ابو الهواشم
31-10-2008, 06:24 PM
قال عمر : ... إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها . . . من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا
أخرج البخاري في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل أسموه بحديث السقيفة ، قال فيه عمر : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها . . . من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ( 1 ) .
وفي رواية أخرى : ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى الله المؤمنين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . وذكر هذا الحديث من علماء أهل السنة : السيوطي في تاريخ الخلفاء ، وابن كثير في البداية والنهاية ، وابن هشام في السيرة النبوية ، وابن الأثير في الكامل ، والطبري في الرياض النضرة ، والدهلوي في مختصر التحفة الاثني عشرية ، وغيرهم ( 2 ) .
تأملات في الحديث : قول عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة . قال ابن منظور في لسان العرب : يقال : كان ذلك الأمر فلتة ، أي فجأة إذا لم يكن عن تدبر ولا ترو ، والفلتة : الأمر يقع من غير إحكام ( 3 ) .
وقال ابن الأثير في تفسير ذلك : أراد بالفلتة الفجأة . . . والفلتة كل شئ فعل من غير روية ( 4 ) .
وقال المحب الطبري : الفلتة : ما وقع عاجلا من غير ترو ولا تدبير في الأمر ولا احتيال فيه ، وكذلك كانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، كأنهم استعجلوا خوف الفتنة ، وإنما قال عمر ذلك لأن مثلها من الوقائع العظيمة التي ينبغي للعقلاء التروي في عقدها لعظم المتعلق بها ، فلا تبرم فلتة من غير اجتماع أهل العقد والحل من كل قاص ودان ، لتطيب الأنفس ، ولا تحمل من لم يدع إليها نفسه على المخالفة والمنازعة وإرادة الفتنة ، ولا سيما أشراف الناس وسادات العرب ، فلما وقعت بيعة أبي بكر على خلاف ذلك قال عمر ما قال . ثم إن الله وقى شرها ، فإن المعهود في وقوع مثلها في الوجود كثرة الفتن ، ووقوع العداوة والإحن ، فلذلك قال عمر : وقى الله شرها ( 5 ) .
أقول : إذا كانت بيعة أبي بكر فلتة ، قد وقعت بلا تدبير ولا ترو ، ومن غير مشورة أهل الحل والعقد ، فهذا يدل على أنها لم تكن بنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا نص صريح كما ادعاه بعض علماء أهل السنة ، ولا نص خفي وإشارة مفهمة كما ادعاه بعض آخر ، لأن بيعته لو كانت مأمورا بها تصريحا أو تلميحا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكانت بتدبير ، ولما كان للتروي ومشاورة الناس فيها مجال بعد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها .
ثم إن وصف هذه البيعة بالفلتة مشعر بأن أبا بكر لم يكن أفضل صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن كل ما رووه بعد ذلك في أفضليته على سائر الصحابة إنما اختلق لتصحيح خلافته وخلافة من جاء بعده ، ولصرف النظر عن أحقية غيره ، وإلا لو كانت أفضليته معلومة عند الناس بالأحاديث الكثيرة التي رووها في ذلك ، لما كان صحيحا أن توصف بيعة أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها وقعت بلا ترو وتدبير ، لأن التروي والتدبير إنما يطلبان للوصول إلى بيعة الأفضل لا لأمر آخر ، فإذا تحققت هذه البيعة فلا موضوعية للتروي أصلا .
وقول عمر : إلا أن الله وقى شرها يدل على أن تلك البيعة فيها شر ، وأنه من غير البعيد أن تقع بسببها فتنة ، إلا أن الله سبحانه وقى المسلمين شرها . والشر الذي وقى الله هذه الأمة منه هو الاختلاف والنزاع ، وإن كان قد وقع النزاع والشجار في سقيفة بني ساعدة ، وخالف أمير المؤمنين عليه السلام وأصحاب فامتنعوا عن البيعة كما مر البيان ، لكن هذا الخلاف لم يشهر فيه سيف ، ولم يسفك فيه دم .
