الحق اقوى
09-12-2008, 07:05 PM
في مقام الصديقة الكبرى الزهراء(ع)
(14)وجوب الجهر بظلامة الزهراء(ع)
( بتاريخ: 28جمادى الأولى 1412- 6/12/1991 ـ 15/9/1370 )
بما أن الأسبوع القادم تعطيل، ولا نستطيع إكمال هذا البحث قبل التعطيل ، فلننتقل اليوم من الفقه الأصغر الى الفقه الأكبر ، والبحث في هذا الفقه أصعب من ذاك ، فذاك بحثه سهل علينا لأنا مسلطون على مواضيعه ، أما هذا فمواضيعه مسلطة علينا ! لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله
قال الله تعالى: لايُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلامَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (سورة النساء: 148) وهي آية عجيبة،لأن معناها أن الله تعالى يحب للمظلوم أن يصيح ويصرخ !!
والظلم له مراتب ودرجات ، حكمه واضح عقلاً ونقلاً ، لكن المهم أن نعرف مدى الظلم الذي وقع على علي وفاطمة(ص)، فإدراكه يحتاج الى دقة، وإن كانت معرفةحده وحقيقته غير ممكنة لنا، بل غاية مايمكننا أن نستكشف بالدليل العلمي مؤشرات على فداحته !
إن الشخص الوحيد في العالم الذي يحمل صفة أصبر الصابرين هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) فقد ورد له هذا الوصف في زيارته(ع)، وفي خطبة الإمام زين العابدين في الشام وغيرها) (1)
فكيف صار أصبر الصابرين؟
يتضح ذلك من قوله(ع): فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى!
فهل رأيت شخصاً في العالم يصبر على شوكة في عينه ، أو عظمة في حلقومه؟! لقد صبر عليٌّ(ع)على أمور من هذا النوع ، وصبر على أمور هي: أحدُّ من حزِّ الشِّفَار ! فهل رأيت شخصاًً يحزُّون لحمه بالشفار ويصبر؟! (2)
إن المعصوم لايبالغ في كلامه !
نعم ، هذا الرجل الفريد ، الصابر الأول في العالم ، الذي لم تستطع خيبر أن تخضعه ، ولا استطاع الخندق أن يحني ظهره ، الذي أمضى ليلة المبيت على فراش النبي على هولها فلم يخف نراه في ليلة موت فاطمة(ع)منكسراً لاحيلة له ، يخاطب النبي(ص)فيقول: قلَّ يارسول الله عن صفيتك صبري !
إنها شكوى لم يشكها الى أحد! فلم يكن عنده من يبث اليه ما لاقاه ، إلا الذي خاطبه بهذه الآهات!
يقول بذلك: نعم ، أنا الذي صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى، وصبرت على أحدِّ من حزِّ الشفار، لكني اليوم معذور إذا لم أصبر هنا ! لماذا؟ قال: بعين الله تدفن ابنتك سراً ! (3)
ماذا جرى حتى دفنت فاطمة الزهراء ليلاً ؟ ماذا حدث حتى وصلت الأمور بسرعة الى هذا الحد؟!
إنها حوادث لايستطيع الإنسان المسلم أن يغمض عينيه عنها، إلا أن يكون في إسلامه خلل!
وهل يمكن لإنسان أن يؤمن بنبوة النبي(ص)، ثم يتساهل في مظلومية فاطمة الزهراء والصديقة الكبرى سيدة نساء العالم ، وحرمة الله ورسوله في أرضه(ع)، ويغمض عينيه عن جناياتهم في حقها ، حتى أوصت بدفنها ليلاً حتى لايشهد الظالمون جنازتها !
إنها جنايةٌ يجب أن تكون محور البحث بين عوامنا وخواصنا، ترى ماذا كان ، وماذا جرى ، حتى وصل الأمر الى شهادتها ؟!!
اللهم اغفر لنا ، ولا تجعلنا شركاء في ظلم فاطمة الزهراء(ع)
اللهم اغفر لنا حتى لانكون مسؤولين في مقابل ذلك الأنين ، وتلك الدموع، وتلك الآهات التي عاشت بها فاطمة(ع) بعد فقد أبيها(ص)
لنتأمل هذا اليوم في هذه الكلمة التي تبين تلك الظلامة الى حد ما ، فقد روى ابن حجر في لسان الميزان والذهبي في الميزان، عن أبي صالح المؤذن، عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال:أول شخص يدخل الجنة فاطمة بنت محمد كما رواه أعلام سنيون (4)
فلنتأمل نحن في فقهه ولو بقدر شخص سني أزاح عن فكره حجاب التعصب ، وجعل العقل والكتاب والسنة دليله للوصول الى الحق
إن الفرق بين عالم الدنيا والآخرة ، أن هذا العالم عالم غلبة الملك على الملكوت ، وحسب التعابير الدقيقة لأعيان المتألهين والحكماء المتعمقين ، والفقهاء الراسخين ، فإن هذا العالم عالمُ غلبةِ الباطل على الحق ، وغلبةُ عالم الشهود على عالمِ الأمر ، وغلبة الغيب على الظهور ولهذا نرى أن السِّيَر في هذه النشأة تابعةٌ للصور ، والصور حاكمةٌ على السُّوَر !
