المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في ذكرى وفاة الشيخ الأوحد الأحسائي


حائر
23-11-2008, 12:06 AM
نسبه وأسرته :

هو الشيخ أحمد بن زين الدين بن إبراهيم بن صقر بن إبراهيم بن داغر بن رمضان بن راشد بن دهيم بن شمروخ بن صولة آل صقر المهاشر المطيرفي الأحسائي من رهط بنـي خالد الذين ينتهي نسبهم إلى قريش وقد لقبوا بـ (( المهاشر )) نسبة إلى جبل في تهامة اسمه : (( مهشور )) كانوا يسكنونه . [1]

وكان آباء الأحسائي يسكنون البادية ولم يكن لأحد مهم حظ من المعرفة والثقافة بحكم سكنى الصحاري وكانوا على مذهب أهل السنة ولكنهم لم يكونوا متعصبين . واتفق نزاع بين داغر – الجد الرابع للمترجم له – وأبيه رمضان أدى إلى فراقهما ؛ حيث هاجر داغر بأهله إلى قرية (( المطيرفي )) ولم يمض عليه زمن طويل حتـى اعتنق مذهب الشيعة الإمامية لسيادته في تلك الربوع . [2]

ولقد كتب الشيخ الأحسائي سيرته الذاتيه وذلك عندما طلب ذلك ابنه الشيخ محمد تقي ، وإليك سيرته عن قلمه الشريف :

نسبه :

أما بعد : فيقول العبد المسكين ، أحمد بن زين الدين ، بن إبراهيم ، بن صقر ، بن إبراهيم ، بن داغر ، بن رمضان ، بن راشد ، بن دهيم ، بن شمروخ ، آل صقر ، وهو كبير الطائفة المعروفة بالمهاشر ، وشيخهم وبه يفتخرون ، وإليه ينسبون .

سكن داغر ، في بلدتنا المعروفة بـ (( المطيرفي ))- من الأحساء ، وترك البادية ، ومن الله عليه بالإيمان ، ليستنقذنا من الضلالة .

وكان أولاده كلهم من الشيعة الإثني عشرية ... إلى أن أخرجني الله ، وخلصني من الأرحام ... والأصلاب، إلى الدنيا ، وله الفضل ، والحمد والشكر [3] .

البيئة التـي نشأ فيها :

فخرجت في وقت ، قد انتشر الجهل ، وعم الناس ، خصوصاً في بلدتنا ، لأنها نائية عن المدن ، وليس فيها أحد ممن يدعو إلى الله ، وعبادته ، ولا يعرف أهلها شيئاً من الأحكام ، ولا يفرقون بين الحلال والحرام ... [4]

أولاده :

وكان ، مما تفضل علي _ عز وجل _ أن رزقني ذرية ، كرمهم بالعلم ، وكان كبيرهم سناً ، هو : الابن الأعز محمد تقي أعزه الله وهداه وجعلني من المنية فداه التمس منـي ذكر بعض أحوالي في حالة الصغر وفي حال التعلم لتكون كالتأريخ فأجبته إلى ما التمس منـي . [5]

ولادته :

كانت ولادتي في السنة السادسة والستين بعد المائة والألف من الهجرة في شهر رجب المرجب ، نوازل طبيعية جرت بعد ولادتي بعامين .

وعلى رأس السنتين من ولادتي جاء مطر شديد وأتت بلادنا سيول من الجبال ، حتـى كان عمق الماء في المكان المرتفع ذراعين ونصفاً تقريباً وفي ذلك اليوم تولد المرحوم المبرور أخي الشيخ صالح تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوبة جنته .

وفي اليوم الثالث وقعت بيوت بلدتنا كلها ، لم يبق فيها إلا مسجدها وبيت لعمتي فاطمة الملقبة بحبابة رحمة الله عليها . [6]

دراسته الابتدائية – الصبي المفكر :

وقد قرأت القرآن وعمري خمس سنوات .

وكنت كثير التفكير في حال طفولتـي حتـى أنـي كنت مع الصبيان ألعب معهم كما يلعبون .. ولكن كل شيء يتوقف على النظر .. أكون منه مقدمهم وسابقهم ..

وإذا لم يكن معي أحد من الصبيان أخذت في النظر والتدبر ..

أنظر في الأماكن الخربة والجدران المهدمة أتفكر فيها وأقول في نفسي : هذه كانت عامرة ثم خربت .. وأبكي إذا تذكرت أهلها وعمرانها بوجودهم – أبكي بكاء كثيراً حتـى أنه لما كان حسين بن سياب الباشا- حاكم الأحساء وتألب عليه العرب وأتى محمد آل عزيز وحاصروا الباشا وقتلوا (( الروم )) وأخذوا الأحساء حكم فيها محمد آل عزيز وبعد أن مات حكم في الأحساء ابنه علي آل محمد وقتله أخوه وحين جاء أبو عرعر وكان مقتله قرب عين الحوار (( بالحاء المهملة )) ودفن هناك ..

فكنت إذا مررت – وعمري خمس سنوات تقريباً – بقبره أقول في نفسي : أين ملكك ؟؟ . أين قوتك ؟؟ أين شجاعتك ؟؟

وكان في حياته – على ما يذكرون – أشجع أهل زمانه وأشدهم قوة في بدنه .. أتذكر أحواله وأبكي على تغير أحوال الدنيا وتقلبها وتبدلها ..

كانت هذه حالتـي ، إن كنت مع الصبيان في لعبهم ولهوهم فأنا مشتغل باللعب معهم ، وإن كنت وحدي فأنا أتفكر وأتدبر . [7]

جهل المجتمع الذي شب فيه :

وكان أهل بلدنا في غفلة وجهل لا يعرفون شيئاً من أحكام الدين ، بل كل أهل البلد صغيرهم وكبيرهم لهم مجامع يجتمعون فيها بالطبول والزمور والملاهي والغناء والعود والطنبور .
وكنت – مع صغري – لا أقدر صبراً على الحضور معهم ساعة وعندي من الميل إلى طرفهم ما لا أكاد أصفه وأبكي وحدي أسفاً على ما أتخيله من أفعالهم حتـى أكاد أقتل نفسي وإذا خلوت وحدي أخذت في الفكر والتدبر وبقيت على هذه الحال .