إلا أن فتنة الخلاف في الخلافة باقية إلى اليوم ، وما افتراق المسلمين إلى شيعة وسنة إلا بسبب ذلك . ومن يتتبع حوادث الصدر الأول يجد أن الظروف التاريخية ساعدت أبا بكر وعمر على تولي الأمر واستتبابه لهما ، مع عدم أولويتهما بالأمر واستحقاقهما له ، وذلك يتضح بأمور :
1 - إن انشغال أمير المؤمنين عليه السلام وبني هاشم بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال دون ذهابه إلى السقيفة ، واحتجاجه على القوم بما هو حقه . كما أن غفلة عامة المهاجرين وباقي الأنصار عما تمالأ عليه القوم في السقيفة ، وحضور أبي بكر وعمر وأبي عبيدة دون غيرهم من المهاجرين ، جعل الحجة لهم على الأنصار ، إذ احتجوا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الأئمة من قريش . ولأنه لم يكن من قريش في السقيفة غيرهم ، فالخلافة لا بد حينئذ من أن تنحصر فيهم لأن القوم كانوا عقدوا العزم على اختيار خليفة من بين من حضروا في السقيفة ، لا يثنيهم عن ذلك شئ. وقد سارع في تحقق البيعة لأبي بكر ما كان بين الأوس والخزرج من المشاحنات المعروفة ، وما كان بين الخزرج أنفسهم من الحسد ، ولذلك بادر بشير بن سعد ( 6 ) فبايع أبا بكر . فقال له الحباب بن المنذر ( 7 ) : يا بشير بن سعد ، عققت عقاق ، ما أحوجك إلى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الإمارة ؟ ( 8 )
قال الطبري في تاريخه ، وابن الأثير في الكامل : ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد بن حضير ، وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم نصيبا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر . فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم ( 9 ) .
فكان نظر أبي بكر وعمر أن الخلافة لا يصح أن تكون إلا في قريش ، وكان لا بد من الإسراع في بيعة رجل من قريش لئلا تجعل في غيرهم .
قال المحب الطبري : وخشي - يعني أبا بكر - أن يخرج الأمر عن قريش ، فلا تدين العرب لمن يقوم به من غير قريش ، فيتطرق الفساد إلى أمر هذه الأمة ، ولم يحضر معه في السقيفة من قريش غير عمر وأبي عبيدة ، فلذلك دل عليهما ، ولم يمكنه ذكر غيرهما ممن كان غائبا خشية أن يتفرقوا عن ذلك المجلس من غير إبرام أمر ولا إحكامه ، فيفوت المقصود ، ولو وعدوا بالطاعة لمن غاب منهم حينئذ ما أمنهم على تسويل أنفسهم إلى الرجوع عن ذلك ( 10 ) .
ولأجل هذا المعنى اعتذر عمر بن الخطاب نفسه في حديث السقيفة عن مسارعتهم في بيعة أبي بكر ، وعدم تريثهم لمشاورة باقي المسلمين ، فقال : وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة ، أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد .
وأشار أبو بكر إلى ذلك في خطبته في المسجد بعد ذلك ، معتذرا للناس عن قبوله البيعة لنفسه ، فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكن أشفقت من الفتنة ( 11 ) .
وأخرج أحمد في المسند أن أبا بكر قال : فبايعوني لذلك ، وقبلتها منهم ، وتخوفت أن تكون فتنة تكون بعدها ردة ( 12 ) .
2 - إن ما أصيب به الإسلام والمسلمون من المصيبة العظمى والداهية الكبرى بفقد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وما تبعه من حوادث ، جعل كثيرا من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجنبون الخلاف والنزاع .
فبعد أن علموا أن البيعة تمت لأبي بكر في السقيفة ، رأوا أنهم إما أن يرضوا بما وقع ، وفيه ما فيه ، أو يظهروا الخلاف فيكون الأمر أسوأ والحالة أشد ، والمسلمون أحوج ما يكونون إلى نبذ الفرقة ولم الشمل ، فبايعوا أبا بكر ، وكانت بيعتهم من باب دفع الأفسد في نظرهم بالفاسد .
وكان كثير من الصحابة يتجنبون الخلاف حتى مع علمهم بالخطأ ، ويرون فعل الخطأ مع الوفاق ، أولى من فعل الحق مع الخلاف .
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود في السنن عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلى عثمان بمنى أربعا ، فقال عبد الله : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين . زاد عن حفص : ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها . . . ثم تفرقت بكم الطرق ، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين . . . فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعا ؟ قال : الخلاف شر ( 13 ) .
ورواه أحمد في المسند عن أبي ذر ( 14 ) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود ، وفيه أنه قال : ولكن عثمان كان إماما ، فما أخالفه ، والخلاف شر ( 15 ) .
وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا ، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين ( 16 ) .
3 - أن عمر بن الخطاب كان يعضد أبا بكر ويقويه ، وعمر معروف بالشدة والغلظة ، فلذلك خاف قوم من مخالفة أبي بكر وعمر في هذا الأمر ، وأجبر قوم آخرون على البيعة ( 17 ) ، فاستتب الأمر بذلك لأبي بكر .
