المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هام جدا:: الشرح التفصيلي للطريق و کيفية السير الی الله


حيدر القرشي
08-12-2008, 05:33 PM
المراقبة‌ في‌ جميع‌ الاحوال‌ السادس‌ : المراقبة‌ وهي‌ أن‌ يكون‌ السالك‌ في‌ جميع‌ الاحوال‌ مراقباً ومنتبهاً لا يتجاوز تكليفه‌، ولا يتخلّف‌ عمّا عزم‌ علیه‌. والمراقبة‌ معني‌ عامّ، فهي‌ تتفاوت‌ باختلاف‌ مقامات‌ ودرجات‌ السالكين‌ ومنازلهم‌. ففي‌ بداية‌ السلوك‌ تكون‌ المراقبة‌ عبارة‌ عن‌ اجتناب‌ ما لا يتماشي‌ مع‌ دين‌ السالك‌ ودنياه‌، والابتعاد عمّا لا يعنيه‌، والسعي‌ لئلاّ يصدر منه‌ ما يسخط‌ الله‌ في‌ القول‌ والفعل‌، ولكن‌ شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه‌ المراقبة‌ وترتقي‌ درجة‌ فدرجة‌، فقد تتمثّل‌ في‌ التوجّه‌ والإنتباه‌ إلی‌ سكوته‌ أو إلی‌ نفسه‌، وقد ترتقي‌ فتكون‌ عبارة‌ عن‌ التوجّه‌ لمراتب‌ حقيقة‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ الإلهيّة‌. وسوف‌ نبيّن‌ إن‌ شاء الله‌ مراتبها ودرجاتها


الشرح التفصیلی للطریق و کیفیة السیر الی الله


الاوّل‌ : ترك‌ العادات‌ والرسوم‌ والمجاملات‌
والابتعاد عن‌ الاُمور الاعتباريّة‌ التي‌ تمنع‌ السالك‌ من‌ طيّ الطريق‌. والمقصود أن‌ يعيش‌ السالك‌ بين‌ الناس‌ بنحوالاعتدال‌. فالمجتمع‌ يحتوي‌ علی‌ طائفة‌ من‌ الناس‌ قد غرقت‌ في‌ المراسم‌ الاجتماعيّة‌، لا همّ لها سوي‌ جلب‌ الاصدقاء والخلاّن‌، ولا تبخل‌ بأيّ شكل‌ من‌ أشكال‌ المجاملة‌ والزيارات‌ المضرّة‌ أوالتي‌ ليست‌ لها فائدة‌ حفاظاً علی‌ شخصيّتها ومقامها الخاصّ، وتتكلّف‌ العادات‌ والتقاليد التي‌ تحفظ‌ لها حُسن‌ الظاهر، تاركة‌ صميم‌ الحياة‌ لحفظ‌ هامشها، جاعلة‌ المعيار في‌ التقبيح‌ والتحسين‌ آراء عوامّ الناس‌، واضعة‌ الحياة‌ والعمر في‌ معرض‌ التلف‌ والهلاك‌ حتّي‌ صارت‌ سفينة‌ وجودهم‌ لعبة‌ تتقاذفها الامواج‌ المتلاطمة‌ للرسوم‌ والعادات‌ المفتعلة‌، فأينما سارت‌ الامواج‌ بآداب‌ العوامّ وأخلاقيّاتهم‌ سارت‌ معها، فاقدة‌ للإرادة‌ قبال‌ المجتمع‌، منساقة‌ انسياق‌ العبيد. وفي‌ المقابل‌ هناك‌ طائفة‌ أُخري‌ اعتزلت‌ الجماعة‌، وابتعدت‌ عن‌ كلّ نوع‌ من‌ العادات‌ والآداب‌ الاجتماعيّة‌، وتنصّلت‌ من‌ الاجتماعيّات‌، فلا معاشرة‌ ولا مزاورة‌ لهم‌ مع‌ الناس‌، وبقي‌ أصحابها كذلك‌ حتّي‌ عرفوا بالمنزوين‌.
ولكي‌ يتمكّن‌ السالك‌ من‌ الوصول‌ إلی‌ المقصد، علیه‌ أن‌ يختار طريق‌ الاعتدال‌ بين‌ هذين‌ المسلكين‌، ويتجنّب‌ الإفراط‌ والتفريط‌، ويسير علی‌ صراط‌ مستقيم‌، وهذا الامر لا يحصل‌ إلاّ بمراعاة‌ المقدار الذي‌ تقتضيه‌ الضرورة‌ في‌ مجال‌ المعاشرة‌ ومزاولة‌ المجتمع‌، نعم‌ لوحصل‌ امتياز قهريّ بين‌ السالك‌ وغيره‌ علی‌ أثر اختلاف‌ كمّيّة‌ المعاشرة‌ أوكيفيّتها، فإنَّ هذا الامر لن‌ يكون‌ مضرّاً، وبالطبع‌ فإنَّ مثل‌ هذا الاختلاف‌ ليحصل‌، فالمعاشرة‌ لازمة‌ وضروريّة‌، ولكن‌ لا إلی‌ الحدّ الذي‌ يجعل‌ السالك‌ نفسه‌ تابعاً لاخلاقيّات‌ الناس‌، وَلاَ يَخَافُونَ (فِي‌ اللَهِ) لَوْمَةَ لآئِمٍ، [1] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn1)هذه‌ الآية‌ تحكي‌ عن‌ مدي‌ ثباتهم‌ علی‌ هذا النهج‌ المستقيم‌، وتصلُّبهم‌ في‌ رأيهم‌ ومسلكهم‌.
وبشكل‌ عامّ، يمكن‌ أن‌ نقول‌ إنَّ علی‌ السالك‌ أن‌ يقيس‌ ويحدّد النفع‌ والضرر في‌ كلّ أمر اجتماعيّ، ولا يجعل‌ نفسه‌ تابعاً لآراء الناس‌ وأهوائهم‌.

العزم‌ الراسخ‌ في‌ طريق‌ السلوك‌

الثاني‌ : العزم‌
ما أن‌ يضع‌ السالك‌ القدم‌ الاُولي‌ في‌ ميدان‌ المجاهدة‌ حتّي‌ تنصبّ علیه‌ الحوادث‌ الشديدة‌ والبلاءات‌ من‌ جانب‌ الناس‌ والمعارف‌، أُولئك‌ الذين‌ لا يتّبعون‌ سوي‌ هوي‌ النفس‌ والرغبات‌ الإجتماعيّة‌، يعاتبونه‌ ويوبّخونه‌ بالقول‌ والعمل‌ لكي‌ يبتعد عن‌ وجهته‌ ومقصده‌، وهذا الاختلاف‌ في‌ نمط‌ الحياة‌ والسلوك‌ فيما بينه‌ وبين‌ الناس‌ يؤدّي‌ إلی‌ تخوّفهم‌، فيسعون‌ بكلّ وسيلة‌ ممكنة‌ أن‌ يحرّفوا السالك‌ المبتدي‌، موجّهين‌ له‌ سياط‌ اللوم‌ والتوبيخ‌ لإمالته‌ عن‌ الطريق‌ وهكذا.
فإنَّ السالك‌ سوف‌ يواجه‌ في‌ كلّ منزل‌ من‌ منازل‌ السفر مشكلة‌ جديدة‌ يبدوأنـّها لا يمكن‌ دفعها إلاّ بالعزم‌ والصبر، لذا علیه‌ أن‌ يطلب‌ من‌ الله‌ المدد والقوّة‌ حتّي‌ يصمد أمام‌ كلّ هذه‌ المشاكل‌ ويزيلها بسلاح‌ الصبر والتوكّل‌، وبالالتفات‌ إلی‌ عظمة‌ المقصد علیه‌ أن‌ لا يسمح‌ للخوف‌ مجالاً أمام‌ هذه‌ العواصف‌ الهوجاء التي‌ هي‌ عوائق‌ طريق‌ الله‌ وموانعه‌.
وَعَلَي‌ اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [2] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn2) ـ وَعَلَي‌ اللَهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. [3] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn3)

