تراب البقيع
11-11-2008, 08:30 PM
الصحيفة الملعونة
واجتمع قوم من المنافقين وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما عرض عليهم من ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعده، فلمّ رجعوا من الحجّ ودخلوا المدينة كتبوا صحيفة بينهم، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنّ الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم(1)، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً أصحاب العقبة وعشرون رجلاً آخر، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة ابن الجرّاح وجعلوه أمينهم عليها.
قال حذيفة: حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعيمة امرأة أبي بكر: إنّ القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبّرونه في ذلك حتّى اجتمع رأيهم على ذلك، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم.
وأهمّ ما فيها: هذا ما اتّفق عليه الملأ من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار بعد أن أجهدوا في رأيهم، وتشاوروا في أمرهم نظراً منهم إلى الإسلام وأهله، ليقتدي بهم من يأتي بعدهم.
إنّ الله لمّا أكمل دينه قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه من غير أن يستخلف أحداً وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم، والذي يجب على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح فيتشاوروا في أُمورهم، فمن رأوه مستحقّاً للخلافة ولّوه أُمورهم.
فإن ادّعى مدّع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف رجلاً بعينه نصبه للناس ونصّ عليه باسمه فقد أبطل في قوله وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولا يكون قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبب استحقاق الخلافة والإمامة لأنّ الله يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )(1).
فمن كره ما ذُكر وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه كائناً من كان!!..
ثمّ دُفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح ليوجّه بها إلى مكّة(2).
ثمّ انصرفوا.. وصلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس صلاة الفجر، ثمّ جلس في مجلسه يذكر الله تعالى حتىّ طلعت الشمس، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجرّاح فقال له: " بخ بخ من مثلك وقد أصبحت أمين هذه الأُمّة! " ثمّ تلا: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ )(3) " لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الأُمة ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) "(4).
ثمّ قال: " لقد أصبح في هذه الأُمّة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية وعلّقوها في الكعبة، وإنّ الله تعالى يمتّعهم ليبتليهم ويبتلي من يأتي بعدهم تفرقة بين الخبيث والطيّب، ولو لا أنّه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقدّمتهم فضربت أعناقهم.
قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر ـ عند قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المقالة ـ وقد أخذتهم الرعدة فما يملك أحد منهم نفسه شيئاً، ولم يخفَ على أحد ممن حضر مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك اليوم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاهم عنى بقوله ولهم ضرب تلك الأمثال(1).
أقول: وإلى هذا أشار أُبي بن كعب في كلمته المشهورة: ألا هلك أهل العقدة والله ما آسي عليهم إنّما آسي على من يضلّون(2).
ويظهر من سائر الروايات أنّهم تعاقدوا قبل ذلك أيضاً في الكعبة في عدد يسير ; وهم: عمر، وأبو بكر، وأبو عبيدة، وسالم، ومعاذ بن جبل، وعبد الرّحمن بن عوف، والمغيرة بن شعبة(1)..
أقول: ويدلّك على تعاقد القوم وتدبيرهم في أمر الخلافة من قبل أُمور:
الأوّل: إحالة كل واحد من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة أمر الخلافة إلى الآخر وعرض البيعة عليه، من دون مشاورة سائر الناس، فهل يكون اتّفاق هؤلاء الثلاثة وبعض من عاونهم إجماع المسلمين؟!
وهل كانوا وكلاء المسلمين في انتخاب الخليفة؟! هل يكون اعتبار الشورى مختصاً بتشاور هؤلاء؟!
الثاني: إنكار عمر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مجيء أبي بكر لإغفال الناس عن أمر الخلافة، فما زال يتكلّم ويتوعّد المنافقين ـ بزعمه ـ، حتّى ازبدّ شدقاه(2)!!.. وسكوته بعد مجيء أبي بكر.
وفي رواية: وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه(3)، بل في غير واحد من المصادر أنه دعا إلى بيعة أبي بكر عقيب ذلك من دون فصل(4).
