أحمد إبراهيم الربيعي
01-01-2009, 12:47 PM
السلام على الحسين ، وعلى علي بن الحسين ، وعلى أولاد الحسين ، وعلى أصحاب الحسين ، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (ع)
دروس مستوحاة من الهجرة النبوية المباركة
لا يخفى على أرباب هذا الدين العظيم أن مواطن رسالة نبيهم الكريم (ص) كانت موزعة بين مدينتين مقدستين وهما مكة المكرمة حيث مسقط رأسه ونشأته المباركة، و(يثرب) المدينة المنورة حيث موطن أنصار الدين واستقرار المسلمين في صدر الرسالة، حتى وصف في إحدى زياراته بـ(النبي المكي المدني)، وحتى قرآنه العظيم نزل مشاطرة بين هاتين المدينتين حتى سميت بعض السور مكية والأخرى مدنية أي حسب موضع أو موطن نزولها، وقد أضطر النبي الأعظم (ص) نتيجة للظروف الصعبة التي كان يعانيها هو وأهل بيته الأطهار والسابقون الأولون من صحبه الأبرار من بطش المشركين ومقاطعتهم وعزلهم لهم وبالذات من قبل بطون الشرك القرشية التي حاربت الرسالة بشتى الطرق والوسائل وخصوصاً بعد أن جهر بالدعوة علناً حيث كانت سرية في بادئ الأمر، وأصبحت تتوالى المؤامرات المحاكة ضده لأجل تصفيته ـ بأبي وأمي ـ بعد أن فشلت خطتهم التي كانت ترمي إلى تسقيطه في أعين الناس من خلال رميه بالتهم والافتراءات التي أعتاد أعداء الحق في كل زمان ومكان أن يجابهوا بها الرساليون من عصر أبينا آدم (ع) وليوم الناس هذا، حيث لم تفـلح لا فرية السحر ولا الكهانة ولا الكذب ذلك لأن شخصه العظيم (ص) كان مثالاً للصدق والأمانة والتعفف في زمن بلغت في الجاهلية في الجزيرة العربية أعلى مراحل الإسفاف والانحطاط الخلقي، فاتخذ قرار الهجرة على مضض من نفسه في ترك مسقط رأسه في سبيل إتمام الرسالة في أرض أخرى له فيها أنصار ومخلصون يشدون عضده ولتنطلق من أرضهم راية الإسلام خفاقة فأتجه إلى (يثرب) التي تنورت بضيائه البهي وأيقن أنه عائد إلى مسقط رأسه فاتحاً بأسم الله وبأسم الإسلام محطماً أصنام الجاهلية، وقد واسى الله تبارك وتعالى نبيه وبشره بالنصر والعودة كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وإنا رادوك إلى معاد) وكانت لهذه الهجرة المباركة أثر كبير في نصرة الإسلام بل وأصبحت بمثابة ولادة جديدة له حتى أن رأس السنة الإسلامية صار يحسب من تاريخ هجرة النبي (ص) وأصبحت تسمى بالسنة الهجرية، وفي هجرة النبي الأعظم (ص) دروس يمكن أن نستقيها من خلال بعض المواقف التي يرتبط بعضها بالبعض الآخر فمنها:
الدرس الأول: (أسباب الهجرة):
أسباب الهـجرة كثيرة منها ما ذكرناه سابقاً حـول المؤامرات التي أحيكت ضد النبــي (ص) وكذلك ما كان يلـقاه مـن أذى مـن قريش وخصوصاً بعد رحيل عمه وناصره سيدنا سيد البطحاء أبي طالب(ع) حتى أنه (ص) دخل مرة إلى داره وقد حثا بعض السفهاء التراب على رأسه الشريف فقامت فاطمة(ع)محزونة القلب دامعة العين لتزيل التراب، فيصبرها قائلاً : لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك..ثم يردف قائلاً: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب! ومن خلال هذا الدرس نقف على وحشية وهمجية قريش وإيذائهم للنبي (ص) حتى قال: (ما أوذي نبي كما أوذيت) وهذا الدرس يدلنا على أن النبي أختار قوم آخرين هم أولى من قريش وأكثر تقبلاً لرسالات السماء.