ساعة الخلاص :

فلما أراد الله سبحانه إنقاذي من تلك الحالات اجتمعت مع رجل من أقاربنا من المقدمين في طرق الضلالة المتوغلين في أفعال الغواية والجهالة فقال : أنا أريد أن أنظم بعض أبيات من الشعر وأريدك أن تعيننـي ، هذا وأنا صغير ما بلغت الحلم فقلت له : أفعل فقعدنا في خلوة فأخذ أوراقاً صغاراً عنده يقلب فيها وإذا فيها أبيات شعر منسوبة للشيخ علي بن حماد البحراني الأوالي - تغمده الله برحمته ورضوانه - في مدح الأئمة عليهم السلام وهي :

لله قوم إذا ما الليل جنّهم

قاموا من الفرش للرحمن عبادا

الأرض تبكي عليهم حين تفقدهم

لأنهم جُعلوا للأرض أوتادا

هم المطيعون في الدنيا لخالقهم

وفي القيامة سادوا كل من سادا

محمد و علي خير من خلقوا

وخير من مسكت كفيه أعوادا

و يركبون مطايا لا تملّهم

إذا هم بمنادِي الصبح قد نادى


فلما قرأ هذه الأبيات ألقاها وقال : الحاصل أن الذي ما يعرف النحو ما يعرف الشعر .
فلما سمعت منه هذا الكلام تذكرت أن هنالك صبياً أمه بنت عم أمي اسمه : الشيخ أحمد بن محمد آل ابن حسن يقرأ في النحو في بلدة قريبة من بلدنا بينهما قدر فرسخ عند الشيخ محمد ابن الشيخ محسن قدس الله روحه [8] .





بدء دراسته العلمية :

انطلقت إلى الشيخ أحمد وقلت له : ما أول شيء يقرأ فيه من النحو ؟؟ .
قال : عوامل الجرجاني .
فقلت له : أعطني أكتبها ففعل .
أخذتها وكتبتها ولكني استحييت أن أذكر ذلك لوالدي لأنه كان عندي من الحياء شيء لا يتصور فمضيت فيما كتبته إلى موضع في بيتنا يقعد فيه والدي ووالدتي ونمت فيه وبينت بعض الأوراق التـي فيها العوامل وأتت والدتي وأنا مغمض عيني كأني نائم ثم أتى والدي وقال لوالدتي : ما هذه الأوراق التـي عند أحمد ؟؟؟
قالت : ما أعلم .
فقال : ناولينيها .
فمدت يدها إليها تمسك بها ؛ فأرخيت أصابعي من حيث لا تشعر ؛ فأخذتها وأعطتها والدي ؛ فنظر فيها ، وقال : هذه رسالة نحو من أين له هذه ؟؟
قالت : ما أدري .
قال : رديها مكانها .
فردتها وألنت أصابعي من حيث لا تشعر فوضعتها في يدي وبقيت قليلاً ثم تمطيت وانتبهت وأخفيت القرطاس كأني أحب أن لا يطلع عليه أحد .
فقال لي والدي : من أين لك هذه الرسالة النحوية ؟؟
قلت : كتبتها .
فقال لي : أتحب أن تقرأ النحو ؟؟
قلت : نعم .
وجرت كلمة نعم على لساني من غير اختياري وأنا في غاية الحياء كأن قولي : نعم ؛ من أقبح الأشياء .
ولكن الله وله الحمد والشكر أجراها على لساني من غير اختياري [9] .







والده يرسله لتعلم النحو :

فلما كان من الغد أرسلني والدي مع شيء من النفقة إلى البلد التـي فيها الرجل العالم أعنـي الشيخ محمد ابن الشيخ محسن واسمها (( القرين )) ووضعني مع ذلك الصبي الذي تقدم ذكره وهو : الشيخ أحمد - رحمه الله - فكان شريكي في الدرس عند الشيخ محمد .





رجل يعلمه في المنام :
وقرأت العوامل والأجرومية عنده ورأيت رجلاً في المنام كأنه من أبناء الخمس والعشرين سنة أتى إليّ - وعنده كتاب – فأخذ يعرف لي قوله تعالى : الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ؛ مثل : خلق أصل الشيء يعنـي : هيولاه فسوى صورته النوعية وقدر أسبابه فهداه إلى طريق الخير والشر . يعنـي من هذا النوع .
فانتبهت وأنا منصرف الخاطر عن الدنيا وعن القراءة التـي يعلمنا إياها الشيخ لأنه إنما يعلمنا : زيد قائم ، زيد: مبتدأ ، وقائم خبره .
وبقيت أحضر المشائخ ولا أسمع شيئاً لنوع ما سمعت في المنام من ذلك الرجل .







العناية الإلهية تظلل الفتـى ببردها – الرؤيا الصادقة :

وظللت مع الناس في جسدي ورأيت أشياء كثيرة لا أقدر أن أحصيها منها :
أني رأيت في المنام كأني أرى جميع الناس صاعدين إلى السطوح يتطلعون لشيء .. فصعدت أنا سطح بيتنا وإذا أنا أرى شيئاً أتى مما بين المغرب والجنوب ( الجنوب الغربي ) وهو معلق بالسماء في طرف منه وطرف آخر متدل كالسرادق وهو مقبل إلينا أنا والناس كلهم وكلما قرب منا انحط إلى جهة أسفل وإذا هو شيء لطيف لا تدركه حاسة اللمس بالجسم .. إلا بالبصر .. وهو أبيض بلوري يكاد يخفى من شدة لطافته وهو حلق منسوجة على هيئة نسيج الدرع ولم يصل إليه أحد من تلك الخلائق المتطلعين إليه غيري .
ورأيت ليلة أخرى كأن الناس كلهم يتطلعون إلى السطوح – كالرؤيا الأولى – إلى شيء نازل من السماء وقد سد جهة السماء إلا أن جميع أطرافه متصلة بالأرض ووسطه منخفض ولم يصل إليه أحد من تلك الخلائق غيري ؛ لأن أخفض ما في وسطه المتدلي هو الذي وصل إليَّ فقبضته بيدي فإذا هو غليظ ثخين .
ورؤيا ليّ – أيضاً – كأن حبلاً عالياً إلى عنان السماء وحوله من جميع جوانبه رمال سيالة وكل الخلائق يعالجون في صعوده ولم يقدر أحد منهم أن يصعد منه قليلاً فأتيت أنا وصعدته كلمح البصر بأسهل حركة إلى أعلاه .
وأمثال ذلك من الأمور الغريبة التـي أعجز عن إحصائها .





