حيدر القرشي
08-12-2008, 05:33 PM
المراقبة في جميع الاحوال السادس : المراقبة وهي أن يكون السالك في جميع الاحوال مراقباً ومنتبهاً لا يتجاوز تكليفه، ولا يتخلّف عمّا عزم علیه. والمراقبة معني عامّ، فهي تتفاوت باختلاف مقامات ودرجات السالكين ومنازلهم. ففي بداية السلوك تكون المراقبة عبارة عن اجتناب ما لا يتماشي مع دين السالك ودنياه، والابتعاد عمّا لا يعنيه، والسعي لئلاّ يصدر منه ما يسخط الله في القول والفعل، ولكن شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه المراقبة وترتقي درجة فدرجة، فقد تتمثّل في التوجّه والإنتباه إلی سكوته أو إلی نفسه، وقد ترتقي فتكون عبارة عن التوجّه لمراتب حقيقة الاسماء والصفات الكلّيّة الإلهيّة. وسوف نبيّن إن شاء الله مراتبها ودرجاتها
الشرح التفصیلی للطریق و کیفیة السیر الی الله
الاوّل : ترك العادات والرسوم والمجاملات
والابتعاد عن الاُمور الاعتباريّة التي تمنع السالك من طيّ الطريق. والمقصود أن يعيش السالك بين الناس بنحوالاعتدال. فالمجتمع يحتوي علی طائفة من الناس قد غرقت في المراسم الاجتماعيّة، لا همّ لها سوي جلب الاصدقاء والخلاّن، ولا تبخل بأيّ شكل من أشكال المجاملة والزيارات المضرّة أوالتي ليست لها فائدة حفاظاً علی شخصيّتها ومقامها الخاصّ، وتتكلّف العادات والتقاليد التي تحفظ لها حُسن الظاهر، تاركة صميم الحياة لحفظ هامشها، جاعلة المعيار في التقبيح والتحسين آراء عوامّ الناس، واضعة الحياة والعمر في معرض التلف والهلاك حتّي صارت سفينة وجودهم لعبة تتقاذفها الامواج المتلاطمة للرسوم والعادات المفتعلة، فأينما سارت الامواج بآداب العوامّ وأخلاقيّاتهم سارت معها، فاقدة للإرادة قبال المجتمع، منساقة انسياق العبيد. وفي المقابل هناك طائفة أُخري اعتزلت الجماعة، وابتعدت عن كلّ نوع من العادات والآداب الاجتماعيّة، وتنصّلت من الاجتماعيّات، فلا معاشرة ولا مزاورة لهم مع الناس، وبقي أصحابها كذلك حتّي عرفوا بالمنزوين.
ولكي يتمكّن السالك من الوصول إلی المقصد، علیه أن يختار طريق الاعتدال بين هذين المسلكين، ويتجنّب الإفراط والتفريط، ويسير علی صراط مستقيم، وهذا الامر لا يحصل إلاّ بمراعاة المقدار الذي تقتضيه الضرورة في مجال المعاشرة ومزاولة المجتمع، نعم لوحصل امتياز قهريّ بين السالك وغيره علی أثر اختلاف كمّيّة المعاشرة أوكيفيّتها، فإنَّ هذا الامر لن يكون مضرّاً، وبالطبع فإنَّ مثل هذا الاختلاف ليحصل، فالمعاشرة لازمة وضروريّة، ولكن لا إلی الحدّ الذي يجعل السالك نفسه تابعاً لاخلاقيّات الناس، وَلاَ يَخَافُونَ (فِي اللَهِ) لَوْمَةَ لآئِمٍ، [1] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn1)هذه الآية تحكي عن مدي ثباتهم علی هذا النهج المستقيم، وتصلُّبهم في رأيهم ومسلكهم.
وبشكل عامّ، يمكن أن نقول إنَّ علی السالك أن يقيس ويحدّد النفع والضرر في كلّ أمر اجتماعيّ، ولا يجعل نفسه تابعاً لآراء الناس وأهوائهم.
العزم الراسخ في طريق السلوك
الثاني : العزم
ما أن يضع السالك القدم الاُولي في ميدان المجاهدة حتّي تنصبّ علیه الحوادث الشديدة والبلاءات من جانب الناس والمعارف، أُولئك الذين لا يتّبعون سوي هوي النفس والرغبات الإجتماعيّة، يعاتبونه ويوبّخونه بالقول والعمل لكي يبتعد عن وجهته ومقصده، وهذا الاختلاف في نمط الحياة والسلوك فيما بينه وبين الناس يؤدّي إلی تخوّفهم، فيسعون بكلّ وسيلة ممكنة أن يحرّفوا السالك المبتدي، موجّهين له سياط اللوم والتوبيخ لإمالته عن الطريق وهكذا.