فإذا كانوا قد كشفوا بيت فاطمة لأخذ البيعة من أمير المؤمنين عليه السلام ( 18 ) ، ولم يراعوا لبيت فاطمة الزهراء عليه السلام حرمة ، فعدم مراعاة غيرها من طريق أولى ، وإن قهرهم لعلي عليه السلام لأخذ البيعة منه ( 19 ) ، مع ما هو معلوم من شجاعته وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يجعل غيره لا يمتنع عن البيعة .
ومن شدة عمر في هذا الأمر أنه كان من الذين نزوا على سعد بن عبادة يوم السقيفة وكادوا يقتلونه ، وقد ذكر ذلك عمر في حديث السقيفة ، فقال : ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة . فقلت : قتل الله سعد بن عبادة . وهو الذي ضرب يد الحباب بن المنذر يوم السقيفة فندر السيف منها .
قال الطبري في تاريخه : لما قام الحباب بن المنذر ، انتضى سيفه وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب . . . فحامله عمر ، فضرب يده ، فندر السيف فأخذه ، ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد ( 20 ) .
وزبدة المخض أن أكثر الصحابة - المهاجرين منهم والأنصار - أعرضوا عن النصوص المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخلافة ، وصدرت منهم اجتهادات خالفوا بها النصوص الثابتة ، ثم التمسوا لهم الأعذار فيها ، والتمس من جاء بعدهم لهم ما يصحح اجتهاداتهم تلك .
ويدل على ذلك أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة وهم كثرة ، ليختاروا منهم خليفة للمسلمين ، مع أنهم يعلمون - كما في حديث السقيفة - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأئمة من قريش ، فتجاوزوا هذا النص الصريح الواضح في هذه المسألة حرصا منهم على الإمارة ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة ، وبئس الفاطمة ( 21 ) .
وكان ذلك مصداقا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ( 22 ) .
وفي رواية أخرى ، قال : ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها ( 23 ) .
وبالجملة فإن قلنا : إنه يشترط في الخليفة أن يكون قرشيا فلا يجوز للأنصار أن يبايعوا رجلا منهم ، وإن قلنا : إن اختيار الخليفة لا بد أن يكون بالشورى ، فحينئذ لا يحق لمن حضر في السقيفة أن يختاروا خليفة منهم دون مشورة باقي المسلمين ، ولا سيما أنه لم يحضر من المهاجرين إلا ثلاثة نفر : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
ثم إن احتجاج أبي بكر وعمر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم وهم عشيرته ، ولا يصلح لخلافته رجل من غيرهم ( 24 ) ، يستلزم أن يكون الخليفة من بني هاشم ، ومن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخصوص .
ولذلك احتج أمير المؤمنين عليهم بما احتجوا به على غيرهم ، فقال فيما نسب إليه :
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب ( 25 )
وأما إذا قلنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نص على الخليفة من بعده كما هو الصحيح ، فالمخالفة حينئذ تكون أوضح.
ومن ذلك كله يتضح أن أهل السقيفة - المهاجرين منهم والأنصار - خالفوا النصوص الصحيحة الواردة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخلافة . وهذا يستلزم ألا يكون شئ مما قرروه في السقيفة ملزما لغيرهم ، أو حجة عليهم ، بل لا يمكن أن يصحح بحال .
وأما اجتهاد باقي الصحابة ورغبتهم في ترك الخلاف ببيعة أبي بكر من أجل رأب الصدع وعدم إحداث الفرقة ، فهذا اجتهاد منهم لا يلزم غيرهم أيضا ، ولا يصحح بيعة أبي بكر مع ثبوت النصوص الصحيحة الدالة على خلافة علي عليه السلام التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
=============================
(1) صحيح البخاري 8 / 210 الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا ، 4 / 2130 ح 6830 . مسند أحمد بن حنبل 1 / 323 ح 391 . الجمع بن الصحيحين للحميدي 1 / 104 . الجمع بين الصحيحين للموصلي 1 / 260 . المصنف 7 / 431 ح 37031 ، 37032 .
(2) تاريخ الخلفاء ، ص 51 . البداية والنهاية 5 / 215 . السيرة النبوية 4 / 657 . الكامل في التاريخ 2 / 326 . الرياض النضرة 1 / 233 . مختصر التحفة الاثني عشرية ، ص 243 .
(3) لسان العرب 2 / 67 .
(4) النهاية في غريب الحديث 3 / 467 .
(5) الرياض النضرة 1 / 237 .
(6) بشير بن سعد والد النعمان بن بشير ، من الخزرج . قال ابن الأثير في أسد الغابة 1 / 398 : شهد بدرا وأحدا والمشاهد بعدها ، يقال : إنه أول من بايع أبا بكر رضي الله عنه يوم السقيفة من الأنصار ، وقتل يوم عين تمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة .
(7) هو الحباب من المنذر بن الجموح الأنصاري ، من الخزرج . قال ابن الأثير في أسد الغابة 1 / 665 : شهد بدرا وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . . . وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال له : ذو الرأي . وهو القائل يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير . وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب .
(8) يعني أنك حسدت سعد بن عبادة أو الحباب نفسه لأنه دعا إلى نفسه ، فبادرت إلى مبايعة أبي بكر ، لئلا ينالها سعد أو الحباب .
(9) تاريخ الطبري 2 / 458 . الكامل في التاريخ 2 / 331 .
(10) الرياض النضرة 1 / 238 .
(11) السيرة الحلبية 3 / 484 . وراجع مروج الذهب 2 / 301 .
(12) مسند أحمد بن حنبل 1 / 41 ح 42 ، قال أحمد شاكر : إسناده صحيح .
(13) سنن أبي داود 2 / 199 ح 1960 .
(14) مسند أحمد بن حنبل 31 / 205 ح 21541 .
(15) السنن الكبرى 3 / 144 .
(16) صحيح مسلم 1 / 482 .
(17) ذكر الطبري في تاريخه أن سعد بن عبادة قال يوم السقيفة لأبي بكر : إنك وقومي أجبرتموني على البيعة . فقالوا له : إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ، ولكنا أجبرنا على الجماعة فلا إقالة فيها ، لئن نزعت يدا من طاعة أو فرقت جماعة لنضربن الذي فيه عيناك .
(18) ذكر المسعودي في مروج الذهب 2 / 301 أن أبا بكر لما احتضر قال : ما آسى على شئ إلا على ثلاث فعلتها ، وددت أني تركتها ، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها ، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فأما الثلاث التي فعلتها ، ووددت أني تركتها ، فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة .
وفي الإمامة والسياسة ، ص 18 : فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن : فليتني تركت بيت علي وإن كان أعلن علي الحرب . . . وذكر هجوم القوم على بيت فاطمة أيضا : اليعقوبي في تاريخه 2 / 11 . وأبو الفداء في تاريخه 1 / 219 . وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، ص 13 كما سيأتي .
(19) قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، ص 13 : ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة ، فدقوا الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟ فلما سمع القوم صوتها وبكائها انصرفوا باكين . . . وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليا ، فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع . . .
وقال أبو الفداء في تاريخه 1 / 219 : ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها ، وقال : إن أبوا عليك فقاتلهم . فأقبل عمر بشئ من نار على أن يضرم الدار ، فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت : إلى أين يا ابن الخطاب ؟ أجئت لتحرق دارنا ؟ قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة . . . ونظم هذا المعنى حافظ إبراهيم ، فقال :
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها * أمام فارس عدنان وحاميها
وهو كثير في كتب التاريخ يجده المتتبع
(20) تاريخ الطبري 2 / 459 .
(21) صحيح البخاري 4 / 2234 الأحكام ، ب 7 ح 7148 . سنن النسائي 7 / 181 ح 4222 ، 8 / 617 ح 5400 . صحيح سنن النسائي 2 / 457 ، 1090 . مسند أحمد بن حنبل 2 / 448 ، 476 . الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7 / 8 . السنن الكبرى 3 / 129 ، 10 / 95 . الترغيب والترهيب 3 / 98 . مشكاة المصابيح 2 / 1089 . حلية الأولياء 7 / 93 . شرح السنة 1 / 57 ، 14 / 58 . الجامع الصغير 1 / 388 ح 2538 . صحيح الجامع الصغير 1 / 388 ح 2304 . سلسلة الأحاديث الصحيحة 6 : 1 / 70 ح 2530 .
(22) صحيح البخاري 1 / 399 الجنائز ، ب 72 ح 1344 ، 3 / 1110 المناقب ، ب 25 ح 3596 ، 4 / 2059 الرقاق ، ب 53 ح 6590 . صحيح مسلم 4 / 1795 الفضائل ، ب 9 ح 2296 .
(23) صحيح البخاري 3 / 1234 المغازي ، ب 17 ح 4043 .
(24) ذكر الطبري في تاريخه 2 / 457 ، وابن الأثير في الكامل في التاريخ 2 / 329 خطبة أبي بكر يوم السقيفة ، فذكر المهاجرين وبين فضلهم على غيرهم ، فكان مما قال : فهم أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله والرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحق بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم . وكان مما قاله عمر : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدل بباطل ، أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة . وقال أبو عبيدة : ألا إن محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش ، وقومه أولى به .
(25) ديوان أمير المؤمنين عليه السلام ، ص 12 . وراجع احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام بذلك في ( الإمامة والسياسة ) ، ص 11 .