الرفق‌ والمداراة‌ في‌ العمل‌

الثالث‌ : الرفق‌ والمداراة‌
وهي‌ من‌ أهمّ الاُمور التي‌ ينبغي‌ أن‌ يراعيها السالك‌ إلی‌ الله‌، لانَّ أدني‌ غفلة‌ في‌ هذا الامر تكون‌ ـ إضافة‌ إلی‌ منعه‌ من‌ السير والترقّي‌ ـ سبباً كلّيّاً في‌ انقطاع‌ السفر. فالسالك‌ يجد في‌ نفسه‌ في‌ بداية‌ السفر حماساً وشوقاً زائداً علی‌ الحدّ المترقّب‌ من‌ أمثاله‌، بل‌ تلازمه‌ تلك‌ الحال‌ أثناء السفر وحين‌ ظهور التجلّيات‌ الصوريّة‌ الجماليّة‌ حيث‌ يحسّ في‌ نفسه‌ بالعشق‌ والشوق‌ الكثير، فيعزم‌ علی‌ أداء الاعمال‌ العباديّة‌ الكثيرة‌، فتراه‌ يقضي‌ معظم‌ أيّامه‌ في‌ الدعاء والندبة‌ مقتفياً كلّ عمل‌، ومتعلّماً من‌ كلّ شخص‌ كلمة‌، ومتناولاً من‌ كلّ غذاء روحي‌ لقمة‌. إلاّ أنَّ هذا الاُسلوب‌ من‌ العمل‌ ليس‌ مفيداً فحسب‌، بل‌ يؤدّي‌ إلی‌ الخسران‌، لانـّه‌ علی‌ أثر تحميل‌ النفس‌ أعمالاً ثقيلة‌ تأتي‌ النتائج‌ معاكسة‌، وبالتالي‌ تتراجع‌ النفس‌ إلی‌ الوراء، ويعود السالك‌ بعد ذلك‌ خالي‌ اليدين‌، ويفقد الرغبة‌ والميل‌ للقيام‌ بأدني‌ عمل‌ مستحبّ.
وسرّ هذا الإفراط‌ والتفريط‌ هوأنَّ السالك‌ قد جعل‌ الذوق‌ والشوق‌ المؤقّتين‌ ميزاناً لاداء الاعمال‌ المستحبّة‌، وحمّل‌ النفس‌ عبئاً ثقيلاً، ولمّا انتهي‌ هذا الشوق‌ المؤقّت‌، وخمد لهيبه‌ المتأجّج‌، ضجرت‌ النفس‌ من‌ هذه‌ الاحمال‌ الثقيلة‌، وألقت‌ عصي‌ الترحال‌ في‌ البداية‌ أوأثناء الطريق‌، واشمأزّت‌ من‌ السفر وتبرأت‌ من‌ معدّاته‌ ومملاّته‌. إذن‌ علی‌ السالك‌ أن‌ لا يسقط‌ في‌ فخّ الشوق‌ المؤقّت‌، بل‌ علیه‌ أن‌ يقيس‌ بدقّة‌ مدي‌ استعداده‌ وحالته‌ الروحيّة‌ ووضعيّة‌ عمله‌ وأشغاله‌ ومقدار قابليّته‌ للتحمّل‌، وينتخب‌ العمل‌ الذي‌ يمكنه‌ أن‌ يداوم‌ علیه‌ علی‌ أن‌ يكون‌ أقلّ من‌ مقدار ومدي‌ استعداده‌، مكتفياً به‌ ومزاولاً له‌ حتّي‌ ينال‌ حظّه‌ الإيمانيّ من‌ هذا العمل‌.
وبناء علی‌ هذا فالسالك‌ يشتغل‌ بالعبادة‌ طالما وجد في‌ نفسه‌ الميل‌ والرغبة‌، ويقلع‌ عنها مع‌ بقاء الشوق‌ لها حفاظاً علی‌ هذه‌ الرغبة‌ وهذا الميل‌، وبالتالي‌ يري‌ نفسه‌ دائم‌ الظمأ للعبادة‌. فمثل‌ السالك‌ الذي‌ يريد أن‌ يؤدّي‌ العبادات‌ كمثل‌ الذي‌ يريد تناول‌ الغذاء، علیه‌ أوّلاً أن‌ ينتخب‌ الغذاء الذي‌ يلائم‌ مزاجه‌، ثمّ يدعه‌ قبيل‌ الشبع‌ لتبقي‌ فيه‌ الرغبة‌ والميل‌ دائمين‌. وإلی‌ هذا الامر إشارة‌ في‌ حديث‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ مع‌ عبدالعزيز القراطيسيّ :
يَا عَبْدَ العَزِيزِ ! إنَّ لِلإيمَانِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ ـ إلی‌ أن‌ قال‌ علیه‌ السلام‌ ـ وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَأَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لاَ يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.
إجمالاً، يتبيّن‌ أنَّ العبادة‌ المؤثّرة‌ في‌ السير والسلوك‌ هي‌ تلك‌ العبادة‌ التي‌ تنشأ من‌ الرغبة‌ والميل‌، وإلی‌ هذا المعني‌ أشار علیه‌ السلام‌ :
وَلاَ تُكْرِهُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَي‌ العِبَادَةِ.

الوفاء

الرابع‌ : الوفاء
وهوعبارة‌ عن‌ عدم‌ العود إلی‌ ما تاب‌ عنه‌، وعدم‌ التقصير في‌ أداء ما عاهد نفسه‌ علی‌ القيام‌ به‌، وأن‌ لا يترك‌ ما عاهد علیه‌ شيخه‌ ومربّيه‌ العارف‌ في‌ طريق‌ الحقّ حتّي‌ آخر الامر.