والسِّيَر هي المنويات ولكل امرئ ما نوى فالإنسان إنسانٌ بعالمه الداخلي ومعانيه ، ومنها فهمه للمعاني وقد صدق أهل البيت(ع)حيث قالوا: لا نعد الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاني كلامنا
إن الظاهر من الإنسان هو صورته وشكله ، أما مضمونه ونواياه وباطنه فمن الممكن أن يكون ذئباً لكنه في ظاهره لايختلف عن الإنسان الحقيقي!
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شئ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (سورة يس: 83 )
إن عالم الملكوت المظلوم في هذه النشأة ، يأخذ حقه في النشأة الأخرى ويكون حاكماً (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ( سورة ابراهيم: 48 ) ، فسوف ينتهي هذا الجور ، وسوف يظهر المكنون الى العلن ، ويبرز المكتوم الى الظاهر: وبرزوا لله الواحد القهار ، كل شئ يبرز باطنه كما هو فيكون ظاهره وباطنه، وتنتهي حكومة الظواهر والأشكال والصور، وتحكم دولة الواقع والبواطن !!
إن آيات القرآن عجيبة في إبرازها للحقائق ، ورسمها للمستقبل ، ووصفها لوجوه الناس يوم القيامة على حسب سِيَرهم لاصُورهم:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( سورة آل عمران:106 ) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ( سورة الزمر:60 )
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً! أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( سورة يونس:27 )
وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَاخَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ( سورة الاسراء:97 ) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (سورة ابراهيم:50)
أما وجوه المؤمنين فقال عنها عز وجل:تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (سورة المطففين: 24 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ( سورة الغاشية: 8) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍمُسْفِرَةٌ ( سورة عبس: 38 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( سورة القيامة: 21 – 25 )
إنه يوم بروز الحقائق والبواطن، فالذين أخلدوا الى الأرض واتبعوا أهواءهم لابد أن تظهر حقيقتهم ويحشروا على وجوههم الى النار
أما الذي ناجى ربه فقال: إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك، ولاخوفاً من نارك ، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (نهج السعادة:8/7)
فلابد أن يُحشر مشرقَ الوجه، مرفوعَ الرأس،تعرف في وجهه نُضْرة النعيم، يجلله نور ربه ، ويتطلع الى رحمته وفيض عطائه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
في ذلك العالم لابد أن يموت الباطل لكي تظهر الأمور على واقعها ، وأن يحيا الحق ويبرز من مكامنه: ( أشهد أن الموت حق والبعث حق ! )
وبعد أن يتم حشر الناس وحسابهم، وتعدَّ جنة الخلود لأولياء الله وأحبائه فمن هو أول شخص يدخل الجنة ؟
لاشك أن درجة الأولية هي للشخص الأول في الوجود وهو نبينا محمد (ص)فهو الأول في كل درجات وجوده، ومحال أن يعطي الله هذه الدرجة لغيره! فكيف يصح قوله(ص): أول شخص يدخل الجنة فاطمة بنت محمد؟
يصح ذلك إذا تعمقنا في دراية الحديث ، ولم نكن كالرواة الذين يروون الحديث ولا يفقهونه ، لقد رووا أن النبي(ص)قال: نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ( سنن ابن ماجة :1/86 ) !
إن فاطمة وأباها صلى الله عليهما جوهرٌ واحد، ونورٌ واحد، ودخولها الجنة يعني دخول النبي الجنة ! فهي كالشخص الأول في الوجود خلقاً وخلقاً ومنطقاً، وسيرةً وعلماً وعملاً! ألم يرووا عن عائشة أنها قالت: (فأقبلت فاطمة تمشي، لاوالله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله(ص)فلما رآها رحب قال مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه) (البخاري:7/141 ) (5)
ألم يرووا عنه(ص)أنه قال:فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني!(البخاري:4/210) فما المانع أن يعطي الله ورسوله هذا المقام لبضعة النبي المباركة ، ويكون افتتاح جنة الخلد بدخولها اليها ؟!
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق:13/334 ،أن رسول الله(ص)قال: (تحشر ابنتي فاطمة وعليها حلة الكرامة، قد عجنت بماء الحيوان، فينظر الخلائق إليها فيتعجبون منها، وتكسى أيضاً ألف حلة من حلل الجنة ، مكتوب على كل حلة منها بخط أخضر: أدخلوا ابنة نبيي الجنة على أحسن صورة ، وأحسن الكرامة ، وأحسن المنظر، فتزف كماتزف العروس وتتوج بتاج العز، ويكون معها سبعون ألف جارية)ورواه الطبري في دلائل الإمامة ص155 ، والخوارزمي في مقتل الحسين: 1/52 ، وغيرهم ، و الصدوق في عيون أخبار الرضا :2/30 ـ 38 )
فما هي حلة الكرامة ، وما معنى أنها معجونة بماء الحياة ؟! هذا بحث له مكانه ، ونكتفي هنا بالإشارة الى كلمات وردت في هذا الحديث :
أدخلوا ابنة نبيي الجنة على أحسن صورة ونظام العدل في الوجود يقضي أن لاتعطى أحسن صورة لإنسان إلا إذا كان عمله أحسن عمل لله تعالى، فلا بد أن يكون في الكمال العلمي أحسن العلماء ، وفي الكمال العملي أحسن المتخلقين بالفضائل، فإن دقة القانون الإلهي تقول: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ( سورة الزلزلة: 7- 8 )
في مثل ذلك اليوم العظيم، وذلك المشهد العظيم، لايمكن أن يكون الإنسان الذي يضع قدمه مكان قدم سيد المرسلين(ص)ويدخل أولاً الى الجنة إلا إنساناً فريداً ، فالأمور عند الله تعالى تخضع لحساب وكتاب !!