الثالث: مسارعة أبي بكر إلى الكلام عقيب ذكر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترشيحه نفسه لأمر الخلافة، وفي رواية إنّه قال: ألا وإنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مضى لسبيله، ولابدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبّروا وانظروا وهاتوا ما عندكم رحمكم الله(1).
الرابع: مواضع من كلام عمر حين حكاية قضايا السقيفة، مثل قوله: هيأت كلاماً(2).. أو: وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها..
وفي بعض الروايات: أُريد أن أُقدمها بين يدي أبي بكر(3).. فإنّها تدلّ على توطئتهم مسبقاً في أمر الخلافة، وتدبيرهم لها، نعم لتلبيس الأمر على الناس يقول عمر: والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته.
أو قولته المشهورة: كانت بيعة أبي بكر فلتة.
وقد صرّح عثمان ـ في أوّل مرّة صعد المنبر ـ، بأنّ أبا بكر وعمر كانا يهيّئان أنفسهما للخلافة ; قال الجاحظ وغيره: إنّ عثمان صعد المنبر فارتجّ عليه.. فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً.. سآتيكم الخطبة على وجهها!!(4).
الخامس: إنّ عمر هو الذي كان يحثّ أبا بكر أن يصعد المنبر، فلم يزل به حتّى صعد المنبر(5)، وفي رواية أنس: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً(6).. ثمّ تراه يصعد المنبر ويتكلّم قبل أبي بكر ويدعو الناس إلى
مبايعته(1)، بل صرّح أبو بكر بذلك حينما قال لعمر: أنت كلّفتني هذا الأمر(2).
السادس: تولّى عمر جميع الأُمور زمن خلافة أبي بكر، قال ابن عبد ربّه: وكان على أمره كلّه وعلى القضاء عمر بن الخطّاب(3).
بل خالفه في غير واحد من القضايا، فلم يجترئ أبو بكر أن يدافع عن نفسه ويردّ حكم عمر، فلمّا قيل له: أنت الخليفة أم عمر؟!
أجاب: بل عمر.. ولكنّه أبى!!
وفي رواية: بل هو إن شاء.
وفي اُخرى: بل هو ولو شاء كان.
وفي غيرها: الأمير عمر غير أنّ الطاعة لي!!
أو: إنّا لانجيز إلاّ ما أجازه عمر(4).
السابع: ولعلّه أهمّها ما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته..! لو كان سالم حيّاً استخلفته..! وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل(5)!
الــــــــــمصـــــــــــــدر:::
1. كتاب الردّة، للواقدي: 31 ; الفتوح، لأحمد بن أعثم: 1/4 ; المواقف للإيجي، مع شرح الجرجاني: 3/575.
2. البخاري: 4/194 ; الطبقات: 2/ ق 2/55.
3. مسند أحمد: 1/56 ; البخاري: 8/27 ; السنن الكبرى، للبيهقي: 8/142 ; العقد الفريد: 4/258 (ط مصر) ; البداية والنهاية: 5/266 ; كنز العمال: 5/645.
4. أنساب الأشراف: 6/131 (ط دار الفكر) ; البيان والتبين للجاحظ: 1/345 (ط دار الكفر) ; شرح نهج البلاغة: 13/13 ; بحار الأنوار: 31/245.
5. البخاري: 8/126 ; سيرة ابن كثير: 4/492 ; البداية و النهاية: 5/268.
6. المغازي، للواقدي: 135 ; الآحاد والمثاني: 1/77 ; المصنف لعبد الرزّاق: 5/438.
1. راجع الكافي: 8/179 ـ 180، 334 ; الصراط المستقيم: 3/153.
2. تاريخ الخميس: 2/167 ; جامع الاحاديث الكبير: 13/260.
3. كنز العمال: 7/245.
4. الطبقات لابن سعد: 2/ ق 2/54 ; مسند أحمد: 6/220 ; أنساب الأشراف: 2/238 ; السيرة، لابن كثير: 4/480 ; تاريخ الإسلام، للذهبي: 1/564 ; نهاية الارب: 18/387 ; مجمع الزوائد: 9/32 ; كنز العمال: 7/232 ; جامع الأحاديث: 13/16.