فإنَّ السالك سوف يواجه في كلّ منزل من منازل السفر مشكلة جديدة يبدوأنـّها لا يمكن دفعها إلاّ بالعزم والصبر، لذا علیه أن يطلب من الله المدد والقوّة حتّي يصمد أمام كلّ هذه المشاكل ويزيلها بسلاح الصبر والتوكّل، وبالالتفات إلی عظمة المقصد علیه أن لا يسمح للخوف مجالاً أمام هذه العواصف الهوجاء التي هي عوائق طريق الله وموانعه.
وَعَلَي اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [2] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn2) ـ وَعَلَي اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. [3] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn3)
الرفق والمداراة في العمل
الثالث : الرفق والمداراة
وهي من أهمّ الاُمور التي ينبغي أن يراعيها السالك إلی الله، لانَّ أدني غفلة في هذا الامر تكون ـ إضافة إلی منعه من السير والترقّي ـ سبباً كلّيّاً في انقطاع السفر. فالسالك يجد في نفسه في بداية السفر حماساً وشوقاً زائداً علی الحدّ المترقّب من أمثاله، بل تلازمه تلك الحال أثناء السفر وحين ظهور التجلّيات الصوريّة الجماليّة حيث يحسّ في نفسه بالعشق والشوق الكثير، فيعزم علی أداء الاعمال العباديّة الكثيرة، فتراه يقضي معظم أيّامه في الدعاء والندبة مقتفياً كلّ عمل، ومتعلّماً من كلّ شخص كلمة، ومتناولاً من كلّ غذاء روحي لقمة. إلاّ أنَّ هذا الاُسلوب من العمل ليس مفيداً فحسب، بل يؤدّي إلی الخسران، لانـّه علی أثر تحميل النفس أعمالاً ثقيلة تأتي النتائج معاكسة، وبالتالي تتراجع النفس إلی الوراء، ويعود السالك بعد ذلك خالي اليدين، ويفقد الرغبة والميل للقيام بأدني عمل مستحبّ.
وسرّ هذا الإفراط والتفريط هوأنَّ السالك قد جعل الذوق والشوق المؤقّتين ميزاناً لاداء الاعمال المستحبّة، وحمّل النفس عبئاً ثقيلاً، ولمّا انتهي هذا الشوق المؤقّت، وخمد لهيبه المتأجّج، ضجرت النفس من هذه الاحمال الثقيلة، وألقت عصي الترحال في البداية أوأثناء الطريق، واشمأزّت من السفر وتبرأت من معدّاته ومملاّته. إذن علی السالك أن لا يسقط في فخّ الشوق المؤقّت، بل علیه أن يقيس بدقّة مدي استعداده وحالته الروحيّة ووضعيّة عمله وأشغاله ومقدار قابليّته للتحمّل، وينتخب العمل الذي يمكنه أن يداوم علیه علی أن يكون أقلّ من مقدار ومدي استعداده، مكتفياً به ومزاولاً له حتّي ينال حظّه الإيمانيّ من هذا العمل.
وبناء علی هذا فالسالك يشتغل بالعبادة طالما وجد في نفسه الميل والرغبة، ويقلع عنها مع بقاء الشوق لها حفاظاً علی هذه الرغبة وهذا الميل، وبالتالي يري نفسه دائم الظمأ للعبادة. فمثل السالك الذي يريد أن يؤدّي العبادات كمثل الذي يريد تناول الغذاء، علیه أوّلاً أن ينتخب الغذاء الذي يلائم مزاجه، ثمّ يدعه قبيل الشبع لتبقي فيه الرغبة والميل دائمين. وإلی هذا الامر إشارة في حديث الإمام الصادق علیه السلام مع عبدالعزيز القراطيسيّ :
يَا عَبْدَ العَزِيزِ ! إنَّ لِلإيمَانِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ ـ إلی أن قال علیه السلام ـ وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَأَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لاَ يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.
إجمالاً، يتبيّن أنَّ العبادة المؤثّرة في السير والسلوك هي تلك العبادة التي تنشأ من الرغبة والميل، وإلی هذا المعني أشار علیه السلام :
وَلاَ تُكْرِهُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَي العِبَادَةِ.
الوفاء
الرابع : الوفاء
وهوعبارة عن عدم العود إلی ما تاب عنه، وعدم التقصير في أداء ما عاهد نفسه علی القيام به، وأن لا يترك ما عاهد علیه شيخه ومربّيه العارف في طريق الحقّ حتّي آخر الامر.
