كهف الوراء
23-01-2009, 02:33 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآله الطيبين الطاهرين
نبذة عن حياة
الإمام زين العابدين (ع) في سطور
الاسم: علي (ع) .
الأب: الإمام الحسين (ع) .
الأم: شاه زنان(1) بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وقيل: إن اسمها
(شهربانو)(2).
الكنية: أبو محمد، والخاص: أبو الحسن، ويقال: أبو القاسم(3).
الألقاب: زين العابدين، سيد الساجدين، سيد العابدين، الزكي، الأمين، السجاد، ذو الثفنات(4).
بعض الأوصاف: أسمر دقيق.
نقش الخاتم: وما توفيقي إلا بالله(5).
مكان الولادة: المدينة المنورة.
زمان الولادة: يوم الخميس 15 جمادى الآخرة، وقيل: يوم الخميس لتسع خلون من شعبان، سنة 38 للهجرة، قبل وفاة أمير المؤمنين (ع) بسنتين. وقيل: سنة 37، وقيل: سنة 36، فبقي مع جده أمير المؤمنين (ع) أربع سنين ومع عمه الحسن (ع) عشر سنين ومع أبيه عشر سنين. وقيل: مع جده سنتين ومع عمه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه ثلاث عشر سنة(6).
مدة العمر: 57 عاماً.
زمان الشهادة: 25/ محرم/ 95 هـ، وقيل: سنة 94 هـ(7).
مكان الشهادة: المدينة المنورة.
القاتل: هشام بن عبد الملك حيث سمّه بأمر الوليد بن عبد الملك(8).
المدفن: البقيع الغرقد في المدينة المنورة مع عمه الإمام الحسن (ع) (9)، حيث مزاره الآن، وقد هدم الوهابيون هذه البقاع الطاهرة.
الأخلاق الكريمة
وقف على الإمام علي بن الحسين (ع) رجل فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: «قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه».
فقالوا له: نفعل ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول.
قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(10)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: «قولوا له هذا علي بن الحسين».
قال: فخرج إلينا متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين (ع) : «يا أخي إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر الله لك».فقبّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به(11).
وورد أيضاً أنه قد انتهى الإمام (ع) ذات يوم إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال: «إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم»(12).
عفو وموعظة
عن الإمام الصادق (ع) قال: «كان بالمدينة رجل بطال يضحك الناس منه، فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه، يعني علي بن الحسين (ع) .
قال: فمرّ علي (ع) وخلفه موليان له، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته ثم مضى، فلم يلتفت إليه علي (ع) ، فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاءوا به فطرحوه عليه، فقال لهم: من هذا؟
فقالوا له: هذا رجل بطّال يضحك أهل المدينة.
فقال: قولوا له: إن لله يوماً يخسر فيه المبطلون»(13).
خدمة الرفقة
عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «كان علي بن الحسين (ع) لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه فقال لهم: أتدرون من هذا؟
قالوا: لا.
قال: هذا علي بن الحسين (ع) .
فوثبوا فقبلوا يده ورجله وقالوا: يا بن رسول الله أردت أن تصلينا نار جهنم، لو بدرت منا إليك يد أو لسان، أما كنا قد هلكنا آخر الدهر، فما الذي يحملك على هذا؟
فقال: إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله (ع)
ما لا أستحق، فإني أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحب إليّ»(14).
مع الفقراء
روي: أن الإمام زين العابدين (ع) كان يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً، فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه.
فلما توفي (ع) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (ع) .
ولما وُضع (ع) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين»(15).
وعن الإمام الباقر (ع) انه قال: «لقد كان علي بن الحسين (ع) يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان لهم منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله»(16).
الرفق بالحيوان
قال الإمام الباقر (ع) : «لقد حج الإمام زين العابدين (ع) على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط، فلما توفت أمر بدفنها لئلا تأكلها السباع»(17).
في عبادته (ع)
أفلا أكون عبداً شكورا
أتت فاطمة بنت علي بن أبي طالب (ع) إلى جابر بن عبد الله فقالت له: يا صاحب رسول الله (ع) ، إن لنا عليكم حقوقاً، ومن حقنا عليكم إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين (ع) بقية أبيه الحسين (ع) قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه، أذاب نفسه في العبادة.
فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلما دخل عليه وجده في محرابه، قد أنصبته العبادة، فنهض علي (ع) فسأله عن حاله سؤالاً خفياً، أجلسه بجنبه.
ثم أقبل جابر يقول: يا بن رسول الله، أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟
فقال له علي بن الحسين (ع) : «يا صاحب رسول الله، أما علمت أن جدي رسول الله (ع) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد هو بأبي وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً!».
فلما نظر إليه جابر وليس يغني فيه قول، قال: يا بن رسول الله، البقيا على نفسك، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء، وتستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء.
فقال: «يا جابر، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسياً بهما حتى ألقاهما».
فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: ما رئي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين (ع) إلا يوسف بن يعقوب (ع) ، والله، لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف(18).
من يقوى على عبادة علي (ع)
روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «لقد دخل ابنه أبو جعفر (ع) عليه ـ أي على الإمام السجاد (ع) ـ فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر (ع) : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي وقال:
يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (ع) فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (ع) »(19).
خوفاً من الله.
وعن أبي عبد الله الصادق (ع) : «كان علي بن الحسين (ع) إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً»(20).
ألف ركعة
عن الإمام الباقر (ع) : «كان علي بن الحسين (ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة...
وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لونا آخر.
وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل.
كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله.
وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً»(21).
سيد الساجدين
عن الإمام الباقر (ع) : «إن أبي علي بن الحسين (ع) ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد.
ولا قرأ آية من كتاب الله عزوجل فيها سجود إلا سجد.
ولا دفع الله تعالى عنه سوءً يخشاه أو كيد كايد إلا سجد.
ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد.
ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد.
وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسمي السجاد لذلك»(22).
أين زين العابدين؟
عن الإمام الصادق (ع) قال: «قال رسول الله (ع) : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين زين العابدين؟ فكأني انظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب € يخطر بين الصفوف»(23).
ذو الثفنات
عن الإمام الباقر (ع) انه قال: «لقد كان يسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده؛ لكثرة صلاته وكان يجمعها فلما مات دفنت معه»(24).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر (ع) : «كان لأبي (ع) في موضع سجوده آثار ناتية، وكان يقطعها في السنة مرتين في كل مرة خمس ثفنات فسمي ذا الثفنات لذلك»(25).
بين يدي الله عزوجل
عن الإمام الباقر (ع) : «لقد صلى ـ علي بن الحسين (ع) ـ ذات يوم، فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك؟
فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت، إن العبد لا تقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه.
فقال الرجل: هلكنا.
فقال: كلا إن الله عز وجل متمم ذلك بالنوافل»(26).
سيد الزاهدين
عن أبي جعفر (ع) قال: «ولقد سألت عنه ـ الإمام السجاد (ع) ـ مولاة له، فقالت: أطنب أو اختصر؟
فقيل: بل اختصري.
فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً، ولا فرشت له فراشاً ليلاً قط»(27).
بين السجاد والخليل (ع)
عن الإمام الباقر (ع) قال: «قال علي بن الحسين (ع) مرضت مرضاً شديداً فقال لي أبي (ع) : ما تشتهي؟
فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا أقترح على الله ربي سوى ما يدبره لي.
فقال لي: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل (ع) حيث قال له جبرئيل (ع) : هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي بل حسبي الله ونعم الوكيل»(28).
في صحراء عرفات
عن الإمام الباقر (ع) قال: «نظر علي بن الحسين (ع) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس، فقال: ويحكم أغير الله تسألون في مثل هذا اليوم؟!، إنه ليرجى في مثل هذا اليوم لما في بطون الحبالى أن يكون سعيداً»(29).
الحب في الله
قال له رجل: إني لأحبك في الله حباً شديداً، فنكس (ع) رأسه ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي مبغض» ثم قال له: «أحبك للذي تحبني فيه»(30).