الثبات‌ والمثابرة‌

الخامس‌ : الثبات‌ والمثابرة‌
وتوضيح‌ هذا المعني‌ يحتاج‌ إلی‌ ذكر مقدّمة‌ : فالمستفاد من‌ الاخبار والآيات‌ أنَّ الذي‌ ندركه‌ بحواسّنا من‌ الذوات‌ الخارجيّة‌، والذي‌ نؤدّيه‌ في‌ الخارج‌ من‌ الافعال‌ ويكون‌ له‌ تحقّق‌ في‌ عالم‌ المادّة‌، له‌ حقيقة‌ في‌ ماوراء هذه‌ التجسّمات‌ الخارجيّة‌ المادّيّة‌ الجسمانيّة‌، وماوراء هذه‌ الظواهر والمحسوسات‌، حقائق‌ عالية‌ المرتبة‌ مجرّدة‌ من‌ لباس‌ المادّة‌ والزمان‌ والمكان‌ وسائر عوارضها، وعندما تتنزّل‌ هذه‌ الحقائق‌ من‌ مقامها الواقعيّ تتجسّم‌ وتتمثّل‌ بهذه‌ الصور المادّيّة‌ المدركة‌ في‌ عالم‌ الخارج‌، وتصرّح‌ بذلك‌ الآية‌ القرآنيّة‌ المباركة‌ :
وَإِن‌ مِن‌ شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. [4] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn4)
وتفسيرها ـ مجملاً ـ هوأنَّ الذي‌ يتحقّق‌ في‌ عالم‌ المادّة‌ عموماً قد كان‌ له‌ قبل‌ تحقّقه‌ الخارجيّ حقيقة‌ أُخري‌ عارية‌ عن‌ لباس‌ التقدير والحدّ، لكنّه‌ في‌ حال‌ النزول‌ والتنزيل‌ يتحدّد ـ وفقاً لعلم‌ الباري‌ تعالي‌ ـ بدرجات‌ معيّنة‌، ويقدّر بالتقديرات‌ الإلهيّة‌.
مَآ أَصَابَ مِن‌ مُصِيبَةٍ فِي‌ الاْرْض‌ وَلاَ فِي‌´ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي‌ كِتَـ'بٍ مِن‌ قَبْلِ أَن‌ نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَ 'لِكَ عَلَي‌ اللَهِ يَسِيرٌ. [5] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn5)
ثمّ إنَّ الصور الخارجيّة‌ لمّا كانت‌ محدّدة‌ ومملوءة‌ بالعوارض‌ المادّيّة‌ من‌ الكون‌ والفساد فهي‌ لعبة‌ بيد الفناء والزوال‌ والنفاد : مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ، لكنَّ تلك‌ الحقائق‌ العالية‌ المعبّر عنها بالخزائن‌ لها وجهة‌ التجرّد والملكوتيّة‌ ولا يترتّب‌ علیها سوي‌ الثبات‌ والدوام‌ والكلّيّة‌ : وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ، وإلی‌ هذا المعني‌ وإلی‌ هذه‌ الحقيقة‌ أُشير في‌ الحديث‌ المتّفق‌ علیه‌ بين‌ الفريقين‌ :
نَحْنُ مَعَاشِرَ الاَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَي‌ قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
وهذا الحديث‌ راجع‌ إلی‌ جهة‌ بيان‌ كيفيّات‌ الحقائق‌ لاكمّيّاتها، ومدلوله‌ : أنـّنا معاشر الانبياء ـ دائماً ـ ننزّل‌ الحقائق‌ العالية‌ ونبيّنها بحسب‌ فهم‌ وإدراك‌ السامع‌، لانَّ العقول‌ البشريّة‌ ـ بسبب‌ انشغالها بزخارف‌ الحياة‌ وأمانيها الفارغة‌ وآمالها البعيدة‌ ـ قد تكدّرت‌ فلاتستطيع‌ أن‌ تدرك‌ تلك‌ الحقائق‌ بنفس‌ الدرجة‌ من‌ الصفاء والواقعيّة‌ التي‌ هي‌ علیها. لهذا فالانبياء العظام‌ هم‌ كمن‌ يريد أن‌ يبيّن‌ للاطفال‌ حقيقة‌ ما، يضطرّون‌ إلی‌ التعبير عنها بما يتناسب‌ مع‌ القوي‌ الإدراكيّة‌ والحسّيّة‌ للطفل‌. وكم‌ عبّر الانبياء العظام‌ بواسطة‌ مقام‌ الشرع‌ والشريعة‌ (وهم‌ حماتها) عن‌ هذه‌ الحقائق‌ الحيّة‌ بتعابير قد توحي‌ إلی‌ أنَّ هذه‌ الحقائق‌ تفقد الحسّ والشعور، والحال‌ أنَّ كلّ واحدة‌ من‌ هذه‌ الظواهر الشرعيّة‌ من‌ صلاة‌ وصوم‌ وحجّ وجهاد وصلة‌ رحم‌ وصدقة‌ وأمر بالمعروف‌ ونهي‌ عن‌ المنكر و... لها حقائق‌ حيّة‌ ذات‌ شعور وإدراك‌.
والسالك‌ هومن‌ يريد أن‌ يزيل‌ ـ بخطي‌ السلوك‌ والمجاهدة‌، وبعون‌ الله‌ وتوفيقه‌ ـ كدورة‌ وحجاب‌ النفس‌ والعقل‌ في‌ ظلّ ذلّ العبوديّة‌ والانكسار والتضرّع‌ والإبتهال‌، ليشاهد ـ بالعقل‌ الظاهر والنفس‌ المضيئة‌ النورانيّة‌ الصافية‌ من‌ الاغلال‌ والشوائب‌ ـ تلك‌ الحقائق‌ العالية‌ في‌ هذه‌ النشأة‌ المادّيّة‌ والعالم‌ الظلمانيّ. وكثيراً ما يتّفق‌ للسالك‌ أن‌ يشاهد كلاّ من‌ الوضوء والصلاة‌ بصورته‌ الواقعيّة‌ ويري‌ مقدار تفاوتها مع‌ صورته‌ الجسمانيّة‌ الخارجيّة‌ بآلاف‌ المراتب‌ من‌ حيث‌ الشعور والإدراك‌. كما وردت‌ في‌ أحاديث‌ الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌ مطالب‌ قيّمة‌ ونفيسة‌ حول‌ تلك‌ الصورة‌ المثاليّة‌ للعبادات‌ في‌ عالم‌ البرزخ‌ والقيامة‌، وتكلّم‌ الإنسان‌ معها، كما وردت‌ في‌ مسألة‌ نطق‌ الجوارح‌ والسمع‌ والبصر في‌ القرآن‌ الكريم‌. فالمسجد ليس‌ هوذلك‌ البناء الحجريّ، بل‌ هوواقعيّة‌ حيّة‌ ومدركة‌ وشاعرة‌، كما جاء في‌ الاخبار حول‌ شكاية‌ القرآن‌ والمسجد إلی‌ ربّهما يوم‌ القيامة‌.
يروي‌ أنَّ أحد السالكين‌ كان‌ يوماً طريح‌ الفراش‌، وأثناء تقلّبه‌ علی‌ فراشه‌ سمع‌ أنيناً من‌ الارض‌، فلمّا استعلم‌ عن‌ السبب‌، أدرك‌ أوقيل‌ له‌ إنَّ هذا الانين‌ من‌ الارض‌ إنَّما كان‌ لفراقك‌.
بعد هذه‌ المقدّمة‌ نقول‌ : إنَّ علی‌ السالك‌ أن‌ يثبت‌ في‌ نفسه‌ من‌ خلال‌ الاستمرار والمداومة‌ علی‌ الاعمال‌، تلك‌ الصور الملكوتيّة‌ المجرّدة‌ حتّي‌ يرتقي‌ من‌ الحال‌ إلی‌ مقام‌ الملكة‌. وعلیه‌ ـ بواسطة‌ تكرار كلّ عمل‌ ـ أن‌ يحصّل‌ حظّه‌ الروحانيّ والإيمانيّ من‌ ذلك‌ العمل‌، فما لم‌ يحصل‌ لديه‌ هذا المعني‌ لا يترك‌ العمل‌. وهذه‌ الجهة‌ الملكوتيّة‌ الثابتة‌ للعمل‌ إنّما تحصل‌ عندما يثبت‌ السالك‌ ويداوم‌ علی‌ العمل‌ حتّي‌ تترسّخ‌ الآثار الثابتة‌ للاعمال‌ الفانية‌ الخارجيّة‌ في‌ أُفق‌ النفس‌ وتتحجّر بحيث‌ لن‌ تكون‌ بعد التثبيت‌ والاستقرار قابلة‌ للرفع‌.
إذن‌ يجب‌ علی‌ السالك‌ أن‌ يسعي‌ لانتخاب‌ العمل‌ الذي‌ يطابق‌ ويناسب‌ استعداده‌، فما عرف‌ من‌ نفسه‌ عدم‌ الاستمرار علیه‌ لا يختاره‌، لانـّه‌ عند ترك‌ العمل‌ سوف‌ تقف‌ حقيقته‌ وواقعيّته‌ للمخاصمة‌، فتجمع‌ آثارها وترحل‌ بها، فتظهر حينئذٍ الآثار المضادّة‌ للعمل‌ في‌ النفس‌، نَعوذُ بالله‌.
ومعني‌ المخاصمة‌ أنَّ السالك‌ لمّا ترك‌ العمل‌ ارتدَّ هذا العمل‌ وابتعد عنه‌ ذاهباً بآثاره‌ وخصائصه‌ معه‌، ولانَّ ذلك‌ العمل‌ كان‌ عملاً نورانيّاً وخيراً، فعندما تخلو ناحية‌ من‌ النفس‌ من‌ تلك‌ الآثار النورانيّة‌، لا مفرّ من‌ أن‌ تحلّ محلّها آثاره‌ المضادّة‌ من‌ الظلمة‌ والكدورة‌ والشرور، والحقيقة‌ أنـّه‌ لاَ يوجَدُ عِندَ اللَهِ إلاّ الخَيْرُ. وَأَمّا الشُّرورُ وَالقَبائِحُ وَالظُّلُماتُ فَإنَّما هِيَ مِنْ أَنْفُسِنا.
بناء علی‌ هذا فإنَّ كلّ عيب‌ أونقص‌ يظهر يكون‌ من‌ قبل‌ أفراد البشر، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، وعلی‌ هذا الاساس‌ يتّضح‌ أيضاً أنّ الفيوضات‌ الإلهيّة‌ ليست‌ خاصّة‌ بفرد دون‌ فرد، بل‌ إنَّها تتّجه‌ من‌ الصقع‌ الربوبيّ ومقام‌ الرحمة‌ اللامتناهية‌ بنحوغير متناهٍ إلی‌ عموم‌ أبناء البشر من‌ المسلم‌ واليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ وعبَدَة‌ النار والاصنام‌، لكنَّ الخصوصيّات‌ الموجودة‌ في‌ قابليّاتهم‌ ـ بسوء اختيارهم‌ ـ تصير سبباً لان‌ تكون‌ هذه‌ الرحمة‌ الواسعة‌ عند البعض‌ باباً للسرور والبهجة‌، وعند البعض‌ علّة‌ لإيجاد الغمّ والحزن‌.
المراقبة‌ في‌ جميع‌ الاحوال‌