1. إرشاد القلوب: 333 ـ 336 عنه بحار الأنوار: 28/101 ـ 106.
2. سنن النسائي: 2/88 ; مسند أحمد: 5/140 ; المستدرك للحاكم: 2/226 (وأشار إليها في 3/305) ; الطبقات لابن سعد: 3/ ق 2/61 ; حلية الأولياء: 1/252 ; شرح نهج البلاغة: 20/24 ; النهاية لابن الاثير: 3/270.
ورواها من الإمامية: الإيضاح ص 378 ; المسترشد: 28 ـ 29 ; الفصول المختارة: 90 عنه بحار الأنوار: 10/296 ; الصراط المستقيم: 3/154 و 257 عنه بحار الأنوار: 28/122.
ثم أنك تجد في غير واحد من المصادر التصريح أو الإشارة إلى تعاهد القوم على صرف الأمر من بني هاشم إلى أنفسهم، وفي كثير منها أُشير إلى الصحيفة، راجع كتاب سليم: 86 ـ 87، 92، 118 ـ 119، 164 ـ 165، 168، 222 ـ 226 ; تفسير العياشي: 1/274 ـ 275 و 2/200 ; المسترشد: 413 ; الكافي: 1/391، 420 ـ 421 و 4/545 و 8/179 ـ 180، 334، 379 ; تفسير القمي: 1/142، 173، 175، 301 و 2/289، 308، 356، 358 ; الاستغاثة: 171 ـ 172 ; الخصال: 171 ; معاني الاخبار: 412 ; أمالي المفيد: 112 ـ 113 ; المسائل العكبرية: 77 ـ 78 ; الفصول المختارة: 90 ; تقريب المعارف: 227، 367 (تبريزيان) ; المناقب: 3/212 ـ 213 ; بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): 197 ; الاحتجاج: 62 (في ضمن خطبة الغدير) 84 ـ 86، 150 ـ 151 ; شرح نهج البلاغة: 2/37، 60 (عن الشيعة) و 20/298 ; الاقبال: 445، 458 ; اليقين: 355 ; إرشاد القلوب: 332، 336، 341، 391 ـ 392 ; الصراط المستقيم: 1/290 و 2/94 ـ 95، 300، 3/118، 150، 153 ـ 154 ; مختصر البصائر: 30 ; المقنع للسد آبادي: 58، 115 ; التحصين: 537 ـ 538 ; مثالب النواصب: 92 ـ 96 ; تأويل الآيات: 139، 214، 532، 539، 554، 646، وراجع بحار الأنوار: 22/546 و 28/85، الباب الثالث، 280 و 30/12، 122، 125، 127 ـ 133، 162، 194، 216، 264 ـ 265، 271، 405 و31/416 ـ 417، 419 و 53/75.
1. الحجرات (49): 13.
2. فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أوان عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها وهي الصحيفة التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا توفي عمر، فوقف به وهو مسجّى بثوبه، فقال: " ما أحبّ إليّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجّى ".
3. البقرة (2): 79.
4. النساء (4): 108.
1. أقول: وهذا هو السرّ فيما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته... لو كان سالم حيّاً استخلفته. وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل أيضاً، راجع مسند أحمد: 1/18 ; الإمامة والسياسة: 1/28 ; الطبري: 4/277 ; الكامل لابن الاثير: 3/65 ; المستدرك للحاكم: 3/268 ; تاريخ الإسلام للذهبي: 3/56 و 172 ; شرح نهج البلاغة: 1/190 و 16/265 ; كنز العمّال: 5/738 و 12/675 و 13/215 ـ 216 ; العقد الفريد: 4/274 ; جامع الأحاديث: 13/369، 373، 379، 382، 399.
1. اتفق الفريقان على نقل حديث الثقلين، راجع عبقات الأنوار، وخلاصة العبقات ج 1 و 2.
2. إرشاد القلوب: 331 ; عنه بحار الأنوار: 28/98.
3. الإرشاد: 1/175 ـ 177 ; عنه بحار الأنوار: 21/386 ـ 388.