مدرسة الدعاء
إن الإمام زين العابدين (ع) كان حاضراً في يوم عاشوراء، وقد شاء الله عزوجل أن تحفظ ذرية رسوله (ع) وأن لا تخلو الأرض من الحجة، فأصيب الإمام (ع) بمرض شديد لا يقوى على الحركة والقيام، فلم يتمكن من الدفاع عن أبيه الإمام الحسين (ع) والشهادة في سبيله، إلا أنه كان السر في إحياء واقعة عاشوراء وعدم طمسها.
فقد بدأ الإمام (ع) بعد واقعة عاشوراء بتوعية الأمة، وفضح بني أمية، وذلك عبر مدرسة الدعاء والبكاء.
فالصحيفة السجادية تشتمل على عشرات الأدعية المأثورة عن الإمام علي ابن الحسين (ع) في مختلف المجالات، وهي مدرسة متكاملة توجب وعي الأمة وسوقها إلى الإيمان والفضيلة والتقوى.
البكاء ثورة
أما البكاء، فهو سلاح المظلوم، وقد كان بكاء الإمام زين العابدين (ع) ثورة في وجه الطغاة، حيث كان الإمام (ع) يبكي وبشدة على ظلامة أبيه الحسين (ع) في كل موقف وعند كل مناسبة وأمام جميع الناس وكان يذكّرهم بأن أباه الحسين (ع) قتل عطشاناً مظلوما.
قال الإمام الباقر (ع) : «ولقد كان (ع) بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟
فقال له: ويحك، إن يعقوب النبي (ع) كان له اثنا عشرة ابناً، فغيب الله عنه واحداً منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟»(31).
كيف لا أبكي
وكان (ع) إذا أخذ إناء ليشرب الماء ـ تذكر عطش أبيه الحسين (ع) ومن معه ـ فيبكي حتى يملأها دمعاً.
فقيل له في ذلك.
فقال: «وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش»(32).
ثواب البكاء
وكان الإمام (ع) يحث الناس على البكاء على أبيه الحسين (ع) ويبين لهم ثواب ذلك.
قال الإمام الباقر (ع) : «كان علي بن الحسين (ع) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (ع) حتى تسيل على خده بوأه الله تعالى في الجنة غرفا يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فيما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه الله منزل صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خديه من مضاضة أو أذى فينا صرف الله من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(33).
تربية المجتمع
وكان الإمام علي بن الحسين (ع) يقوم بشراء العبيد والإماء، ثم كان يربيهم تربية إسلامية حسنة ويثقفهم بالمعارف الدينية والأحكام الشرعية، ويعلّمهم أخلاق رسول الله (ع) وتفسير القرآن، ثم يعتقهم في سبيل الله عزوجل،فكانوا نواة الخير في المجتمع آنذاك والناس يرجعون إليهم في معرفة أحكام الدين والقرآن.
من كراماته (ع)
حجر أسود
عن أبي الخير علي بن يزيد أنه قال: كنت مع علي بن الحسين (ع) عندما انصرف من الشام إلى المدينة، فكنت أحسن إلى نسائه، أتوارى عنهم إذا نزلوا وأبعد عنهم إذا رحلوا، فلما نزلوا المدينة بعثوا إليّ بشيء من الحلي، فلم آخذه وقلت: فعلت هذا لله ولرسوله..
فأخذ علي بن الحسين (ع) حجراً أسود صماً فطبعه بخاتمه وقال: «خذه واقض كل حاجة لك منه».
قال: فوالله الذي بعث محمداً بالحق لقد كنت أجعله في البيت المظلم فيسرج لي، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، وآخذه بيدي وأقف بين أيدي الملوك فلا أرى إلا ما أحب(34).
هذا ابن فاطمة
روي: أنه حج هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام ـ استلام
الحجر ـ من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين (ع) وعليه إزار ورداء من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له.
فقال شامي: من هذا يا أمير؟
فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق وكان حاضرا: لكني أنا أعرفه.
فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟
فأنشأ:
يا سائلي أيـــن حل الجود والكرم***عــنـــدي بـــــيان إذا طــــلابه قدموا
هذا الذي تعـــرف البطحاء وطأته***والبــيت يعــرفه والحــل والحـــــرم
هــذا ابــن خــــير عــباد الله كلهم***هــــذا التــــقي النــقي الطاهر العلم
هــــذا الـــذي أحمد المختار والده***صلى عــــليه إلهـــي ما جرى القلم
لو يعــلم الركن من قد جاء يلثمه***لخر يلثــــم منــــه مـوطــئ الـــــقدم
هــــذا عــــلي رســــول الله والده***أمســــت بــــنور هــداه تهتدي الأمم
هــــذا الــــذي عـمه الطيار جعفر***والمقــــتــــول حــمزة ليث حبه قسم
هــــذا ابـن سيدة النسوان فاطمة***وابــــن الــوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأتــــه قــــريش قــــال قائلها***إلــــى مكــــارم هــــذا ينــتهي الكرم
يكــــاد يمســــكه عـــرفان راحته***ركــــن الحــــطيم إذا ما جـاء يستلم
وليــــس قـــولك من هذا بضائره***العرب تعــــرف مـــن أنكرت والعجم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت***عــــن نيلها عــــرب الإسلام والعجم
يغـضي حياء ويُغضى من مهابته***فمــا يكــــلم إلا حــــين يــــبــــتســــم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته***كـالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
بكــــفه خــــيزران ريحــــه عــبق***مــــن كــــف أروع في عرنينه شمم
مــــا قــــال لا قــــط إلا في تشهده***لــــولا التــــشهد كــــانت لاؤه نــــعم
مشتــــقة مــــن رســول الله نبعته***طــــابت عــــناصره والخــيم والشيم
حــــمال أثــــقال أقـــوام إذا فدحوا***حــــلو الشمــــائل تحــــلو عـنده نعم
إن قــــال قـــال بما يهوى جميعهم***وإن تكــــلم يــــوما زانــــه الــــكـلم
هــــذا ابــن فاطمة إن كنت جاهله***بجــــده أنبــــياء الله قــــد خــــتــموا
الله فضــــله قــــدما وشــــرفــــــه***جــــرى بــــذاك لــــه في لوحه القلم
مــــن جــــده دان فضل الأنبياء له***وفــــضل أمــــتــه دانــــت لهـا الأمم
عــــم البــرية بالإحسان وانقشعت***عــــنها العــــماية والإملاق والظلم
كلتــــا يديــــه غــــياث عـم نفعهما***يستوكفــــان ولا يعــــروهما عــــدم
سهــــل الخليـــقة لا تخشى بوادره***يزينــــه خصــــلتان الحــــلم والكرم
لا يخــــلف الوعــــد ميـمونا نقيبته***رحــــب الفــــناء أريـــب حين يعترم
من معــــشر حبهم دين وبغـــضهم***كفر وقــــربهم منجــــى ومعــــتصــم
يستدفــــع الســوء والبلوى بحبهم***ويستزاد بــــه الإحــــسان والنعـــــم
مقــــدم بعــــد ذكــــر الله ذكــــرهم***في كــــل فــــرض ومختــوم به الكلم
إن عــــد أهــل التقى كانوا أئمتهم***أو قيـل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستــــطيع جــــواد بعـــد غايتهم***ولا يــــدانيهم قــــوم وإن كــــرمـــوا
هــــم الغــــيوث إذا ما أزمة أزمت***والأسد أسد الشـرى والبأس محتدم
يأبــــى لهـــم أن يحل الذم ساحتهم***خــــيم كــــريم وأيــــد بالنــدى هضم
لا يقـــبض العسر بسطا من أكفهم***سيــــان ذلك إن أثـــروا وإن عدموا
إن القبائل ليســــت فــــي رقـــابهم***لأوليــــة هــــذا أو لــــه نــــعــــــــم
من يعــــرف الله يعــــرف أوليـة ذا***فالدين مــــن بــــيت هـذا ناله الأمم
بــــيوتهم فـــي قريش يستضاء بها***فـي النائبات وعند الحكم إن حكموا
فجــــده مــــن قـــريش في أرومتها***محــــمد وعــــلــــي بعــــده عــــلـم
بــــدر لــــه شاهد والشعب من أحد***والخندقــــان ويـوم الفتح قد علموا
وخيــــبر وحنــــين يشــــهدان لــــه***وفي قريظــــة يــــوم صيــــلم قـــتم
مواطــــن قــــد عــــلت في كل نائبة***عـــلى الصحابة لم أكتم كما كتموا
اللهم صلي على محمد وآله الطيبين الطاهرين
نبذة عن حياة
الإمام زين العابدين (ع) في سطور
الاسم: علي (ع) .