الدرس الثاني(أيمان أبي طالب(ع)):
مر علينا أن هموم النبي(ص) اشتدت بعد وفاة عمه أبو طالب وقد جاء في بعض الروايات أنه أوحي إلى النبي(ص) بالهجرة لأجل هذا السبب حيث قيل له: (أخرج منها فقد مات ناصرك) وهذا درس آخر نستدل به على أيمان سيدنا أبي طالب(ع) حيث يعمد أعداء الحقيقة من النواصب إلى تشويه صورة ناصر النبي وأبو ناصره متأثرين بالفكر الأموي الخبيث الذي ركز على طرح أكذوبة شرك أبي طالب (ع) ناصر النبي(ص) في مقابل أيمان أبي سفيان(لع) عدو الله ورسوله، وبذل الأموال للوضاعين في سبيل ذلك وكل ذلك بغضاً بعلي (ع)، هذا وتوجد أدلة كثيرة على أيمان وإسلام هذا الرجل العظيم لا يستوعب ذكر عشرها هذا المقام، فمن أراد المزيد عليه أن يراجع كتابي (أيمان أبي طالب) و(أبو طالب مؤمن قريش).
الدرس الثالث(التضحية والفداء):
درس التضحية والفداء الذي قدمه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين في تلك الليلة المباركة درس لا يوصف فقد قامت قبائل الشرك القرشية بالاتفاق مع بعض حلفائها بمحاولة قتل النبي (ص) غيلة وهو نائم في فراشه حيث يضربه مجموعة من رجال تلك القبائل ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل فطلب النبي الرحمة (ص) من وصيه أن يبات في فراشه في تلك الليلة التي كان النبي(ص) مستهدفاً بها، والتي قرر أن يهاجر فيها، بحيث سيكون عرضة لسيوف الحقد والشرك والهمجية، فما كان من علي(ع) إلا أن وافق وبدون تردد ولم يلفظ سوى كلمة واحدة :(أو تسلم يا رسول الله) فأجابه النبي(ص): (أجل) فأستبشر علي (ع) بذلك وبكل شجاعة وفخر مدافعاً بذلك عن نبيه الكريم ودينه العظيم وبات في فراش النبي(ص) وهاجر النبي ولما أنقض الكفار ووجدوا علياً(ع) تركوه محاولين اللحاق برسول الله(ص) وهكذا حفظ النبي ودينه، وباهى الله ملائكته بعلي (ع) ونزل فيه قوله تعالى: (ومن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) ولم يكن هذا الموقف هو الوحيد لعلي (ع) في حفظ الرسالة فقد كانت له موقف مشابه في معركة الخندق حيث برز الإيمان كله للشرك كله وكانت ضربته لعمرو بن عبد ود نصراً مبيناً ما بعده نصر حيث قال فيها الصادق المصدوق(ص) بأنها تعادل عبادة الثقلين.
