melika
12-11-2006, 08:51 PM
حياة القلوب في رحاب الذكر
ذكر الله عز وجل قوت للقلوب ، وقرة للعيون ، وسرور للنفوس ، به تُجلب النعم وتُدفع النقم ؛ فهو نعمة عظمى ومنحة كبرى ، له لذة لا يدركها إلا من ذاقها ، عبر عنها أحدهم فقال : " والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف " .
وذكر الله هو أعظم ما فتق عنه لسان وتدبره جنان . فلا بد من اجتماع اللسان والجنان حتى يؤتي الذكر ثماره ويستشعر العبد آثاره . فقد وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فهم جمعوا بين ذكر الله تعالى في كل أحوالهم ودعائه ، والتفكر في خلق السماوات والأرض .
وقال أحد العارفين : " لا اعتداد بذكر اللسان ما لم يكن ذلك من ذكر في القلب ، وذكره تعالى يكون لعظمته ؛ فيتولد منه الهيبة والإجلال ، وتارة لقدرته فيتولد منه الخوف والخشية ، وتارة لنعمته فيتولد منه الحب والشكر ، وتارة لأفضاله الباهرة فيتولد منه التفكير والاعتبار ؛ فحق للمؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره على أحد هذه الأوجه " .
الحياة لمن ذكر
لا نقصد بالحياة هنا الحياة المحسوسة التي يشترك فيها الإنسان مع باقي الكائنات الحية ؛ وإنما نقصد بها حياة الروح و روح الحياة ، حياة القلب وقلب الحياة ، نقصد الحياة التي عبر عنها الله تعالى بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } . فهذه الحياة متحققة بالاستجابة لأمر الله ورسوله . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت " .
ومن مظاهر هذه الحياة اطمئنان القلب ويقينه في الله تعالى ، واستكمال الآية الكريمة آنفة الذكر : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . وهذا يعني أن هناك علاقة قوية ومباشرة بين هذه الحياة والقلب ؛ فحيلولة الله بين المرء وقلبه تعني موات هذا القلب وعدم انتفاعه بالموعظة .
وذكر الله عز وجل هو الطريق الرئيسي لتحقيق هذا اليقين القلبي ، ومصداق ذلك قول الله عز وجل : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } . ومن أول صفات المخبتين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ، وتوعد سبحانه وتعالى القلب الميت الذي لا يتأثر بالذكر { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
وعلاقة اطمئنان القلب بالذكر أن العبد إذا ذكر من أسماء الله وصفاته : الرزاق الفتاح الوهاب الكريم الباسط ؛ اطمأن على رزقه . وإذا ذكر من أسمائه تعالى : الغفور الرحيم التواب العفو ؛ اطمأن على مغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته . وإذا ذكر من أسمائه : العليم الخبير السميع البصير ؛ اطمأن على أن ما أصابه فإنما هو بقدر الله وعلمه . وإذا ذكر من أسمائه : القادر المنتقم الجبار ؛ اطمأن على قدرة الله تعالى على الانتقام من المتجبرين ورد كيد المعتدين ودفع الظالمين .
وهكذا فالعيش مع أسماء الله وصفاته يكسب القلب طمأنينة ويقينا ، وينزل على النفس بردا وسلاما . ويكتمل اليقين القلبي بالتغلب على الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يضل الإنسان ، وأن يوسوس له ويزعزع إيمانه ويقينه في ربه .
وقد أخبرنا الرسول الأكرم (ص) أن ذكر الله تعالى هو من الأسلحة الفتاكة لمواجهة الشيطان ؛ حيث قال : " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس " . إذن فحياة القلب الذي ينصلح الجسد بصلاحه ويفسد بفساده متحققة بذكر الله ، والتفكر في أسمائه وصفاته ، والعيش في رحابه .
ثم نأتي إلى نوع آخر من الحياة في رحاب الذكر ؛ ألا وهو حياة اللسان . وتتمثل هذه الحياة في الوصية الغالية التي وصى بها الحبيب (ص) أحد أصحابه قائلا : " لا يزال لسانك رطبا بذكر الله " ، وقال (ص) : " أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله " .
