عامر الموسوي
24-01-2009, 06:03 PM
الدروس المستوحاة من عاشوراء
أولاً: استغلال النفحات.. إنَّ من آيات الله -عز وجل- في الأنفس، هذا الإقبال الغريب على مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين (ع)، المنتشرة في مختلف بقاع الأرض!.. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}.. هذه الأيام هناك نفحات إلهية، والنفحات الإلهية تتفاوت شدة وضعف، بحسب القابليات.. المطر يمطر وإذا بأرض تنبت عشباً، وأرض أخرى تنبت الرياحين والأزهار.. المطر هو المطر، ولكن القابليات تختلف!.. قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتَعرَّضوا لها.. فلعلّ أحدكم تصيبه نفحة، فلا يشقى بعدها).. إن ما عشناه ونعيشه في أيام محرم -وإن كانت من النعم الإلهية، حيث أذاقنا حرارة محبة الحسين (ع) التي جعلها النبي (ص) من علامات الإيمان- ولكنه في الوقت نفسه إتمام للحجة علينا جميعاً.. فإن المؤاخذة الإلهية بعد النفحات القدسية، أسرع إلى العبد مما لو كان محروماً منها.. فإن الممنون عليه ليس كالمحروم، والعالم ليس كالجاهل!..
ثانياً: قصد التعلم.. إن مجالس الحسين (ع) تعد بحق جامعة كبرى، لها فروعها في عواصم المدن الكبرى، إلى الأرياف الصغرى.. ومن هنا لا نرى أمة متفقهة في كليات الشريعة -فقها، وتاريخا، وسيرة- كأتباع مذهب أهل البيت (ع)، الذين يدخلون هذه الجامعة شهرين في كل عام.. هذه المآتم هي جامعة حسينية، والإمام هو عميد هذه الجامعات المتفرقة.
ثالثاً: الجاذبية.. وسبب هذه الجاذبية نكتشفه من القرآن الكريم، حيث هناك شبه كبير بين معاملة الله -تعالى- لخليله إبراهيم، وبين ذبيحه الحسين (عليهما السلام).. وذلك في أن الله -تعالى- جعل أفئدة من الناس تهوي إليهما، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}.. إن ما نلاحظه من إقبال الناس على ذكر الحسين (ع) وإقامة عزائه لمن الأمور المذهلة!.. فكما أننا نرى بعض غير الملتزمين طوال العام تهفو نفوسهم إلى حج بيت الله الحرام، كذلك نلاحظ أنهم يبدون ولاء لا يتناسب مع طبيعة مرحلتهم؛ بما يجعلنا نعلم أن هناك تصرفاً إلهياً في القلوب، وكأن هذه الحركة في موسمي الحج ومحرم، استجابة لدعوة إبراهيم.. ولا ريب أن ملاك هوى القلوب لآل محمد (ص) في وادي الشهادة في سبيل الله تعالى، ليس بأقل من ملاك هوى القلوب لآل إبراهيم (ع) في وادٍ غير ذي زرع!..
رابعاً: الأمل.. من الملاحظ مدى انتشار مجالس إقامة ذكر الحسين (ع) مع مرور الأيام، بما أحييت فينا الآمال، بأنه لا زال هناك قلب نابض في جسم هذه الأمة، ذلك القلب الذي يستمد دمه من الدماء الزكية في وادي الطف.. فهذه المظاهر الولائية، وهذا البكاء والنحيب في مجالس الحسين (ع)، تدل على أن النفوس حية.. فمع غيبة الولي، ومع فقد النبي، ومع عدم وجود تلك الحكومة العالمية العادلة، في ظل غياب الإمام (عج) هكذا النفوس!.. وعليه، فكيف إذا حضر شخص المعصوم الأخير (الحجة المنتظر) من تلك السلسلة المباركة؟!.. ولنتصور مدى احتفاء القلوب المتعطشة للعدالة، في شرق الأرض وغربها، بعدما يئست من كل الأطروحات المدعية إسعاد البشرية.
فإذن، هناك أمل.. وهذا الأمل هو على مستوى الأمة، وعلى المستوى الشخصي: فالإنسان هو الإنسان، لم يتغير شيء، فلماذا رق قلبه هذه الأيام؟.. ولماذا ترك المنكر هذه الأيام؟.. وعليه، فإن الإنسان لديه القابلية، إذا أراد أن يكون صالحاً فإنه يستطيع ذلك.. فهو في شهر رمضان، وفي موسم الحج، وفي شهري محرم وصفر؛ يكون على مستوى يعتد به.. فمن صام، وحج، وأحيا ذكر الحسين؛ أي أنه أربعة أشهر من السنة، وهو مشغول بطاعة الله -عز وجل-.. فإذا كسب ثلث السنة، عليه بالثلثين الباقيين، يحاول أن يكون في أعلى درجات الاستقامة، طالباً المدد من رب العالمين.