العام الهجري حقائق وأشجان وعّبر
يقول المؤرخون وأبرزهم الطبري في العام 17و18 من الهجرة أقترح أمير المؤمنين علي(ع) على عمر أن يتخذ الهجرة مبدأ للتاريخ بدلاً من عام الفيل وغيرها من التواريخ التي كانت شائعة آنذاك (1) علماً أن هجرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) كانت في شهر ربيع الأول ولم تكن في شهر محرم الحرام ويستدل البعض بالاعتماد على رواية تقول بأن هجرة المسلمين الأولى من مكة إلى المدينة كانت بهذا التاريخ. وبما أن المسلمين المهاجرين من أهالي مكة وإخوانهم الأنصار من أهالي المدينة كانوا يبتهجون بمقدم سيد الكائنات (صلى الله عليه وآله) أستغل أعداء الله من الأمويين واضرابهم من النواصب أن يلبسوا صبغة الاحتفال بمقتل الحسين (ع) بزي الاحتفال بهجرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) فقد كان بني أمية(لع) في الأيام العشرة الأوائل من شهر محرم الحرام يبتهجون أيما ابتهاج بذكرى استشهاد عدوهم وابن عدوهم وأبن قاتل أبطالهم ومكسر أصنامهم الإمام الحسين (ع) لسنوات عدة وبعد أن زال حكمهم وأطلع جل المسلمين على حقائق ما عتم عليهم من هذه الواقعة الدامية زالت مظاهر الاحتفال في هذه الأيام الحزينة تدريجياً ولكن أتباع بني أمية وسواهم من النواصب اختصروا الاحتفال بيوم واحد ألا وهو اليوم الأول من هذا الشهر المحرم مبرقعينه ببرقع الاحتفال بذكرى هجرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وإلا فالمسلمين الموالين لأهل البيت (ع) يستقبلون هذا الشهر الحرام بالحزن والشجن ولهم شعائر خاصة بهذه المناسبة الأليمة لم ينطفئ ذكرها منذ وقوعها وإلى يومنا هذا وقد ساد مظهر الاحتفال في اليوم الأول من المحرم مع شديد الأسف إلى يومنا هذا وأصبح أغلب المسلمين يحتفلون به تأثراً بالمسيحيين واحتفالهم برأس السنة الميلادية (الكريسماس)
ولا يعتقد البعض بأن الهجرة هي أمر طبيعي بل الهجرة تعني التغرب عن الأوطان وهجر الأهل والأحبة، وللهجرة آثار نفسية شديدة الوقع على الإنسان وله في نفس الوقت أجر عظيم إذا كانت هجرته في سبيل الله، فهي تعني ترك الديار والأوطان والأهل والأموال والتوقف في محطة جديدة يجهل المهاجر ما فيها، ويعيش لوعة الغربة وغصص الذكريات فيجذبه الحنين إلى موطنه الأصلي ويبقى يئن ويحن إلى منطلق هجرته وذكرياته بمحاسنها ومساوئها وقد عانى النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) هو وآله وأصحابه مرارة الهجرة وترك الأوطان وأوذوا في سبيل الله ورغبة في رضاه وقد وعدهم الله تبارك وتعالى أجراً عظيماً وميزهم عن باقي المؤمنين حتى من المجاهدين بأعلى الرتب وأعظم الدرجات ووعدهم بأن ينزلهم داراً حسناً وهي المدينة المنورة وما فيها من أنصار وأخوة هذا عدى الجزاء الأكبر والأوفر في الآخرة حيث قال في محكم كتابه العزيز)فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)وقال سبحانه: (الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