الثبات والمثابرة
الخامس : الثبات والمثابرة
وتوضيح هذا المعني يحتاج إلی ذكر مقدّمة : فالمستفاد من الاخبار والآيات أنَّ الذي ندركه بحواسّنا من الذوات الخارجيّة، والذي نؤدّيه في الخارج من الافعال ويكون له تحقّق في عالم المادّة، له حقيقة في ماوراء هذه التجسّمات الخارجيّة المادّيّة الجسمانيّة، وماوراء هذه الظواهر والمحسوسات، حقائق عالية المرتبة مجرّدة من لباس المادّة والزمان والمكان وسائر عوارضها، وعندما تتنزّل هذه الحقائق من مقامها الواقعيّ تتجسّم وتتمثّل بهذه الصور المادّيّة المدركة في عالم الخارج، وتصرّح بذلك الآية القرآنيّة المباركة :
وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. [4] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn4)
وتفسيرها ـ مجملاً ـ هوأنَّ الذي يتحقّق في عالم المادّة عموماً قد كان له قبل تحقّقه الخارجيّ حقيقة أُخري عارية عن لباس التقدير والحدّ، لكنّه في حال النزول والتنزيل يتحدّد ـ وفقاً لعلم الباري تعالي ـ بدرجات معيّنة، ويقدّر بالتقديرات الإلهيّة.
مَآ أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الاْرْض وَلاَ فِي´ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَـ'بٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَ 'لِكَ عَلَي اللَهِ يَسِيرٌ. [5] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn5)
ثمّ إنَّ الصور الخارجيّة لمّا كانت محدّدة ومملوءة بالعوارض المادّيّة من الكون والفساد فهي لعبة بيد الفناء والزوال والنفاد : مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ، لكنَّ تلك الحقائق العالية المعبّر عنها بالخزائن لها وجهة التجرّد والملكوتيّة ولا يترتّب علیها سوي الثبات والدوام والكلّيّة : وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ، وإلی هذا المعني وإلی هذه الحقيقة أُشير في الحديث المتّفق علیه بين الفريقين :
نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
وهذا الحديث راجع إلی جهة بيان كيفيّات الحقائق لاكمّيّاتها، ومدلوله : أنـّنا معاشر الانبياء ـ دائماً ـ ننزّل الحقائق العالية ونبيّنها بحسب فهم وإدراك السامع، لانَّ العقول البشريّة ـ بسبب انشغالها بزخارف الحياة وأمانيها الفارغة وآمالها البعيدة ـ قد تكدّرت فلاتستطيع أن تدرك تلك الحقائق بنفس الدرجة من الصفاء والواقعيّة التي هي علیها. لهذا فالانبياء العظام هم كمن يريد أن يبيّن للاطفال حقيقة ما، يضطرّون إلی التعبير عنها بما يتناسب مع القوي الإدراكيّة والحسّيّة للطفل. وكم عبّر الانبياء العظام بواسطة مقام الشرع والشريعة (وهم حماتها) عن هذه الحقائق الحيّة بتعابير قد توحي إلی أنَّ هذه الحقائق تفقد الحسّ والشعور، والحال أنَّ كلّ واحدة من هذه الظواهر الشرعيّة من صلاة وصوم وحجّ وجهاد وصلة رحم وصدقة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر و... لها حقائق حيّة ذات شعور وإدراك.
والسالك هومن يريد أن يزيل ـ بخطي السلوك والمجاهدة، وبعون الله وتوفيقه ـ كدورة وحجاب النفس والعقل في ظلّ ذلّ العبوديّة والانكسار والتضرّع والإبتهال، ليشاهد ـ بالعقل الظاهر والنفس المضيئة النورانيّة الصافية من الاغلال والشوائب ـ تلك الحقائق العالية في هذه النشأة المادّيّة والعالم الظلمانيّ. وكثيراً ما يتّفق للسالك أن يشاهد كلاّ من الوضوء والصلاة بصورته الواقعيّة ويري مقدار تفاوتها مع صورته الجسمانيّة الخارجيّة بآلاف المراتب من حيث الشعور والإدراك. كما وردت في أحاديث الائمّة الاطهار علیهم السلام مطالب قيّمة ونفيسة حول تلك الصورة المثاليّة للعبادات في عالم البرزخ والقيامة، وتكلّم الإنسان معها، كما وردت في مسألة نطق الجوارح والسمع والبصر في القرآن الكريم. فالمسجد ليس هوذلك البناء الحجريّ، بل هوواقعيّة حيّة ومدركة وشاعرة، كما جاء في الاخبار حول شكاية القرآن والمسجد إلی ربّهما يوم القيامة.