أخرج البخاري في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل أسموه بحديث السقيفة ، قال فيه عمر : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها . . . من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ( 1 ) .
وفي رواية أخرى : ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى الله المؤمنين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . وذكر هذا الحديث من علماء أهل السنة : السيوطي في تاريخ الخلفاء ، وابن كثير في البداية والنهاية ، وابن هشام في السيرة النبوية ، وابن الأثير في الكامل ، والطبري في الرياض النضرة ، والدهلوي في مختصر التحفة الاثني عشرية ، وغيرهم ( 2 ) .
تأملات في الحديث : قول عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة . قال ابن منظور في لسان العرب : يقال : كان ذلك الأمر فلتة ، أي فجأة إذا لم يكن عن تدبر ولا ترو ، والفلتة : الأمر يقع من غير إحكام ( 3 ) .
وقال ابن الأثير في تفسير ذلك : أراد بالفلتة الفجأة . . . والفلتة كل شئ فعل من غير روية ( 4 ) .
وقال المحب الطبري : الفلتة : ما وقع عاجلا من غير ترو ولا تدبير في الأمر ولا احتيال فيه ، وكذلك كانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، كأنهم استعجلوا خوف الفتنة ، وإنما قال عمر ذلك لأن مثلها من الوقائع العظيمة التي ينبغي للعقلاء التروي في عقدها لعظم المتعلق بها ، فلا تبرم فلتة من غير اجتماع أهل العقد والحل من كل قاص ودان ، لتطيب الأنفس ، ولا تحمل من لم يدع إليها نفسه على المخالفة والمنازعة وإرادة الفتنة ، ولا سيما أشراف الناس وسادات العرب ، فلما وقعت بيعة أبي بكر على خلاف ذلك قال عمر ما قال . ثم إن الله وقى شرها ، فإن المعهود في وقوع مثلها في الوجود كثرة الفتن ، ووقوع العداوة والإحن ، فلذلك قال عمر : وقى الله شرها ( 5 ) .
أقول : إذا كانت بيعة أبي بكر فلتة ، قد وقعت بلا تدبير ولا ترو ، ومن غير مشورة أهل الحل والعقد ، فهذا يدل على أنها لم تكن بنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا نص صريح كما ادعاه بعض علماء أهل السنة ، ولا نص خفي وإشارة مفهمة كما ادعاه بعض آخر ، لأن بيعته لو كانت مأمورا بها تصريحا أو تلميحا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكانت بتدبير ، ولما كان للتروي ومشاورة الناس فيها مجال بعد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها .
ثم إن وصف هذه البيعة بالفلتة مشعر بأن أبا بكر لم يكن أفضل صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن كل ما رووه بعد ذلك في أفضليته على سائر الصحابة إنما اختلق لتصحيح خلافته وخلافة من جاء بعده ، ولصرف النظر عن أحقية غيره ، وإلا لو كانت أفضليته معلومة عند الناس بالأحاديث الكثيرة التي رووها في ذلك ، لما كان صحيحا أن توصف بيعة أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها وقعت بلا ترو وتدبير ، لأن التروي والتدبير إنما يطلبان للوصول إلى بيعة الأفضل لا لأمر آخر ، فإذا تحققت هذه البيعة فلا موضوعية للتروي أصلا .
وقول عمر : إلا أن الله وقى شرها يدل على أن تلك البيعة فيها شر ، وأنه من غير البعيد أن تقع بسببها فتنة ، إلا أن الله سبحانه وقى المسلمين شرها . والشر الذي وقى الله هذه الأمة منه هو الاختلاف والنزاع ، وإن كان قد وقع النزاع والشجار في سقيفة بني ساعدة ، وخالف أمير المؤمنين عليه السلام وأصحاب فامتنعوا عن البيعة كما مر البيان ، لكن هذا الخلاف لم يشهر فيه سيف ، ولم يسفك فيه دم .