الأب: الإمام الحسين (ع) .
الأم: شاه زنان(1) بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وقيل: إن اسمها
(شهربانو)(2).
الكنية: أبو محمد، والخاص: أبو الحسن، ويقال: أبو القاسم(3).
الألقاب: زين العابدين، سيد الساجدين، سيد العابدين، الزكي، الأمين، السجاد، ذو الثفنات(4).
بعض الأوصاف: أسمر دقيق.
نقش الخاتم: وما توفيقي إلا بالله(5).
مكان الولادة: المدينة المنورة.
زمان الولادة: يوم الخميس 15 جمادى الآخرة، وقيل: يوم الخميس لتسع خلون من شعبان، سنة 38 للهجرة، قبل وفاة أمير المؤمنين (ع) بسنتين. وقيل: سنة 37، وقيل: سنة 36، فبقي مع جده أمير المؤمنين (ع) أربع سنين ومع عمه الحسن (ع) عشر سنين ومع أبيه عشر سنين. وقيل: مع جده سنتين ومع عمه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه ثلاث عشر سنة(6).
مدة العمر: 57 عاماً.
زمان الشهادة: 25/ محرم/ 95 هـ، وقيل: سنة 94 هـ(7).
مكان الشهادة: المدينة المنورة.
القاتل: هشام بن عبد الملك حيث سمّه بأمر الوليد بن عبد الملك(8).
المدفن: البقيع الغرقد في المدينة المنورة مع عمه الإمام الحسن (ع) (9)، حيث مزاره الآن، وقد هدم الوهابيون هذه البقاع الطاهرة.
الأخلاق الكريمة
وقف على الإمام علي بن الحسين (ع) رجل فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: «قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه».
فقالوا له: نفعل ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول.
قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(10)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: «قولوا له هذا علي بن الحسين».
قال: فخرج إلينا متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين (ع) : «يا أخي إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر الله لك».فقبّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به(11).
وورد أيضاً أنه قد انتهى الإمام (ع) ذات يوم إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال: «إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم»(12).
عفو وموعظة
عن الإمام الصادق (ع) قال: «كان بالمدينة رجل بطال يضحك الناس منه، فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه، يعني علي بن الحسين (ع) .
قال: فمرّ علي (ع) وخلفه موليان له، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته ثم مضى، فلم يلتفت إليه علي (ع) ، فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاءوا به فطرحوه عليه، فقال لهم: من هذا؟
فقالوا له: هذا رجل بطّال يضحك أهل المدينة.
فقال: قولوا له: إن لله يوماً يخسر فيه المبطلون»(13).
خدمة الرفقة
عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «كان علي بن الحسين (ع) لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه فقال لهم: أتدرون من هذا؟
قالوا: لا.
قال: هذا علي بن الحسين (ع) .
فوثبوا فقبلوا يده ورجله وقالوا: يا بن رسول الله أردت أن تصلينا نار جهنم، لو بدرت منا إليك يد أو لسان، أما كنا قد هلكنا آخر الدهر، فما الذي يحملك على هذا؟
فقال: إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله (ع)
ما لا أستحق، فإني أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحب إليّ»(14).
مع الفقراء
روي: أن الإمام زين العابدين (ع) كان يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً، فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه.
فلما توفي (ع) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (ع) .
ولما وُضع (ع) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين»(15).
وعن الإمام الباقر (ع) انه قال: «لقد كان علي بن الحسين (ع) يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان لهم منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله»(16).
الرفق بالحيوان
قال الإمام الباقر (ع) : «لقد حج الإمام زين العابدين (ع) على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط، فلما توفت أمر بدفنها لئلا تأكلها السباع»(17).
في عبادته (ع)
أفلا أكون عبداً شكورا
أتت فاطمة بنت علي بن أبي طالب (ع) إلى جابر بن عبد الله فقالت له: يا صاحب رسول الله (ع) ، إن لنا عليكم حقوقاً، ومن حقنا عليكم إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين (ع) بقية أبيه الحسين (ع) قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه، أذاب نفسه في العبادة.
فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلما دخل عليه وجده في محرابه، قد أنصبته العبادة، فنهض علي (ع) فسأله عن حاله سؤالاً خفياً، أجلسه بجنبه.
ثم أقبل جابر يقول: يا بن رسول الله، أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟
فقال له علي بن الحسين (ع) : «يا صاحب رسول الله، أما علمت أن جدي رسول الله (ع) قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد هو بأبي وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً!».
فلما نظر إليه جابر وليس يغني فيه قول، قال: يا بن رسول الله، البقيا على نفسك، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء، وتستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء.
فقال: «يا جابر، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسياً بهما حتى ألقاهما».
فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: ما رئي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين (ع) إلا يوسف بن يعقوب (ع) ، والله، لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف(18).
من يقوى على عبادة علي (ع)
روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «لقد دخل ابنه أبو جعفر (ع) عليه ـ أي على الإمام السجاد (ع) ـ فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر (ع) : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي وقال:
يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (ع) فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (ع) »(19).
خوفاً من الله.
وعن أبي عبد الله الصادق (ع) : «كان علي بن الحسين (ع) إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً»(20).
ألف ركعة
عن الإمام الباقر (ع) : «كان علي بن الحسين (ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة...
وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لونا آخر.
وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل.
كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله.
وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً»(21).
سيد الساجدين
عن الإمام الباقر (ع) : «إن أبي علي بن الحسين (ع) ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد.
ولا قرأ آية من كتاب الله عزوجل فيها سجود إلا سجد.
ولا دفع الله تعالى عنه سوءً يخشاه أو كيد كايد إلا سجد.
ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد.
ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد.
وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسمي السجاد لذلك»(22).
أين زين العابدين؟
عن الإمام الصادق (ع) قال: «قال رسول الله (ع) : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين زين العابدين؟ فكأني انظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب € يخطر بين الصفوف»(23).
ذو الثفنات
عن الإمام الباقر (ع) انه قال: «لقد كان يسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده؛ لكثرة صلاته وكان يجمعها فلما مات دفنت معه»(24).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر (ع) : «كان لأبي (ع) في موضع سجوده آثار ناتية، وكان يقطعها في السنة مرتين في كل مرة خمس ثفنات فسمي ذا الثفنات لذلك»(25).
بين يدي الله عزوجل
عن الإمام الباقر (ع) : «لقد صلى ـ علي بن الحسين (ع) ـ ذات يوم، فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك؟
فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت، إن العبد لا تقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه.
فقال الرجل: هلكنا.
فقال: كلا إن الله عز وجل متمم ذلك بالنوافل»(26).
سيد الزاهدين
عن أبي جعفر (ع) قال: «ولقد سألت عنه ـ الإمام السجاد (ع) ـ مولاة له، فقالت: أطنب أو اختصر؟
فقيل: بل اختصري.
فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً، ولا فرشت له فراشاً ليلاً قط»(27).
بين السجاد والخليل (ع)
عن الإمام الباقر (ع) قال: «قال علي بن الحسين (ع) مرضت مرضاً شديداً فقال لي أبي (ع) : ما تشتهي؟
فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا أقترح على الله ربي سوى ما يدبره لي.
فقال لي: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل (ع) حيث قال له جبرئيل (ع) : هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي بل حسبي الله ونعم الوكيل»(28).
في صحراء عرفات
عن الإمام الباقر (ع) قال: «نظر علي بن الحسين (ع) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس، فقال: ويحكم أغير الله تسألون في مثل هذا اليوم؟!، إنه ليرجى في مثل هذا اليوم لما في بطون الحبالى أن يكون سعيداً»(29).
الحب في الله
قال له رجل: إني لأحبك في الله حباً شديداً، فنكس (ع) رأسه ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي مبغض» ثم قال له: «أحبك للذي تحبني فيه»(30).
