1/618: (أَنْفِرِ الشيطان أنفر الشيطان أنفر الشيطان . يا عمر القرآن كله صواب ما لم يجعل المغفرة عذاباً والعذاب مغفرة). و/619، و:2/52 و/603..الخ.
تعني هذه الروايات الصحيحة عندهم: أولاً: أن نص القرآن مفتوح لقراءة من يريد بالألفاظ التي يريد ، بشرط واحد خفيف جداً ، هو أن لا تقلب المعنى من رحمة ومغفرة الى عذاب ، وبالعكس !
وتعني ثانياً: أن عمر يقول: إذا رأيت أحداً يقرأ القرآن غلطاً فلا تغيِّر عليه ! فلقد غيَّرت يوماً على شخص قراءته فلم يقبل فاحتكمنا للنبي فصحح قراءته فتأذيتُ ، وفي رواية: ما شككت في نبوة محمد منذ الجاهلية مثل ذلك اليوم ! فقال لي: لا تشك فنص القرآن هكذا أنزله الله تعالى مفتوحاً لكل قراءة بالمعنى !
وتعني ثالثاً: أن بدعة تعويم نص القرآن هي النتيجة الطبيعية لبدعة السبعة أحرف ، بل هي نفسها، فالأحرف السبعة (أميبا) التعويم ! فلو طبق المسلمون بدعة الأحرف السبعة لهدمت لبنات القرآن واحدة واحدة، أما هذه فتؤدي الى هدم صرح القرآن سورة سورة!
وتعني رابعاً: أن عمر روى مقولة الأحرف السبعة، لكن لم يسمح بها للناس ولا لقراء القرآن ، ولم يستفد منها أحد إلا هو نفسه !
وتعني خامساً: أن عمر أعطى للناس حقاً لم يعطه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ! فقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحابياً دعاء فغيَّر كلمة نبيك برسولك ، فنهاه ولم يرخص له ! قال بخاري:1/67: ( عن البراء بن عازب قال قال لي النبي: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك الا إليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلم به قال فرددتها على النبي فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك ، قال: لا ونبيك الذي أرسلت).
وكذلك لم يرخص الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يغير حرفاً في القرآن فقال تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ،(يونس: 15) . فاعجب لعمر يعطي لنفسه الحق في أن يرخص للناس بما لم يرخص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا الله تعالى !
وأخيراً ، فإن الناظر في سياسة عمر تجاه القرآن يجد فيها غرائب تبعث على التساؤل عن هدفه ، فلا يجد الجواب حتى عند ابن جزي الذي فكر في الأحرف السبعة بضعاً وثلاثين سنة ! فقد تعمد عمر تغييب النص القرآني الواحد في عهد أبي بكر وعهده ، وشكل لجنة لجمعه وأعطى رئاستها لشاب صغير السن يقال إنه يهودي هو زيد بن ثابت، وأبعد منها كل الذين شهد هو بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين أن يأخذوا القرآن منهم ! وأعلن أنه ضاع من القرآن أكثره ، وأن (لجنته) تبذل جهوداً كبيرة لجمعه من الناس والمكتوبات..الخ.
لكن القرآن الذي تجمعه اللجنة العتيدة لم يَرَهُ المسلمون ، بل خبأه لهم عند أمهم حفصة ولم يُطلع عليه أحداً وكان يواصل جمعه وتنقيحه ، حتى أحرقه مروان يوم وفاة حفصة ، والحمد لله !
فالحمد لله الذي جعل الأعمال والنظريات المنافية لحفظ كتابه حبراً على ورق ، وهواءً في شبك ! وساعد الأمة على تجاوز تلك الظروف الخطيرة على نص القرآن ، والتي استمرت بضع عشرة سنة وسببت اختلاف الأمة في نصه ، حتى نهض الغيارى على الإسلام ، وكتبوا نسخته على نسخة علي عليه السلام كما ستعرف ، فتجلَّت فاعلية قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . (الحجر:9)
قال أهل البيت عليهم السلام : القرآن واحد نزل من عند واحد:
في الكافي:2/630 ، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (إن القرآن واحدٌ نزل من عند واحد ، ولكن الإختلاف يجئ من قبل الرواة... عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام : إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال: كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد ! ). انتهى.