السادس‌ : المراقبة‌
وهي‌ أن‌ يكون‌ السالك‌ في‌ جميع‌ الاحوال‌ مراقباً ومنتبهاً لا يتجاوز تكليفه‌، ولا يتخلّف‌ عمّا عزم‌ علیه‌.
والمراقبة‌ معني‌ عامّ، فهي‌ تتفاوت‌ باختلاف‌ مقامات‌ ودرجات‌ السالكين‌ ومنازلهم‌. ففي‌ بداية‌ السلوك‌ تكون‌ المراقبة‌ عبارة‌ عن‌ اجتناب‌ ما لا يتماشي‌ مع‌ دين‌ السالك‌ ودنياه‌، والابتعاد عمّا لا يعنيه‌، والسعي‌ لئلاّ يصدر منه‌ ما يسخط‌ الله‌ في‌ القول‌ والفعل‌، ولكن‌ شيئاً فشيئاً تشتدّ هذه‌ المراقبة‌ وترتقي‌ درجة‌ فدرجة‌، فقد تتمثّل‌ في‌ التوجّه‌ والإنتباه‌ إلی‌ سكوته‌ أو إلی‌ نفسه‌، وقد ترتقي‌ فتكون‌ عبارة‌ عن‌ التوجّه‌ لمراتب‌ حقيقة‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ الإلهيّة‌. وسوف‌ نبيّن‌ إن‌ شاء الله‌ مراتبها ودرجاتها.
وليُعلَم‌ أنَّ المراقبة‌ من‌ أهمّ شروط‌ السلوك‌، وقد أكّد علیها المشايخ‌ العظام‌، بل‌ قد عدّها الكثير منهم‌ من‌ اللوازم‌ الحتميّة‌ للسير والسلوك‌، لانـّها بمنزلة‌ الحجر الاساس‌، فالذكر والفكر وسائر الشروط‌ الاُخري‌ مبنيّة‌ علیها، فإذا لم‌ تتحقّق‌ المراقبة‌ لا يكون‌ للذكر والفكر أيّ أثر. والمراقبة‌ بمنزلة‌ اجتناب‌ المريض‌ عن‌ الغذاء اللامناسب‌، والذكر والفكر بمنزلة‌ الدواء، فما لم‌ يبتعد المريض‌ عمّا لا يناسبه‌ من‌ الطعام‌، يعود الدواء بلا أثر، بل‌ قد يؤدّي‌ إلی‌ نتيجة‌ عكسيّة‌، لهذا فإنَّ الاساتذة‌ العظام‌ ومشايخ‌ الطريقة‌ منعوا عن‌ الذكر والفكر دون‌ المراقبة‌، وهم‌ ينتخبون‌ الذكر والفكر حسب‌ درجات‌ السالك‌.
السيّد محمّد الحسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ

يتبع:::

أرجوان
09-12-2008, 12:17 AM
رائع جدا بارك الله بك
مولاي الفاضل..
تحيتي..

نهر الولاء
09-12-2008, 03:56 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلي على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
حيدر القرشي
جزاك الله خيرا على الموضوع المفيد
ومشـــــــــــــــــــــــــــــــــكورين

ربيبة الزهـراء
09-12-2008, 08:55 PM
اللهم صلي عى محمد واله محمد

بوركت اخى الكريم ..
ماتقصـر مولااي

ننتظر البقية

حيدر القرشي
09-12-2008, 09:05 PM
اشكر الاخوة شكرا جزيلا وان شاء الله غدا انزل الباقي

ولكن ارجوا من الاخت الفاضلة ان تعدل العنوان

هام جدا::الشرح التفصیلی للطریق و کیفیة السیر الی الله

تعدل اليائات

حيدر القرشي
10-12-2008, 05:23 PM
المحاسبة‌، المؤاخذة‌

السابع‌ : المحاسبة‌
وهي‌ عبارة‌ عن‌ اتّخاذ وقت‌ معيّن‌ في‌ الليل‌ والنهار يقوم‌ خلاله‌ بمحاسبة‌ نفسه‌ عن‌ كلّ ما عمله‌ في‌ ليله‌ ونهاره‌. وإلی‌ هذا الامر إشارة‌ في‌ حديث‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر علیه‌ السلام‌ في‌ قوله‌ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً. فإذا تبيّن‌ له‌ أنـّه‌ قد أخطأ، فعلیه‌ أن‌ يستغفر، وفي‌ حال‌ عدم‌ الخطأ يجب‌ أن‌ يشكر الله‌ تعالي‌ شأنه‌.
الثامن‌ : المؤاخذة‌
وهي‌ عبارة‌ عن‌ تأديب‌ النفس‌ بعد صدور الخيانة‌ منها، وينبغي‌ أن‌ يكون‌ ذلك‌ حسب‌ مقتضي‌ الحال‌.

المسارعة‌، الحبّ

التاسع‌ : المسارعة‌
بأن‌ يسارع‌ إلی‌ فعل‌ ما قد عزم‌ علیه‌، فطريق‌ السالك‌ تحفّه‌ الآفات‌، ويقف‌ في‌ كلّ مقام‌ منه‌ مانع‌، فينبغي‌ أن‌ يكون‌ السالك‌ حاذقاً وواعياً جدّاً، فيؤدّي‌ تكليفه‌ ووظائفه‌ قبل‌ أن‌ يحول‌ دونها المانع‌ ويلوّث‌ ساحته‌، فلا يضيّع‌ دقيقة‌ واحدة‌ في‌ سبيل‌ الوصول‌ إلی‌ المقصد.
العاشر : الحبّ
حبّ صاحب‌ الشريعة‌ وخلفائه‌ بالحقّ، فينبغي‌ أن‌ يُخلص‌ في‌ هذه‌ المحبّة‌ بحيث‌ لا يكون‌ فيها أيّ غشّ، ويصل‌ في‌ هذه‌ المرحلة‌ إلی‌ حدّ الكمال‌، لانَّ للمحبّة‌ مدخليّة‌ عظيمة‌ في‌ التأثير علی‌ الاعمال‌، وكلّما كانت‌ المودّة‌ أكثر وأعظم‌ فإنَّ أثر الاعمال‌ سوف‌ يكون‌ أعظم‌ وأشدّ رسوخاً.
ولانَّ كلّ الموجودات‌ هي‌ مخلوقات‌ الله‌، فعلی‌ السالك‌ أن‌ يحبّها جميعاً، ويحترم‌ كلّ واحد حسب‌ مرتبته‌ ودرجته‌. فالعطف‌ والإشفاق‌ علی‌ كلّ ما ينتسب‌ إلی‌ الله‌ سواء كان‌ حيواناً أوإنساناً، كلٌّ في‌ مرتبته‌ ومقامه‌، كلّ هذا من‌ آثار محبّة‌ الله‌، كما ورد في‌ الحديث‌ : «إنَّ عمدة‌ شعب‌ الإيمان‌ الشفقة‌ علی‌ خلق‌ الله‌». إِلَهِي‌ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ...
أُحِبُّ بِحُبِّهَا تَلَعَاتِ نَجْدٍ وَمَا شَغَفِي‌ بِهَا لَوْلاَ هَوَاهَا
أَذِلُّ لآلِ لَيْلَي‌ فِي‌ هَوَاهَا وَأَحْتَمِلُ الاصَاغِرَ وَالكِبَارَا
حفظ‌ الادب‌