واجتمع قوم من المنافقين وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما عرض عليهم من ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعده، فلمّ رجعوا من الحجّ ودخلوا المدينة كتبوا صحيفة بينهم، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنّ الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم(1)، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً أصحاب العقبة وعشرون رجلاً آخر، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة ابن الجرّاح وجعلوه أمينهم عليها.
قال حذيفة: حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعيمة امرأة أبي بكر: إنّ القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبّرونه في ذلك حتّى اجتمع رأيهم على ذلك، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم.
وأهمّ ما فيها: هذا ما اتّفق عليه الملأ من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار بعد أن أجهدوا في رأيهم، وتشاوروا في أمرهم نظراً منهم إلى الإسلام وأهله، ليقتدي بهم من يأتي بعدهم.
إنّ الله لمّا أكمل دينه قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه من غير أن يستخلف أحداً وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم، والذي يجب على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح فيتشاوروا في أُمورهم، فمن رأوه مستحقّاً للخلافة ولّوه أُمورهم.
فإن ادّعى مدّع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف رجلاً بعينه نصبه للناس ونصّ عليه باسمه فقد أبطل في قوله وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولا يكون قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبب استحقاق الخلافة والإمامة لأنّ الله يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )(1).
فمن كره ما ذُكر وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه كائناً من كان!!..
ثمّ دُفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح ليوجّه بها إلى مكّة(2).
ثمّ انصرفوا.. وصلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس صلاة الفجر، ثمّ جلس في مجلسه يذكر الله تعالى حتىّ طلعت الشمس، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجرّاح فقال له: " بخ بخ من مثلك وقد أصبحت أمين هذه الأُمّة! " ثمّ تلا: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ )(3) " لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الأُمة ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) "(4).
ثمّ قال: " لقد أصبح في هذه الأُمّة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية وعلّقوها في الكعبة، وإنّ الله تعالى يمتّعهم ليبتليهم ويبتلي من يأتي بعدهم تفرقة بين الخبيث والطيّب، ولو لا أنّه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقدّمتهم فضربت أعناقهم.
قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر ـ عند قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المقالة ـ وقد أخذتهم الرعدة فما يملك أحد منهم نفسه شيئاً، ولم يخفَ على أحد ممن حضر مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك اليوم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاهم عنى بقوله ولهم ضرب تلك الأمثال(1).
أقول: وإلى هذا أشار أُبي بن كعب في كلمته المشهورة: ألا هلك أهل العقدة والله ما آسي عليهم إنّما آسي على من يضلّون(2).
ويظهر من سائر الروايات أنّهم تعاقدوا قبل ذلك أيضاً في الكعبة في عدد يسير ; وهم: عمر، وأبو بكر، وأبو عبيدة، وسالم، ومعاذ بن جبل، وعبد الرّحمن بن عوف، والمغيرة بن شعبة(1)..
أقول: ويدلّك على تعاقد القوم وتدبيرهم في أمر الخلافة من قبل أُمور:
الأوّل: إحالة كل واحد من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة أمر الخلافة إلى الآخر وعرض البيعة عليه، من دون مشاورة سائر الناس، فهل يكون اتّفاق هؤلاء الثلاثة وبعض من عاونهم إجماع المسلمين؟!
وهل كانوا وكلاء المسلمين في انتخاب الخليفة؟! هل يكون اعتبار الشورى مختصاً بتشاور هؤلاء؟!
الثاني: إنكار عمر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مجيء أبي بكر لإغفال الناس عن أمر الخلافة، فما زال يتكلّم ويتوعّد المنافقين ـ بزعمه ـ، حتّى ازبدّ شدقاه(2)!!.. وسكوته بعد مجيء أبي بكر.
وفي رواية: وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه(3)، بل في غير واحد من المصادر أنه دعا إلى بيعة أبي بكر عقيب ذلك من دون فصل(4).