بدعة عمر بأن القرآن نزل على سبعة أحرف:
إذا كنت سُنِّيّاً وكنت من أعلم العلماء فلن تستطيع أن تقنع أطفالك بنظرية عمر ، بأن القرآن نزل على سبعة حروف ! بل سوف تتحير من أول الأمر هل تقول لهم إن الله تعالى أنزل القرآن بسبعة نصوص؟ يعني أنزل سبعة قرائين؟ أو أنزله بسبع طبعات منقحة ؟
وماذا تُجيب إذا سألك ولدك الناشئ فقال: يا أبتي نحن نعرف أن الملك أو رئيس الجمهورية يصدر المرسوم بنسخة واحدة ونصٍّ واحد ! وأنت تقول إن جبرئيل كان يضبط نص القرآن على النبي كل سنة مرة ، فهل تقصد أنه نزل على النبي من الأول سبع نسخ ، وكان جبرئيل يضبط عليه سبعة نسخ ؟! ولماذا السبع نسخ ، ألا تكفي نسخة واحدة ؟ وما هو الفرق بين هذه النسخ ؟!
تقول لابنك: لا يا ولدي ، القرآن نسخة واحدة ، ومعنى السبعة حروف أن الله تعالى استعمل فيه سبعة أنواع من لغات العرب .
فيقول لك: ولكن هذا لا يقال له نزل على سبعة حروف ، بل يقال إنه نصٌّ واحد ، وألفاظه مختارة من كلمات سبع قبائل !
ثم تقول له..ويقول لك.. حتى تعجز أمام ابنك ! وتقول له: أسكت فهذه المقولة حديث نبوي رواه عنه الفاروق عمر ، فيجب عليك أن تقبلها حتى ولو لم تفهمها ولم يفهمها أبوك وعلماؤك !
وقد يسكت ابنك لكن يبقى السؤال في نفسه: هل يمكن أن يتكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغير المعقول؟ ألا يمكن أن يكون عمر مشتبهاً أو مخطئاً؟!
لقد تحير كبار علماء السنة ومفسروهم وما زالوا متحيرين إلى اليوم والى غد في أحرف عمر السبعة ! فلا هم يستطيعون أن يردوها لأنها بتصورهم حديث نبوي رواه عمر ! ولا يستطيعون أن يقتنعوا بها ! وسيظلون متحيرين إلى آخر الدهر لأنهم يبحثون عن معنى معقول لمقولة ليس لها معنى معقول !
من كبار العلماء المتحيرين الإمام ابن جزي المشهود له في التفسير وعلوم القرآن ، فقد نقل في تاريخ القرآن/87 قوله: (ولا زلت أستشكل هذا الحديث(نزول القرآن على سبعة أحرف) وأفكر فيه وأمعن النظر ، من نحو نيف وثلاثين سنة ، حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله تعالى، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وضعيفها وشاذها، فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه)! انتهى.
فقد توصل هذا المسكين بعد تفكير أكثر من ثلاثين سنة غير مطمئن إلى ما توصل إليه ! الى أن نسخة القرآن نزلت من عند الله تعالى مفصلةً على حسب قراءات سوف يولد أصحابها ! وسوف يكون اختلافهم في سبعة وجوه لا أكثر ! فكيف تَعَقَّلَ هذا العالم أن نسخة القرآن نزل بها جبرئيل عليه السلام مفتوحة لاجتهادات القراء الذين سوف يأتون ! ثم اعتبر ذلك فتحاً علمياً؟! بالله عليك هل تتعقل أن مؤلفاً يؤلف كتاباً بسبعة نصوص ستظهر على يد أشخاص بعد نشره!