وأحلام أيضاً هي بشائر علوية وإعداد لأمر خطير – مع الإمام الحسن ...
ثم إني رأيت ليلة كأني دخلت مسجداً فوجدت فيه رجالاً ثلاثة وشخصاً آخر يقول لكبير الثلاثة :
يا سيدي ... كم أعيش ؟؟؟
فقلت له : من هؤلاء ؟؟
ومن هذا الذي تسأله ؟؟
فقال : هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام .
فمضيت إليه وسلمت عليه وقبلت يده وتوهمت أن اللذين معه الحسين وعلي بن الحسين .
فقال لي : وكأنما أدرك ما في نفسي هذا علي بن الحسين وهذا الباقر .
فقلت : أنا يا سيدي كم أعيش !! ؟؟
فقال : خمس سنين أو أربع سنين .
فقلت : الحمد لله .
فلما علم منـي الرضا بالقضاء قعد عند رأسي وذلك كأني من إظهاري الرضا بما قال نائم على قفاي ورأسي إلى جهة القطب الجنوبي وهم – عليهم السلام – قيام على جانبي الأيمن كالمصلي على الميت إلا أن الحسن مما يلي رأسي … ووضع فمه على فمي فقال له علي بن الحسين : أصلح إن كان في مزاجه خراب فقال الحسن : الفرج لا يخاف منه وإن أعقمه الله وإنما يخاف من القلب فتعلقت به فوضع يده على وجهي وأمرها إلى صدري حتـى وجدت برد يده الشريفة في قلبي .
ثم كأني أنا وهُم قيام فقلت له : يا سيدي !! أخبرنـي بشيء إذا قرأته رأيتكم .
فقال لي :

كن عن أمورك معرضاً

وكِلَ الأمور إلـى الـقـضـا

و لـربمـا اتـــسع المضـيق

و ربمـاضــاق الـفضــا

و لـــــرب أمــر مـتـعب

لـك فـي عـواقـبـه رضــا

الله يـفـعـل ما يشــاء

فـلا تـكـن متعرضـا

الله عـــودك الجميـل

فـقـس علـى مـاقـد مـضــى


ثم قال :

رب أمـرٍ ضــاقـت النـفـس به

جـاءهـا مِن قِـبـَلِ الله فـرج

لا تكن مـن وجـه روحٍ يـائـسـا

ربـما قـد فـرجـت تلـك الـرتـج

بـيـنما المـرء كـئيب دنـف

جـاءه الله بـروحٍ و فــرج


وكان يقرأ من الأول فقرة ومن الثاني فقرة فقلت كيف هذا ؟؟؟ .
فقال : قد يستعمل الشعر هكذا .
فقلت : يا سيدي !! هل رأيت القصيدة التـي مطلعها :

ألا انظرن يا خليلي بين أحوالي

في أيّها هو أحلى لي و أحوى لي ؟؟


فقال : رأيتها وهي عجيبة إلا أنها ضائعة وإنما قال لي ذلك لأني نظمتها في الغزل .
فقلت له : إن شاء الله تعالى أنظم في مدحكم قصيدة .
ثم إني أحببت انصرافهم لئلا أنسى هذه الأبيات وثقة منـي بوعده .
وذات ليلة قعدت آخر الليل للصلاة وكان قريباً من بلدنا بلد اسمها (( الجابية )) وفيها نخلة طويلة جداً ما رأيت منذ خلقت نخلة بطولها وعليها حمامة راعبية وهي تنوح فذكرتني تلك الرؤيا ومن رأيت فنظمت في مدحهم القصيدة التـي أولها :

بــي العـزا و جـل و جــل

و مــاج مـدمـعي بـما احتـمل


وهي موجودة ، ثم إني بقيت أقرأ الأبيات كل ليلة وأكررها ولا أراهم .





اكتشف ما يريد الإمام الحسن .

ثم إني استشعرت أنه ما يريد منـي قراءة الأبيات وإنما يريد منـي التخلق بمعانيها ..
فتوجهت إلى الإخلاص بالعبادة وكثرة الفكر والنظر في العالم وكثرة قراءة القرآن والاستغفار في الأسحار .





البشائر الزاهرة تعود إليه .

فرأيت منامات غريبة وعجيبة في السماوات وفي الجنات وفي عالم الغيب والبرزخ ونقوشاً وألواناً تبهر العقول ...

ثم انفتح لي رؤيتهم – أي رؤية الأئمة – حتـى أني أكثر الليالي والأيام أرى من شئت منهم وإذا رأيت أحداً منهم وانتبهت وانقطع كلامي قبل تمامه رجعت في النوم ورأيت ذلك الذي رأيته عند منقطع كلامي حتـى أتممه .

وإذا ذكر لـي أحد من الناس أن إذا : رأيتهم تسأل لـي الدعاء رأيت ذلك ..
وقد ذكر لي أخي الشيخ صالح أن إذا رأيت القائم عليه السلام فاسأله لي الدعاء .

فرأيت القائم عجل الله فرجه وقلت له : يا سيدي !! إن أخي صالحاً يسألك الدعاء فدعا له وقال : في زوجته ولد ثم حملت زوجته زين الدين ابنه .
وكنت في أول انفتاح باب الرؤيا لي رأيت الحسن بن علي بن أبي طالب فسألته عن مسائل فأجابنـي ثم مج من ريقه في فمي وأنا أشرب وهو ساخن إلا أنه ألذ من الشهد قدر نصف ساعة كل ذلك وأنا أشرب من ريقه ..





يرى النبي صلى الله عليه وآله :

وبعد سنوات رأيت النبـي فقلت له : يا سيدي !! أريد منك أن أخلع الدنيا أصلاً فلا أعرف .
فقال : هذا أصلح .
فشددت عليه في الطلب ولكنه مضى عنـي من حيث لا أشعر فتشت عليه ثم وجدته وقلت له : أنا أريد منك هذا الملطب .
فقال : يمكن بعد حين .
وتغيب عنـي فطلبته فوجدته وشددت عليه مراراً فمرة يقول لـي :
هذا أصلح ، ومرة يقول لي : بعد حين .
فلما يئست من طلبي قلت له : إذن زودنـي .
فرفع يمينه الشريفة وأراد أن يمسح بها وجهي وصدري فقلت له : ما أريد هذا .
فقال : ما تريد ؟
قلت : أريد أن تسقينـي من ريقك فمج في فمي من ريقه ماء ألذ من الشهد وأبرد من الثلج إلا أنه قليل وكنت أنا وهو قائمين فضعفت لشدة اللذة وبرد الماء فقعدت ثم قمت وهو يبتسم من قعودي وضمنـي وسقاني مرة أخرى كالأولى ثم مضى .
والحاصل أني رأيت أكثر الأئمة وظنـي كلهم إلا الجواد عليه السلام فإني متوهم في رؤيته .
وكل من رأيته منهم يجيبنـي إلى ما طلبت إلا مسألة الانقطاع فإن جوابهم لي كجواب النبي صلى الله عليه وآله وكنت مدة إقبالي – سنين متعددة – ما يشتبه علي شيء في اليقظة إلا وأتاني بيانه في المنام وأشياء ما أقدر ضبطها لكثرتها .
وأعجب من هذا ما أرى في المنام إلا على أكمل ما أريده في اليقظة بحيث ينفتح لي جميع ما يؤيد أدلته ويمنع معارضته .