يروي أنَّ أحد السالكين كان يوماً طريح الفراش، وأثناء تقلّبه علی فراشه سمع أنيناً من الارض، فلمّا استعلم عن السبب، أدرك أوقيل له إنَّ هذا الانين من الارض إنَّما كان لفراقك.
بعد هذه المقدّمة نقول : إنَّ علی السالك أن يثبت في نفسه من خلال الاستمرار والمداومة علی الاعمال، تلك الصور الملكوتيّة المجرّدة حتّي يرتقي من الحال إلی مقام الملكة. وعلیه ـ بواسطة تكرار كلّ عمل ـ أن يحصّل حظّه الروحانيّ والإيمانيّ من ذلك العمل، فما لم يحصل لديه هذا المعني لا يترك العمل. وهذه الجهة الملكوتيّة الثابتة للعمل إنّما تحصل عندما يثبت السالك ويداوم علی العمل حتّي تترسّخ الآثار الثابتة للاعمال الفانية الخارجيّة في أُفق النفس وتتحجّر بحيث لن تكون بعد التثبيت والاستقرار قابلة للرفع.
إذن يجب علی السالك أن يسعي لانتخاب العمل الذي يطابق ويناسب استعداده، فما عرف من نفسه عدم الاستمرار علیه لا يختاره، لانـّه عند ترك العمل سوف تقف حقيقته وواقعيّته للمخاصمة، فتجمع آثارها وترحل بها، فتظهر حينئذٍ الآثار المضادّة للعمل في النفس، نَعوذُ بالله.
ومعني المخاصمة أنَّ السالك لمّا ترك العمل ارتدَّ هذا العمل وابتعد عنه ذاهباً بآثاره وخصائصه معه، ولانَّ ذلك العمل كان عملاً نورانيّاً وخيراً، فعندما تخلو ناحية من النفس من تلك الآثار النورانيّة، لا مفرّ من أن تحلّ محلّها آثاره المضادّة من الظلمة والكدورة والشرور، والحقيقة أنـّه لاَ يوجَدُ عِندَ اللَهِ إلاّ الخَيْرُ. وَأَمّا الشُّرورُ وَالقَبائِحُ وَالظُّلُماتُ فَإنَّما هِيَ مِنْ أَنْفُسِنا.
بناء علی هذا فإنَّ كلّ عيب أونقص يظهر يكون من قبل أفراد البشر، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، وعلی هذا الاساس يتّضح أيضاً أنّ الفيوضات الإلهيّة ليست خاصّة بفرد دون فرد، بل إنَّها تتّجه من الصقع الربوبيّ ومقام الرحمة اللامتناهية بنحوغير متناهٍ إلی عموم أبناء البشر من المسلم واليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ وعبَدَة النار والاصنام، لكنَّ الخصوصيّات الموجودة في قابليّاتهم ـ بسوء اختيارهم ـ تصير سبباً لان تكون هذه الرحمة الواسعة عند البعض باباً للسرور والبهجة، وعند البعض علّة لإيجاد الغمّ والحزن.
المراقبة في جميع الاحوال
السادس : المراقبة
وهي أن يكون السالك في جميع الاحوال مراقباً ومنتبهاً لا يتجاوز تكليفه، ولا يتخلّف عمّا عزم علیه.
والمراقبة معني عامّ، فهي تتفاوت باختلاف مقامات ودرجات السالكين ومنازلهم. ففي بداية السلوك تكون المراقبة عبارة عن اجتناب ما لا يتماشي مع دين السالك ودنياه، والابتعاد عمّا لا يعنيه، والسعي لئلاّ يصدر منه ما يسخط الله في القول والفعل، ولكن شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه المراقبة وترتقي درجة فدرجة، فقد تتمثّل في التوجّه والإنتباه إلی سكوته أو إلی نفسه، وقد ترتقي فتكون عبارة عن التوجّه لمراتب حقيقة الاسماء والصفات الكلّيّة الإلهيّة. وسوف نبيّن إن شاء الله مراتبها ودرجاتها.