لا بد من التفكير في مثل هذه الحقائق التي رواها الجميع ، في أمثال هذه الأحاديث وذلك السلوك النبوي مع الصديقة الكبرى فاطمة(ع)فقد كان آخر من يودعه النبي(ص)في المدينة فاطمة ، وأول من يزوره إذا رجع من سفره فاطمة! (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم يثني بفاطمة ثم يأتي أزواجه ، وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة ، ثم أتى بيوت نسائه ) (فتح الباري:8/89 ، المعجم الكبير للطبراني:22/225 )، وكان يشمها ويقبلها ويقول أشم منها رائحة الجنة (فاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة) (أمالي الصدوق ص546 )
إن هذا السلوك فضلاً عن أنه عاطفة أبوية، له دلالته النبوية على مقام الصديقة الزهراء(ع)ومقامها عند الله تعالى!
فليس أمراً بسيطاً من سيد الخلق وأقربهم الى الله تعالى(ص)، الذي يقبل سيد الملائكة جبرئيل غبار قدميه ، أن يقبل ابنته فاطمة ، ويشم منها رائحة الجنة !
وليس أمراً بسيطاً أن تكون أول شخص يدخل الجنة ، لا بمعنى أن النبي (ص)يرسلها أمامه الى الجنة ، بل لأن الله تعالى يريد أن يري أهل المحشر من الأولين والآخرين أني عندما أنزلت على عبدي محمد ( طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) فإن فاطمة التي هي بضعة من أبيها كانت شريكة في هذه السورة لأنها كانت شريكة لأبيها في عبادتي، ووقفت مثله في محرابها بين يديَّ حتى تورمت قدماها ! فقد روت مصادرهم كالسيوطي في الدر المنثور: 6/361 قال: (وأخرج العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن الدلال وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الابل ، فلما نظر إليها قال: يافاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً! فأنزل الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( سورة الضحى: 5 )
وفي نهاية الإرب للنويري:3 جزء5/264: (فلما نظر إليها بكى وقال: يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لنعيم الأبدالخ وكذا في إحياء الغزالي:4/233
فرآها وعليها كساء من وبر الإبل رأى حالتها، رأى ابنته التي أمضت ليلها في محراب عبادتها ولم تكد تنم، وفي الصباح بدأت بعملها، وهذا لباسها ، فانكسر لها قلبه ودمعت عيناه!
وانكسار قلب النبي(ص)ليس أمراً عادياً ، وعندما يجري دمع النبي(ص)فإن دمع باطن الوجود يجري ! فبكى رسول الله وقال لها: إصبري على مرارة الدنيا ولا نعرف مما نقله السيوطي وغيره ماذا كانت القضية وماذا جرى؟ لكن نفهم أنها كانت ملحمة في الصبر والعبودية ، وأن النبي(ص)انكسر قلبه لحال فاطمة وبكى، وأن الله تعالى أنزل عليه جبرئيل شاكراً واعداً ، بقوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) !!
إن ما يجب أن نقوله ونصرخ به، ونحن نواجه ظلماً لم تنصفه الدنيا ! أن بشراً ملائكياً من نوع فاطمة(ع)هذه معيشتها، يستحيل أن تقف في وجه أبي بكر من أجل لقمة خبز ، أو مزرعة نخل وزروع !
ألم يحن للدنيا أن تفكر وتعرف أن أبا بكر بن أبي قحافة كان أمياً في مسائل الدين، وأن المحدثين والنقاد اتفقوا على أنه كان جاهلاً بإرث الجدة هل ترث أم لا؟ فقال لا أدري !
الى هذه الحد كان علمه بأحكام الشرع ، وقد حاول الذهبي أن يجد له عذراً بأنه لم يكن يحفظ، وأنه أراد الدقة ، وأنه لذلك منع الناس من جمع السنة النبوية وتدوينها ! ولكنه عذر أقبح من ذنب !
وأبو بكر الذي كان جاهلاً بإرث الجدة فسأل عنه وتعلمه لكن ممن ؟! من شخص متفق عليه أنه من أفجر الفجار ، هو المغيرة بن شعبة !
لقد اعتمد أبو بكر على كلامه ، وحكم للجدة بما قاله المغيرة !
لكن عندما جاءته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع)واعترضت عليه لماذا صادرت مني فدك؟! ردها أبو بكر ولم يصدقها! مع أن ابنته عائشة كانت تقول قالت:(مارأيت أحد كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها) حلية الأولياء:2 /42 ، الإستيعاب:2 /751 ، ذخاير العقبى ص44 ، تقريب الأسانيد وشرحه:1/150، مجمع الزوايد:9/201 ، وقال: رجاله رجال الصحيح ) ( الغدير:2/312 )
أبو بكر يعرف من هي فاطمة ، وقد سمع شهادة ابنته عائشة بحق فاطمة فلم يصدقها ! لكنه صدق المغيرة الفاسق الفاجر في إرث الجدة !