ويروي لنا التاريخ هجرتين عظيمتين إحداهما هجرة إيجاد الدين والأخرى هجرة حفظ الدين. وهجرة إيجاد الدين هي هجرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فقد هم بترك وطنه الأم بعدما لاقى ما لاقاه من المشركين فقد كان (صلى الله عليه وآله) يعاني آلام الهجرة والفرقة كما أسلفنا حيث الحنين الذي كان يشده إلى مكان ولادته وطفولته وذكرياته الجميلة والأماكن التي تذكره بمن فقد من أرحامه وأحبائه وحنينه الجياش لمكان نزول الوحي في غار حراء وقد كان الله (عز وجل) قد وعده بالعودة إلى وطنه الذي خرج منه )إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) وقد تحقق الوعد الإلهي بالنصر والعودة إلى الأوطان فعاد إلى مكة فاتحاً بأذنه تعالى وكان موطن هجرة المسلمين المدينة المنورة هي محطة انطلاق الدين الإسلامي إلى العالم أجمع وعنوان البشارة والفتح المبين ولولا الهجرة لما أستقر دين الرحمة . وأما هجرة حفظ الدين فهي هجرة أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين(ع) حيث شد الرحال مع أهل بيته وأصحابه إلى كربلاء ليس لطلب الملك والجاه وإنما هاجر وكما جاء على لسانه الشريف لـ(طلب الإصلاح في أمة جدي محمد أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب) وكذلك أراد أن يحفظ حرمة المقدسات لأنه يعلم علم اليقين بأن هذا الكافر الفاجر يزيد(لع) لا يردعه رادع عن انتهاك الٌحرم والمقدسات ولو بقي الإمام(ع) في مكة أو المدينة لقاتله هناك وقد فعل ذلك يزيد(لع) بعد قتله لسيد الشهداء(ع) حيث لا يتذكر المسلمون من يزيد الخمور والفجور في سني حكمه الثلاث سوى ثلاث مصائب ففي السنة الأولى قتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي السنة الثانية هجم على المدينة المنورة وأباحها لجند الشام ليقتلوا أكثر من سبعمائة صحابي ويفتضوا أكثر من ألف عذراء وفي سنته الثالثة ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق. فكانت إحدى أهم أسباب ثورة الإمام الحسين (ع) هي الابتعاد جهد الإمكان عن حرم الله وحرم رسوله وكانت ثورة الحسين (ع) الخالدة هي التي حفظت الدين لأنها ثورة الحق ضد الباطل، والذي يتأمل أقوال الإمام الحسين(ع) وخطب العقيلة زينب والإمام السجاد(ع) وهم أسارى مكبلين بالأصفاد يعلم أن ثورة الحسين هي التي حفظت الدين. وهنا نصل إلى محصلة حتمية مفادها أنه لولا الهجرتين لما وجد الدين وحفظ ولعل لذلك علاقة بحديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين) أي أنا أوجدت الدين وأوكلت حفظه لسبطي الحسين حيث أوجد النبي الدين بجهاده واجتهاده وحفظه بدم سبطه ودماء عياله وأنصاره وهنا أيضاً تتجسد مقولة: (أن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء ـ أو ـ حسيني الخلود) هذا وتوجد دروس أخرى يطول المقام بذكرها مكتفين بهذا القدر من خيرة الدروس وأروع العبر والحمد لله أولاً وآخراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري ج3ص1250
دروس مستوحاة من الهجرة النبوية المباركة
لا يخفى على أرباب هذا الدين العظيم أن مواطن رسالة نبيهم الكريم (ص) كانت موزعة بين مدينتين مقدستين وهما مكة المكرمة حيث مسقط رأسه ونشأته المباركة، و(يثرب) المدينة المنورة حيث موطن أنصار الدين واستقرار المسلمين في صدر الرسالة، حتى وصف في إحدى زياراته بـ(النبي المكي المدني)، وحتى قرآنه العظيم نزل مشاطرة بين هاتين المدينتين حتى سميت بعض السور مكية والأخرى مدنية أي حسب موضع أو موطن نزولها، وقد أضطر النبي الأعظم (ص) نتيجة للظروف الصعبة