قال السيوطي في الإتقان:1/176: (قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولا لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف ، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضاً وكلها محتملة ويحتمل غيرها).انتهى. وقد صدق فجميع هذه الأقاويل احتمالات إستنسابية غير مقنعة !
ثم نقل قول المرسي: (هذه الوجوه أكثرها متداخلة ، ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر ، مع أن كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصيص ! وفيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة ، وأكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الذي في الصحيح فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه، إنما اختلفا في قراءة حروفه . وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع، وهو جهل قبيح).
إن أقوال كبار علمائهم هذه دليل كاف على أن مقولة عمر غير قابلة للتعقل، فلا يجوز نسبتها الى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
أما السبب الذي جعل عمر يبتدعها ويورط فيها من بعده ، فهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حياته يُصَحِّحُ نصَّ القرآن لمن يقرؤه ، فكان مصدر نص القرآن واحداً مضبوطاً ، أما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وأحداث السقيفة وبيعة أبي بكر، فقد جاءهم عليٌّ بنسخة القرآن بخط يده حسب أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرفضوا اعتمادها ، لأنههم خافوا أن يكون فيها تفسير لمصلحة علي والعترة عليهم السلام ! فأخذها علي عليه السلام وقال: لهم لن تروها بعد اليوم ، إني مأمور بحفظها وأن أقرأ النسخة التي تعتمدونها حتى لا يكون في أيدي الناس نسختان للقرآن ! ففي الكافي:2/633: (عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد الله عليه السلام وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله: كف عن هذه القراءة ، إقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم قرأ كتاب الله عز وجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام ! وقال: أخرجه علي إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جمعته من اللوحين فقالوا: هو ذا عندنا مصحفٌ جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه ! فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً ، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه) ! انتهى. ومن ذلك اليوم ولدت أرضية التفاوت في النص القرآني، فالناس يقرؤون ولا يستطيع عمر أن يصحح لهم كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفعل، فيقول لهم كله صحيح!
وزاد التفاوت بينهم ، ثم تحول إلى اختلاف بين القراء في هذه الكلمة وتلك ، وهذه الآية وتلك ، فهذا يقرأ في صلاته أو يعلم المسلمين بنحو وذاك بنحو آخر ! وكلٌّ يؤكد صحة قراءته وخطأ ماخالفها، ووقع الخلاف فكان لابد أن تتدخل الدولة لحل المشكلة ، وأن يختار عمر نسخة من القرآن ويعتمدها، من علي عليه السلام أو من غيره كما فعل عثمان ، ولكنه لم يفعل بل اختار حل المشكلة بتوسيع نص القرآن ! وأخذ حديثاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاني القرآن وأنه نزل على سبعة أحرف أي أقسام من المعنى ، فجعلها لألفاظ القرآن وقال إن ألفاظه نزلت على سبعة وأفتى بصحة كل القراءات المختلف عليها ! روى النسائي:2/150:(عن ابن مخرمة أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام(من الطلقاء)يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها حروفاً لم يكن نبي الله أقرأنيها قلت من أقرأك هذه السورة؟!قال رسول الله قلت كذبت! ما هكذا أقرأك رسول الله ! فأخذت بيده أقوده إلى رسول الله وقلت: يا رسول الله إنك أقرأتني سورة الفرقان وإني سمعت هذا يقرأ فيها حروفاً لم تكن أقرأتنيها ! فقال رسول الله: إقرأ يا هشام فقرأ كما كان يقرأ ، فقال رسول الله: هكذا أنزلت ! ثم قال إقرأ يا عمر فقرأت فقال: هكذا أنزلت ! ثم قال رسول الله: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف)! وبخاري:6/100 و:6/110 و:3/90 و: 8/215 ، ومسلم: 2/201 بروايتين ، وأبو داود:1/331 ، والترمذي:4/263 ، والبيهقي:2/383 ، وأحمد:1/24 و39 و45 و264).