إلا أن فتنة الخلاف في الخلافة باقية إلى اليوم ، وما افتراق المسلمين إلى شيعة وسنة إلا بسبب ذلك . ومن يتتبع حوادث الصدر الأول يجد أن الظروف التاريخية ساعدت أبا بكر وعمر على تولي الأمر واستتبابه لهما ، مع عدم أولويتهما بالأمر واستحقاقهما له ، وذلك يتضح بأمور :
1 - إن انشغال أمير المؤمنين عليه السلام وبني هاشم بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال دون ذهابه إلى السقيفة ، واحتجاجه على القوم بما هو حقه . كما أن غفلة عامة المهاجرين وباقي الأنصار عما تمالأ عليه القوم في السقيفة ، وحضور أبي بكر وعمر وأبي عبيدة دون غيرهم من المهاجرين ، جعل الحجة لهم على الأنصار ، إذ احتجوا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الأئمة من قريش . ولأنه لم يكن من قريش في السقيفة غيرهم ، فالخلافة لا بد حينئذ من أن تنحصر فيهم لأن القوم كانوا عقدوا العزم على اختيار خليفة من بين من حضروا في السقيفة ، لا يثنيهم عن ذلك شئ. وقد سارع في تحقق البيعة لأبي بكر ما كان بين الأوس والخزرج من المشاحنات المعروفة ، وما كان بين الخزرج أنفسهم من الحسد ، ولذلك بادر بشير بن سعد ( 6 ) فبايع أبا بكر . فقال له الحباب بن المنذر ( 7 ) : يا بشير بن سعد ، عققت عقاق ، ما أحوجك إلى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الإمارة ؟ ( 8 )
قال الطبري في تاريخه ، وابن الأثير في الكامل : ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد بن حضير ، وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم نصيبا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر . فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم ( 9 ) .
فكان نظر أبي بكر وعمر أن الخلافة لا يصح أن تكون إلا في قريش ، وكان لا بد من الإسراع في بيعة رجل من قريش لئلا تجعل في غيرهم .
قال المحب الطبري : وخشي - يعني أبا بكر - أن يخرج الأمر عن قريش ، فلا تدين العرب لمن يقوم به من غير قريش ، فيتطرق الفساد إلى أمر هذه الأمة ، ولم يحضر معه في السقيفة من قريش غير عمر وأبي عبيدة ، فلذلك دل عليهما ، ولم يمكنه ذكر غيرهما ممن كان غائبا خشية أن يتفرقوا عن ذلك المجلس من غير إبرام أمر ولا إحكامه ، فيفوت المقصود ، ولو وعدوا بالطاعة لمن غاب منهم حينئذ ما أمنهم على تسويل أنفسهم إلى الرجوع عن ذلك ( 10 ) .
ولأجل هذا المعنى اعتذر عمر بن الخطاب نفسه في حديث السقيفة عن مسارعتهم في بيعة أبي بكر ، وعدم تريثهم لمشاورة باقي المسلمين ، فقال : وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة ، أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد .
وأشار أبو بكر إلى ذلك في خطبته في المسجد بعد ذلك ، معتذرا للناس عن قبوله البيعة لنفسه ، فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكن أشفقت من الفتنة ( 11 ) .
وأخرج أحمد في المسند أن أبا بكر قال : فبايعوني لذلك ، وقبلتها منهم ، وتخوفت أن تكون فتنة تكون بعدها ردة ( 12 ) .
2 - إن ما أصيب به الإسلام والمسلمون من المصيبة العظمى والداهية الكبرى بفقد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وما تبعه من حوادث ، جعل كثيرا من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجنبون الخلاف والنزاع .
فبعد أن علموا أن البيعة تمت لأبي بكر في السقيفة ، رأوا أنهم إما أن يرضوا بما وقع ، وفيه ما فيه ، أو يظهروا الخلاف فيكون الأمر أسوأ والحالة أشد ، والمسلمون أحوج ما يكونون إلى نبذ الفرقة ولم الشمل ، فبايعوا أبا بكر ، وكانت بيعتهم من باب دفع الأفسد في نظرهم بالفاسد .
وكان كثير من الصحابة يتجنبون الخلاف حتى مع علمهم بالخطأ ، ويرون فعل الخطأ مع الوفاق ، أولى من فعل الحق مع الخلاف .
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود في السنن عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلى عثمان بمنى أربعا ، فقال عبد الله : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين . زاد عن حفص : ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها . . . ثم تفرقت بكم الطرق ، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين . . . فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعا ؟ قال : الخلاف شر ( 13 ) .
ورواه أحمد في المسند عن أبي ذر ( 14 ) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود ، وفيه أنه قال : ولكن عثمان كان إماما ، فما أخالفه ، والخلاف شر ( 15 ) .
وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا ، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين ( 16 ) .
3 - أن عمر بن الخطاب كان يعضد أبا بكر ويقويه ، وعمر معروف بالشدة والغلظة ، فلذلك خاف قوم من مخالفة أبي بكر وعمر في هذا الأمر ، وأجبر قوم آخرون على البيعة ( 17 ) ، فاستتب الأمر بذلك لأبي بكر .