إن الظلم الذي يحتاج الى صيحة، والذي يجب على علماء المسلمين أن يجهروا به ولايكتمونه أن مصادرهم وكبار مفسريهم رووا أنهم عندما نزل قوله تعالى: ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَىحَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( سورة الروم: 38 ) ، دعا النبي(ص)فاطمة فأعطاها فدكاً ، وبقيت في يدها حتى صادرها أبو بكر ! (6)
لكن مطالبتها بفدك لم تكن من أجل فدك، فهذه حياتها التي رضيت بها ، واختارت عن علم وعمد أن تتجرع مرارتها من أجل حلاوة الآخرة ، وهي أيضاً تعلم أنها أسرع أهل البيت لحاقاً بأبيها رسول الله(ص)!
فأي قيمة لفدك؟!
إن غصة الصديقة الكبرى(ع)لم تكن من أجل خبزها وخبز أطفالها ! فالتي قال الله عنها وعن أسرتها في كتابه: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لانُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) (الانسان: 8-9 ) والتي تصوم مع أطفالها ثلاثة أيام وتمنع اللقمة عن فمهم فيطعمونها للمسكين واليتيم والأسير لاتركض وراء مال الدنيا !
إنما يتصور ذلك خفاف العقول! وقد آن لهم أن يستيقظوا من نومهم ويفكروا ماذا جرى ، ويعرفوا أي تاريخ محمل بالعار حّرَفَ مسيرة الأمة الإسلامية وأوصلها الى هذه المهاوي التي نراها اليوم ؟!
إنما كانت مطالبة الزهراء(ع)بفدك إيقاظاً للأمة، لتثبت لهم أن هؤلاء الذين سيطروا على الحكم يأكلون الحق الواضح لبنت النبي(ص)وينكرونه ، فماذا سيفعلون في حقوق الأمة غداً ؟!
كانت غصتها أن الذي يجلس مكان النبي(ص)اليوم لايعرف مسألة إرث الجدة ، ويدعي أن الأنبياء(ع)مستثنون من أحكام الشريعة !
وغداً سيجلس مكان النبي عمر بن الخطاب ، وهو لايعرف حكم التيمم ! وبعده سيجلس أمثال الوليد بن عبد الملك، ثم هارون والمأمون ! ثم يتقاتلون على كرسي النبي(ص)ويسفكون دماء الأمة ، والأمة تسير بهم في الضلال والضعف والتفكك ، حتى تنهار !!
هذه غصة فاطمة(ع)، وليست مزرعة فدك ! غصتها أنهم بفعلهم وبأساسهم الذي أسسوه ، يبطلون الهدف من بعثة الأنبياء(ع)!
إن الذي صدع قلب الصديقة الزهراء(ع)وقتلها، أنها لم تستطع أن تشكو مرارتها وغصتها الى عامة الأمة ، وتجعلهم يستوعبون ما حدث ! لكنها قالت لأبي بكر وعمر في نفسيهما قولاً بليغاً ! وقالت لهما في آخر حياتها عندما جاءا لزيارتها ، ما رواه ابن قتيبة وروته مصادرنا كما في البحار:29/158 ، عن الإمام الصادق(ع)قال: (بينما أبو بكر وعمر عند فاطمة يعودانها ، فقالت لهما: أسألكما بالله الذي لاإله إلا هو هل سمعتما رسول الله(ص)يقول: من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله؟ فقالا: اللهم نعم قالت: فأشهد أنكما آذيتماني ) !!
وقد اعترف البخاري أنها بقيت ستة أشهر بعد النبي(ص)، وهي مغاضبة لأبي بكر! قال: (فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر) ( البخاري:4/42 )
ء وعندما حضرتها الوفاة أوصت الى علي فقالت: (يا ابن عم ما أراني إلا لما بي، وأنا أوصيك أن تتزوج بنت أختي زينب تكون لولدي مثلي، وتتخذ لي نعشاً فإني رأيت الملائكة يصفونه لي، وأن لايشهد أحدٌ من أعداء الله جنازتي ولا دفني ولا الصلاة عليَّ !
قال ابن عباس: فقبضت فاطمة من يومها ، فارتجَّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله(ص) فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله فلما كان في الليل دعا علي العباس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذر وعماراً ، فقدم العباس فصلى عليها ودفنوها
فلما أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة(ع)فقال المقداد: قد دفنا فاطمة البارحة فالتفت عمر إلى أبي بكر فقال: ألم أقل لك إنهم سيفعلون؟ قال العباس: إنها أوصت أن لا تصليا عليها! فقال عمر: والله لاتتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً ! إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب، والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها ! فقال علي: والله لو رمت ذلك يابن صهاك لارجعتْ إليك يمينك ! والله لئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك فَرُمْ ذلك فانكسر عمر وسكت وعلم أن علياً إذا حلف صدق)(كتاب سليم بن قيس ص392 ) (7)
ودفنوها في جوف الليل ! فما جواب هذه الأمة لمن سألها: لماذا دفنت بنت نبيهم سراً وليلاً وأخفي قبرها ؟ إنها ظلامة بعد ظلامة
ولأي الأمور تدفن سراً بضعة المصطفى ويعفى ثراه بنتُ مَنْ أمُّ مَنْ حليلةُ مَنْ ويلٌ لمن سنَّ ظلمَها وأذاه
(14)وجوب الجهر بظلامة الزهراء(ع)
( بتاريخ: 28جمادى الأولى 1412- 6/12/1991 ـ 15/9/1370 )
بما أن الأسبوع القادم تعطيل، ولا نستطيع إكمال هذا البحث قبل التعطيل ، فلننتقل اليوم من الفقه الأصغر الى الفقه الأكبر ، والبحث في هذا الفقه أصعب من ذاك ، فذاك بحثه سهل علينا لأنا مسلطون على مواضيعه ، أما هذا فمواضيعه مسلطة علينا ! لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله
قال الله تعالى: لايُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلامَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (سورة النساء: 148) وهي آية عجيبة،لأن معناها أن الله تعالى يحب للمظلوم أن يصيح ويصرخ !!