وكلام عمر صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزلت من عند الله هكذا وهكذا ! أي بلفظين مختلفين بل بسبعة ألفاظ ! وقد تصور عمر أنه بذلك حلَّ مشكلة التفاوت في القراءة بزعمه التفاوت في أصل النص القرآني ! ولكنه سكَّن المشكلة آنياً ثم حيَّر أتباعه أربعة عشر قرناً في تصور معنى معقول لنظريته المزعومة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
قبلوا رواية عمر غير المعقولة وردوا الصحيح المعقول:
فقد ردوا أحاديث اهل البيت عليهم السلام في وحدة نص القرآن ، والأحاديث الصحيحة عندهم التي توافقها، وتمسكوا ببدعة عمر غير المعقولة ! روى الحاكم:1/553 و:2/289: (عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجراً وآمراً وحلالاً وحراماً ومحكماً ومتشابهاً وأمثالاً ، فأحِلُّوا حلاله وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نُهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا). والدر المنثور:2/6 ، عن الحاكم وصححه والسجزي في الإبانة ، والطبراني وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر ، ونحوه شعب الإيمان عن أبي هريرة ، والإتقان/170 ونحوه مجمع الزوائد:7/152، عن البزار وأبي يعلى والطبراني ، ووثقه .
وروى المجلسي في بحار الأنوار:90/3، عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: (إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شاف كاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص. وفي القرآن ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدم ومؤخر ، وعزائم ورخص ، وحلال وحرام ، وفرائض وأحكام ومنقطع معطوف ، ومنقطع غير معطوف ، وحرف مكان حرف ، ومنه ما لفظه خاص ، ومنه ما لفظه عام محتمل العموم ، ومنه مالفظه واحد ومعناه جمع ، ومنه ما لفظه جمع ومعناه واحد ، ومنه ما لفظه ماض ومعناه مستقبل، ومنه ما لفظه على الخبر ومعناه حكاية عن قوم أخر ، ومنه ما هو باق محرف عن جهته ، ومنه ما هو على خلاف تنزيله ، ومنه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ما تأويله قبل تنزيله ، ومنه ما تأويله بعد تنزيله ، ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة أخرى ، ومنه آيات نصفها منسوخ ونصفها متروك على حاله ، ومنه آيات مختلفة اللفظ متفقة المعنى ، ومنه آيات متفقه اللفظ مختلفة المعنى ، ومنه آيات فيها رخصة وإطلاق بعد العزيمة..الخ.),انتهى. لاحظ أنه عليه السلام استعمل لفظة أقسام بدل حروف حتى لايحرف كلامه .
ومما يدل على بطلان أسطورة السبعة أحرف أيضاً:
أن صاحب المقولة لم يطبقها ! فلم يسمح عمر لأحد بذلك ، وكان يتدخل في القراءات ويحاسب عليها، ويرفض منها ويقبل ، ويأمر بمحو هذا وإثبات ذاك ! وكم وقعت مشاكل بينه وبين أبي بن كعب وغيره من القراء ، بسبب أنه قرأ آية بلفظ لم يعجب عمر ! فقد كانت هذه التوسعة المزعومة خاصة به دون غيره !
ثانياً: أن عثمان نقضها وألزم المسلمين بأن يقرؤوا القرآن بالحرف الذي كتب عليه مصحفه ! فأين صارت السبعة أحرف التي قلتم إن حديثها صحيح متواتر؟! صار معناها أن القرآن نزل من عند الله تعالى على سبعة أحرف، ثم صار في زمن عثمان على حرف واحد ! فيكون حديث عمر مُفَصَّلاً لمشكلة اضطراب القراءة في زمنه فقط ! فهل رأيتم حديثاً نبوياً لا دور له إلى يوم القيامة إلا أداء وظيفة خاصة ، وهي تسكين مشكلة اختلاف القراءات آنياً؟!