التي كان يعانيها هو وأهل بيته الأطهار والسابقون الأولون من صحبه الأبرار من بطش المشركين ومقاطعتهم وعزلهم لهم وبالذات من قبل بطون الشرك القرشية التي حاربت الرسالة بشتى الطرق والوسائل وخصوصاً بعد أن جهر بالدعوة علناً حيث كانت سرية في بادئ الأمر، وأصبحت تتوالى المؤامرات المحاكة ضده لأجل تصفيته ـ بأبي وأمي ـ بعد أن فشلت خطتهم التي كانت ترمي إلى تسقيطه في أعين الناس من خلال رميه بالتهم والافتراءات التي أعتاد أعداء الحق في كل زمان ومكان أن يجابهوا بها الرساليون من عصر أبينا آدم (ع) وليوم الناس هذا، حيث لم تفـلح لا فرية السحر ولا الكهانة ولا الكذب ذلك لأن شخصه العظيم (ص) كان مثالاً للصدق والأمانة والتعفف في زمن بلغت في الجاهلية في الجزيرة العربية أعلى مراحل الإسفاف والانحطاط الخلقي، فاتخذ قرار الهجرة على مضض من نفسه في ترك مسقط رأسه في سبيل إتمام الرسالة في أرض أخرى له فيها أنصار ومخلصون يشدون عضده ولتنطلق من أرضهم راية الإسلام خفاقة فأتجه إلى (يثرب) التي تنورت بضيائه البهي وأيقن أنه عائد إلى مسقط رأسه فاتحاً بأسم الله وبأسم الإسلام محطماً أصنام الجاهلية، وقد واسى الله تبارك وتعالى نبيه وبشره بالنصر والعودة كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وإنا رادوك إلى معاد) وكانت لهذه الهجرة المباركة أثر كبير في نصرة الإسلام بل وأصبحت بمثابة ولادة جديدة له حتى أن رأس السنة الإسلامية صار يحسب من تاريخ هجرة النبي (ص) وأصبحت تسمى بالسنة الهجرية، وفي هجرة النبي الأعظم (ص) دروس يمكن أن نستقيها من خلال بعض المواقف التي يرتبط بعضها بالبعض الآخر فمنها:
الدرس الأول: (أسباب الهجرة):
أسباب الهـجرة كثيرة منها ما ذكرناه سابقاً حـول المؤامرات التي أحيكت ضد النبــي (ص) وكذلك ما كان يلـقاه مـن أذى مـن قريش وخصوصاً بعد رحيل عمه وناصره سيدنا سيد البطحاء أبي طالب(ع) حتى أنه (ص) دخل مرة إلى داره وقد حثا بعض السفهاء التراب على رأسه الشريف فقامت فاطمة(ع)محزونة القلب دامعة العين لتزيل التراب، فيصبرها قائلاً : لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك..ثم يردف قائلاً: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب! ومن خلال هذا الدرس نقف على وحشية وهمجية قريش وإيذائهم للنبي (ص) حتى قال: (ما أوذي نبي كما أوذيت) وهذا الدرس يدلنا على أن النبي أختار قوم آخرين هم أولى من قريش وأكثر تقبلاً لرسالات السماء.
الدرس الثاني(أيمان أبي طالب(ع)):
مر علينا أن هموم النبي(ص) اشتدت بعد وفاة عمه أبو طالب وقد جاء في بعض الروايات أنه أوحي إلى النبي(ص) بالهجرة لأجل هذا السبب حيث قيل له: (أخرج منها فقد مات ناصرك) وهذا درس آخر نستدل به على أيمان سيدنا أبي طالب(ع) حيث يعمد أعداء الحقيقة من النواصب إلى تشويه صورة ناصر النبي وأبو ناصره متأثرين بالفكر الأموي الخبيث الذي ركز على طرح أكذوبة شرك أبي طالب (ع) ناصر النبي(ص) في مقابل أيمان أبي سفيان(لع) عدو الله ورسوله، وبذل الأموال للوضاعين في سبيل ذلك وكل ذلك بغضاً بعلي (ع)، هذا وتوجد أدلة كثيرة على أيمان وإسلام هذا الرجل العظيم لا يستوعب ذكر عشرها هذا المقام، فمن أراد المزيد عليه أن يراجع كتابي (أيمان أبي طالب) و(أبو طالب مؤمن قريش).