الثالث: مسارعة أبي بكر إلى الكلام عقيب ذكر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترشيحه نفسه لأمر الخلافة، وفي رواية إنّه قال: ألا وإنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مضى لسبيله، ولابدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبّروا وانظروا وهاتوا ما عندكم رحمكم الله(1).
الرابع: مواضع من كلام عمر حين حكاية قضايا السقيفة، مثل قوله: هيأت كلاماً(2).. أو: وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها..
وفي بعض الروايات: أُريد أن أُقدمها بين يدي أبي بكر(3).. فإنّها تدلّ على توطئتهم مسبقاً في أمر الخلافة، وتدبيرهم لها، نعم لتلبيس الأمر على الناس يقول عمر: والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته.
أو قولته المشهورة: كانت بيعة أبي بكر فلتة.
وقد صرّح عثمان ـ في أوّل مرّة صعد المنبر ـ، بأنّ أبا بكر وعمر كانا يهيّئان أنفسهما للخلافة ; قال الجاحظ وغيره: إنّ عثمان صعد المنبر فارتجّ عليه.. فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً.. سآتيكم الخطبة على وجهها!!(4).
الخامس: إنّ عمر هو الذي كان يحثّ أبا بكر أن يصعد المنبر، فلم يزل به حتّى صعد المنبر(5)، وفي رواية أنس: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً(6).. ثمّ تراه يصعد المنبر ويتكلّم قبل أبي بكر ويدعو الناس إلى
مبايعته(1)، بل صرّح أبو بكر بذلك حينما قال لعمر: أنت كلّفتني هذا الأمر(2).
السادس: تولّى عمر جميع الأُمور زمن خلافة أبي بكر، قال ابن عبد ربّه: وكان على أمره كلّه وعلى القضاء عمر بن الخطّاب(3).
بل خالفه في غير واحد من القضايا، فلم يجترئ أبو بكر أن يدافع عن نفسه ويردّ حكم عمر، فلمّا قيل له: أنت الخليفة أم عمر؟!
أجاب: بل عمر.. ولكنّه أبى!!
وفي رواية: بل هو إن شاء.
وفي اُخرى: بل هو ولو شاء كان.
وفي غيرها: الأمير عمر غير أنّ الطاعة لي!!
أو: إنّا لانجيز إلاّ ما أجازه عمر(4).
السابع: ولعلّه أهمّها ما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته..! لو كان سالم حيّاً استخلفته..! وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل(5)!
الــــــــــمصـــــــــــــدر:::
1. كتاب الردّة، للواقدي: 31 ; الفتوح، لأحمد بن أعثم: 1/4 ; المواقف للإيجي، مع شرح الجرجاني: 3/575.
2. البخاري: 4/194 ; الطبقات: 2/ ق 2/55.
3. مسند أحمد: 1/56 ; البخاري: 8/27 ; السنن الكبرى، للبيهقي: 8/142 ; العقد الفريد: 4/258 (ط مصر) ; البداية والنهاية: 5/266 ; كنز العمال: 5/645.
4. أنساب الأشراف: 6/131 (ط دار الفكر) ; البيان والتبين للجاحظ: 1/345 (ط دار الكفر) ; شرح نهج البلاغة: 13/13 ; بحار الأنوار: 31/245.
5. البخاري: 8/126 ; سيرة ابن كثير: 4/492 ; البداية و النهاية: 5/268.
6. المغازي، للواقدي: 135 ; الآحاد والمثاني: 1/77 ; المصنف لعبد الرزّاق: 5/438.
1. راجع الكافي: 8/179 ـ 180، 334 ; الصراط المستقيم: 3/153.
2. تاريخ الخميس: 2/167 ; جامع الاحاديث الكبير: 13/260.
3. كنز العمال: 7/245.
4. الطبقات لابن سعد: 2/ ق 2/54 ; مسند أحمد: 6/220 ; أنساب الأشراف: 2/238 ; السيرة، لابن كثير: 4/480 ; تاريخ الإسلام، للذهبي: 1/564 ; نهاية الارب: 18/387 ; مجمع الزوائد: 9/32 ; كنز العمال: 7/232 ; جامع الأحاديث: 13/16.