ثالثاً: بسبب بدعة عمر أفتى فقهاؤهم بجواز تحريف القرآن:
أثمرت بدعة عمر في فقه المذاهب السنية فأفتى فقهاؤهم بجواز التغيير في نص القرآن ، وفي نص التشهد في الصلاة لأنه أخف من نص القرآن ! قال الشافعي في اختلاف الحديث/489 ، وكتاب الأم:1/142: (وقد اختلف بعض أصحاب النبي(ص) في بعض لفظ القرآن عند رسول الله ولم يختلفوا في معناه فأقرهم وقال: هكذا أنزل إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه. فما سوى القرآن من الذكر أولى أن يتسع ، هذا فيه إذا لم يختلف المعنى) !
وقال البيهقي:2/145: (قال الشافعي: فإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف، معرفة منه بأن الحفظ قد نَزُرَ ليجعل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُخِلَّ معناه)! والمغني:1/575 ، والمحلى:3/253 .
وسترى أن نظرية التسامح في نص القرآن لم تقف عند حد التفاوت في بعض الحروف والكلمات في الآيات ، بل أخذت نموها السرطاني حتى وصلت الى نظرية تعويم نص القرآن وجواز قراءته بالمعنى بدون التقيد بألفاظه ! هذا ، وقد أوردنا إشكالات أخرى في تدوين والقرآن وألف سؤال في المسألة74.
عمر يفتي بنسف النص القرآني
ماذا يقول علماء المذاهب في الفتوى التالية: ( لا يجب على المسلمين أن يتقيدوا في قراءة القرآن بنصه ! لا في صلاتهم ولا في غيرها ، بل يجوز أن يقرؤوه بالمعنى حسب تصورهم بأي ألفاظ شاؤوا ! والشرط الوحيد أن لايَقْلِبُوا المعنى رأساً على عقب فتصير آية الرحمة آية عذاب وآية العذاب آية رحمة ! فإذا قرؤوا بهذا الشرط فقراءاتهم صحيحة شرعاً ! وكلها قرآن أنزله الله تعالى! فهو الذي اجاز قراءة كتابه بأي لفظ بهذا الشرط؟!
لابد أنهم سيصبُّون غضبهم على هذه الفتوى وصاحبها أياً كان ، وقد يقولون إنه رافضي كافر بالقرآن ! لكن إذا كان صاحبها عمر الذي سموه الفاروق فسيختلف الحال ! ويتحمسون لتفسير نظريته ، ويكثرون من ذكر الوجوه والإحتمالات ، ويفكر بعضهم نيفاً وثلاثين سنة حتى يفتح الله عليه بوجه جديد معقول ! بينما يسكت آخرون طالبين من الله الستر والسلامة للخليفة !!
روى أحمد في مسنده:4/30: (قرأ رجل عند عمر فَغَيَّر عليه فقال: قرأت على رسول الله (ص) فلم يغيِّر عليَّ ! قال فاجتمعنا عند النبي قال فقرأ الرجل على النبي(ص) فقال له: قد أحسنت ! قال فكأن عمر وَجَدَ من ذلك فقال النبي: يا عمر إن القرآن كله صواب ، ما لم يجعل عذابٌ مغفرةً أو مغفرةٌ عذاباً). ونحوه في:5/41 ، و51 ، و124، وفيه: (إن قلت غفوراً رحيماً أو قلت سميعاً عليماً أو عليماً سميعاً فالله كذلك ، مالم تختم آية عذاب برحمة أوآية رحمة بعذاب) !
وقال في مجمع الزوائد:7/150، عن رواية أحمد الأولى: (رواه أحمد ورجاله ثقات) ثم وثق حديث: (كل شاف كاف مالم يختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع واعجل) ! ونحوه بخاري في تاريخه:1/382، وفي أسد الغابة:5/156: أبوجارية الأنصاري ، روى عن النبي (ص) أنه قال: القرآن كله صواب ، وقال السيوطي في الإتقان:1/168، عن أبي هريرة (من حديث عمر: أن القرآن كله صواب ، ما لم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة . أسانيدها جياد ) !