يشتغل في أمور الناس فتسدل دونه الأستار :

وبقيت سنين كثيرة على هذه الحال حتـى عرفنـي الناس واشتغلت بهم عن ذلك الإقبال وانسد ذلك الباب المفتوح فكنت الآن لا أراهم إلا نادراً من الأحوال .

يرى علياً أمير المؤمنين :

وكان من جملة تلك الأحوال النادرة أني رأيت أمير المؤمنين في مجلس مشحون بالعلماء والأجلاء فلما أقبلت قعدت عند النعل .
فقال : أقبل ما هذا مكانك .
فقمت ثم عقدت قريباً .
فقال : أقبل ؛ ولم يزل يقربنـي حتـى أقعدني إلى جانبه فكان مما سألته : هل يجوز بيع الصبر ؟
فقال : لا .
ثم ذكرت له حاجتـي ؛ فقال : أنا ما في يدي شيء .
فقلت له : نعم ولكنـي أتيت من الذي بيني وبينك أريد أن أعرف من مقامك عن الله فلما قلت له ذلك قال : يكون بعد حين إن شاء الله .





يرى منامات ولكنها إلهامات من الله .

وكنت في تلك الحال أرى منامات وهي إلهامات فإنـي إذا خفي علي شيء رأيت بيانه ولو إجمالاً ولكنـي إذا أتاني بيانه في الطيف وانتبهت ظهرت لي المسألة بجميع ما يتوقف عليها من الأدلة بحيث لا يخفى عليّ أحوالها حتـى لو أنه لو اجتمعت الناس لما أمكنهم أن يدخلوا علي شبهة فيها لأني مطلع على جميع أدلتها .

ولو أوردوا علي ألف منافٍ وألف اعتراض لظهر لي محاملها وأجوبتها بغير تكلف .
ووجدت جميع الأحاديث جارية على طبق ما رأيت في الطيف لأن الذي أراه في المنام معاينة لا يقع فيه غلط .







يضع في عقل من يشك في قوله الأدلة القاطعة :

وإذا أردت أن تعرف صدق كلامي فانظر في كتـبي الحكيمة كلها فإني في أكثرها في أغلب المسائل خالفت جل العلماء والمتكلمين فإذا تأملت في كلامي رأيته مطابقاً لأحاديث أئمة الهدى عليهم السلام ولا تجد حديثاً يخالف شيئاً من كلامي .

وترى كلام أكثر الحكماء والمتكلمين مخالفاً لكلامي ولأحاديث الأئمة حتـى بلغ منهم الحال إلى أن أكثرهم ما يعرفون كلام الإمام .
ولكن إذا أردت البيان فانظر بعين الإنصاف لتعرف صحة ما ذكرت فإني ما أتكلم إلا بدليل منهم عليهم السلام .
ولقد كان بينـي وبين الشيخ محمد بن الشيخ حسين بن عصفور البحراني بحث كثير وأكثر الإنكار علي ثم انصرفنا .





يشكو إلى الإمام الهادي فيقدم له الإجازات ...

فلما جاء الليل رأيت مولاي علي بن محمد الهادي عليه وعلى آبائه الطيبين وأبنائه الطاهرين أفضل الصلاة وأزكى السلام فشكوت إليه حال الناس فقال : اتركهم وامض فيما أنت فيه .
ثم أخرج إليّ أوراقاً على حجم الثمن وقال : هذه إجازاتنا الإثنا عشر .
فأخذتها وفتحتها وإذا كل صفحة مصدرة بـ بسم الله الرحمن الرحيم وبعد البسلمة إجازة واحدٍ منهم . [10]





هجرته إلى العراق وإيران وتنقلاته فيهما :

هاجر الأحسائي إلى العراق في سنة 1186هـ / 1772م ، وعمره يومذاك عشرون سنة وهبط النجف وظل ينتقل بينهما وبين كربلاء ملازماً لحضور دروس مشاهير الوقت ؛ وهم الشيخ محمد باقر البهبهاني في كربلاء ، والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء في النجف ، وغيرهم . وبعد مدة حل في العراق طاعون جارف فتك بالناس فتكاً ذريعاً ، وفر المجاورون منه وتفرقوا في القرى والأرياف ، وهرب بعضهم إلى خارج العراق ، فعاد الأحسائي إلى بلاده فتزوج وظل هناك فترة ظهر خلالها اسمه واشتهر . وفي سنة 1208هـ / 1793م هبط البحرين فسكنها مع عائلته أربع سنوات . وفي شهر رجب عام 1212هـ / 1797م عاد إلى العراق ثانية للزيارة . فزار النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء ، وعاد فسكن البصرة ونزل محلة (( جسر العبيد )) وطلب أهله من البحرين وحل في دار الحاج إبراهيم العطار أبو جلة ثم ذهب إلى الدورق وكان حاكمها الشيخ علوان بن شاوه يبالغ في احترامه ، وبعد سنتين من سكناه فيها حاصر الشيخ محمد بن مبارك حاكمها الشيخ علوان فأخرجه وحكم مكانه ، وفي يوم الغدير – الثامن عشر من ذي الحجة – عام 1216هـ /1801م هاجم الوهابيون كربلاء فقتلوا وأحرقوا وسبوا ونهبوا فراح ضحية ذلك الغزو البربري والعمل الوحشي سبعة آلاف من أهل البلد والزوار الذين قدموا إلى المدينة ، من الكبار والصغار والرجال والنساء ، فكان لذلك وقع شديد على نفس الأحسائي ، كما هي الحال بالنسبة للشيعة وعلمائهم في كل مكان ، وقد ضاعف ذلك من حبه للعزلة وابتعاده عن الناس ، وصادف أن وقعت نفرة بينه وبين الشيخ محمد ابن الشيخ مبارك فهبط البصرة ونزل دار (( ابن بدران )) فترة ، فتهافت عليه الناس فهبط قرية (( الجبارات )) من قرى البصرة ، وبعد فترة هبط قرية (( التنومة )) زمناً ، وانتقل منها إلى قرية (( النشوة )) فمكث فيها ثمانية عشر شهراً ، فلم ترق له لأنها لم تحقق رغبته في الخلوة بنفسه والابتعاد عن الناس فعاد إلى البصرة من جديد بعد أن ظل يتنقل بين القرى زمناً فراراً من الشهرة واجتماع الناس من حوله .