1. إرشاد القلوب: 333 ـ 336 عنه بحار الأنوار: 28/101 ـ 106.
2. سنن النسائي: 2/88 ; مسند أحمد: 5/140 ; المستدرك للحاكم: 2/226 (وأشار إليها في 3/305) ; الطبقات لابن سعد: 3/ ق 2/61 ; حلية الأولياء: 1/252 ; شرح نهج البلاغة: 20/24 ; النهاية لابن الاثير: 3/270.
ورواها من الإمامية: الإيضاح ص 378 ; المسترشد: 28 ـ 29 ; الفصول المختارة: 90 عنه بحار الأنوار: 10/296 ; الصراط المستقيم: 3/154 و 257 عنه بحار الأنوار: 28/122.
ثم أنك تجد في غير واحد من المصادر التصريح أو الإشارة إلى تعاهد القوم على صرف الأمر من بني هاشم إلى أنفسهم، وفي كثير منها أُشير إلى الصحيفة، راجع كتاب سليم: 86 ـ 87، 92، 118 ـ 119، 164 ـ 165، 168، 222 ـ 226 ; تفسير العياشي: 1/274 ـ 275 و 2/200 ; المسترشد: 413 ; الكافي: 1/391، 420 ـ 421 و 4/545 و 8/179 ـ 180، 334، 379 ; تفسير القمي: 1/142، 173، 175، 301 و 2/289، 308، 356، 358 ; الاستغاثة: 171 ـ 172 ; الخصال: 171 ; معاني الاخبار: 412 ; أمالي المفيد: 112 ـ 113 ; المسائل العكبرية: 77 ـ 78 ; الفصول المختارة: 90 ; تقريب المعارف: 227، 367 (تبريزيان) ; المناقب: 3/212 ـ 213 ; بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): 197 ; الاحتجاج: 62 (في ضمن خطبة الغدير) 84 ـ 86، 150 ـ 151 ; شرح نهج البلاغة: 2/37، 60 (عن الشيعة) و 20/298 ; الاقبال: 445، 458 ; اليقين: 355 ; إرشاد القلوب: 332، 336، 341، 391 ـ 392 ; الصراط المستقيم: 1/290 و 2/94 ـ 95، 300، 3/118، 150، 153 ـ 154 ; مختصر البصائر: 30 ; المقنع للسد آبادي: 58، 115 ; التحصين: 537 ـ 538 ; مثالب النواصب: 92 ـ 96 ; تأويل الآيات: 139، 214، 532، 539، 554، 646، وراجع بحار الأنوار: 22/546 و 28/85، الباب الثالث، 280 و 30/12، 122، 125، 127 ـ 133، 162، 194، 216، 264 ـ 265، 271، 405 و31/416 ـ 417، 419 و 53/75.
1. الحجرات (49): 13.
2. فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أوان عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها وهي الصحيفة التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا توفي عمر، فوقف به وهو مسجّى بثوبه، فقال: " ما أحبّ إليّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجّى ".
3. البقرة (2): 79.
4. النساء (4): 108.
1. أقول: وهذا هو السرّ فيما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته... لو كان سالم حيّاً استخلفته. وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل أيضاً، راجع مسند أحمد: 1/18 ; الإمامة والسياسة: 1/28 ; الطبري: 4/277 ; الكامل لابن الاثير: 3/65 ; المستدرك للحاكم: 3/268 ; تاريخ الإسلام للذهبي: 3/56 و 172 ; شرح نهج البلاغة: 1/190 و 16/265 ; كنز العمّال: 5/738 و 12/675 و 13/215 ـ 216 ; العقد الفريد: 4/274 ; جامع الأحاديث: 13/369، 373، 379، 382، 399.
1. اتفق الفريقان على نقل حديث الثقلين، راجع عبقات الأنوار، وخلاصة العبقات ج 1 و 2.
2. إرشاد القلوب: 331 ; عنه بحار الأنوار: 28/98.
3. الإرشاد: 1/175 ـ 177 ; عنه بحار الأنوار: 21/386 ـ 388.