وفي كنز العمال:1/618: (أَنْفِرِ الشيطان أنفر الشيطان أنفر الشيطان . يا عمر القرآن كله صواب ما لم يجعل المغفرة عذاباً والعذاب مغفرة). و/619، و:2/52 و/603..الخ.
تعني هذه الروايات الصحيحة عندهم: أولاً: أن نص القرآن مفتوح لقراءة من يريد بالألفاظ التي يريد ، بشرط واحد خفيف جداً ، هو أن لا تقلب المعنى من رحمة ومغفرة الى عذاب ، وبالعكس !
وتعني ثانياً: أن عمر يقول: إذا رأيت أحداً يقرأ القرآن غلطاً فلا تغيِّر عليه ! فلقد غيَّرت يوماً على شخص قراءته فلم يقبل فاحتكمنا للنبي فصحح قراءته فتأذيتُ ، وفي رواية: ما شككت في نبوة محمد منذ الجاهلية مثل ذلك اليوم ! فقال لي: لا تشك فنص القرآن هكذا أنزله الله تعالى مفتوحاً لكل قراءة بالمعنى !
وتعني ثالثاً: أن بدعة تعويم نص القرآن هي النتيجة الطبيعية لبدعة السبعة أحرف ، بل هي نفسها، فالأحرف السبعة (أميبا) التعويم ! فلو طبق المسلمون بدعة الأحرف السبعة لهدمت لبنات القرآن واحدة واحدة، أما هذه فتؤدي الى هدم صرح القرآن سورة سورة!
وتعني رابعاً: أن عمر روى مقولة الأحرف السبعة، لكن لم يسمح بها للناس ولا لقراء القرآن ، ولم يستفد منها أحد إلا هو نفسه !
وتعني خامساً: أن عمر أعطى للناس حقاً لم يعطه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ! فقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحابياً دعاء فغيَّر كلمة نبيك برسولك ، فنهاه ولم يرخص له ! قال بخاري:1/67: ( عن البراء بن عازب قال قال لي النبي: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك الا إليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلم به قال فرددتها على النبي فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك ، قال: لا ونبيك الذي أرسلت).
وكذلك لم يرخص الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يغير حرفاً في القرآن فقال تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ،(يونس: 15) . فاعجب لعمر يعطي لنفسه الحق في أن يرخص للناس بما لم يرخص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا الله تعالى !
وأخيراً ، فإن الناظر في سياسة عمر تجاه القرآن يجد فيها غرائب تبعث على التساؤل عن هدفه ، فلا يجد الجواب حتى عند ابن جزي الذي فكر في الأحرف السبعة بضعاً وثلاثين سنة ! فقد تعمد عمر تغييب النص القرآني الواحد في عهد أبي بكر وعهده ، وشكل لجنة لجمعه وأعطى رئاستها لشاب صغير السن يقال إنه يهودي هو زيد بن ثابت، وأبعد منها كل الذين شهد هو بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين أن يأخذوا القرآن منهم ! وأعلن أنه ضاع من القرآن أكثره ، وأن (لجنته) تبذل جهوداً كبيرة لجمعه من الناس والمكتوبات..الخ.
لكن القرآن الذي تجمعه اللجنة العتيدة لم يَرَهُ المسلمون ، بل خبأه لهم عند أمهم حفصة ولم يُطلع عليه أحداً وكان يواصل جمعه وتنقيحه ، حتى أحرقه مروان يوم وفاة حفصة ، والحمد لله !
فالحمد لله الذي جعل الأعمال والنظريات المنافية لحفظ كتابه حبراً على ورق ، وهواءً في شبك ! وساعد الأمة على تجاوز تلك الظروف الخطيرة على نص القرآن ، والتي استمرت بضع عشرة سنة وسببت اختلاف الأمة في نصه ، حتى نهض الغيارى على الإسلام ، وكتبوا نسخته على نسخة علي عليه السلام كما ستعرف ، فتجلَّت فاعلية قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . (الحجر:9)