الحادي‌ عشر : حفظ‌ الادب‌
تجاه‌ الحضرة‌ المقدّسة‌ لربّ العزّة‌ وخلفائه‌. وهذا الامر يختلف‌ عن‌ معني‌ المحبّة‌ الذي‌ ذكر سابقاً. والادب‌ عبارة‌ عن‌ الالتفات‌ إلی‌ النفس‌ كيلا تتعدّي‌ حدودها، وتخالف‌ مقتضي‌ العبوديّة‌، فكلّ ممكن‌ له‌ حدّ وحريم‌ في‌ قبال‌ الواجب‌، ولازم‌ حفظ‌ الادب‌ رعاية‌ مقتضيات‌ عالم‌ الكثرة‌، ولكنَّ الحبّ هوانجذاب‌ النفس‌ إلی‌ الحضرة‌ الإلهيّة‌، ولازمه‌ الالتفات‌ إلی‌ الوحدة‌.
إنَّ النسبة‌ بين‌ الحبّ والادب‌ مثل‌ النسبة‌ بين‌ الواجب‌ والمحرّم‌ من‌ الاحكام‌، لانَّ السالك‌ أثناء أداء الواجب‌ يتوجّه‌ إلی‌ المحبوب‌ وفي‌ الاجتناب‌ عن‌ الحرام‌ يتوجّه‌ إلی‌ حريمه‌ الخاصّ كيلا يخرج‌ عن‌ حدوده‌ الإمكانيّة‌ ومقتضي‌ عبوديّته‌، فالادب‌ يرجع‌ ـ في‌ حقيقته‌ ـ إلی‌ جانب‌ اتّخاذ الطريق‌ المعتدل‌ بين‌ الخوف‌ والرجاء، ولازم‌ عدم‌ رعاية‌ الادب‌، كثرة‌ الانبساط‌ بمقدار يوجب‌ تجاوز الحدود المرسومة‌ للسالك‌.
كان‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علی‌ّ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ علیه‌ يغلب‌ لديه‌ جانب‌ الحبّ والإنبساط‌ علی‌ جانب‌ الخوف‌، وكذلك‌ كان‌ المرحوم‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد البهاريّ رحمة‌ الله‌ علیه‌، وفي‌ المقابل‌ الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ حيث‌ كان‌ مقام‌ الخوف‌ غالباً علی‌ الرجاء والانبساط‌، وهذا الامر مشهود من‌ خلال‌ جوانب‌ وزوايا أحاديثه‌. والذي‌ يكون‌ رجاؤه‌ أكثر يقال‌ له‌ «الخراباتيّ»، وأمّا من‌ يطغي‌ خوفه‌ فيسمّي‌ «المناجاتيّ». ولكنَّ الكمال‌ في‌ رعاية‌ الاعتدال‌، وهو عبارة‌ عن‌ حيازة‌ كمال‌ الرجاء في‌ عين‌ كمال‌ الخوف‌، وهذا ما ينحصر وجوده‌ في‌ شخص‌ الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌.
نعود إلی‌ صلب‌ الموضوع‌ فمحصّل‌ الكلام‌ أنَّ الادب‌ هوأن‌ لا ينسي‌ الممكن‌ حدوده‌ الإمكانيّة‌، ولهذا نري‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ يخرّ ساجداً للّه‌ تعالي‌ واضعاً جبينه‌ المبارك‌ علی‌ التراب‌ عندما يسمع‌ بضع‌ كلمات‌ في‌ حقّه‌ يشمّ منها رائحة‌ الغلوّ.
والمرتبة‌ الكاملة‌ من‌ الادب‌ هي‌ أن‌ يعتبر السالك‌ نفسه‌ دائماً وفي‌ جميع‌ الاحوال‌ في‌ محضر الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌، ويلاحظ‌ الادب‌ في‌ حال‌ التكلّم‌ والسكوت‌، في‌ النوم‌ واليقظة‌، في‌ الحركة‌ والسكون‌، وفي‌ تمام‌ الحركات‌ والسكنات‌، ولوالتفت‌ السالك‌ دائماً إلی‌ الاسماء والصفات‌ الإلهيّة‌ لظهرت‌ علیه‌ علائم‌ الادب‌ والصغر.

يتبع الباقي ان شاء الله
السيّد محمّد الحسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ رحمه الله