والظلم له مراتب ودرجات ، حكمه واضح عقلاً ونقلاً ، لكن المهم أن نعرف مدى الظلم الذي وقع على علي وفاطمة(ص)، فإدراكه يحتاج الى دقة، وإن كانت معرفةحده وحقيقته غير ممكنة لنا، بل غاية مايمكننا أن نستكشف بالدليل العلمي مؤشرات على فداحته !
إن الشخص الوحيد في العالم الذي يحمل صفة أصبر الصابرين هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) فقد ورد له هذا الوصف في زيارته(ع)، وفي خطبة الإمام زين العابدين في الشام وغيرها) (1)
فكيف صار أصبر الصابرين؟
يتضح ذلك من قوله(ع): فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى!
فهل رأيت شخصاً في العالم يصبر على شوكة في عينه ، أو عظمة في حلقومه؟! لقد صبر عليٌّ(ع)على أمور من هذا النوع ، وصبر على أمور هي: أحدُّ من حزِّ الشِّفَار ! فهل رأيت شخصاًً يحزُّون لحمه بالشفار ويصبر؟! (2)
إن المعصوم لايبالغ في كلامه !
نعم ، هذا الرجل الفريد ، الصابر الأول في العالم ، الذي لم تستطع خيبر أن تخضعه ، ولا استطاع الخندق أن يحني ظهره ، الذي أمضى ليلة المبيت على فراش النبي على هولها فلم يخف نراه في ليلة موت فاطمة(ع)منكسراً لاحيلة له ، يخاطب النبي(ص)فيقول: قلَّ يارسول الله عن صفيتك صبري !
إنها شكوى لم يشكها الى أحد! فلم يكن عنده من يبث اليه ما لاقاه ، إلا الذي خاطبه بهذه الآهات!
يقول بذلك: نعم ، أنا الذي صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى، وصبرت على أحدِّ من حزِّ الشفار، لكني اليوم معذور إذا لم أصبر هنا ! لماذا؟ قال: بعين الله تدفن ابنتك سراً ! (3)
ماذا جرى حتى دفنت فاطمة الزهراء ليلاً ؟ ماذا حدث حتى وصلت الأمور بسرعة الى هذا الحد؟!
إنها حوادث لايستطيع الإنسان المسلم أن يغمض عينيه عنها، إلا أن يكون في إسلامه خلل!
وهل يمكن لإنسان أن يؤمن بنبوة النبي(ص)، ثم يتساهل في مظلومية فاطمة الزهراء والصديقة الكبرى سيدة نساء العالم ، وحرمة الله ورسوله في أرضه(ع)، ويغمض عينيه عن جناياتهم في حقها ، حتى أوصت بدفنها ليلاً حتى لايشهد الظالمون جنازتها !
إنها جنايةٌ يجب أن تكون محور البحث بين عوامنا وخواصنا، ترى ماذا كان ، وماذا جرى ، حتى وصل الأمر الى شهادتها ؟!!
اللهم اغفر لنا ، ولا تجعلنا شركاء في ظلم فاطمة الزهراء(ع)
اللهم اغفر لنا حتى لانكون مسؤولين في مقابل ذلك الأنين ، وتلك الدموع، وتلك الآهات التي عاشت بها فاطمة(ع) بعد فقد أبيها(ص)
لنتأمل هذا اليوم في هذه الكلمة التي تبين تلك الظلامة الى حد ما ، فقد روى ابن حجر في لسان الميزان والذهبي في الميزان، عن أبي صالح المؤذن، عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال:أول شخص يدخل الجنة فاطمة بنت محمد كما رواه أعلام سنيون (4)
فلنتأمل نحن في فقهه ولو بقدر شخص سني أزاح عن فكره حجاب التعصب ، وجعل العقل والكتاب والسنة دليله للوصول الى الحق
إن الفرق بين عالم الدنيا والآخرة ، أن هذا العالم عالم غلبة الملك على الملكوت ، وحسب التعابير الدقيقة لأعيان المتألهين والحكماء المتعمقين ، والفقهاء الراسخين ، فإن هذا العالم عالمُ غلبةِ الباطل على الحق ، وغلبةُ عالم الشهود على عالمِ الأمر ، وغلبة الغيب على الظهور ولهذا نرى أن السِّيَر في هذه النشأة تابعةٌ للصور ، والصور حاكمةٌ على السُّوَر !