وكان السيد عبدالمنعم الجزئراي – من أشراف البصرة ومشاهيرها – قد سمع برغبة الأحسائي في العزلة والخلود إلى الهدوء . فعرض عليه النـزول في قرية له تسمى (( الصفا )) لأنه لن يجد خيراً منها لبعدها عن المارة . فهبطها مع عائلته سنة 1219هـ / 1804م ، ومكث فيها سنة كاملة ، فلم يكن مكان أسوأ منها في نظره من حيث الهواء والتربة . ونظم قصيدة في ذمها . ثم هبط قرية (( شط الكار )) العائدة للسيد أحمد بن هلالة مدة ، ثم ترك عائلته فيها مع ولده الشيخ علي وذهب إلى (( سوق الشيوخ )) بالقرب من (( الناصرية )) مع ولده الشيخ عبدالله ، وكان سبقه إلى سكنى (( السوق )) ولده الشيخ محمد تقي . فمكث فترة وترك ولده الشيخ عبدالله عنده ليكمل تحصيله العلمي على أخيه وعاد إلى البصرة فاستأجر داراً لعياله وأولاده ونقلهم إليها وصمم على زيارة الإمام الرضا عليه السلام في (( خراسان )) .

إلى إيران :

وفي سنة 1221هـ / 1806م جدد العهد بزيارة العتبات المقدسة في العراق مع ولده الشيخ علي ، ومعه من أصحابه : السيد صالح ابن السيد سلمان المولوي الموسوي ، والسيد حسين بن أحمد الحسيني ، والحاج خليفة بن ديرم الأحسائي . ومن زوجاته : مريم بنت خميس ، وآمنة بنت أحمد . ثم سافر منها إلى إيران ، ولما وصل إلى يزد اجتمع به بعض أهلها – وكان الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي هناك يومئذ – وعرضوا عليه البقاء عندهم فوعدهم بتحقيق رغبتهم في العودة من زيارة الإمام . وواصل سيره فوصل إلى خراسان فزار ومكث مدة ثم عاد إلى يزد كما وعد .





في يزد :

وقد أحاطه أهلها بالرعاية والعناية البالغة طوال مدة بقائه وأحبوه كثيراً ، ولما عزم على العودة إلى العراق امتنعوا من السماح له والتمسوا منه البقاء وحالوا دون سفره بمختلف الوسائل ، فعدل عنه وبعث بعض أفراد عائلته مع سائر أصحابه إلى البصرة برعاية ولده الشيخ علي عن طريق أصفهان وشيراز ، وظل مع زوجته في يزد ، ومذ توطن على البقاء شرع في التدريس والوعظ فتألق نجمه وطار اسمه فسمع به السلطان فتح علي شاه القاجاري وأحبه وأعجب به على البعد واشتاق إلى زيارته فكتب إلى حاكم يزد أن يسيره إلى العاصمة مكرماً فامتنع الشيخ لمخالفة ذلك لرغبته في الانطواء ، فكتب إليه السلطان يدعوه فأصر على الرفض بغضاً للشهرة وفراراً من الزعامة وتبعاتها ، فكرر دعوته وتبودلت بينهما الرسائل في ذلك مراراً فلم يزد ذلك الأحسائي إلا إصراراً على الرفض .

ونقل ولده الشيخ عبدالله ، ومرتضى الجهاردهي موجز رسالة كتبها السلطان إليه بالفارسية ، وتعريب الموجز ما يأتي : (( كان الواجب يقضي علي بأن أتشرف بزيارتك لأنك الإمام المقتدى والمرجع للخاص والعام فقد شرفت مملكتنا ونورتها بقدومك . لكن ذلك ليس في مقدوري لعدة أسباب ، فأنا معذور لأننـي إذا هممت بالتشرف في خدمتك لزم أن يصحبنـي ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي ، وبما أن يزد مدينة صغيرة وواد غير ذي زرع فإن دخول هذا الجيش سيسبب ضائقة معيشيه وارتفاعاً في أسعار الحاجيات الاستهلاكية . وطبيعي أنك لا ترضى بغضب الله وما لا يرضيه . وإلا فأنا أقل من أن أحظى بين يديك فكيف بأن أتكبر ؟ فإن شرفت على وصول هذه الرسالة إليك فهو المطلوب وإلا فسأضطر للتوجه إلى يزد )) .

وأورد الشيخ أبو القاسم الإبراهيمي – نقلاً عن كشكول السيد حسين اليزدي – رسالة عربية كتبها فتح علي شاه إلى الأحسائي ، وهذا نصها : (( الحمد لله الذي شوقنا بلقاء – كذا – الشيخ الجليل والحبر النبيل ، قطب الأقطاب ولب الألباب ، حجة الله البالغة ونعمته السابغة ، أضحى بدوحة العلوم غصنها سمقاً ، وأميط عن صباحها من الجهل عنقاً –كذا – علامة العلماء ، أعرف العرفاء ، أفقه الفقهاء ، أدام الله بقاءه ويسر لنا لقاءه . وبعد لا يخفى عليك يا بدر أهل الدين وبحر ملة اليقين ، كعبة الفضائل ونقاوة الخصائل ، أنا نشتاق إليك شوق الصائم إلى الهلال ، والعطشان إلى الزلال ، والمحرم إلى الحرم ، والمعدم إلى الدرهم ، ونرجو منك ، بعد وصول هذه الورقة ، أن تقدم بالعطف والشفقة وتتوجه إلينا وتتوقف برهة لدينا ، حتـى نستفيض منك وأنت السحاب المطير ، ونقتبس منك وأنت السراج المنير ، ونقتطف وأنت الورض الظاهر –كذا- ونجتنـي وأنت الشجر الباهر ، وإذا دعيتم فأجيبوا فإن منـزلكم عندنا لرحيب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

لم تزد تلك الرسائل المتتالية والإلحاح الجاد من قبل السلطان الشيخ الأحسائي إلا إصراراً على الامتناع ومبالغة في الرفض ؛ ذلك لأنه كان يحب العزلة والانزواء وخمول الذكر وترك علاقة عامة الناس ، فكيف بالملوك والأمراء وما يقتضي ذلك من التزامات تخرج المرء عن طوره وتصرفه إلى غير هدفه ؟ وعندما شعر بالمضايقة من الحكام والوجوه لتلبية طلب الشاه قرر الفرار عن طريق شيراز فالبصرة . فأحس الحكام وأهالي يزد بذلك فتجمهروا في بيته وطلبوا منه حفظ أرواحهم لأن الحكومة في العاصمة ستفسر ذلك بأنه خوف من ورود السلطان إلى يزد وتمهيد طريق الفرار للأحسائي . ولما تيقن وقوع الضرر عليهم من ذلك نزل عند رغبتهم واضطر للبقاء ، وسمت مكانته عند الأهالي أكثر لما علموه من مقامه عند السلطان . ثم استجاب للدعوة فتوجه إلى طهران في موكب عظيم ، وشيعته يزد ، حكومة وشعباً ، وجرى له في كل مدينة أو قرية مر بها تكريم وتعظيم واستقبال ، وتوديع وطبق نبأ مسيره أرجاء البلاد الإيرانية .





