نور الزهراء
29-10-2006, 06:36 PM
في قصّة صاحب الجنتين في سورة الكهف نلتقي نحن هذه الحالة من الكفر المستبطن في التعامل.
ولنقرأ هذه القصة في سورة الكهف:
(واضرب لَهُم مثّلاً رجُلَينِ جَعَلنَا لأحدهما جَنتَينِ من أعنبٍ وحَفَفنَهُمَا بنَخلٍ وَجَعَلنَا بينُهما زرعاً، كلتا الجنتين ءاتت أُكُلَهَا وَلَم تظلم مِنهُ شيئاً وَفَجّرنَا خِلَلهُمَا نَهَراً، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصحِبهِ وَهُوَ يَحَاوِرُهُ أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً، ودخل جنتهُ وَهُوَ ظالمٌ لنفسِهِ قَالَ ما أظنُ أن تبيد هذه أبداً، وما أظنُ الساعَةَ قَائِمَةً ولئن رددتُ إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً، قال لهُ صَحبُهُ وهُو يحاوره أكفرت بالذي خَلَقكَ مِن تُراب ثُمّ من نطفةٍ ثُمَّ سويك رَجُلاً، لكنا هو الله ربي ولا أشركُ بربي أحَداً، ولو لا إذ دَخَلتَ جنتك قلتَ ما شاءَ الله لا قوةَ إلاّ باللهِ إن ترّن أنا أقل منكَ مالاً وولداً، فعسَى ربي أن يؤتين خيراً من جنتكَ ويُرسلَ عَلَيها حُسباناً منَ السماءِ فَتُصبِحَ صَعيداً زَلَفاً، أو يُصبِحَ ماؤُهَا غوراً فَلَن تَستَطيعَ لهُ طَلَباً، وَأُحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقَلّبُ كفيهِ عّلى ما أنفَقَ فيها وهي خاويَةٌ على عُرُوشها ويقولُ يليتني لم أشرك بربي أحداً، ولّم تكُن لّهُ فِئَةٌ ينصرُونهُ مّن دُونِ الله وما كانَ مُنتَصراً، هُنَالكَ الوليةُ للهِ الحقُ هُوَ خَيرٌ ثَوَاباً وَخيرٌ عُقباً)(الكهف:32ـ44).
ولنتأمل في هذه الآيات فإنها غنية بالمفاهيم والأفكار، وأوّل ما يلفت نظرنا في هذه الآيات تأكيد القرآن على ربط هذه النعم بالله تعالى: (جعلنا لأحدهما جنتين)، (وفجّرنا خِللهما نهراً).
ولا شكّ أنها عناية مقصود في بداية القصة، وهو أحد الإتجاهين المختلفين في الحوار الذي يجري في جوّ هذه القصة في سورة الكهف.
وهذا الإتجاه هو ربط كلّ نعمة وموهبة وخير ورزق في حياة الإنسان بالله تعالى، والتأكيد على هذا الربط في مقابل الإتجاه الآخر نقرأه في هذه القصة وهو فكّ ارتباط النّعم عن الله تعالى وربطها بالإنسان واعتبار الإنسان هو صاحب هذه النعم ووليّها.
ويبرز هذا الإتجاه في الحوار الذي يجري في القصة في كلمة صاحب الجنتين لصاحبه، وهو يحاوره: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً)، فالمال والنفر العزيز للأنا، وليس لارتباطهما بالله تعالى ذكر أو إشارة.
ومن عجب أن هذه النعم الموصولة بالله تعالى بدل أن تتحوّل في نفس صاحب الجنتين إلى إحساس بالشكر والتواضع لله تعالى تتحوّل في نفسه إلى طغيان للأنانية وبروز صارخ للأنا أوّلاً ثم إلى تكاثر وتفاخر ومباهاة: (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً).
وسبب بروز "الأنا" وطغيانه عند صاحب الجنتين ليس هو "النعمة". وإنما طريقة فهمه للنعمة وعلاقة النعمة به. إن النعمة عنده له وهو وليها وليس لأحد فضل عليه فيها، بعكس التصور الذي يقدمه القرآن لعلاقة الإنسان بالنعمة والتي أشرنا إليها قريباً.