حيدر القرشي
13-12-2008, 11:44 PM
النيّة‌ وأنواعها

الثاني‌ عشر : النيّة‌
وذلك‌ أن‌ لا يكون‌ للسالك‌ قصد من‌ السلوك‌ سوي‌ نفس‌ السلوك‌ والفناء في‌ الذات‌ الاحديّة‌، وعلیه‌، ينبغي‌ أن‌ يكون‌ سير السالك‌ خالصاً للّه‌ تعالي‌ : فَادْعُوا اللَهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. [6] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn6)وقد جاء في‌ عدّة‌ أخبار أنَّ للنيّة‌ ثلاث‌ مراتب‌، منها ما قاله‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌ :
العُبَّادُ ثَلاَثَةٌ : قَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ خَوْفاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ العَبِيدِ. وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ طَمَعاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاُجَرَاءِ. وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ حُبّاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاَحْرَارِ.
بالتأمّل‌ والتدقيق‌ يتّضح‌ أنَّ عبادة‌ الطائفتين‌ الاُوليينِ ليست‌ صحيحة‌ حقيقة‌، لانَّ عبادتهم‌ لم‌ تكن‌ للّه‌ وإلی‌ الله‌، وإنَّما تعود إلی‌ عبادة‌ النفس‌، فهم‌ ـ في‌ الواقع‌ ـ كانوا يعبدون‌ ذواتهم‌ دون‌ الله‌ تعالي‌، لانَّ عبادتهم‌ تعود في‌ واقعها إلی‌ تلك‌ العلائق‌ والمشتهيات‌ النفسانيّة‌، ولانَّ عبادة‌ النفس‌ لا تجتمع‌ مع‌ عبادة‌ الله‌، لذا تعدّ هذه‌ الجماعة‌ ـ حسب‌ النظرة‌ الاُولي‌ ـ كافرة‌ بالله‌ ومنكرة‌ له‌، لكن‌ باعتبار أنَّ القرآن‌ الكريم‌ ينصّ علی‌ أنَّ أصل‌ عبادة‌ الله‌ فطريّ في‌ كلّ البشر، وينفي‌ حدوث‌ أيّ تغيّر أوتبدّل‌ في‌ خلقه‌ :
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي‌ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَهِ ذَ 'لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَـ'كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. [7] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn7)
لا يرجع‌ انحراف‌ البشر ـ بناء علی‌ ذلك‌ ـ إلی‌ أصل‌ عبادة‌ الله‌، بل‌ يرجع‌ إلی‌ مقام‌ التوحيد، أي‌ عدم‌ الإيمان‌ بوحدانيّة‌ الله‌ في‌ الفعل‌ والصفة‌ وجعل‌ شركاء له‌، ولهذا نجد أنَّ القرآن‌ في‌ كلّ مجال‌ يصرّح‌ بثبوت‌ توحيد الله‌ ونفي‌ الشرك‌ عنه‌، وعلی‌ هذا الاساس‌ فإنَّ أهل‌ الطائفتينِ الاُوليينِ يشركون‌ بالله‌ بالقصد. ويمزجون‌ في‌ مقام‌ العمل‌ بين‌ عبادة‌ الله‌ وعبادة‌ الذات‌، ويؤدّون‌ الافعال‌ والاعمال‌ العباديّة‌ بكلا الداعيينِ. وهذا هوالشرك‌. وفي‌ الحقيقة‌ هم‌ مشركون‌ بالله‌ وبنصّ القرآن‌ لن‌ يغفر لهم‌.
إِنَّ اللَهَ لاَ يَغْفِرُ أَن‌ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَ 'لِكَ لِمَن‌ يَشَآءُ. [8] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn8)
وهكذا فإنَّ عبادتهم‌ لن‌ تكون‌ مثمرة‌ أبداً، ولن‌ تقرّبهم‌ إلی‌ الله‌ المتعال‌.
أمّا الطائفة‌ الثالثة‌ التي‌ تعبد الله‌ علی‌ أساس‌ المحبّة‌، وهي‌ عبادة‌ الاحرار، وفي‌ بعض‌ الروايات‌ : تِلْكَ عِبَادَةُ الكِرَامِ، فها هي‌ العبادة‌ الصحيحة‌ الواقعيّة‌ التي‌ لن‌ يصل‌ إلیها إلاّ المطهّرون‌ في‌ الساحة‌ الإلهيّة‌. فَهَذَا مَقَامٌ مَكْنُونٌ لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ.
فالمحبّة‌ عبارة‌ عن‌ الانجذاب‌، أي‌ الانجذاب‌ نحو شي‌ء وحقيقة‌، والطائفة‌ الثالثة‌ هم‌ الذين‌ بنوا عبادتهم‌ علی‌ أساس‌ المحبّة‌ والانجذاب‌ إلی‌ الله‌، وليس‌ لهم‌ أيّ هدف‌ أومقصد سوي‌ الميل‌ نحوه‌ تعالي‌ والتقرّب‌ إلیه‌، وهذا الانجذاب‌ الذي‌ يشعرون‌ به‌ تجاه‌ المحبوب‌ هوالداعي‌ والمحرّك‌ لهم‌ نحوه‌، والموجب‌ لسيرهم‌ باتّجاه‌ ذلك‌ الحريم‌ المقدّس‌.
قد جاء في‌ بعض‌ الروايات‌ أن‌ اعبدوا الحقّ تعالي‌ من‌ حيث‌ إنَّه‌ أهل‌ للعبادة‌. ومعلوم‌ أنَّ هذه‌ الاهليّة‌ لا تعود إلی‌ الصفات‌ الإلهيّة‌، بل‌ إلی‌ مقام‌ ذاته‌ المقدّسة‌ جَلَّ جَلالُه‌ وعَظُمَ شَأْنُه‌، فيكون‌ مفاد ذلك‌ أن‌ اعبدوا الله‌ لانـّه‌ الله‌ :
إلَهِي‌ مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَلاَ طَمَعاً فِي‌ جَنَّتِكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ.
أَنْتَ دَلَلْتَنِي‌ عَلَيْكَ، وَدَعَوْتَنِي‌ إلَيْكَ، وَلَوْلاَ أَنْتَ لَمْ أَدْرِ مَا أَنْتَ.
ويخطو سالك‌ طريق‌ الله‌ في‌ بداية‌ سلوكه‌ بقدم‌ المحبّة‌، ولكن‌ بعد أن‌ يطوي‌ المنازل‌، ويحصل‌ إجمالاً علی‌ بعض‌ الكمالات‌، سوف‌ يدرك‌ أنَّ المحبّة‌ أمر مغاير للمحبوب‌، فيسعي‌ لترك‌ المحبّة‌ التي‌ كانت‌ حتّي‌ هذا الحين‌ وسيلة‌ لسلوكه‌ ومعراجاً لرقيّه‌، ويدرك‌ أنَّ هذه‌ الوسيلة‌ التي‌ كانت‌ مؤثّرة‌ أصبحت‌ الآن‌ مضرّة‌ ومانعة‌ للطريق‌. ومن‌ هنا يضع‌ السالك‌ فقط‌ وفقط‌ محبوبه‌ نصب‌ عينيه‌ ويعبده‌ بعنوان‌ المحبوبيّة‌ لا غير، ولكن‌ عندما يتقدّم‌ أكثر ويطوي‌ منازل‌ عدّة‌، يدرك‌ أنَّ هذا النوع‌ من‌ العبادة‌ لم‌ يكن‌ خالياً من‌ شائبة‌ شرك‌، لانـّه‌ قد عدّ نفسه‌ في‌ هذه‌ العبادة‌ عاشقاً ومحبّاً، واعتبر الله‌ معشوقاً ومحبوباً، فيري‌ لذاته‌ كمحبّ وجوداً في‌ قبال‌ ذات‌ المحبوب‌، لذا فإنَّ النظر إلی‌ المحبوب‌ بعنوان‌ المحبّ مغاير ومناف‌ لعبادة‌ الذات‌ المقدّسة‌ للّه‌ تعالي‌، ومن‌ هنا يسعي‌ لينسي‌ عنواني‌ الحبّ والعشق‌ حتّي‌ يتجاوز المغايرة‌ والكثرة‌، ويضع‌ قدمه‌ في‌ عالم‌ الوحدة‌، وعندها تختفي‌ النيّة‌ من‌ السالك‌ وتمحي‌، لانـّه‌ لن‌ يكون‌ بعد ذلك‌ شخصيّة‌ وذاتيّة‌ للسالك‌ تصدر عنها النيّة‌.
إلی‌ ما قبل‌ هذه‌ المرحلة‌ كان‌ السالك‌ طالباً للمكاشفة‌ والشهود، ولكنّه‌ في‌ هذا المقام‌ يدع‌ تلك‌ الاغراض‌ كلّها عرضة‌ للنسيان‌، فلن‌ يكون‌ بعد ذلك‌ إرادة‌ ليكون‌ اعتبار للمراد والمقصود. وفي‌ هذه‌ الحالة‌ يُغمض‌ السالك‌ عينيه‌ عن‌ الرؤية‌ واللارؤية‌، والوصول‌ واللاوصول‌، والمعرفة‌ واللامعرفة‌، والردّ والقبول‌. يقول‌ حافظ‌ الشيرازيّ :