والرطوبة في الزرع علامة على النضارة والاخضرار والحياة ، ورطوبة اللسان علامة على استمرار مقومات الحياة له ، وعكس الرطوبة اليبس والجمود ، وهو يعني التحجر والموت والقساوة .
ومن مظاهر الحياة في رحاب الذكر حياة العينين ، وعلامة هذه الحياة الدمع من خشية الله . كما ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " .
قال القرطبي : " وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له ؛ ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله ، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه " .
وقال بعض أهل العلم : " من رأى مبتلى فدمعت عيناه فهو من الذاكرين الله ؛ لأن من المبتلين إذا رآهم المؤمن تدمع عيناه ؛ لأنه يذكر نعمة الله عليه فهذا كأنه ذكر الله بلسانه " .
وقال أحد العارفين : " المؤمن يذكر الله تعالى بكلِّه ؛ لأنه يذكر الله بقلبه فتسكن جميع جوارحه إلى ذكره ؛ فلا يبقى منه عضوإلا وهو ذاكر في المعنى ، فإذا امتدت يده إلى شيء ذكر الله فكف يده عما نهى الله عنه . وإذا سعت قدمه إلى شيء ذكر الله فغض بصره عن محارم الله . وكذلك سمعه ولسانه وجوارحه مصونة بمراقبة الله تعالى ، ومراعاة أمر الله ، والحياء من نظر الله ؛ فهذا هو الذكر الكثير الذي أشار الله إليه بقوله سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } .
ذكر ما بعده ذكر
المتعارف عليه في دنيا الناس أن الفقير هو الذي يذكر الغني ، والضعيف يذكر القوي . ولكن مع الله تعالى الأمر مختلف ؛ فهو سبحانه يعامل عبيده من باب الكرم والفضل . فنجده سبحانه يخبرنا أنه يذكر من يذكره . بل ويذكره في ملأ خير من ملئه ، وهذا منتهى التفضل والمن .
يقول تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ، قال الحسن البصري في معناها : " قال : فاذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي " ، وقال سعيد بن جبير : " فاذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ورحمتي " .
فيا له من شرف وفضل ؛ أن يذكر الربُّ العظيمُ العبدَ الضعيف ، أن يذكر الربُّ القويُّ العبدَ الضعيفَ ، أن يذكر الربُّ الغنيُّ العبدَ الفقيرَ . إنه ذكر ما بعده ذكر ؛ فاذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل . اذكروني بالأسحار أذكركم بالليل والنهار . اذكروني بالجهد أذكركم بالجود . اذكروني بالثناء أذكركم بالعطاء . اذكروني بالندم أذكركم بالكرم . اذكروني في دار الفناء أذكركم في دار البقاء . اذكروني في دار المحنة أذكركم في دار النعمة . اذكروني في دار الشقاء أذكركم في دار النعماء .
يقول يحيى بن معاذ : " يا غفول يا جهول ، لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك مولاك لمِتَّ شوقًا إلى مولاك " . ويبلغ الكرم منتهاه ويبلغ التفضل ذروته ، حين يخبرنا الرسول (ص) بقول رب العزة سبحانه وتعالى : " يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم ، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيت إليك أهرول " .
ولكن الإنسان من طبعه الغفلة والنسيان . وما أتعسه إذا نسي ربه ؛ فيكون الجزاء من جنس العمل كما أخبر تعالى { نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ } ؛ وما أقساها عقوبة! وما أشده جزاء! فيا شقاء من نسيه الله ؛ فلن يكون له ذكر في الأرض ولا في الملأ الأعلى ؛ فهو من الضائعين في الدنيا والآخرة .
ولذلك قال تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } ؛ فنسيان آيات الله في الدنيا سبب لنسيان العبد في الآخرة . والأشد من ذلك أن يُنسي اللهُ العبدَ نفسه ؛ ولذلك حذر سبحانه وتعالى عباده فقال : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } .
* رمضان بديني
ذكر الله عز وجل قوت للقلوب ، وقرة للعيون ، وسرور للنفوس ، به تُجلب النعم وتُدفع النقم ؛ فهو نعمة عظمى ومنحة كبرى ، له لذة لا يدركها إلا من ذاقها ، عبر عنها أحدهم فقال : " والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف " .
وذكر الله هو أعظم ما فتق عنه لسان وتدبره جنان . فلا بد من اجتماع اللسان والجنان حتى يؤتي الذكر ثماره ويستشعر العبد آثاره . فقد وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فهم جمعوا بين ذكر الله تعالى في كل أحوالهم ودعائه ، والتفكر في خلق السماوات والأرض .
وقال أحد العارفين : " لا اعتداد بذكر اللسان ما لم يكن ذلك من ذكر في القلب ، وذكره تعالى يكون لعظمته ؛ فيتولد منه الهيبة والإجلال ، وتارة لقدرته فيتولد منه الخوف والخشية ، وتارة لنعمته فيتولد منه الحب والشكر ، وتارة لأفضاله الباهرة فيتولد منه التفكير والاعتبار ؛ فحق للمؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره على أحد هذه الأوجه " .
الحياة لمن ذكر
لا نقصد بالحياة هنا الحياة المحسوسة التي يشترك فيها الإنسان مع باقي الكائنات الحية ؛ وإنما نقصد بها حياة الروح و روح الحياة ، حياة القلب وقلب الحياة ، نقصد الحياة التي عبر عنها الله تعالى بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } . فهذه الحياة متحققة بالاستجابة لأمر الله ورسوله . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت " .
ومن مظاهر هذه الحياة اطمئنان القلب ويقينه في الله تعالى ، واستكمال الآية الكريمة آنفة الذكر : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . وهذا يعني أن هناك علاقة قوية ومباشرة بين هذه الحياة والقلب ؛ فحيلولة الله بين المرء وقلبه تعني موات هذا القلب وعدم انتفاعه بالموعظة .
وذكر الله عز وجل هو الطريق الرئيسي لتحقيق هذا اليقين القلبي ، ومصداق ذلك قول الله عز وجل : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } . ومن أول صفات المخبتين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ، وتوعد سبحانه وتعالى القلب الميت الذي لا يتأثر بالذكر { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
وعلاقة اطمئنان القلب بالذكر أن العبد إذا ذكر من أسماء الله وصفاته : الرزاق الفتاح الوهاب الكريم الباسط ؛ اطمأن على رزقه . وإذا ذكر من أسمائه تعالى : الغفور الرحيم التواب العفو ؛ اطمأن على مغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته . وإذا ذكر من أسمائه : العليم الخبير السميع البصير ؛ اطمأن على أن ما أصابه فإنما هو بقدر الله وعلمه . وإذا ذكر من أسمائه : القادر المنتقم الجبار ؛ اطمأن على قدرة الله تعالى على الانتقام من المتجبرين ورد كيد المعتدين ودفع الظالمين .
وهكذا فالعيش مع أسماء الله وصفاته يكسب القلب طمأنينة ويقينا ، وينزل على النفس بردا وسلاما . ويكتمل اليقين القلبي بالتغلب على الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يضل الإنسان ، وأن يوسوس له ويزعزع إيمانه ويقينه في ربه .
وقد أخبرنا الرسول الأكرم (ص) أن ذكر الله تعالى هو من الأسلحة الفتاكة لمواجهة الشيطان ؛ حيث قال : " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس " . إذن فحياة القلب الذي ينصلح الجسد بصلاحه ويفسد بفساده متحققة بذكر الله ، والتفكر في أسمائه وصفاته ، والعيش في رحابه .
ثم نأتي إلى نوع آخر من الحياة في رحاب الذكر ؛ ألا وهو حياة اللسان . وتتمثل هذه الحياة في الوصية الغالية التي وصى بها الحبيب (ص) أحد أصحابه قائلا : " لا يزال لسانك رطبا بذكر الله " ، وقال (ص) : " أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله " .
والرطوبة في الزرع علامة على النضارة والاخضرار والحياة ، ورطوبة اللسان علامة على استمرار مقومات الحياة له ، وعكس الرطوبة اليبس والجمود ، وهو يعني التحجر والموت والقساوة .
ومن مظاهر الحياة في رحاب الذكر حياة العينين ، وعلامة هذه الحياة الدمع من خشية الله . كما ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " .
قال القرطبي : " وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له ؛ ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله ، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه " .
وقال بعض أهل العلم : " من رأى مبتلى فدمعت عيناه فهو من الذاكرين الله ؛ لأن من المبتلين إذا رآهم المؤمن تدمع عيناه ؛ لأنه يذكر نعمة الله عليه فهذا كأنه ذكر الله بلسانه " .
وقال أحد العارفين : " المؤمن يذكر الله تعالى بكلِّه ؛ لأنه يذكر الله بقلبه فتسكن جميع جوارحه إلى ذكره ؛ فلا يبقى منه عضوإلا وهو ذاكر في المعنى ، فإذا امتدت يده إلى شيء ذكر الله فكف يده عما نهى الله عنه . وإذا سعت قدمه إلى شيء ذكر الله فغض بصره عن محارم الله . وكذلك سمعه ولسانه وجوارحه مصونة بمراقبة الله تعالى ، ومراعاة أمر الله ، والحياء من نظر الله ؛ فهذا هو الذكر الكثير الذي أشار الله إليه بقوله سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } .
ذكر ما بعده ذكر
المتعارف عليه في دنيا الناس أن الفقير هو الذي يذكر الغني ، والضعيف يذكر القوي . ولكن مع الله تعالى الأمر مختلف ؛ فهو سبحانه يعامل عبيده من باب الكرم والفضل . فنجده سبحانه يخبرنا أنه يذكر من يذكره . بل ويذكره في ملأ خير من ملئه ، وهذا منتهى التفضل والمن .
يقول تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ، قال الحسن البصري في معناها : " قال : فاذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي " ، وقال سعيد بن جبير : " فاذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ورحمتي " .
فيا له من شرف وفضل ؛ أن يذكر الربُّ العظيمُ العبدَ الضعيف ، أن يذكر الربُّ القويُّ العبدَ الضعيفَ ، أن يذكر الربُّ الغنيُّ العبدَ الفقيرَ . إنه ذكر ما بعده ذكر ؛ فاذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل . اذكروني بالأسحار أذكركم بالليل والنهار . اذكروني بالجهد أذكركم بالجود . اذكروني بالثناء أذكركم بالعطاء . اذكروني بالندم أذكركم بالكرم . اذكروني في دار الفناء أذكركم في دار البقاء . اذكروني في دار المحنة أذكركم في دار النعمة . اذكروني في دار الشقاء أذكركم في دار النعماء .
يقول يحيى بن معاذ : " يا غفول يا جهول ، لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك مولاك لمِتَّ شوقًا إلى مولاك " . ويبلغ الكرم منتهاه ويبلغ التفضل ذروته ، حين يخبرنا الرسول (ص) بقول رب العزة سبحانه وتعالى : " يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم ، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيت إليك أهرول " .
ولكن الإنسان من طبعه الغفلة والنسيان . وما أتعسه إذا نسي ربه ؛ فيكون الجزاء من جنس العمل كما أخبر تعالى { نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ } ؛ وما أقساها عقوبة! وما أشده جزاء! فيا شقاء من نسيه الله ؛ فلن يكون له ذكر في الأرض ولا في الملأ الأعلى ؛ فهو من الضائعين في الدنيا والآخرة .
ولذلك قال تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } ؛ فنسيان آيات الله في الدنيا سبب لنسيان العبد في الآخرة . والأشد من ذلك أن يُنسي اللهُ العبدَ نفسه ؛ ولذلك حذر سبحانه وتعالى عباده فقال : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } .
* رمضان بديني