خامساً: الإخلاص.. مع الأسف هنالك من ينظر إلى كل ما يتعلق بأهل البيت (ع)، وكأن هذه المعالم هي في قبال معالم التوحيد!.. بينما هما وجهان لعملة واحدة: فوحدانية الرب متجلية: تارة في الكعبة، وتارة في كربلاء.. تارة في الصلاة والقرآن، وتارة في مجالس الحسين (ع).. تارة في المساجد، وتارة في المآتم والحسينيات.. كلها معنى واحد!.. عميد المنبر الحسيني، الشيخ الوائلي -رحمه الله- كان يفتتح كلامه بآية من كتاب الله -عز وجل- فيشبعها بحثا من الزمن، ثم يختم بذكر مصائب الحسين (ع).. هذا المجلس مجلس قرآني، محاضرة عن القرآن الكريم.. ولهذا عندما يريد أحدهم أن يميز ذلك المجلس عن المجلس الآخر، يميزه من خلال المفتتح؛ أي الآية التي كانت محور من البحث.
سادساً: الخلود: إن الذي خلد الصفا والمروة، وزمزم، والحجر؛ هو أيضاً الذي خلد ذكر الحسين (ع).. هاجر تبتلى بعطش ولدها، فيرتفع هذا العطش إلى ذلك النبع الخالد، فكيف بمن قدم الشهداء والأضاحي واحداً بعد الآخر؟.. إن الذي كتب الخلود لإبراهيم وآل إبراهيم لمجرد عطش في سويعات من نهار، كيف لا يكتب الخلود لهذه الفتية؟.. الله -عزّ وجل- في مثل هذه الأيام أراد أن يفهمنا درس الخلود والتضحية.. فالبعض يعتقد أنّ ما جرى على زينب (ع) أعظم مما جرى على الحسين!.. نعم، الحسين (ع) رأى ما رأى، لكنها (ع) نقلت من بلد إلى بلد، من مصر إلى مصر، يتصفح وجوههن القريب والبعيد.. ومع هذه المآسي عندما تسأل (ع) عن ملخص ما جرى؟.. تقول: (ما رأينا إلا جميلاً)!.. نعم، هنا سرُّ الخلود!..
سابعاً: العفاف.. كانت زينب (ع) في منتهى درجات العفاف، وكذلك في منتهى الجرأة والشجاعة في الذب عن الدين بما أوتيت من قوة.. فهذه زينب (ع) التي لم يُرى في الخدر والحياء مثلها، وكان أمير المؤمنين (ع) يحاول إخفاء خيالها عن غير المحارم، عندما كان يطفئ السراج أو يخفته عند زيارتها لقبر جدها رسول الله (ص)، ولكنها مع ذلك كانت اللسان الناطق باسم الشريعة، في محضر إمام زمانها السجاد (ع).. ومن هنا صح أن يقال: كما أن الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء.. فإن حركة الإصلاح كانت: حسينية الحدوث، زينبية البقاء.
ثامناً: العاقبة: إن من دروس عاشوراء المهمة هو الحذر من سوء العاقبة، فإن البعض ممن شارك في كربلاء -كما نقل- كان من أصحاب علي (ع)، ولكن بلغ سوء العاقبة بهم إلى أن شركوا في قتل إمام زمانهم!.. وهؤلاء كثيرون طوال التاريخ، ممن صدر اللعن في حقهم من قبل أئمة الهدى، والذين كانوا يوما في ركابهم!.. فلا بد من أن يراعي كل فرد منا هذه البذور الخفية للانحرافات العظمى في الحياة -وخاصة في حقل العقائد- فإن من سمات آخر الزمان هو المسخ الفكري الذي نعتقد أن من أسبابه: المعاصي الكبيرة، ومعاشرة المنحرفين، وأكل السحت، وطلب الدنيا بالدين، والاستماع إلى زخرف القول الذي يلقيه الشيطان لأوليائه، كما ذكر القرآن قائلا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.. الذنوب عندما تتراكم، تصل بالإنسان إلى هذه الدرجة من المسخ الباطني.