با خرابات‌ نشينان‌ ز كرامات‌ ملاف‌ هر سخن‌ جائي‌ وهر نكته‌ مقامي‌ دارد [9] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn9)
ورد عن‌ الإمام‌ السجّاد علیه‌ السلام‌، في‌ دعاء أبي‌ حمزة‌ الثماليّ، قوله‌ : مَعرِفَتِي‌ يَا مَولاَيَ دَلِيلِي‌ عَلَيكَ، وَحُبِّي‌ لَكَ شَفِيعِي‌ إلَيكَ؛ وَأَنَا وَاثِقٌ مِنْ دَلِيلِي‌ بِدلاَلَتِكَ، وَسَاكِنٌ مِنْ شَفِيعِي‌ بِشَفَاعَتِكَ.
ونقل‌ عن‌ بايزيد البسطاميّ أنـّه‌ قال‌ : «تركت‌ الدنيا في‌ اليوم‌ الاوّل‌، وفي‌ اليوم‌ الثاني‌ تركت‌ العُقبي‌، وفي‌ اليوم‌ الثالث‌ تخطّيت‌ ما سوي‌ الله‌، وفي‌ اليوم‌ الرابع‌ سُئِلتُ : ما تُرِيدُ ؟ فقلت‌ : أُريدُ أَنْ لا أُريدَ».
ويشير إلی‌ نفس‌ المطلب‌ ما يصرّح‌ به‌ البعض‌ في‌ تعيين‌ المنازل‌ الاربعة‌ : الاوّل‌ : ترك‌ الدنيا. الثاني‌ : ترك‌ العقبي‌. الثالث‌ : ترك‌ المولي‌. الرابع‌ : ترك‌ الترك‌، فَتَدَبَّرْ. والمراد من‌ نبذ الطمع‌ عند السالكين‌ هوهذه‌المرحلة‌ العظيمة‌ والعقبة‌ المشكلة‌، وعبورها في‌ غاية‌ الصعوبة‌، وليس‌ تحصيلها بالهيّن‌، لانَّ السالك‌ في‌ هذه‌ المرحلة‌ بعد التأمّل‌ والتدقيق‌ يجد أنـّه‌ لم‌ يكن‌ خالياً من‌ النيّة‌ في‌ تمام‌ مراحل‌ السير، بل‌ كان‌ له‌ غاية‌ ومقصود في‌ سويداء قلبه‌، وإن‌ كانت‌ تلك‌ الغاية‌ هي‌ العبور من‌ مراحل‌ الضعف‌ والنقص‌ والوصول‌ إلی‌ الكمال‌ والكمالات‌. ولوسعي‌ السالك‌ ـ عن‌ طريق‌ تجريد الذهن‌، والضغط‌ علی‌ نفسه‌ مرّات‌ عديدة‌ ـ ليعبر هذه‌ العقبة‌، ويعرّي‌ ويجرّد نفسه‌ من‌ هذه‌ المعاني‌ والمقاصد، سوف‌ لن‌ يحصل‌ علی‌ أيّة‌ نتيجة‌، لانَّ نفس‌ هذا التجريد مستلزم‌ لعدم‌ التجريد، وذلك‌ لانَّ نفس‌ ذلك‌ التجريد لم‌ يكن‌ من‌ السالك‌ إلاّ لداعٍ وغاية‌ وهذا النظر إلی‌ الغاية‌ دليل‌ وعلامة‌ علی‌ عدم‌ التجريد.
ذات (file:///J:/motaghin/ARSHIV/arabic/akhlagh%20va%20ejtema/lobollobab3.htm)‌ يوم‌ طرحتُ هذا السرّ علی‌ أُستاذي‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علی‌ّ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ علیه‌، والتمست‌ منه‌ حلّ هذه‌ المعضلة‌، فقال‌ : «يمكن‌ حلّها بواسطة‌ اعتماد طريقة‌ الإحراق‌، وذلك‌ بأن‌ يدرك‌ السالك‌ ـ حقيقة‌ ـ أنَّ الله‌ تعالي‌ خلقه‌ مفطوراً علی‌ هذه‌ الصفة‌، وكلّما أراد أن‌ ينبذ الطمع‌ لن‌ يحصل‌ علی‌ نتيجة‌، لانَّ فطرته‌ جبلت‌ علیه‌، فسعيه‌ لنبذ الطمع‌ عن‌ نفسه‌ مستلزم‌ لطمع‌ آخر، لانـّه‌ لا يسعي‌ لذلك‌ إلاّ طمعاً في‌ الحصول‌ علی‌ مرتبة‌ أعلی‌ من‌ التي‌ هوفيها، وهكذا إلی‌ أن‌ يشعر بالعجز التامّ عن‌ التخلّي‌ عن‌ هذه‌ الصفة‌، فلا يجد حينئذٍ مفرّاً سوي‌ اللجوء إلی‌ الله‌ تعالي‌ وتوكيل‌ الامر إلیه‌، وهذا الشعور بالعجز كفيل‌ بأن‌ يحرق‌ بناره‌ جذور الطمع‌ في‌ نفسه‌، فيعود السالك‌ بعدها نزيهاً طاهراً».
وليعلم‌ أنَّ الوصول‌ إلی‌ إدراك‌ هذا المعني‌ لا يكون‌ بمجرّد إعمال‌ النظر والتفكير، بل‌ إنَّ إدراكه‌ الواقعيّ يحتاج‌ إلی‌ الذوق‌ وحصول‌ الحال‌. ولوأنَّ أحداً أدرك‌ هذا المعني‌ بالذوق‌ لفهم‌ أنَّ إدراك‌ تمام‌ لذّات‌ الدنيا وما فيها لا يساوي‌ هذه‌ الحقيقة‌.
ثمّ إنَّ سبب‌ تسمية‌ هذه‌ الطريقة‌ بالإحراق‌ هوأنـّها تحرق‌ أكوام‌ الوجودات‌ والنيّات‌ والغصص‌ والمشكلات‌ دفعة‌ واحدة‌، وتجتثّها من‌ الجذور، ولا تبقي‌ لها من‌ أثر في‌ وجود السالك‌.
وقد استفيد في‌ القرآن‌ الكريم‌ من‌ هذه‌ الطريقة‌ في‌ بعض‌ الموارد، فمن‌ يستخدم‌ هذه‌ الطريقة‌ لاجل‌ الوصول‌ إلی‌ المقصود، ويسير في‌ هذا السبيل‌، فإنَّ الطريق‌ الذي‌ يجب‌ طيّه‌ في‌ سنوات‌ يطويه‌ في‌ مدّة‌ قليلة‌. وأحد الموارد التي‌ استفيد فيها من‌ هذه‌ الطريقة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌، كلمة‌ الاسترجاع‌ :
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَ 'جِعُونَ.
فالإنسان‌ يستطيع‌ حين‌ الشدائد والمصائب‌ ونزول‌ البلايا والفتن‌ أن‌ يسكِّن‌ نفسه‌ بطرق‌ مختلفة‌، كأن‌ يتذكّر أنَّ الموت‌ للجميع‌، والمصيبة‌ تحلّ علی‌ كلّ الناس‌، وبهذه‌ الوسيلة‌ تهدأ نفسه‌ شيئاً فشيئاً. ولكنَّ الله‌ يقصّر الطريق‌ بواسطة‌ الطريقة‌ الإحراقيّة‌ وتلقين‌ كلمة‌ الاسترجاع‌، ويرفع‌ المشكل‌ مرّة‌ واحدة‌، لانَّ الإنسان‌ لوتذكّر أنَّ نفسه‌ وكلّ متعلّقاتها وما يملكه‌ هوملك‌ مطلق‌ للّه‌، قد أُعطي‌ له‌ ذات‌ يوم‌ وسوف‌ يؤخذ في‌ يوم‌ آخر، ولا حقّ لاحد في‌ التدخّل‌ فيه‌، عندما يدرك‌ الإنسان‌ جيّداً أنـّه‌ منذ البدء لم‌ يكن‌ مالكاً، وإنّما كان‌ عنوان‌ الملكيّة‌ له‌ مجازيّاً وقد كان‌ يتخيّل‌ أنـّه‌ المالك‌، سوف‌ لن‌ يتأثّر في‌ حال‌ فقدانه‌، فإذا بأُفقه‌ مُتَّسع‌، وطريقه‌ معبّد.
فإدراك‌ السالك‌ أنَّ الله‌ تعالي‌ فطره‌ علی‌ الحرص‌ والطمع‌ كإدراكه‌ أنَّ الخالق‌ الغنيّ خلق‌ عبده‌ فقيراً محتاجاً قد خمرت‌ طينته‌ بالفاقة‌ والعوز، وأنَّ السؤال‌ والطلب‌ لديه‌ ـ باعتباره‌ لازم‌ فقره‌ وحاجته‌ ـ غنيّ عن‌ الدليل‌ والبرهان‌، فلا يحقّ لفرد الاعتراض‌ علی‌ سؤال‌ فقير ما، فافتراض‌ الفقر فيه‌ يوازي‌ افتراض‌ السؤال‌ والطلب‌، فلا ينبغي‌ للسالك‌ ـ بناء علی‌ ذلك‌ ـ أن‌ يرتاب‌ حينما يلمس‌ من‌ ذاته‌ حرصاً أوطمعاً خلال‌ سيره‌ وحركته‌، إذ ليس‌ بمقدوره‌ اجتثاث‌ عنصر الطمع‌ من‌ ذاته‌ بعد أن‌ خلق‌ مفطوراً علیه‌. هذا من‌ جانب‌، ومن‌ جانب‌ آخر باعتبار أنَّ الفناء في‌ الذات‌ الإلهيّة‌ ـ المبتني‌ علی‌ أساس‌ عبادة‌ الاحرار ـ لا يتلائم‌ هو وداعي‌ الطمع‌ في‌ النفس‌، فسوف‌ تعتري‌ السالك‌ حالة‌ من‌ الخوف‌ والهلع‌، وشعور بالاضطراب‌ والمسكنة‌، تلك‌ الحالة‌ وذلك‌ الشعور يأخذان‌ بيد السالك‌ ليتخطّي‌ ذاته‌ الملازمة‌ لتلك‌ الصفة‌، فلا تبقي‌ ـ بعد اجتياز هذه‌ المرحلة‌ ـ ذات‌ لتكون‌ محلاّ للحرص‌ والطمع‌. فافهَمْ وتأمَّل‌ جيِّداً