والسِّيَر هي المنويات ولكل امرئ ما نوى فالإنسان إنسانٌ بعالمه الداخلي ومعانيه ، ومنها فهمه للمعاني وقد صدق أهل البيت(ع)حيث قالوا: لا نعد الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاني كلامنا
إن الظاهر من الإنسان هو صورته وشكله ، أما مضمونه ونواياه وباطنه فمن الممكن أن يكون ذئباً لكنه في ظاهره لايختلف عن الإنسان الحقيقي!
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شئ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (سورة يس: 83 )
إن عالم الملكوت المظلوم في هذه النشأة ، يأخذ حقه في النشأة الأخرى ويكون حاكماً (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ( سورة ابراهيم: 48 ) ، فسوف ينتهي هذا الجور ، وسوف يظهر المكنون الى العلن ، ويبرز المكتوم الى الظاهر: وبرزوا لله الواحد القهار ، كل شئ يبرز باطنه كما هو فيكون ظاهره وباطنه، وتنتهي حكومة الظواهر والأشكال والصور، وتحكم دولة الواقع والبواطن !!
إن آيات القرآن عجيبة في إبرازها للحقائق ، ورسمها للمستقبل ، ووصفها لوجوه الناس يوم القيامة على حسب سِيَرهم لاصُورهم:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( سورة آل عمران:106 ) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ( سورة الزمر:60 )
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً! أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( سورة يونس:27 )
وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَاخَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ( سورة الاسراء:97 ) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (سورة ابراهيم:50)
أما وجوه المؤمنين فقال عنها عز وجل:تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (سورة المطففين: 24 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ( سورة الغاشية: 8) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍمُسْفِرَةٌ ( سورة عبس: 38 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( سورة القيامة: 21 – 25 )
إنه يوم بروز الحقائق والبواطن، فالذين أخلدوا الى الأرض واتبعوا أهواءهم لابد أن تظهر حقيقتهم ويحشروا على وجوههم الى النار
أما الذي ناجى ربه فقال: إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك، ولاخوفاً من نارك ، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (نهج السعادة:8/7)
فلابد أن يُحشر مشرقَ الوجه، مرفوعَ الرأس،تعرف في وجهه نُضْرة النعيم، يجلله نور ربه ، ويتطلع الى رحمته وفيض عطائه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
في ذلك العالم لابد أن يموت الباطل لكي تظهر الأمور على واقعها ، وأن يحيا الحق ويبرز من مكامنه: ( أشهد أن الموت حق والبعث حق ! )
وبعد أن يتم حشر الناس وحسابهم، وتعدَّ جنة الخلود لأولياء الله وأحبائه فمن هو أول شخص يدخل الجنة ؟
لاشك أن درجة الأولية هي للشخص الأول في الوجود وهو نبينا محمد (ص)فهو الأول في كل درجات وجوده، ومحال أن يعطي الله هذه الدرجة لغيره! فكيف يصح قوله(ص): أول شخص يدخل الجنة فاطمة بنت محمد؟
يصح ذلك إذا تعمقنا في دراية الحديث ، ولم نكن كالرواة الذين يروون الحديث ولا يفقهونه ، لقد رووا أن النبي(ص)قال: نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ( سنن ابن ماجة :1/86 ) !
إن فاطمة وأباها صلى الله عليهما جوهرٌ واحد، ونورٌ واحد، ودخولها الجنة يعني دخول النبي الجنة ! فهي كالشخص الأول في الوجود خلقاً وخلقاً ومنطقاً، وسيرةً وعلماً وعملاً! ألم يرووا عن عائشة أنها قالت: (فأقبلت فاطمة تمشي، لاوالله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله(ص)فلما رآها رحب قال مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه) (البخاري:7/141 ) (5)
ألم يرووا عنه(ص)أنه قال:فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني!(البخاري:4/210) فما المانع أن يعطي الله ورسوله هذا المقام لبضعة النبي المباركة ، ويكون افتتاح جنة الخلد بدخولها اليها ؟!
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق:13/334 ،أن رسول الله(ص)قال: (تحشر ابنتي فاطمة وعليها حلة الكرامة، قد عجنت بماء الحيوان، فينظر الخلائق إليها فيتعجبون منها، وتكسى أيضاً ألف حلة من حلل الجنة ، مكتوب على كل حلة منها بخط أخضر: أدخلوا ابنة نبيي الجنة على أحسن صورة ، وأحسن الكرامة ، وأحسن المنظر، فتزف كماتزف العروس وتتوج بتاج العز، ويكون معها سبعون ألف جارية)ورواه الطبري في دلائل الإمامة ص155 ، والخوارزمي في مقتل الحسين: 1/52 ، وغيرهم ، و الصدوق في عيون أخبار الرضا :2/30 ـ 38 )
فما هي حلة الكرامة ، وما معنى أنها معجونة بماء الحياة ؟! هذا بحث له مكانه ، ونكتفي هنا بالإشارة الى كلمات وردت في هذا الحديث :
أدخلوا ابنة نبيي الجنة على أحسن صورة ونظام العدل في الوجود يقضي أن لاتعطى أحسن صورة لإنسان إلا إذا كان عمله أحسن عمل لله تعالى، فلا بد أن يكون في الكمال العلمي أحسن العلماء ، وفي الكمال العملي أحسن المتخلقين بالفضائل، فإن دقة القانون الإلهي تقول: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ( سورة الزلزلة: 7- 8 )
في مثل ذلك اليوم العظيم، وذلك المشهد العظيم، لايمكن أن يكون الإنسان الذي يضع قدمه مكان قدم سيد المرسلين(ص)ويدخل أولاً الى الجنة إلا إنساناً فريداً ، فالأمور عند الله تعالى تخضع لحساب وكتاب !!