في طهران :

وخرج لاستقباله موكب السلطان ورئيس وزرائه وسائر الوزراء والأعيان والأمراء ، وهرع الناس على اختلاف طبقاتهم ، وعلى رأسهم العلماء وكبار رجال الدين والفضل . وأنزله السلطان منـزل الكرامة وحظي باحترام وإقبال لا يوصف ، وكانت مكانته تزداد عنده يوماً بعد يوم . وصادف أن حدثت زلازل متتالية في أطراف طهران أدت إلى خراب الدور وسائر الأماكن القريبة من طهران . فرأى فتح علي شاه ليلة في منامه قائلاً يقول : (( لو لم يكن جناب الشيخ أحمد في هذه المدينة لهلك أهلها بالزلازل في ساعة واحدة )) فاستيقظ مرعوباً وزاد تعلقه بضيفه واعتقاده به ، وأخذ يسأله بعض المسائل فيجيب عليها بكتب ورسائل فعظم قدره عنده للغاية ، واعتقد أن طاعته فرض ومخالفته كفر .

وعرض السلطان على الشيخ ، في بعض اجتماعاته معه ، سكنى إيران ؛ معللاً بأن الشيعة وعلمائهم مضطرون إلى التقية في العراق مداراة لآل عثمان ، وعالم بصير مثله يجب أن يعيش في ظل حكم يمكنه من إظهار علمه ونشر معارفه ، أضف إلى ذلك أن العرب لا يأنسون بالحكمة والأسرار والعلوم العقلية التـي يبرع الأحسائي فيها ويعمل على نشرها ، ولا يتطلبونها . وقد اعتذر إليه لأول وهلة لكنه كرر ذلك عليه في لقاءاته التالية فوافق . وطلب إليه ثانية أن يختار طهران للسكنى فاعتذر إليه بعدم رجحان ذلك ؛ وعلله بأن الناس إذا رأوا إقبال السلطان عليه وإصغاءه إليه قصدوه في حوائجهم وشفعوا به في مشاكلهم ، فإن رفض واعتذر أُبغض واتهم ، وإن أجاب أحرج السلطان ببعض طلباته ؛ إذ لا شك أن فيها ما يتنافى مع القانون ويناقض مصلحة الحكومة ، فالأجدر به أن يسكن مدينة أخرى ، فإيران كلها بلاده وتحت حكمه . فاقتنع السلطان بوجاهة عذره وخيره فاختار العودة إلى يزد ، وكان محمد علي ميرزا ابن السلطان فتح علي شاه والي كرمنشاه وخوزستان والحويزة وتوابعها حاضراً في المجلس . فأمره بأن يرسل بعض عماله إلى البصرة ليحمل عائلة الشيخ إلى يزد مكرمة . وكتب محمد علي ميرزا رسالة إلى إبراهيم آغا حاكم البصرة طلب منه فيها أن يساعد رسوله على نقل عائلة الشيخ ، وعاد الشيخ إلى يزد باحترام . وورد الميرزا شايق رسول محمد علي ميرزا إلى البصرة في أوائل ذي القعدة عام 1223هـ / 1808م ، فحملهم من طريق الأهواز فتستر فدزفول فخرم آباد فبروجرد فكاشان . ووصلوا إلى يزد في غرة صفر قبل تحويل السنة – عيد النوروز – بأربعة أيام .





في يزد وخراسان ثانية :

عاد الأحسائي إلى مزاولة أعماله العلمية من جديد ، فشرع بالتدريس والإفادة ونشر المعرفة وإعمام الكمال ، وكان مجلس درسه حاشداً بأهل العلم والفضل ، ومسجده مكتظاً بجموع المصلين خلفه ، وظل على مكانته لدى كبار علمائها وأصحاب الرأي فيها . وفي سنة 1226هـ / 1811م عزم على زيارة الإمام الرضا عليه السلام فصحب ولده الشيخ علي وبعض زوجاته فزار وعاد إلى يزد ، وبعد فترة صمم على زيارة العتبات المقدسة بالعراق ، وكانت يزد قد تقدمت كثيراً بواسطته وحظيت باهتمام السلطة والحاكمين من أجله ؛ ولذلك عز على أهلها سفره وحاولوا إقناعه بالبقاء بشتى الصور فلم يفلحوا . حتـى أن أمين الدولة ، حاكم البلد ، حذر المكاريين من حمل أمتعته وهددهم فلم يجده ذلك . وخرج الشيخ بعياله في موكب ضخم وودعه الناس وهم في أسى وبكاء .





في أصفهان :

ومر موكب الأحسائي بأصفهان ، وقد كانت أنباء الرحلة قد سبقته ، فاستقبله أهلها ؛ ولا سيما العلماء والحكام استقبالاً منقطع النظير ، والتمسوا منه البقاء فلم تسعه الإجابة لأن الشاه زاده محمد علي ميرزا ، حاكم كرمان شاه ، كان قد أوفد المستقبلين إلى إصفهان ليصحبوا موكبه . وهكذا خرج مودعاً بمثل ما استقبل به من احترام .





في كرمان شاه :

واستقبله أهل كرمان شاه على بعد منـزلين في (( جاه كلان )) ، كما استقبله الشاه زاده مع حاشيته في (( تاج آباد )) على بعد أربعة فراسخ . ودخل المدينة بإجلال في الثاني من رجب سنة 1229هـ / 1813م . وقضى فيها أياماً كان خلالها موضع الإكبار والتقدير . وطلب منه الشاه زاده سكنى (( كرمان شاه )) فاعتذر وأخبره بأن سبب تركه ليزد لم يكن لضيق أمور معاشه ولا لعدم احترامه بين الناس ، فقد شق عليهم ذلك لولا أن رغبته في مجاورة العتبات المقدسة هي التـي أخرجته ، فأجابه بأن خروج روحه من جسده أهون عليه من خروج الشيخ من (( كرمان شاه )) وأنه يضمن له تهيئة وسائل الزيارة كل عام لأنه يحب أن يرضي الله بخدمته ويكون له شرف جواره ليفخر بذلك أمام غيره من الولاة والحكام ، فوعده بتحقيق رغبته في العودة .