وليُعلَم أنَّ المراقبة من أهمّ شروط السلوك، وقد أكّد علیها المشايخ العظام، بل قد عدّها الكثير منهم من اللوازم الحتميّة للسير والسلوك، لانـّها بمنزلة الحجر الاساس، فالذكر والفكر وسائر الشروط الاُخري مبنيّة علیها، فإذا لم تتحقّق المراقبة لا يكون للذكر والفكر أيّ أثر. والمراقبة بمنزلة اجتناب المريض عن الغذاء اللامناسب، والذكر والفكر بمنزلة الدواء، فما لم يبتعد المريض عمّا لا يناسبه من الطعام، يعود الدواء بلا أثر، بل قد يؤدّي إلی نتيجة عكسيّة، لهذا فإنَّ الاساتذة العظام ومشايخ الطريقة منعوا عن الذكر والفكر دون المراقبة، وهم ينتخبون الذكر والفكر حسب درجات السالك.
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
يتبع:::
الشرح التفصیلی للطریق و کیفیة السیر الی الله
الاوّل : ترك العادات والرسوم والمجاملات
والابتعاد عن الاُمور الاعتباريّة التي تمنع السالك من طيّ الطريق. والمقصود أن يعيش السالك بين الناس بنحوالاعتدال. فالمجتمع يحتوي علی طائفة من الناس قد غرقت في المراسم الاجتماعيّة، لا همّ لها سوي جلب الاصدقاء والخلاّن، ولا تبخل بأيّ شكل من أشكال المجاملة والزيارات المضرّة أوالتي ليست لها فائدة حفاظاً علی شخصيّتها ومقامها الخاصّ، وتتكلّف العادات والتقاليد التي تحفظ لها حُسن الظاهر، تاركة صميم الحياة لحفظ هامشها، جاعلة المعيار في التقبيح والتحسين آراء عوامّ الناس، واضعة الحياة والعمر في معرض التلف والهلاك حتّي صارت سفينة وجودهم لعبة تتقاذفها الامواج المتلاطمة للرسوم والعادات المفتعلة، فأينما سارت الامواج بآداب العوامّ وأخلاقيّاتهم سارت معها، فاقدة للإرادة قبال المجتمع، منساقة انسياق العبيد. وفي المقابل هناك طائفة أُخري اعتزلت الجماعة، وابتعدت عن كلّ نوع من العادات والآداب الاجتماعيّة، وتنصّلت من الاجتماعيّات، فلا معاشرة ولا مزاورة لهم مع الناس، وبقي أصحابها كذلك حتّي عرفوا بالمنزوين.
ولكي يتمكّن السالك من الوصول إلی المقصد، علیه أن يختار طريق الاعتدال بين هذين المسلكين، ويتجنّب الإفراط والتفريط، ويسير علی صراط مستقيم، وهذا الامر لا يحصل إلاّ بمراعاة المقدار الذي تقتضيه الضرورة في مجال المعاشرة ومزاولة المجتمع، نعم لوحصل امتياز قهريّ بين السالك وغيره علی أثر اختلاف كمّيّة المعاشرة أوكيفيّتها، فإنَّ هذا الامر لن يكون مضرّاً، وبالطبع فإنَّ مثل هذا الاختلاف ليحصل، فالمعاشرة لازمة وضروريّة، ولكن لا إلی الحدّ الذي يجعل السالك نفسه تابعاً لاخلاقيّات الناس، وَلاَ يَخَافُونَ (فِي اللَهِ) لَوْمَةَ لآئِمٍ، [1] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn1)هذه الآية تحكي عن مدي ثباتهم علی هذا النهج المستقيم، وتصلُّبهم في رأيهم ومسلكهم.
وبشكل عامّ، يمكن أن نقول إنَّ علی السالك أن يقيس ويحدّد النفع والضرر في كلّ أمر اجتماعيّ، ولا يجعل نفسه تابعاً لآراء الناس وأهوائهم.
العزم الراسخ في طريق السلوك
الثاني : العزم
ما أن يضع السالك القدم الاُولي في ميدان المجاهدة حتّي تنصبّ علیه الحوادث الشديدة والبلاءات من جانب الناس والمعارف، أُولئك الذين لا يتّبعون سوي هوي النفس والرغبات الإجتماعيّة، يعاتبونه ويوبّخونه بالقول والعمل لكي يبتعد عن وجهته ومقصده، وهذا الاختلاف في نمط الحياة والسلوك فيما بينه وبين الناس يؤدّي إلی تخوّفهم، فيسعون بكلّ وسيلة ممكنة أن يحرّفوا السالك المبتدي، موجّهين له سياط اللوم والتوبيخ لإمالته عن الطريق وهكذا.
فإنَّ السالك سوف يواجه في كلّ منزل من منازل السفر مشكلة جديدة يبدوأنـّها لا يمكن دفعها إلاّ بالعزم والصبر، لذا علیه أن يطلب من الله المدد والقوّة حتّي يصمد أمام كلّ هذه المشاكل ويزيلها بسلاح الصبر والتوكّل، وبالالتفات إلی عظمة المقصد علیه أن لا يسمح للخوف مجالاً أمام هذه العواصف الهوجاء التي هي عوائق طريق الله وموانعه.