فإن النعمة ـ بناءً على التصوّر القرآني ـ لله تعالى وهو وليّها، وليس لصاحب النعمة فيها شأن أو فضل، إلاّ أن الله تعالى أودعها عنده وجعله خليفة عليها.
وهذان التصوّران مفتاحان لنمطين من الشخصية يشير إليهما الحوار الذي يجري في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين. ولكلّ من هاتين الشخصيّتين طريقته وأسلوبه في فهم النعمة والتعامل معها. في النمط الأوّل من الشخصية، وهو النمط القرآني، يتكرس ارتباط النعمة بالله تعالى وهو بمعنى فقر الإنسان إلى الله تعالى ولي النعمة، ولذلك فإن السمة البارزة في هذه الشخصية هي "الفقر" إلى الله تعالى. يقول الله تعالى: ( يَأيُّهَا الناسُ أنَتُم الفُقَرَاءُ إلى اللهُ واللهُ هُوّ الغَنُي الحَمِيدُ)(فاطر:15).
وأروع تصوير لهذه الحالة من "الأنا" ورد في القرآن في قصة موسى بن عمران (عليه السلام) عندما وقف في الظلّ يستريح بعدما سقى لابنتي شعيب: ( رَبّ إنِي لِمَا أنزلتَ إليَّ مَن خَيرٍ فَقِيرٌ)(القصص:24).
والأنا في هذه الآية الكريمة تقع بين نعمة نازلة من الله "لما أنزلت إليّ" وفقر صاعد إلى الله " فقير" أحدهما ينتهي إلى.. الإنسان من الله تعالى وهو النعمة والرحمة، والآخر ينطلق من الإنسان إلى الله وهو الفقر. و"الأنا" بين هذا الخط الصاعد والخط النازل.
وهذا هو الوضع الصحيح للأنا في الإرتباط بالنعمة والنمط القرآني للشخصية.
وهذا النموذج من الشخصية بارز كل البروز في الحوار الوارد في قصة صاحب الجنتين، كما سيتضح أكثر فيما بعد، إن شاء الله.
والنمط الآخر من الشخصية هو النمط الأناني، وفيها يتكرس ارتباط النعمة بالأنا وتختفي علاقة النعمة بالله تعالى، فتكون النعمة في حياة الإنسان من علامة " الغنى" وليس "الفقر" وكلّما يزداد حظ الإنسان من النعمة يشعر بالإستغناء أكثر من ذي قبل.
والإحساس الاحساس سبب الإنفصال عن الله، كما أن الإحساس بالفقر سبب الإرتباط بالله تعالى.
وفي حالة الإسحساس بالغنى والإنفصال عن الله يبرز الأنا ويطغى، كما أن الأنا في حالة الإحساس بالفقر والإرتباط بالله يختفي ويضمر.
وصدق الله تعالى حيث يقول: (كَلاَّ إنَّ الإنسَنَ لَيَطغَى، أنَ رَّءَاهُ استغنَى)(العلق:6)، وهذه الآية تصوّر بصورة واضحة ودقيقة كيف تتحوّل النعمة في حياة الإنسان إلى إحساس بالغنى وشعور بالإنفصال عن الله وبالتالي الطغيان. وهذه الحالة من الأنانية وبروز الأنا وما يستتبعه من التباهي والتفاخر والتكاثر ظاهر في هذه الفقرة من الحوار الوارد في القصة" (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً). ومكافحة هذه الحالة من الطغيان بتكريس الفقر إلى الله وتحجيم الأنا وتحديده والمنع من بروزه.
وفي التصوّر الذي يقدّمه إلينا القرآن عن "الأنا" وطريقة التعامل معه يعتبر إطلاق العنان للأنا من الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه، حيث يقطع الإنسان نفسه عن الله. وهو من أقبح أنواع الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه.
ولذلك فإن القرآن يقول عن صاحب الجنتين: (ودخل جنّته وهو ظالمٌ لنفسه).
ولهذا الظلم وجهان اثنان:
الوجه الأوّل: الإنشداد إلى متاع الحياة الدنيا وطول الأمل فيه، حتى كأنه لا يبيد ولا يفنى: (قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً). وهو أمر طبيعي، فإن الإنسان إذا شدّ كل حبال نفسه بالدنيا ودّ لو لم ينقطع عن الدنيا وتبقى له ولا تبيد، وهو بمعنى طول الأمل.