يتبع الباقي ان شاء الله
السيّد محمّد الحسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ رحمه الله

حيدر القرشي
26-12-2008, 03:40 PM
الصمت و السکوت

الثالث‌ عشر : الصمت‌
وهوعلی‌ قسمين‌ : سكوت‌ عامّ ومضاف‌، وسكوت‌ خاصّ ومطلق‌. فالسكوت‌ العامّ والمضاف‌ عبارة‌ عن‌ حفظ‌ اللسان‌ من‌ التكلّم‌ بالقدر الزائد عن‌ الضرورة‌ مع‌ الناس‌، فيجب‌ علی‌ السالك‌ أن‌ يكتفي‌ بقدر الضرورة‌، وبأقلّ ما يمكن‌. وهذا الصمت‌ لازم‌ في‌ جميع‌ مراحل‌ السلوك‌، وفي‌ كلّ الاوقات‌، بل‌ يمكن‌ القول‌ بأنـّه‌ ممدوح‌ في‌ مطلق‌ الاحوال‌. ويشير إلی‌ هذا الصمت‌ قوله‌ علیه‌ السلام‌ : إنَّ شِيعَتَنَا الخُرْسُ،
وأيضاً ما نقل‌ عن‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ في‌ «مصباح‌ الشريعة‌» :
الصَّمْتُ شِعَارُ المُحِبِّينَ، وَفِيهِ رِضَا الرَّبِّ، وَهُوَ مِنْ أَخْلاَقِ الاَنْبِيَاءِ وَشِعَارِ الاَصْفِيَاءِ.
وفي‌ حديث‌ البزنطيّ عن‌ الإمام‌ الرضا علیه‌ السلام‌ :
الصَّمْتُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الحِكْمَةِ، وَإنَّهُ دَلِيلٌ عَلَي‌ كُلِّ خَيْرٍ.
القسم‌ الثاني‌. السكوت‌ الخاصّ والمطلق‌، وهوعبارة‌ عن‌ حفظ‌ اللسان‌ من‌ التكلّم‌ مع‌ الناس‌ حين‌ الاشتغال‌ بالاذكار الكلاميّة‌ الحصريّة‌، وفي‌ غيرها غير مستحسن‌.

الجوع وقلّة الأکل

الرابع‌ عشر : الجوع‌ وقلّة‌ الاكل‌
وهوما لا يؤدّي‌ إلی‌ الضعف‌ واضطراب‌ الحال‌.
قال‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ :
الجُوعُ إدَامُ المُؤْمِنِ، وَغِذَاءُ الرُّوحِ، وَطَعَامُ القَلْبِ.
ذلك‌ أنَّ الجوع‌ موجب‌ لخفّة‌ الروح‌ ونورانيّة‌ النفس‌، ويمكن‌ للفكر في‌ حال‌ الجوع‌ أن‌ يحلِّق‌ إلی‌ الاعلی‌. أمّا كثرة‌ الاكل‌ والشبع‌ فإنَّه‌ يُتعب‌ النفس‌ ويُملّها ويثقلها ويمنعها من‌ السير في‌ سماء المعرفة‌. والصوم‌ من‌ العبادات‌ الممدوحة‌ جدّاً، وفي‌ الروايات‌ الخاصّة‌ بالمعراج‌ التي‌ يخاطب‌ الله‌ تعالي‌ فيها حبيبه‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ ب «يا أحمد» والمذكورة‌ في‌ «إرشاد الديلميّ» والجزء السابع‌ عشر من‌ «بحار الانوار» يوجد تفاصيل‌ عجيبة‌ بشأن‌ الجوع‌، تبيّن‌ خصائصه‌ في‌ السير والسلوك‌ بشكل‌ مدهش‌. وينقل‌ المرحوم‌ الاُستاذ القاضي‌ رضوان‌ الله‌ عليه‌ رواية‌ غريبة‌ بشأن‌ الجوع‌، وهي‌ :
«كان‌ في‌ زمان‌ الانبياء الماضين‌ ثلاثة‌ رجال‌ قد تصاحبوا في‌ سفر، وعندما حان‌ الليل‌ تفرّق‌ كلّ واحد منهم‌ للاستراحة‌، واتّفقوا علی‌ الالتقاء في‌ اليوم‌ التالي‌ في‌ وقت‌ محدّد، فنزل‌ أحدهم‌ ضيفاً عند معارفه‌، والآخر نزل‌ في‌ أحد المضايف‌، وأمّا الثالث‌ فلم‌ يكن‌ لديه‌ مكان‌، فقال‌ في‌ نفسه‌ : فلاذهب‌ إلی‌ المسجد وأكون‌ ضيفاً عندالله‌، وبقي‌ هناك‌ جائعاً إلی‌ الصباح‌. وفي‌ اليوم‌ التالي‌ التقوا في‌ الموعد المحدّد، وأخذ كلّ واحد منهم‌ يروي‌ ما حصل‌ له‌ في‌ الامس‌، فأوحي‌ الله‌ تعالي‌ إلی‌ نبيّ ذلك‌ الزمان‌ أن‌ قل‌ لضيفنا : إنّنا قبلنا ضيافته‌، وقد أردنا أن‌ نحضر له‌ أفضل‌ غذاء، لكن‌ عندما بحثنا في‌ خزائن‌ الغيب‌ لم‌ نجد له‌ أفضل‌ من‌ الجوع‌ غذاءً».

العزلة‌ وأقسامها

الخامس‌ عشر : العزلة‌
وهي‌ علی‌ شكلين‌ : العزلة‌ العامّة‌، والعزلة‌ الخاصّة‌.
العزلة‌ العامّة‌، عبارة‌ عن‌ اجتناب‌ واعتزال‌ غير أهل‌ الله‌، وبالخصوص‌ أصحاب‌ العقول‌ الضعيفة‌ من‌ عوامّ الناس‌ إلاّ بقدر الضرورة‌.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَـ'وةُ الدُّنْيَا. [10] (http://www.motaghin.com/RTE_popup_word_paste.asp#_ftn10)
وأمّا العزلة‌ الخاصّة‌، فهي‌ الابتعاد عن‌ جميع‌ الناس‌. وهي‌ وإن‌ كانت‌ غير خالية‌ من‌ الفضيلة‌ في‌ العبادات‌ والاذكار، إلاّ أنـّها تعتبر ـ عند مشايخ‌ الطريق‌ ـ شرطاً في‌ طائفة‌ من‌ الاذكار الكلاميّة‌ بل‌ في‌ جميعها.
فالعزلة‌ والابتعاد عن‌ محلّ الإزدحام‌ والضوضاء والاصوات‌ المشوّشة‌ للحال‌ وحلّيّة‌ المكان‌ وطهارته‌ حتّي‌ السقف‌ والجدران‌، وصغره‌ بحيث‌ لا يسع‌ أكثر من‌ شخص‌ واحد، والسعي‌ أن‌ لا يكون‌ فيه‌ أيّة‌ زخارف‌ دنيويّة‌، كلّ هذه‌ باعثة‌ علی‌ تركيز الحواسّ.
يروي‌ أنَّ أحد الاشخاص‌ طلب‌ من‌ سلمان‌ رضي‌ الله‌ عنه‌ أن‌ يجيز له‌ بناء بيت‌ له‌، لانـّه‌ لم‌ يكن‌ قد امتلك‌ بيتاً حتّي‌ ذلك‌ الزمان‌، ولمّا لم‌ يجز له‌ سلمان‌ قال‌ : أنا أعرف‌ لماذا لا تريد، فقال‌ سلمان‌ : ما هي‌ العلّة‌ ؟ فقال‌ البنّاء : سبب‌ ذلك‌ أنـّك‌ تريد بيتاً طوله‌ وعرضه‌ بمقدارك‌، وهذا ليس‌ ميسوراً، فقال‌ سلمان‌ : بلي‌؛ قد صدقت‌. وبعدها أخذ البنّاء إجازة‌ لبناء مثل‌ ذلك‌ البيت‌ وبناه‌.

يتبع الباقي ان شاء الله
السيّد محمّد الحسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ رحمه الله