الدرس الثالث(التضحية والفداء):
درس التضحية والفداء الذي قدمه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين في تلك الليلة المباركة درس لا يوصف فقد قامت قبائل الشرك القرشية بالاتفاق مع بعض حلفائها بمحاولة قتل النبي (ص) غيلة وهو نائم في فراشه حيث يضربه مجموعة من رجال تلك القبائل ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل فطلب النبي الرحمة (ص) من وصيه أن يبات في فراشه في تلك الليلة التي كان النبي(ص) مستهدفاً بها، والتي قرر أن يهاجر فيها، بحيث سيكون عرضة لسيوف الحقد والشرك والهمجية، فما كان من علي(ع) إلا أن وافق وبدون تردد ولم يلفظ سوى كلمة واحدة :(أو تسلم يا رسول الله) فأجابه النبي(ص): (أجل) فأستبشر علي (ع) بذلك وبكل شجاعة وفخر مدافعاً بذلك عن نبيه الكريم ودينه العظيم وبات في فراش النبي(ص) وهاجر النبي ولما أنقض الكفار ووجدوا علياً(ع) تركوه محاولين اللحاق برسول الله(ص) وهكذا حفظ النبي ودينه، وباهى الله ملائكته بعلي (ع) ونزل فيه قوله تعالى: (ومن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) ولم يكن هذا الموقف هو الوحيد لعلي (ع) في حفظ الرسالة فقد كانت له موقف مشابه في معركة الخندق حيث برز الإيمان كله للشرك كله وكانت ضربته لعمرو بن عبد ود نصراً مبيناً ما بعده نصر حيث قال فيها الصادق المصدوق(ص) بأنها تعادل عبادة الثقلين.
العام الهجري حقائق وأشجان وعّبر
يقول المؤرخون وأبرزهم الطبري في العام 17و18 من الهجرة أقترح أمير المؤمنين علي(ع) على عمر أن يتخذ الهجرة مبدأ للتاريخ بدلاً من عام الفيل وغيرها من التواريخ التي كانت شائعة آنذاك (1) علماً أن هجرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) كانت في شهر ربيع الأول ولم تكن في شهر محرم الحرام ويستدل البعض بالاعتماد على رواية تقول بأن هجرة المسلمين الأولى من مكة إلى المدينة كانت بهذا التاريخ. وبما أن المسلمين المهاجرين من أهالي مكة وإخوانهم الأنصار من أهالي المدينة كانوا يبتهجون بمقدم سيد الكائنات (صلى الله عليه وآله) أستغل أعداء الله من الأمويين واضرابهم من النواصب أن يلبسوا صبغة الاحتفال بمقتل الحسين (ع) بزي الاحتفال بهجرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) فقد كان بني أمية(لع) في الأيام العشرة الأوائل من شهر محرم الحرام يبتهجون أيما ابتهاج بذكرى استشهاد عدوهم وابن عدوهم وأبن قاتل أبطالهم ومكسر أصنامهم الإمام الحسين (ع) لسنوات عدة وبعد أن زال حكمهم وأطلع جل المسلمين على حقائق ما عتم عليهم من هذه الواقعة الدامية زالت مظاهر الاحتفال في هذه الأيام الحزينة تدريجياً ولكن أتباع بني أمية وسواهم من النواصب اختصروا الاحتفال بيوم واحد ألا وهو اليوم الأول من هذا الشهر المحرم مبرقعينه ببرقع الاحتفال بذكرى هجرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وإلا فالمسلمين الموالين لأهل البيت (ع) يستقبلون هذا الشهر الحرام بالحزن والشجن ولهم شعائر خاصة بهذه المناسبة الأليمة لم ينطفئ ذكرها منذ وقوعها وإلى يومنا هذا وقد ساد مظهر الاحتفال في اليوم الأول من المحرم مع شديد الأسف إلى يومنا هذا وأصبح أغلب المسلمين يحتفلون به تأثراً بالمسيحيين واحتفالهم برأس السنة الميلادية (الكريسماس)