والوجه الثاني: قطع الرجاء والأمل عن الله في مقابل طول الأمل بالدنيا، حتى كأن الساعة لا تقوم، وإلى هذا الإحساس الباطني المكتوم تشير الآية الكريم: (وما أظنّ الساعة قائمة).
وهذان وجهان لحقيقة واحدة، لا يمكن التفكيك بينهما.
والفصل الأخير من مأساة "الأنا" في هذا الحوار، إن الإنسان عندما يسترسل في الطغيان، يتحوّل عنده بالتدريج الشعور بالفقر إلى الله إلى إحساس بالإستحقاق على الله: (ولئن رُددتُ إلى ربّي لأجدنّ خيراً منها منقلباً)، فهو يفترض أنه في الآخرة ـ لو قامت الساعة ـ لا يقلّ مالاً وولداً عنه في هذه الدنيا، بل يجد فيها خيراً مما يملك في الدنيا منقلباً.
وليس يطلب ذلك من الله تعالى ولا يرجوه، ولا يسعى لتحصله سعياً في الدنيا، وإنما يفترض أنه يستحق ذلك على الله استحقاقاً.
ولا يخفى في نفس الوقت شكّه في أن تقوم الساعة: (ولئن رُددت إلى ربّي) وينتهي هذا الطرف من الحوار هنا، ويبدأ ذكر الطرف الآخر من الحوار، وهو نموذج آخر من الشخصية
يختلف عن النموذج الأوّل في مكوناته ومنطلقاته. فلنتأمل في هذا الشطر الآخر من الحوار:
(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ سوّيك رجلاً)؟
وهذه أبرز نطقة تلفت النظر في هذا الحوار: فلم يسبق من صاحب الجنتين إنكار لله تعالى بالصراحة، عدا ما سبق منه من التشكيك في أن تقوم الساعة. فما مصدر هذه النسبة التي ينسبها إليه صاحبه المؤمن الذي يحاوره. إن هذا الكفر هو كفر بالله تعالى في مقام التعامل، يستبطنه الموقف العملي لصاحب الجنتين وطريقة تعامله مع نِعم الله تعالى.
إلا أن صاحب الجنتين يحاول أن يتكتم عليه ويخفيه ويحاول صاحبه المؤمن الذي يحاوره أن يجابهه به علانية، ويقرعه به ليردعه عنه.
وهذه هي الحقيقة التي أكدناها من قبل، فإن في كل بروز للأنا إختفاء للتوحيد في علاقة الإنسان بالله، والمرحلة الأولى منه الشرك والمرحلة الأخيرة الكفر.
ولنتأمّل في البقية من هذا الحوار:
(لكنّا هُوَ اللهُ رَبّي ولا أُشركُ برَبّي أحداً، ولو لا إذ دخَلتَ جَنّتَكَ قُلتَ مَا شاءَ الله لا قوةَ إلاّ باللهِ إن ترَنِ أنا أقَل مِنكَ مالاً وولداً، فَعَسَى ربي أن يُوتِيَنِ خَيراً من جَنَّتِكَ) وهذا شطر آخر من الخلاف في طريقة التعامل مع الأنا من هذين النموذجين من الشخصية، فإذا كان "الأنا" أبرز شيء في كلام المحاور الأوّل، فإن "الأنا" هنا يختفي، ويبرز التوحيد بشكل بارز: (لكنّا هو الله ربّي).
والفرق بين "الأنا" في كلام هذا وذاك هو مفتاح فهم كلّ من هاتين الشخصيتين وأساس الفرق بينهما: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً)، (لكنّا هو الله ربّي) وإذا كان المحاور الأوّل ربط النعمة مباشرة بنفسه، وكأنه وليّها ومالكها الحقيقي نجد أن المحاور المؤمن يربط هذه النعمة بمشيئة الله وقوّته: (ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله).
وإذا كان أمل المحاور الأوّل وثقته فيما يفني ويبيد من متاع الدنيا، فإن ثقة المحاور المؤمن فيما يبقى ولا يزول من الأمل برحمة الله:
(فعسى ربّي أن يؤتين خيراً من جنّتك).