وَعَلَي اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [2] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn2) ـ وَعَلَي اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. [3] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn3)
الرفق والمداراة في العمل
الثالث : الرفق والمداراة
وهي من أهمّ الاُمور التي ينبغي أن يراعيها السالك إلی الله، لانَّ أدني غفلة في هذا الامر تكون ـ إضافة إلی منعه من السير والترقّي ـ سبباً كلّيّاً في انقطاع السفر. فالسالك يجد في نفسه في بداية السفر حماساً وشوقاً زائداً علی الحدّ المترقّب من أمثاله، بل تلازمه تلك الحال أثناء السفر وحين ظهور التجلّيات الصوريّة الجماليّة حيث يحسّ في نفسه بالعشق والشوق الكثير، فيعزم علی أداء الاعمال العباديّة الكثيرة، فتراه يقضي معظم أيّامه في الدعاء والندبة مقتفياً كلّ عمل، ومتعلّماً من كلّ شخص كلمة، ومتناولاً من كلّ غذاء روحي لقمة. إلاّ أنَّ هذا الاُسلوب من العمل ليس مفيداً فحسب، بل يؤدّي إلی الخسران، لانـّه علی أثر تحميل النفس أعمالاً ثقيلة تأتي النتائج معاكسة، وبالتالي تتراجع النفس إلی الوراء، ويعود السالك بعد ذلك خالي اليدين، ويفقد الرغبة والميل للقيام بأدني عمل مستحبّ.
وسرّ هذا الإفراط والتفريط هوأنَّ السالك قد جعل الذوق والشوق المؤقّتين ميزاناً لاداء الاعمال المستحبّة، وحمّل النفس عبئاً ثقيلاً، ولمّا انتهي هذا الشوق المؤقّت، وخمد لهيبه المتأجّج، ضجرت النفس من هذه الاحمال الثقيلة، وألقت عصي الترحال في البداية أوأثناء الطريق، واشمأزّت من السفر وتبرأت من معدّاته ومملاّته. إذن علی السالك أن لا يسقط في فخّ الشوق المؤقّت، بل علیه أن يقيس بدقّة مدي استعداده وحالته الروحيّة ووضعيّة عمله وأشغاله ومقدار قابليّته للتحمّل، وينتخب العمل الذي يمكنه أن يداوم علیه علی أن يكون أقلّ من مقدار ومدي استعداده، مكتفياً به ومزاولاً له حتّي ينال حظّه الإيمانيّ من هذا العمل.
وبناء علی هذا فالسالك يشتغل بالعبادة طالما وجد في نفسه الميل والرغبة، ويقلع عنها مع بقاء الشوق لها حفاظاً علی هذه الرغبة وهذا الميل، وبالتالي يري نفسه دائم الظمأ للعبادة. فمثل السالك الذي يريد أن يؤدّي العبادات كمثل الذي يريد تناول الغذاء، علیه أوّلاً أن ينتخب الغذاء الذي يلائم مزاجه، ثمّ يدعه قبيل الشبع لتبقي فيه الرغبة والميل دائمين. وإلی هذا الامر إشارة في حديث الإمام الصادق علیه السلام مع عبدالعزيز القراطيسيّ :
يَا عَبْدَ العَزِيزِ ! إنَّ لِلإيمَانِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ ـ إلی أن قال علیه السلام ـ وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَأَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لاَ يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.
إجمالاً، يتبيّن أنَّ العبادة المؤثّرة في السير والسلوك هي تلك العبادة التي تنشأ من الرغبة والميل، وإلی هذا المعني أشار علیه السلام :
وَلاَ تُكْرِهُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَي العِبَادَةِ.
الوفاء
الرابع : الوفاء
وهوعبارة عن عدم العود إلی ما تاب عنه، وعدم التقصير في أداء ما عاهد نفسه علی القيام به، وأن لا يترك ما عاهد علیه شيخه ومربّيه العارف في طريق الحقّ حتّي آخر الامر.