بين كرمان شاه والعراق :

وهبط العراق فتشرف إلى النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء ، وقضى في كل مدينة مدة ، ثم عاد إلى كرمان شاه وبقي فيها نحو ثلاث سنين . وقد عاد إلى العراق خلال تلك المدة غير مرة وتكررت زياراته للعتبات مراراً . وكان يطيل المكث في كل مشهد فترة طويلة ، وفي سنة 1232هـ / 1816م عزم على حج بيت الله الحرام وصحب ولده الشيخ عبدالله ، ومعه من أصحابه وأتباعه : المولى مشهد التبريزي ، والحاج أبو الحسن بن إبراهيم اليزدي ، والحاج عبدالله بن إبراهيم آل عيثان القارئ الأحسائي ، والحاج علي الدزفولي ، فخرج عن طريق البادية .





في دمشق والديار المقدسة :

وصل الأحسائي إلى دمشق في أواخر شهر شعبان ، فصام شهر رمضان فيها وتحرك إلى المدينة في منتصف شوال فوصلها في الثاني والعشرين من ذي القعدة . وفي الرابع والعشرين منه خرج فأحرم من (( مسجد الشجرة )) ، وبعد تمام المناسك رجع إلى العراق من طريق نجد والجبل مع جم غفير من الحاج ، وعند وصوله الجبل افترق عنهم واتجه إلى النجف مع نفر من أصحابه ، فهاجمت ركبه عصابة من اللصوص فقاتلهم .





في العراق وكرمان شاه مجدداً :

وفي غرة ربيع الثاني وصل إلى النجف فأرسل ولده الشيخ عبدالله مع بعض خدمه إلى كرمان شاه وظل في النجف ثمانية أشهر ، وفي الرابع من محرم عام 1234هـ / 1818م عاد إلى كرمان شاه وعاش عدة سنين بهناء وجلال حتـى توفي محمد علي ميرزا وشحت النعم على أثر قيام الحرب بين العراق وإيران ، وأدبرت أيام البلد ، وضاعف النكبة سيل عظيم أغرق ربع المدينة في ليلة واحدة وهلك الناس والمواشي والزرع ، وفي العام الثاني من وفاته وقع وباء عظيم في كل إيران وفتك بالناس فتكاً ذريعاً ، فعزم الأحسائي على زيارة الإمام الرضا عليه السلام .





في بعض مدن إيران :

وهبط قم فقزوين فطهران ، وذهب لزيارة مرقد السيد عبدالعظيم الحسني في الري فوجد أهلها قد فروا إلى الجبال والصحاري فمكث أربعة أيام واتجه إلى طوس فوصل شاهرود فحل الوباء في ركبه فمات عدد من صحبه وإحدى زوجاته ، ودخل خراسان مع اشتداد الوباء فمكث اثنين وعشرين يوماً وذهب إلى تربت فاستقبله حاكمها محمد خان بن إسحاق خان ، ثم إلى طبس واستقبله أيضاً حاكمها علي نقي خان بن المير حسين خان الطبسي ، وهم بالعودة إلى يزد وكان الطريق مخيفاً فأرسل معه الحاكم ابن عمه مراد علي المعروف بالسطوة والشجاعة في مئة راكب ومئتـي راجل حتـى يزد .





في يزد وأصفهان وكرمان شاه :

ووصل إلى يزد ، ولم يطل مكثه فيها ؛ فبعد ثلاثة شهور توجه إلى أصفهان وحل في دار عبدالله أمين الدولة بن محمد حسين خان صدر الدولة ، فطلبوا منه البقاء فأرسل أهله مع ولده الشيخ عبدالله إلى كرمان شاه وقضى شهر رمضان في أصفهان ، وأحصي مرة عدد المصلين خلفه فبلغوا ستة عشر ألفاً ، ولم يدخر أمين الدولة وسعاً في إكرامه حتـى أنه أهداه قرية (( كمال آباد )) ، وفي عاشر شوال اتجه إلى كرمان شاه فمكث سنة ثم عزم على مجاورة العتبات في العراق .





في كربلاء :

وهبط كربلاء فمكث مدة ثم هم بالحج ثانية ، وكان معه – هذه المرة – ولده الشيخ حسن ، والسيد خلف بن علي النجار ، وموسى بن عبدالمحسن ، والحاج علي الكيشوان الكربلائي ، واثنتان من زوجاته ، وعبده سلطان ، وبعض الخدم .





في الشام :

وسافر عن طريق بادية الشام فهبط دمشق فمرض ، وظل يواصل سيره ومرضه آخذ بالتزايد حتـى توفي في الطريق في منـزل يقال له (( هيدية )) قرب المدينة المنورة . [11]



وفاته :[12]

كان عمره ( 75 عاماً ) وهو في سفره الأخير إلى بيت الله الحرام ، وكان بصحبته ولداه الشيخ علي نقي والشيخ عبدالله وبقية عائلته ، وبصحبته أيضاً بعض تلاميذه وأصحابه مثل الشيخ أبو الحسن اليزدي والشيخ عبدالله آل عيثان وغيرهما .

وفي الطريق أصيب المترجم له بمرض الإسهال فتوفى ( قدس سره ) في مكان يقال له ( هدية ) – قرب المدينة المنورة - ، وكان ذلك ليلة الجمعة أو يوم الأحد (( 22 ذو القعدة 1241هـ )) ومادة تاريخه (مختار ) .

ونقل جثمانه إلى ( المدينة المنورة ) ، فجهزه نجله الشيخ علي نقي وصلى عليه ، ثم دفن في ( البقيع ) خلف قبور الأئمة عليهم السلام في الطرف المقابل لـ ( بيت الأحزان ) .
وكان قبره هناك معروفاً مشهوراً يزوره الكثير من العلماء والمؤمنين إلى أن هدمت قبور الأئمة وغيرها في ( البقيع ) سنة 1345هـ .

وممن زار قبره قبل هذا التأريخ العلامة الشهير الشيخ عباس القمي – صاحب كتاب ( مفاتيح الجنان ) - ، ذكر ذلك في كتابه ( الفوائد الرضوية ) ، وزار قبره أيضاً سنة 1299هـ الميرزا موسى بن محمد باقر الأسكوئي .