وصلني على الأميل
ولنقرأ هذه القصة في سورة الكهف:
(واضرب لَهُم مثّلاً رجُلَينِ جَعَلنَا لأحدهما جَنتَينِ من أعنبٍ وحَفَفنَهُمَا بنَخلٍ وَجَعَلنَا بينُهما زرعاً، كلتا الجنتين ءاتت أُكُلَهَا وَلَم تظلم مِنهُ شيئاً وَفَجّرنَا خِلَلهُمَا نَهَراً، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصحِبهِ وَهُوَ يَحَاوِرُهُ أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً، ودخل جنتهُ وَهُوَ ظالمٌ لنفسِهِ قَالَ ما أظنُ أن تبيد هذه أبداً، وما أظنُ الساعَةَ قَائِمَةً ولئن رددتُ إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً، قال لهُ صَحبُهُ وهُو يحاوره أكفرت بالذي خَلَقكَ مِن تُراب ثُمّ من نطفةٍ ثُمَّ سويك رَجُلاً، لكنا هو الله ربي ولا أشركُ بربي أحَداً، ولو لا إذ دَخَلتَ جنتك قلتَ ما شاءَ الله لا قوةَ إلاّ باللهِ إن ترّن أنا أقل منكَ مالاً وولداً، فعسَى ربي أن يؤتين خيراً من جنتكَ ويُرسلَ عَلَيها حُسباناً منَ السماءِ فَتُصبِحَ صَعيداً زَلَفاً، أو يُصبِحَ ماؤُهَا غوراً فَلَن تَستَطيعَ لهُ طَلَباً، وَأُحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقَلّبُ كفيهِ عّلى ما أنفَقَ فيها وهي خاويَةٌ على عُرُوشها ويقولُ يليتني لم أشرك بربي أحداً، ولّم تكُن لّهُ فِئَةٌ ينصرُونهُ مّن دُونِ الله وما كانَ مُنتَصراً، هُنَالكَ الوليةُ للهِ الحقُ هُوَ خَيرٌ ثَوَاباً وَخيرٌ عُقباً)(الكهف:32ـ44).
ولنتأمل في هذه الآيات فإنها غنية بالمفاهيم والأفكار، وأوّل ما يلفت نظرنا في هذه الآيات تأكيد القرآن على ربط هذه النعم بالله تعالى: (جعلنا لأحدهما جنتين)، (وفجّرنا خِللهما نهراً).
ولا شكّ أنها عناية مقصود في بداية القصة، وهو أحد الإتجاهين المختلفين في الحوار الذي يجري في جوّ هذه القصة في سورة الكهف.
وهذا الإتجاه هو ربط كلّ نعمة وموهبة وخير ورزق في حياة الإنسان بالله تعالى، والتأكيد على هذا الربط في مقابل الإتجاه الآخر نقرأه في هذه القصة وهو فكّ ارتباط النّعم عن الله تعالى وربطها بالإنسان واعتبار الإنسان هو صاحب هذه النعم ووليّها.
ويبرز هذا الإتجاه في الحوار الذي يجري في القصة في كلمة صاحب الجنتين لصاحبه، وهو يحاوره: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً)، فالمال والنفر العزيز للأنا، وليس لارتباطهما بالله تعالى ذكر أو إشارة.
ومن عجب أن هذه النعم الموصولة بالله تعالى بدل أن تتحوّل في نفس صاحب الجنتين إلى إحساس بالشكر والتواضع لله تعالى تتحوّل في نفسه إلى طغيان للأنانية وبروز صارخ للأنا أوّلاً ثم إلى تكاثر وتفاخر ومباهاة: (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً).
وسبب بروز "الأنا" وطغيانه عند صاحب الجنتين ليس هو "النعمة". وإنما طريقة فهمه للنعمة وعلاقة النعمة به. إن النعمة عنده له وهو وليها وليس لأحد فضل عليه فيها، بعكس التصور الذي يقدمه القرآن لعلاقة الإنسان بالنعمة والتي أشرنا إليها قريباً.