ولا يعتقد البعض بأن الهجرة هي أمر طبيعي بل الهجرة تعني التغرب عن الأوطان وهجر الأهل والأحبة، وللهجرة آثار نفسية شديدة الوقع على الإنسان وله في نفس الوقت أجر عظيم إذا كانت هجرته في سبيل الله، فهي تعني ترك الديار والأوطان والأهل والأموال والتوقف في محطة جديدة يجهل المهاجر ما فيها، ويعيش لوعة الغربة وغصص الذكريات فيجذبه الحنين إلى موطنه الأصلي ويبقى يئن ويحن إلى منطلق هجرته وذكرياته بمحاسنها ومساوئها وقد عانى النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) هو وآله وأصحابه مرارة الهجرة وترك الأوطان وأوذوا في سبيل الله ورغبة في رضاه وقد وعدهم الله تبارك وتعالى أجراً عظيماً وميزهم عن باقي المؤمنين حتى من المجاهدين بأعلى الرتب وأعظم الدرجات ووعدهم بأن ينزلهم داراً حسناً وهي المدينة المنورة وما فيها من أنصار وأخوة هذا عدى الجزاء الأكبر والأوفر في الآخرة حيث قال في محكم كتابه العزيز)فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)وقال سبحانه: (الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
ويروي لنا التاريخ هجرتين عظيمتين إحداهما هجرة إيجاد الدين والأخرى هجرة حفظ الدين. وهجرة إيجاد الدين هي هجرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فقد هم بترك وطنه الأم بعدما لاقى ما لاقاه من المشركين فقد كان (صلى الله عليه وآله) يعاني آلام الهجرة والفرقة كما أسلفنا حيث الحنين الذي كان يشده إلى مكان ولادته وطفولته وذكرياته الجميلة والأماكن التي تذكره بمن فقد من أرحامه وأحبائه وحنينه الجياش لمكان نزول الوحي في غار حراء وقد كان الله (عز وجل) قد وعده بالعودة إلى وطنه الذي خرج منه )إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) وقد تحقق الوعد الإلهي بالنصر والعودة إلى الأوطان فعاد إلى مكة فاتحاً بأذنه تعالى وكان موطن هجرة المسلمين المدينة المنورة هي محطة انطلاق الدين الإسلامي إلى العالم أجمع وعنوان البشارة والفتح المبين ولولا الهجرة لما أستقر دين الرحمة . وأما هجرة حفظ الدين فهي هجرة أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين(ع) حيث شد الرحال مع أهل بيته وأصحابه إلى كربلاء ليس لطلب الملك والجاه وإنما هاجر وكما جاء على لسانه الشريف لـ(طلب الإصلاح في أمة جدي محمد أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب) وكذلك أراد أن يحفظ حرمة المقدسات لأنه يعلم علم اليقين بأن هذا الكافر الفاجر يزيد(لع) لا يردعه رادع عن انتهاك الٌحرم والمقدسات ولو بقي الإمام(ع) في مكة أو المدينة لقاتله هناك وقد فعل ذلك يزيد(لع) بعد قتله لسيد الشهداء(ع) حيث لا يتذكر المسلمون من يزيد الخمور والفجور في سني حكمه الثلاث سوى ثلاث مصائب ففي السنة الأولى قتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي السنة الثانية هجم على المدينة المنورة وأباحها لجند الشام ليقتلوا أكثر من سبعمائة صحابي ويفتضوا أكثر من ألف عذراء وفي سنته الثالثة ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق. فكانت إحدى أهم أسباب ثورة الإمام الحسين (ع) هي الابتعاد جهد الإمكان عن حرم الله وحرم رسوله وكانت ثورة الحسين (ع) الخالدة هي التي حفظت الدين لأنها ثورة الحق ضد الباطل، والذي يتأمل أقوال الإمام الحسين(ع) وخطب العقيلة زينب والإمام السجاد(ع) وهم أسارى مكبلين بالأصفاد يعلم أن ثورة الحسين هي التي حفظت الدين. وهنا نصل إلى محصلة حتمية مفادها أنه لولا الهجرتين لما وجد الدين وحفظ ولعل لذلك علاقة بحديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين) أي أنا أوجدت الدين وأوكلت حفظه لسبطي الحسين حيث أوجد النبي الدين بجهاده واجتهاده وحفظه بدم سبطه ودماء عياله وأنصاره وهنا أيضاً تتجسد مقولة: (أن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء ـ أو ـ حسيني الخلود) هذا وتوجد دروس أخرى يطول المقام بذكرها مكتفين بهذا القدر من خيرة الدروس وأروع العبر والحمد لله أولاً وآخراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري ج3ص1250