الثبات والمثابرة
الخامس : الثبات والمثابرة
وتوضيح هذا المعني يحتاج إلی ذكر مقدّمة : فالمستفاد من الاخبار والآيات أنَّ الذي ندركه بحواسّنا من الذوات الخارجيّة، والذي نؤدّيه في الخارج من الافعال ويكون له تحقّق في عالم المادّة، له حقيقة في ماوراء هذه التجسّمات الخارجيّة المادّيّة الجسمانيّة، وماوراء هذه الظواهر والمحسوسات، حقائق عالية المرتبة مجرّدة من لباس المادّة والزمان والمكان وسائر عوارضها، وعندما تتنزّل هذه الحقائق من مقامها الواقعيّ تتجسّم وتتمثّل بهذه الصور المادّيّة المدركة في عالم الخارج، وتصرّح بذلك الآية القرآنيّة المباركة :
وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. [4] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn4)
وتفسيرها ـ مجملاً ـ هوأنَّ الذي يتحقّق في عالم المادّة عموماً قد كان له قبل تحقّقه الخارجيّ حقيقة أُخري عارية عن لباس التقدير والحدّ، لكنّه في حال النزول والتنزيل يتحدّد ـ وفقاً لعلم الباري تعالي ـ بدرجات معيّنة، ويقدّر بالتقديرات الإلهيّة.
مَآ أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الاْرْض وَلاَ فِي´ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَـ'بٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَ 'لِكَ عَلَي اللَهِ يَسِيرٌ. [5] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn5)
ثمّ إنَّ الصور الخارجيّة لمّا كانت محدّدة ومملوءة بالعوارض المادّيّة من الكون والفساد فهي لعبة بيد الفناء والزوال والنفاد : مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ، لكنَّ تلك الحقائق العالية المعبّر عنها بالخزائن لها وجهة التجرّد والملكوتيّة ولا يترتّب علیها سوي الثبات والدوام والكلّيّة : وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ، وإلی هذا المعني وإلی هذه الحقيقة أُشير في الحديث المتّفق علیه بين الفريقين :
نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
وهذا الحديث راجع إلی جهة بيان كيفيّات الحقائق لاكمّيّاتها، ومدلوله : أنـّنا معاشر الانبياء ـ دائماً ـ ننزّل الحقائق العالية ونبيّنها بحسب فهم وإدراك السامع، لانَّ العقول البشريّة ـ بسبب انشغالها بزخارف الحياة وأمانيها الفارغة وآمالها البعيدة ـ قد تكدّرت فلاتستطيع أن تدرك تلك الحقائق بنفس الدرجة من الصفاء والواقعيّة التي هي علیها. لهذا فالانبياء العظام هم كمن يريد أن يبيّن للاطفال حقيقة ما، يضطرّون إلی التعبير عنها بما يتناسب مع القوي الإدراكيّة والحسّيّة للطفل. وكم عبّر الانبياء العظام بواسطة مقام الشرع والشريعة (وهم حماتها) عن هذه الحقائق الحيّة بتعابير قد توحي إلی أنَّ هذه الحقائق تفقد الحسّ والشعور، والحال أنَّ كلّ واحدة من هذه الظواهر الشرعيّة من صلاة وصوم وحجّ وجهاد وصلة رحم وصدقة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر و... لها حقائق حيّة ذات شعور وإدراك.
والسالك هومن يريد أن يزيل ـ بخطي السلوك والمجاهدة، وبعون الله وتوفيقه ـ كدورة وحجاب النفس والعقل في ظلّ ذلّ العبوديّة والانكسار والتضرّع والإبتهال، ليشاهد ـ بالعقل الظاهر والنفس المضيئة النورانيّة الصافية من الاغلال والشوائب ـ تلك الحقائق العالية في هذه النشأة المادّيّة والعالم الظلمانيّ. وكثيراً ما يتّفق للسالك أن يشاهد كلاّ من الوضوء والصلاة بصورته الواقعيّة ويري مقدار تفاوتها مع صورته الجسمانيّة الخارجيّة بآلاف المراتب من حيث الشعور والإدراك. كما وردت في أحاديث الائمّة الاطهار علیهم السلام مطالب قيّمة ونفيسة حول تلك الصورة المثاليّة للعبادات في عالم البرزخ والقيامة، وتكلّم الإنسان معها، كما وردت في مسألة نطق الجوارح والسمع والبصر في القرآن الكريم. فالمسجد ليس هوذلك البناء الحجريّ، بل هوواقعيّة حيّة ومدركة وشاعرة، كما جاء في الاخبار حول شكاية القرآن والمسجد إلی ربّهما يوم القيامة.
يروي أنَّ أحد السالكين كان يوماً طريح الفراش، وأثناء تقلّبه علی فراشه سمع أنيناً من الارض، فلمّا استعلم عن السبب، أدرك أوقيل له إنَّ هذا الانين من الارض إنَّما كان لفراقك.