مدرسة الدعاء
إن الإمام زين العابدين (ع) كان حاضراً في يوم عاشوراء، وقد شاء الله عزوجل أن تحفظ ذرية رسوله (ع) وأن لا تخلو الأرض من الحجة، فأصيب الإمام (ع) بمرض شديد لا يقوى على الحركة والقيام، فلم يتمكن من الدفاع عن أبيه الإمام الحسين (ع) والشهادة في سبيله، إلا أنه كان السر في إحياء واقعة عاشوراء وعدم طمسها.
فقد بدأ الإمام (ع) بعد واقعة عاشوراء بتوعية الأمة، وفضح بني أمية، وذلك عبر مدرسة الدعاء والبكاء.
فالصحيفة السجادية تشتمل على عشرات الأدعية المأثورة عن الإمام علي ابن الحسين (ع) في مختلف المجالات، وهي مدرسة متكاملة توجب وعي الأمة وسوقها إلى الإيمان والفضيلة والتقوى.
البكاء ثورة
أما البكاء، فهو سلاح المظلوم، وقد كان بكاء الإمام زين العابدين (ع) ثورة في وجه الطغاة، حيث كان الإمام (ع) يبكي وبشدة على ظلامة أبيه الحسين (ع) في كل موقف وعند كل مناسبة وأمام جميع الناس وكان يذكّرهم بأن أباه الحسين (ع) قتل عطشاناً مظلوما.
قال الإمام الباقر (ع) : «ولقد كان (ع) بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟
فقال له: ويحك، إن يعقوب النبي (ع) كان له اثنا عشرة ابناً، فغيب الله عنه واحداً منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟»(31).
كيف لا أبكي
وكان (ع) إذا أخذ إناء ليشرب الماء ـ تذكر عطش أبيه الحسين (ع) ومن معه ـ فيبكي حتى يملأها دمعاً.
فقيل له في ذلك.
فقال: «وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش»(32).
ثواب البكاء
وكان الإمام (ع) يحث الناس على البكاء على أبيه الحسين (ع) ويبين لهم ثواب ذلك.
قال الإمام الباقر (ع) : «كان علي بن الحسين (ع) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (ع) حتى تسيل على خده بوأه الله تعالى في الجنة غرفا يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فيما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه الله منزل صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خديه من مضاضة أو أذى فينا صرف الله من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(33).
تربية المجتمع
وكان الإمام علي بن الحسين (ع) يقوم بشراء العبيد والإماء، ثم كان يربيهم تربية إسلامية حسنة ويثقفهم بالمعارف الدينية والأحكام الشرعية، ويعلّمهم أخلاق رسول الله (ع) وتفسير القرآن، ثم يعتقهم في سبيل الله عزوجل،فكانوا نواة الخير في المجتمع آنذاك والناس يرجعون إليهم في معرفة أحكام الدين والقرآن.
من كراماته (ع)
حجر أسود
عن أبي الخير علي بن يزيد أنه قال: كنت مع علي بن الحسين (ع) عندما انصرف من الشام إلى المدينة، فكنت أحسن إلى نسائه، أتوارى عنهم إذا نزلوا وأبعد عنهم إذا رحلوا، فلما نزلوا المدينة بعثوا إليّ بشيء من الحلي، فلم آخذه وقلت: فعلت هذا لله ولرسوله..
فأخذ علي بن الحسين (ع) حجراً أسود صماً فطبعه بخاتمه وقال: «خذه واقض كل حاجة لك منه».
قال: فوالله الذي بعث محمداً بالحق لقد كنت أجعله في البيت المظلم فيسرج لي، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، وآخذه بيدي وأقف بين أيدي الملوك فلا أرى إلا ما أحب(34).
هذا ابن فاطمة
روي: أنه حج هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام ـ استلام
الحجر ـ من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين (ع) وعليه إزار ورداء من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له.
فقال شامي: من هذا يا أمير؟
فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق وكان حاضرا: لكني أنا أعرفه.
فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟
فأنشأ:
يا سائلي أيـــن حل الجود والكرم***عــنـــدي بـــــيان إذا طــــلابه قدموا
هذا الذي تعـــرف البطحاء وطأته***والبــيت يعــرفه والحــل والحـــــرم
هــذا ابــن خــــير عــباد الله كلهم***هــــذا التــــقي النــقي الطاهر العلم
هــــذا الـــذي أحمد المختار والده***صلى عــــليه إلهـــي ما جرى القلم
لو يعــلم الركن من قد جاء يلثمه***لخر يلثــــم منــــه مـوطــئ الـــــقدم
هــــذا عــــلي رســــول الله والده***أمســــت بــــنور هــداه تهتدي الأمم
هــــذا الــــذي عـمه الطيار جعفر***والمقــــتــــول حــمزة ليث حبه قسم
هــــذا ابـن سيدة النسوان فاطمة***وابــــن الــوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأتــــه قــــريش قــــال قائلها***إلــــى مكــــارم هــــذا ينــتهي الكرم
يكــــاد يمســــكه عـــرفان راحته***ركــــن الحــــطيم إذا ما جـاء يستلم
وليــــس قـــولك من هذا بضائره***العرب تعــــرف مـــن أنكرت والعجم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت***عــــن نيلها عــــرب الإسلام والعجم
يغـضي حياء ويُغضى من مهابته***فمــا يكــــلم إلا حــــين يــــبــــتســــم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته***كـالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
بكــــفه خــــيزران ريحــــه عــبق***مــــن كــــف أروع في عرنينه شمم
مــــا قــــال لا قــــط إلا في تشهده***لــــولا التــــشهد كــــانت لاؤه نــــعم
مشتــــقة مــــن رســول الله نبعته***طــــابت عــــناصره والخــيم والشيم
حــــمال أثــــقال أقـــوام إذا فدحوا***حــــلو الشمــــائل تحــــلو عـنده نعم
إن قــــال قـــال بما يهوى جميعهم***وإن تكــــلم يــــوما زانــــه الــــكـلم
هــــذا ابــن فاطمة إن كنت جاهله***بجــــده أنبــــياء الله قــــد خــــتــموا
الله فضــــله قــــدما وشــــرفــــــه***جــــرى بــــذاك لــــه في لوحه القلم
مــــن جــــده دان فضل الأنبياء له***وفــــضل أمــــتــه دانــــت لهـا الأمم
عــــم البــرية بالإحسان وانقشعت***عــــنها العــــماية والإملاق والظلم
كلتــــا يديــــه غــــياث عـم نفعهما***يستوكفــــان ولا يعــــروهما عــــدم
سهــــل الخليـــقة لا تخشى بوادره***يزينــــه خصــــلتان الحــــلم والكرم
لا يخــــلف الوعــــد ميـمونا نقيبته***رحــــب الفــــناء أريـــب حين يعترم
من معــــشر حبهم دين وبغـــضهم***كفر وقــــربهم منجــــى ومعــــتصــم
يستدفــــع الســوء والبلوى بحبهم***ويستزاد بــــه الإحــــسان والنعـــــم
مقــــدم بعــــد ذكــــر الله ذكــــرهم***في كــــل فــــرض ومختــوم به الكلم
إن عــــد أهــل التقى كانوا أئمتهم***أو قيـل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستــــطيع جــــواد بعـــد غايتهم***ولا يــــدانيهم قــــوم وإن كــــرمـــوا
هــــم الغــــيوث إذا ما أزمة أزمت***والأسد أسد الشـرى والبأس محتدم
يأبــــى لهـــم أن يحل الذم ساحتهم***خــــيم كــــريم وأيــــد بالنــدى هضم
لا يقـــبض العسر بسطا من أكفهم***سيــــان ذلك إن أثـــروا وإن عدموا
إن القبائل ليســــت فــــي رقـــابهم***لأوليــــة هــــذا أو لــــه نــــعــــــــم
من يعــــرف الله يعــــرف أوليـة ذا***فالدين مــــن بــــيت هـذا ناله الأمم
بــــيوتهم فـــي قريش يستضاء بها***فـي النائبات وعند الحكم إن حكموا
فجــــده مــــن قـــريش في أرومتها***محــــمد وعــــلــــي بعــــده عــــلـم
بــــدر لــــه شاهد والشعب من أحد***والخندقــــان ويـوم الفتح قد علموا
وخيــــبر وحنــــين يشــــهدان لــــه***وفي قريظــــة يــــوم صيــــلم قـــتم
مواطــــن قــــد عــــلت في كل نائبة***عـــلى الصحابة لم أكتم كما كتموا