فإذا كانوا قد كشفوا بيت فاطمة لأخذ البيعة من أمير المؤمنين عليه السلام ( 18 ) ، ولم يراعوا لبيت فاطمة الزهراء عليه السلام حرمة ، فعدم مراعاة غيرها من طريق أولى ، وإن قهرهم لعلي عليه السلام لأخذ البيعة منه ( 19 ) ، مع ما هو معلوم من شجاعته وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يجعل غيره لا يمتنع عن البيعة .
ومن شدة عمر في هذا الأمر أنه كان من الذين نزوا على سعد بن عبادة يوم السقيفة وكادوا يقتلونه ، وقد ذكر ذلك عمر في حديث السقيفة ، فقال : ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة . فقلت : قتل الله سعد بن عبادة . وهو الذي ضرب يد الحباب بن المنذر يوم السقيفة فندر السيف منها .
قال الطبري في تاريخه : لما قام الحباب بن المنذر ، انتضى سيفه وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب . . . فحامله عمر ، فضرب يده ، فندر السيف فأخذه ، ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد ( 20 ) .
وزبدة المخض أن أكثر الصحابة - المهاجرين منهم والأنصار - أعرضوا عن النصوص المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخلافة ، وصدرت منهم اجتهادات خالفوا بها النصوص الثابتة ، ثم التمسوا لهم الأعذار فيها ، والتمس من جاء بعدهم لهم ما يصحح اجتهاداتهم تلك .
ويدل على ذلك أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة وهم كثرة ، ليختاروا منهم خليفة للمسلمين ، مع أنهم يعلمون - كما في حديث السقيفة - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأئمة من قريش ، فتجاوزوا هذا النص الصريح الواضح في هذه المسألة حرصا منهم على الإمارة ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة ، وبئس الفاطمة ( 21 ) .
وكان ذلك مصداقا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ( 22 ) .
وفي رواية أخرى ، قال : ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها ( 23 ) .
وبالجملة فإن قلنا : إنه يشترط في الخليفة أن يكون قرشيا فلا يجوز للأنصار أن يبايعوا رجلا منهم ، وإن قلنا : إن اختيار الخليفة لا بد أن يكون بالشورى ، فحينئذ لا يحق لمن حضر في السقيفة أن يختاروا خليفة منهم دون مشورة باقي المسلمين ، ولا سيما أنه لم يحضر من المهاجرين إلا ثلاثة نفر : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
ثم إن احتجاج أبي بكر وعمر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم وهم عشيرته ، ولا يصلح لخلافته رجل من غيرهم ( 24 ) ، يستلزم أن يكون الخليفة من بني هاشم ، ومن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخصوص .
ولذلك احتج أمير المؤمنين عليهم بما احتجوا به على غيرهم ، فقال فيما نسب إليه :
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب ( 25 )
وأما إذا قلنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نص على الخليفة من بعده كما هو الصحيح ، فالمخالفة حينئذ تكون أوضح.
ومن ذلك كله يتضح أن أهل السقيفة - المهاجرين منهم والأنصار - خالفوا النصوص الصحيحة الواردة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخلافة . وهذا يستلزم ألا يكون شئ مما قرروه في السقيفة ملزما لغيرهم ، أو حجة عليهم ، بل لا يمكن أن يصحح بحال .
وأما اجتهاد باقي الصحابة ورغبتهم في ترك الخلاف ببيعة أبي بكر من أجل رأب الصدع وعدم إحداث الفرقة ، فهذا اجتهاد منهم لا يلزم غيرهم أيضا ، ولا يصحح بيعة أبي بكر مع ثبوت النصوص الصحيحة الدالة على خلافة علي عليه السلام التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
=============================
(1) صحيح البخاري 8 / 210 الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا ، 4 / 2130 ح 6830 . مسند أحمد بن حنبل 1 / 323 ح 391 . الجمع بن الصحيحين للحميدي 1 / 104 . الجمع بين الصحيحين للموصلي 1 / 260 . المصنف 7 / 431 ح 37031 ، 37032 .
(2) تاريخ الخلفاء ، ص 51 . البداية والنهاية 5 / 215 . السيرة النبوية 4 / 657 . الكامل في التاريخ 2 / 326 . الرياض النضرة 1 / 233 . مختصر التحفة الاثني عشرية ، ص 243 .
(3) لسان العرب 2 / 67 .
(4) النهاية في غريب الحديث 3 / 467 .
(5) الرياض النضرة 1 / 237 .
(6) بشير بن سعد والد النعمان بن بشير ، من الخزرج . قال ابن الأثير في أسد الغابة 1 / 398 : شهد بدرا وأحدا والمشاهد بعدها ، يقال : إنه أول من بايع أبا بكر رضي الله عنه يوم السقيفة من الأنصار ، وقتل يوم عين تمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة .
(7) هو الحباب من المنذر بن الجموح الأنصاري ، من الخزرج . قال ابن الأثير في أسد الغابة 1 / 665 : شهد بدرا وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . . . وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال له : ذو الرأي . وهو القائل يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير . وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب .
(8) يعني أنك حسدت سعد بن عبادة أو الحباب نفسه لأنه دعا إلى نفسه ، فبادرت إلى مبايعة أبي بكر ، لئلا ينالها سعد أو الحباب .
(9) تاريخ الطبري 2 / 458 . الكامل في التاريخ 2 / 331 .
(10) الرياض النضرة 1 / 238 .
(11) السيرة الحلبية 3 / 484 . وراجع مروج الذهب 2 / 301 .
(12) مسند أحمد بن حنبل 1 / 41 ح 42 ، قال أحمد شاكر : إسناده صحيح .
(13) سنن أبي داود 2 / 199 ح 1960 .
(14) مسند أحمد بن حنبل 31 / 205 ح 21541 .
(15) السنن الكبرى 3 / 144 .
(16) صحيح مسلم 1 / 482 .
(17) ذكر الطبري في تاريخه أن سعد بن عبادة قال يوم السقيفة لأبي بكر : إنك وقومي أجبرتموني على البيعة . فقالوا له : إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ، ولكنا أجبرنا على الجماعة فلا إقالة فيها ، لئن نزعت يدا من طاعة أو فرقت جماعة لنضربن الذي فيه عيناك .
(18) ذكر المسعودي في مروج الذهب 2 / 301 أن أبا بكر لما احتضر قال : ما آسى على شئ إلا على ثلاث فعلتها ، وددت أني تركتها ، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها ، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فأما الثلاث التي فعلتها ، ووددت أني تركتها ، فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة .
وفي الإمامة والسياسة ، ص 18 : فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن : فليتني تركت بيت علي وإن كان أعلن علي الحرب . . . وذكر هجوم القوم على بيت فاطمة أيضا : اليعقوبي في تاريخه 2 / 11 . وأبو الفداء في تاريخه 1 / 219 . وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، ص 13 كما سيأتي .
(19) قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، ص 13 : ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة ، فدقوا الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟ فلما سمع القوم صوتها وبكائها انصرفوا باكين . . . وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليا ، فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع . . .
وقال أبو الفداء في تاريخه 1 / 219 : ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها ، وقال : إن أبوا عليك فقاتلهم . فأقبل عمر بشئ من نار على أن يضرم الدار ، فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت : إلى أين يا ابن الخطاب ؟ أجئت لتحرق دارنا ؟ قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة . . . ونظم هذا المعنى حافظ إبراهيم ، فقال :
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها * أمام فارس عدنان وحاميها
وهو كثير في كتب التاريخ يجده المتتبع
(20) تاريخ الطبري 2 / 459 .
(21) صحيح البخاري 4 / 2234 الأحكام ، ب 7 ح 7148 . سنن النسائي 7 / 181 ح 4222 ، 8 / 617 ح 5400 . صحيح سنن النسائي 2 / 457 ، 1090 . مسند أحمد بن حنبل 2 / 448 ، 476 . الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7 / 8 . السنن الكبرى 3 / 129 ، 10 / 95 . الترغيب والترهيب 3 / 98 . مشكاة المصابيح 2 / 1089 . حلية الأولياء 7 / 93 . شرح السنة 1 / 57 ، 14 / 58 . الجامع الصغير 1 / 388 ح 2538 . صحيح الجامع الصغير 1 / 388 ح 2304 . سلسلة الأحاديث الصحيحة 6 : 1 / 70 ح 2530 .
(22) صحيح البخاري 1 / 399 الجنائز ، ب 72 ح 1344 ، 3 / 1110 المناقب ، ب 25 ح 3596 ، 4 / 2059 الرقاق ، ب 53 ح 6590 . صحيح مسلم 4 / 1795 الفضائل ، ب 9 ح 2296 .
(23) صحيح البخاري 3 / 1234 المغازي ، ب 17 ح 4043 .
(24) ذكر الطبري في تاريخه 2 / 457 ، وابن الأثير في الكامل في التاريخ 2 / 329 خطبة أبي بكر يوم السقيفة ، فذكر المهاجرين وبين فضلهم على غيرهم ، فكان مما قال : فهم أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله والرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحق بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم . وكان مما قاله عمر : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدل بباطل ، أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة . وقال أبو عبيدة : ألا إن محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش ، وقومه أولى به .
(25) ديوان أمير المؤمنين عليه السلام ، ص 12 . وراجع احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام بذلك في ( الإمامة والسياسة ) ، ص 11 .