بعد هذه المقدّمة نقول : إنَّ علی السالك أن يثبت في نفسه من خلال الاستمرار والمداومة علی الاعمال، تلك الصور الملكوتيّة المجرّدة حتّي يرتقي من الحال إلی مقام الملكة. وعلیه ـ بواسطة تكرار كلّ عمل ـ أن يحصّل حظّه الروحانيّ والإيمانيّ من ذلك العمل، فما لم يحصل لديه هذا المعني لا يترك العمل. وهذه الجهة الملكوتيّة الثابتة للعمل إنّما تحصل عندما يثبت السالك ويداوم علی العمل حتّي تترسّخ الآثار الثابتة للاعمال الفانية الخارجيّة في أُفق النفس وتتحجّر بحيث لن تكون بعد التثبيت والاستقرار قابلة للرفع.
إذن يجب علی السالك أن يسعي لانتخاب العمل الذي يطابق ويناسب استعداده، فما عرف من نفسه عدم الاستمرار علیه لا يختاره، لانـّه عند ترك العمل سوف تقف حقيقته وواقعيّته للمخاصمة، فتجمع آثارها وترحل بها، فتظهر حينئذٍ الآثار المضادّة للعمل في النفس، نَعوذُ بالله.
ومعني المخاصمة أنَّ السالك لمّا ترك العمل ارتدَّ هذا العمل وابتعد عنه ذاهباً بآثاره وخصائصه معه، ولانَّ ذلك العمل كان عملاً نورانيّاً وخيراً، فعندما تخلو ناحية من النفس من تلك الآثار النورانيّة، لا مفرّ من أن تحلّ محلّها آثاره المضادّة من الظلمة والكدورة والشرور، والحقيقة أنـّه لاَ يوجَدُ عِندَ اللَهِ إلاّ الخَيْرُ. وَأَمّا الشُّرورُ وَالقَبائِحُ وَالظُّلُماتُ فَإنَّما هِيَ مِنْ أَنْفُسِنا.
بناء علی هذا فإنَّ كلّ عيب أونقص يظهر يكون من قبل أفراد البشر، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، وعلی هذا الاساس يتّضح أيضاً أنّ الفيوضات الإلهيّة ليست خاصّة بفرد دون فرد، بل إنَّها تتّجه من الصقع الربوبيّ ومقام الرحمة اللامتناهية بنحوغير متناهٍ إلی عموم أبناء البشر من المسلم واليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ وعبَدَة النار والاصنام، لكنَّ الخصوصيّات الموجودة في قابليّاتهم ـ بسوء اختيارهم ـ تصير سبباً لان تكون هذه الرحمة الواسعة عند البعض باباً للسرور والبهجة، وعند البعض علّة لإيجاد الغمّ والحزن.
المراقبة في جميع الاحوال
السادس : المراقبة
وهي أن يكون السالك في جميع الاحوال مراقباً ومنتبهاً لا يتجاوز تكليفه، ولا يتخلّف عمّا عزم علیه.
والمراقبة معني عامّ، فهي تتفاوت باختلاف مقامات ودرجات السالكين ومنازلهم. ففي بداية السلوك تكون المراقبة عبارة عن اجتناب ما لا يتماشي مع دين السالك ودنياه، والابتعاد عمّا لا يعنيه، والسعي لئلاّ يصدر منه ما يسخط الله في القول والفعل، ولكن شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه المراقبة وترتقي درجة فدرجة، فقد تتمثّل في التوجّه والإنتباه إلی سكوته أو إلی نفسه، وقد ترتقي فتكون عبارة عن التوجّه لمراتب حقيقة الاسماء والصفات الكلّيّة الإلهيّة. وسوف نبيّن إن شاء الله مراتبها ودرجاتها.
وليُعلَم أنَّ المراقبة من أهمّ شروط السلوك، وقد أكّد علیها المشايخ العظام، بل قد عدّها الكثير منهم من اللوازم الحتميّة للسير والسلوك، لانـّها بمنزلة الحجر الاساس، فالذكر والفكر وسائر الشروط الاُخري مبنيّة علیها، فإذا لم تتحقّق المراقبة لا يكون للذكر والفكر أيّ أثر. والمراقبة بمنزلة اجتناب المريض عن الغذاء اللامناسب، والذكر والفكر بمنزلة الدواء، فما لم يبتعد المريض عمّا لا يناسبه من الطعام، يعود الدواء بلا أثر، بل قد يؤدّي إلی نتيجة عكسيّة، لهذا فإنَّ الاساتذة العظام ومشايخ الطريقة منعوا عن الذكر والفكر دون المراقبة، وهم ينتخبون الذكر والفكر حسب درجات السالك.
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
يتبع:::