فإن النعمة ـ بناءً على التصوّر القرآني ـ لله تعالى وهو وليّها، وليس لصاحب النعمة فيها شأن أو فضل، إلاّ أن الله تعالى أودعها عنده وجعله خليفة عليها.
وهذان التصوّران مفتاحان لنمطين من الشخصية يشير إليهما الحوار الذي يجري في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين. ولكلّ من هاتين الشخصيّتين طريقته وأسلوبه في فهم النعمة والتعامل معها. في النمط الأوّل من الشخصية، وهو النمط القرآني، يتكرس ارتباط النعمة بالله تعالى وهو بمعنى فقر الإنسان إلى الله تعالى ولي النعمة، ولذلك فإن السمة البارزة في هذه الشخصية هي "الفقر" إلى الله تعالى. يقول الله تعالى: ( يَأيُّهَا الناسُ أنَتُم الفُقَرَاءُ إلى اللهُ واللهُ هُوّ الغَنُي الحَمِيدُ)(فاطر:15).
وأروع تصوير لهذه الحالة من "الأنا" ورد في القرآن في قصة موسى بن عمران (عليه السلام) عندما وقف في الظلّ يستريح بعدما سقى لابنتي شعيب: ( رَبّ إنِي لِمَا أنزلتَ إليَّ مَن خَيرٍ فَقِيرٌ)(القصص:24).
والأنا في هذه الآية الكريمة تقع بين نعمة نازلة من الله "لما أنزلت إليّ" وفقر صاعد إلى الله " فقير" أحدهما ينتهي إلى.. الإنسان من الله تعالى وهو النعمة والرحمة، والآخر ينطلق من الإنسان إلى الله وهو الفقر. و"الأنا" بين هذا الخط الصاعد والخط النازل.
وهذا هو الوضع الصحيح للأنا في الإرتباط بالنعمة والنمط القرآني للشخصية.
وهذا النموذج من الشخصية بارز كل البروز في الحوار الوارد في قصة صاحب الجنتين، كما سيتضح أكثر فيما بعد، إن شاء الله.
والنمط الآخر من الشخصية هو النمط الأناني، وفيها يتكرس ارتباط النعمة بالأنا وتختفي علاقة النعمة بالله تعالى، فتكون النعمة في حياة الإنسان من علامة " الغنى" وليس "الفقر" وكلّما يزداد حظ الإنسان من النعمة يشعر بالإستغناء أكثر من ذي قبل.
والإحساس الاحساس سبب الإنفصال عن الله، كما أن الإحساس بالفقر سبب الإرتباط بالله تعالى.
وفي حالة الإسحساس بالغنى والإنفصال عن الله يبرز الأنا ويطغى، كما أن الأنا في حالة الإحساس بالفقر والإرتباط بالله يختفي ويضمر.
وصدق الله تعالى حيث يقول: (كَلاَّ إنَّ الإنسَنَ لَيَطغَى، أنَ رَّءَاهُ استغنَى)(العلق:6)، وهذه الآية تصوّر بصورة واضحة ودقيقة كيف تتحوّل النعمة في حياة الإنسان إلى إحساس بالغنى وشعور بالإنفصال عن الله وبالتالي الطغيان. وهذه الحالة من الأنانية وبروز الأنا وما يستتبعه من التباهي والتفاخر والتكاثر ظاهر في هذه الفقرة من الحوار الوارد في القصة" (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً). ومكافحة هذه الحالة من الطغيان بتكريس الفقر إلى الله وتحجيم الأنا وتحديده والمنع من بروزه.
وفي التصوّر الذي يقدّمه إلينا القرآن عن "الأنا" وطريقة التعامل معه يعتبر إطلاق العنان للأنا من الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه، حيث يقطع الإنسان نفسه عن الله. وهو من أقبح أنواع الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه.
ولذلك فإن القرآن يقول عن صاحب الجنتين: (ودخل جنّته وهو ظالمٌ لنفسه).
ولهذا الظلم وجهان اثنان:
الوجه الأوّل: الإنشداد إلى متاع الحياة الدنيا وطول الأمل فيه، حتى كأنه لا يبيد ولا يفنى: (قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً). وهو أمر طبيعي، فإن الإنسان إذا شدّ كل حبال نفسه بالدنيا ودّ لو لم ينقطع عن الدنيا وتبقى له ولا تبيد، وهو بمعنى طول الأمل.