لا بد من التفكير في مثل هذه الحقائق التي رواها الجميع ، في أمثال هذه الأحاديث وذلك السلوك النبوي مع الصديقة الكبرى فاطمة(ع)فقد كان آخر من يودعه النبي(ص)في المدينة فاطمة ، وأول من يزوره إذا رجع من سفره فاطمة! (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم يثني بفاطمة ثم يأتي أزواجه ، وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة ، ثم أتى بيوت نسائه ) (فتح الباري:8/89 ، المعجم الكبير للطبراني:22/225 )، وكان يشمها ويقبلها ويقول أشم منها رائحة الجنة (فاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة) (أمالي الصدوق ص546 )
إن هذا السلوك فضلاً عن أنه عاطفة أبوية، له دلالته النبوية على مقام الصديقة الزهراء(ع)ومقامها عند الله تعالى!
فليس أمراً بسيطاً من سيد الخلق وأقربهم الى الله تعالى(ص)، الذي يقبل سيد الملائكة جبرئيل غبار قدميه ، أن يقبل ابنته فاطمة ، ويشم منها رائحة الجنة !
وليس أمراً بسيطاً أن تكون أول شخص يدخل الجنة ، لا بمعنى أن النبي (ص)يرسلها أمامه الى الجنة ، بل لأن الله تعالى يريد أن يري أهل المحشر من الأولين والآخرين أني عندما أنزلت على عبدي محمد ( طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) فإن فاطمة التي هي بضعة من أبيها كانت شريكة في هذه السورة لأنها كانت شريكة لأبيها في عبادتي، ووقفت مثله في محرابها بين يديَّ حتى تورمت قدماها ! فقد روت مصادرهم كالسيوطي في الدر المنثور: 6/361 قال: (وأخرج العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن الدلال وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الابل ، فلما نظر إليها قال: يافاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً! فأنزل الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( سورة الضحى: 5 )
وفي نهاية الإرب للنويري:3 جزء5/264: (فلما نظر إليها بكى وقال: يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لنعيم الأبدالخ وكذا في إحياء الغزالي:4/233
فرآها وعليها كساء من وبر الإبل رأى حالتها، رأى ابنته التي أمضت ليلها في محراب عبادتها ولم تكد تنم، وفي الصباح بدأت بعملها، وهذا لباسها ، فانكسر لها قلبه ودمعت عيناه!
وانكسار قلب النبي(ص)ليس أمراً عادياً ، وعندما يجري دمع النبي(ص)فإن دمع باطن الوجود يجري ! فبكى رسول الله وقال لها: إصبري على مرارة الدنيا ولا نعرف مما نقله السيوطي وغيره ماذا كانت القضية وماذا جرى؟ لكن نفهم أنها كانت ملحمة في الصبر والعبودية ، وأن النبي(ص)انكسر قلبه لحال فاطمة وبكى، وأن الله تعالى أنزل عليه جبرئيل شاكراً واعداً ، بقوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) !!
إن ما يجب أن نقوله ونصرخ به، ونحن نواجه ظلماً لم تنصفه الدنيا ! أن بشراً ملائكياً من نوع فاطمة(ع)هذه معيشتها، يستحيل أن تقف في وجه أبي بكر من أجل لقمة خبز ، أو مزرعة نخل وزروع !
ألم يحن للدنيا أن تفكر وتعرف أن أبا بكر بن أبي قحافة كان أمياً في مسائل الدين، وأن المحدثين والنقاد اتفقوا على أنه كان جاهلاً بإرث الجدة هل ترث أم لا؟ فقال لا أدري !
الى هذه الحد كان علمه بأحكام الشرع ، وقد حاول الذهبي أن يجد له عذراً بأنه لم يكن يحفظ، وأنه أراد الدقة ، وأنه لذلك منع الناس من جمع السنة النبوية وتدوينها ! ولكنه عذر أقبح من ذنب !
وأبو بكر الذي كان جاهلاً بإرث الجدة فسأل عنه وتعلمه لكن ممن ؟! من شخص متفق عليه أنه من أفجر الفجار ، هو المغيرة بن شعبة !
لقد اعتمد أبو بكر على كلامه ، وحكم للجدة بما قاله المغيرة !
لكن عندما جاءته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع)واعترضت عليه لماذا صادرت مني فدك؟! ردها أبو بكر ولم يصدقها! مع أن ابنته عائشة كانت تقول قالت:(مارأيت أحد كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها) حلية الأولياء:2 /42 ، الإستيعاب:2 /751 ، ذخاير العقبى ص44 ، تقريب الأسانيد وشرحه:1/150، مجمع الزوايد:9/201 ، وقال: رجاله رجال الصحيح ) ( الغدير:2/312 )
أبو بكر يعرف من هي فاطمة ، وقد سمع شهادة ابنته عائشة بحق فاطمة فلم يصدقها ! لكنه صدق المغيرة الفاسق الفاجر في إرث الجدة !