وحين انتشر نبأ وفاته عم الحزن والأسى أوساط المؤمنين –خصوصاً بين أتباعه ومقلديه - ، و(قام بمراسم عزائه المسلمون ) ، وأقام له مجالس العزاء تلامذته في أنحاء مختلفة من البلاد ، قال في ( الروضات ) : (( وقام بمراسم عزائه أكثر أهل الإسلام ، وجلس له صاحب ( الإشارات ) و ( المنهاج ) – الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي – بـ ( اصبهان ) ثلاثة أيام ، وحضر مجلسه في تلك الثلاثة من الخاص والعام )) .





مراثيه :

نعاه عدد من الشعراء بعدة قصائد مليئة بمشاعر الحزن واللوعة .
وقد شاهد الشيخ عباس القمي –وغيره من العلماء – على قبر المتـرجم له هذين البيتين :

لزين الدين (أحمد)نور علم

يضيء به القلوب المدلهمة

يريد الحــاسدون ليطفئوه

و يأبى الله إلا أن يتمه


وقال فيه أيضاً الشيخ عبدالحسين شكر النجفي المتوفى 1285هـ :

لأحمد نجل زين الدين نور

حكى خير الورى و القر آله

و مذ كملت زجاجته صفاءً

به أبدى الإله لنا جماله

لسبحات الجلال أراد كشفاً

فأظهر للورى فيه فعاله

أراد تجلّياً للخلق فيه

فألقى في هويّته مثاله


ورثاه السيد محمد بن مال الله بن معصوم القطيفي بقصيدة مسجلة في ديوانه المخطوط .
وممن رثاه أيضاً أحد أبرز تلامذته المولى الشيخ حسن كوهر المتوفى عام 1266هـ ، حيث قال :

قلّ أن سحت دماً

عيناي طول الدهر سرمد

لنعي الرزء لما

بكر الناعي و أنشد

قلت من تنعى

فقال الطهر زين الدين أحمد

من له شمل الهدى

والدين والدنيا تبدد

يا سماء في لحود الأ

رض والترب توسد

ما سمعنا قبل ذا

أن السما في الأرض تلحد

أو يواري الترب جسماً

كان روحاً قد تجسد

يافريداً جامعاً

وهو من الجمع تفرد

أنت ذاك الجوهر الفر

د الذي لا زال مفرد

مجدك السامي

أشاد العلم في الدنيا وشيد

عقمت أم العلى

من بعده لما تولد

لا يدانيه بتجريداته

الـعـقـل الــمـجــرد

كان نوراً منه مصبـ

ـباح الظلامات توقد

فسما نحو الفرا

ديس وفي الخلد تخلد

فسألت الفكر عن

تاريخه يوماً فأنشد

فـزت بـالـفـردوس فـــو

زاً يا ابن زين الدين أحمد


ورثاه أيضاً ابنه الشيخ علي نقي فقال :

لله محتد مجدٍ حل في جدثٍ

طهر بطيبة مذ طابت سجاياه

مطهر قد أطاب الله مغرسه

من الرذائل براه وصفاه

وخصه بجوار خير مختبر

و شاهد الصدق فيه حين آواه

لو يعلم الواصف المطري مدائحه

لضاق ذرعاً بما أولاه مولاه

وكف منحسراً عن وصف من عجزت

روس المنابر أن تحصي مزاياه

أو يعرف الناس منه بعض ما جهلوا

ضلوا بوصف الذي في نعته تاهوا

كأنه خلق في خلق منتظم

كما يشاء له في الكون أنشاه


و قد شطر هذه الأبيات الشاعر المرحوم الحاج يوسف بن موسى آل بو علي الأحسائي المتوفى 1396هـ فقال :

لله مـحتد مـجد حلّ في جدثٍ

قد طيب الله في الجنات مثواه

طابت سريرته والله كونه

طهر بطيبة مذ طابت سجاي

مطهر قد أطاب الله مغرسه

طوبى له جل عند الله معناه

وبالفضائل إذ حفت مكارمه

من الرذائل براه وصفاه

وخصه بجوار خير مختب

لما اصطفاه وصفاه وسواه

هذا الدليل على حسن الختام له

وشاهد الصدق فيه حين آواه

لو يعلم الواصف المطري مدائحه

وسر مبدئه الأعلى ومنشاه

و رام شرحاً لجزءٍ من محاسنه

لضاق ذرعاً بما أولاه مول

وكف منحسراً عن وصف من عجزت

أهل البصيرة ممن كان يرضاه

وكل من هم أن يعلوا لمدحته

روس المنابر أن تحصي مزايا

أو يعرف الناس منه بعض ما جهلوا

لزال جهلهم والكل والاه

لكن أغلبهم عمداً بلا ورعٍ

ضلوا بوصف الذي في نعته تاه

كأنه خلق في خلق منتظ

أبدت حقيقته للخلق تقواه

مولاه في عالم الإمكان كونه

كما يشاء له في الكون أنشاه


و شطرها أيضاً الأديب المعاصر الحاج عبدالحميد بو علي نجل الحاج يوسف المتقدم فقال :

لله محتد مجدٍ حل في جدثٍ

لما دعاه إله الخلق لباه

الله أسكنه جاراً لسادته

طهر بطيبة مذ طابت سجاياه

مطهر قد أطاب الله مغرسه

نما به العلم لما طاب مبداه

فوافق الفرع أصلاً في حقيقته

من الرذائل براه وصفاه

وخصه بجوار خير مختبر

جزاه بعد اختبارٍ حسن عقباه

وفي البقيع أنار الله مرقده

و شاهد الصدق فيه حين آواه

لو يعلم الواصف المطري مدائحه

و فضل من خلد التايخ ذكراه

ولو تعمق في مكنون حكمته

لضاق ذرعاً بما أولاه مولاه

وكف منحسراً عن وصف من عجزت

أهل الخطابة عن إدراك معناه

أولوا النهى يئست من بعدما بلغت

روس المنابر أن تحصي مزاياه

أو يعرف الناس منه بعض ما جهلوا

لأبصروا من ضياء الحق أسناه

أو يسلكون طريق الحق فيه لما

ضلوا بوصف الذي في نعته تاهوا

كأنه خلق في خلق منتظم

وخالق الخلقِ للتوحيد أبداه

وموضح علة الإيجاد من أزلٍ

كما يشاء له في الكون أنشاه

بومحمــــــد
30-11-2008, 10:25 AM
الله يعطيك العافية وماقصرت والله يرحم علمائنا الماضين ويحفظ ويسدد الباقين
أخوي مشكور على الافاده
والله يرحم شيخنا الاوحد الشيخ احمد الاحسائي وها نحن نجدد العهد مع الشيخ
بأننا باقين على العهد