والوجه الثاني: قطع الرجاء والأمل عن الله في مقابل طول الأمل بالدنيا، حتى كأن الساعة لا تقوم، وإلى هذا الإحساس الباطني المكتوم تشير الآية الكريم: (وما أظنّ الساعة قائمة).
وهذان وجهان لحقيقة واحدة، لا يمكن التفكيك بينهما.
والفصل الأخير من مأساة "الأنا" في هذا الحوار، إن الإنسان عندما يسترسل في الطغيان، يتحوّل عنده بالتدريج الشعور بالفقر إلى الله إلى إحساس بالإستحقاق على الله: (ولئن رُددتُ إلى ربّي لأجدنّ خيراً منها منقلباً)، فهو يفترض أنه في الآخرة ـ لو قامت الساعة ـ لا يقلّ مالاً وولداً عنه في هذه الدنيا، بل يجد فيها خيراً مما يملك في الدنيا منقلباً.
وليس يطلب ذلك من الله تعالى ولا يرجوه، ولا يسعى لتحصله سعياً في الدنيا، وإنما يفترض أنه يستحق ذلك على الله استحقاقاً.
ولا يخفى في نفس الوقت شكّه في أن تقوم الساعة: (ولئن رُددت إلى ربّي) وينتهي هذا الطرف من الحوار هنا، ويبدأ ذكر الطرف الآخر من الحوار، وهو نموذج آخر من الشخصية
يختلف عن النموذج الأوّل في مكوناته ومنطلقاته. فلنتأمل في هذا الشطر الآخر من الحوار:
(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ سوّيك رجلاً)؟
وهذه أبرز نطقة تلفت النظر في هذا الحوار: فلم يسبق من صاحب الجنتين إنكار لله تعالى بالصراحة، عدا ما سبق منه من التشكيك في أن تقوم الساعة. فما مصدر هذه النسبة التي ينسبها إليه صاحبه المؤمن الذي يحاوره. إن هذا الكفر هو كفر بالله تعالى في مقام التعامل، يستبطنه الموقف العملي لصاحب الجنتين وطريقة تعامله مع نِعم الله تعالى.
إلا أن صاحب الجنتين يحاول أن يتكتم عليه ويخفيه ويحاول صاحبه المؤمن الذي يحاوره أن يجابهه به علانية، ويقرعه به ليردعه عنه.
وهذه هي الحقيقة التي أكدناها من قبل، فإن في كل بروز للأنا إختفاء للتوحيد في علاقة الإنسان بالله، والمرحلة الأولى منه الشرك والمرحلة الأخيرة الكفر.
ولنتأمّل في البقية من هذا الحوار:
(لكنّا هُوَ اللهُ رَبّي ولا أُشركُ برَبّي أحداً، ولو لا إذ دخَلتَ جَنّتَكَ قُلتَ مَا شاءَ الله لا قوةَ إلاّ باللهِ إن ترَنِ أنا أقَل مِنكَ مالاً وولداً، فَعَسَى ربي أن يُوتِيَنِ خَيراً من جَنَّتِكَ) وهذا شطر آخر من الخلاف في طريقة التعامل مع الأنا من هذين النموذجين من الشخصية، فإذا كان "الأنا" أبرز شيء في كلام المحاور الأوّل، فإن "الأنا" هنا يختفي، ويبرز التوحيد بشكل بارز: (لكنّا هو الله ربّي).
والفرق بين "الأنا" في كلام هذا وذاك هو مفتاح فهم كلّ من هاتين الشخصيتين وأساس الفرق بينهما: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً)، (لكنّا هو الله ربّي) وإذا كان المحاور الأوّل ربط النعمة مباشرة بنفسه، وكأنه وليّها ومالكها الحقيقي نجد أن المحاور المؤمن يربط هذه النعمة بمشيئة الله وقوّته: (ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله).
وإذا كان أمل المحاور الأوّل وثقته فيما يفني ويبيد من متاع الدنيا، فإن ثقة المحاور المؤمن فيما يبقى ولا يزول من الأمل برحمة الله:
(فعسى ربّي أن يؤتين خيراً من جنّتك).
وصلني على الأميل