إن الظلم الذي يحتاج الى صيحة، والذي يجب على علماء المسلمين أن يجهروا به ولايكتمونه أن مصادرهم وكبار مفسريهم رووا أنهم عندما نزل قوله تعالى: ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَىحَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( سورة الروم: 38 ) ، دعا النبي(ص)فاطمة فأعطاها فدكاً ، وبقيت في يدها حتى صادرها أبو بكر ! (6)
لكن مطالبتها بفدك لم تكن من أجل فدك، فهذه حياتها التي رضيت بها ، واختارت عن علم وعمد أن تتجرع مرارتها من أجل حلاوة الآخرة ، وهي أيضاً تعلم أنها أسرع أهل البيت لحاقاً بأبيها رسول الله(ص)!
فأي قيمة لفدك؟!
إن غصة الصديقة الكبرى(ع)لم تكن من أجل خبزها وخبز أطفالها ! فالتي قال الله عنها وعن أسرتها في كتابه: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لانُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) (الانسان: 8-9 ) والتي تصوم مع أطفالها ثلاثة أيام وتمنع اللقمة عن فمهم فيطعمونها للمسكين واليتيم والأسير لاتركض وراء مال الدنيا !
إنما يتصور ذلك خفاف العقول! وقد آن لهم أن يستيقظوا من نومهم ويفكروا ماذا جرى ، ويعرفوا أي تاريخ محمل بالعار حّرَفَ مسيرة الأمة الإسلامية وأوصلها الى هذه المهاوي التي نراها اليوم ؟!
إنما كانت مطالبة الزهراء(ع)بفدك إيقاظاً للأمة، لتثبت لهم أن هؤلاء الذين سيطروا على الحكم يأكلون الحق الواضح لبنت النبي(ص)وينكرونه ، فماذا سيفعلون في حقوق الأمة غداً ؟!
كانت غصتها أن الذي يجلس مكان النبي(ص)اليوم لايعرف مسألة إرث الجدة ، ويدعي أن الأنبياء(ع)مستثنون من أحكام الشريعة !
وغداً سيجلس مكان النبي عمر بن الخطاب ، وهو لايعرف حكم التيمم ! وبعده سيجلس أمثال الوليد بن عبد الملك، ثم هارون والمأمون ! ثم يتقاتلون على كرسي النبي(ص)ويسفكون دماء الأمة ، والأمة تسير بهم في الضلال والضعف والتفكك ، حتى تنهار !!
هذه غصة فاطمة(ع)، وليست مزرعة فدك ! غصتها أنهم بفعلهم وبأساسهم الذي أسسوه ، يبطلون الهدف من بعثة الأنبياء(ع)!
إن الذي صدع قلب الصديقة الزهراء(ع)وقتلها، أنها لم تستطع أن تشكو مرارتها وغصتها الى عامة الأمة ، وتجعلهم يستوعبون ما حدث ! لكنها قالت لأبي بكر وعمر في نفسيهما قولاً بليغاً ! وقالت لهما في آخر حياتها عندما جاءا لزيارتها ، ما رواه ابن قتيبة وروته مصادرنا كما في البحار:29/158 ، عن الإمام الصادق(ع)قال: (بينما أبو بكر وعمر عند فاطمة يعودانها ، فقالت لهما: أسألكما بالله الذي لاإله إلا هو هل سمعتما رسول الله(ص)يقول: من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله؟ فقالا: اللهم نعم قالت: فأشهد أنكما آذيتماني ) !!
وقد اعترف البخاري أنها بقيت ستة أشهر بعد النبي(ص)، وهي مغاضبة لأبي بكر! قال: (فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر) ( البخاري:4/42 )
ء وعندما حضرتها الوفاة أوصت الى علي فقالت: (يا ابن عم ما أراني إلا لما بي، وأنا أوصيك أن تتزوج بنت أختي زينب تكون لولدي مثلي، وتتخذ لي نعشاً فإني رأيت الملائكة يصفونه لي، وأن لايشهد أحدٌ من أعداء الله جنازتي ولا دفني ولا الصلاة عليَّ !
قال ابن عباس: فقبضت فاطمة من يومها ، فارتجَّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله(ص) فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله فلما كان في الليل دعا علي العباس والفضل والمقداد وسلمان وأبا ذر وعماراً ، فقدم العباس فصلى عليها ودفنوها
فلما أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة(ع)فقال المقداد: قد دفنا فاطمة البارحة فالتفت عمر إلى أبي بكر فقال: ألم أقل لك إنهم سيفعلون؟ قال العباس: إنها أوصت أن لا تصليا عليها! فقال عمر: والله لاتتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا أبداً ! إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب، والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها ! فقال علي: والله لو رمت ذلك يابن صهاك لارجعتْ إليك يمينك ! والله لئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك فَرُمْ ذلك فانكسر عمر وسكت وعلم أن علياً إذا حلف صدق)(كتاب سليم بن قيس ص392 ) (7)
ودفنوها في جوف الليل ! فما جواب هذه الأمة لمن سألها: لماذا دفنت بنت نبيهم سراً وليلاً وأخفي قبرها ؟ إنها ظلامة بعد ظلامة
ولأي الأمور تدفن سراً بضعة المصطفى ويعفى ثراه بنتُ مَنْ أمُّ مَنْ حليلةُ مَنْ ويلٌ لمن سنَّ ظلمَها وأذاه