وفي المقابل أنظروا إلى عكس المسخ!.. وهب بن عبد الله الكلبي، وكان نصرانياً ومعه أمه وزوجته، فأسلموا على يد الحسين في أثناء الطريق، ورافقوه إلى كربلاء.. فأقبلت أمه وقالت: يا بني!.. قٌم وانصُر ابن بنت رسول الله.. فقال: أفعل يا أماه ولا أقصّر.. فقتل جماعة منهم، ثمّ رجع إلى أمّه وقال: يا أماه ارضيِ عنّي؟.. فقالت: ما رضيتُ حتى تقتل بين يدي الحسين، فقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني في نفسك، فقالت أمه: أعزب عنها ولا تقبل قولها، وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله؛ تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.. فرجع فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً وعشرين راجلاً، ثم قطعت أصابع يده، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي!.. قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله، فأقبل كي يردّها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك، فقال لها: كنت تنهينني عن القتال والآن تحرّضينني؟.. قالت: يا وهب!.. لقد عفتُ الحياة منذ سمعت نداء الحسين ينادي: واغربتاه!.. واقلّة ناصراه!.. أما من ذابّ يذبّ عنّا؟.. أما من مجير يجيرنا؟.. ثم استعان وهب بالحسين، وقال: سيدي ردّها، فقال الحسين: (جزيتم من أهل بيت خيراً)!.. إرجعي إلى النساء يرحمك الله، فانصرفت، وقتل وهب ورموا برأسه إلى عسكر الحسين، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته وجعلت تمسح الدم من وجهه وهي تقول: الحمد لله الذي بيّض وجهي بشهادتك -يا ولدي- بين يدي أبي عبد الله الحسين.. ثم رمت بالرأس، وأخذت عمود الخيمة، فقال لها الحسين: "ارجعي يا أم وهب أنت وابنك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)".. فذهبت امرأته تمسح الدم والتراب عن وجهه وهي تقول: هنيئاً لك الجنّة!.. فبصر بها شمرٌ، فأمر غلامه فضربها بعمود فقتلها.. هي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين.
إذا أراد الإنسان أن تستجاب دعوته، فليقسم على الله -عزّ وجل- فإنه يحبّ أن يقسم عليه بأوليائه.. ومن الأقسام التي تستوجب الإجابة، أن يسأل الإنسان الله -عزّ وجلّ- باضطرار أهل البيت (ع)، ففي يوم عاشوراء كان هنالك اضطراران:
الاضطرار الأول: اضطرار الحسين (ع) في مقتله.. حيث كان يناجي ربه، وعيونه على خيام أهله، فيقطع مناجاته ويلتمس القوم بترك خيامه وعياله، فينادي: (يا قوم!.. أقصدوني بنفسي واتركوا حرمي).. في وضح النهار، يهجم هؤلاء الأجلاف على خيام آل البيت (ع)، التي لم تفارق ذكر الله -عزّ وجلّ- ويشعلون فيها النيران!..
الاضطرار الثاني: اضطرار عيال الحسين (ع) وهم ينظرون إلى هذه الأجساد الطاهرة المضرجة بالدماء كالأضاحي على الرمال، ولا تدري زينب أتنظر إلى تلك الأجساد الطاهرة، أم تلملم شمل العيال، أم تداوي ذلك العليل الذي كان في الخيمة، بقية الماضين، بقية الحسين (ع)؟!..
ونقسم أيضاً على الله باضطرار فاطمة (ع).. وبالمضطر الذي يجاب إذا دعا، بإمام زماننا ببقية الماضين في عصرنا.
أولاً: استغلال النفحات.. إنَّ من آيات الله -عز وجل- في الأنفس، هذا الإقبال الغريب على مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين (ع)، المنتشرة في مختلف بقاع الأرض!.. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}.. هذه الأيام هناك نفحات إلهية، والنفحات الإلهية تتفاوت شدة وضعف، بحسب القابليات.. المطر يمطر وإذا بأرض تنبت عشباً، وأرض أخرى تنبت الرياحين والأزهار.. المطر هو المطر، ولكن القابليات تختلف!.. قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتَعرَّضوا لها.. فلعلّ أحدكم تصيبه نفحة، فلا يشقى بعدها).. إن ما عشناه ونعيشه في أيام محرم -وإن كانت من النعم الإلهية، حيث أذاقنا حرارة محبة الحسين (ع) التي جعلها النبي (ص) من علامات الإيمان- ولكنه في الوقت نفسه إتمام للحجة علينا جميعاً.. فإن المؤاخذة الإلهية بعد النفحات القدسية، أسرع إلى العبد مما لو كان محروماً منها.. فإن الممنون عليه ليس كالمحروم، والعالم ليس كالجاهل!..
ثانياً: قصد التعلم.. إن مجالس الحسين (ع) تعد بحق جامعة كبرى، لها فروعها في عواصم المدن الكبرى، إلى الأرياف الصغرى.. ومن هنا لا نرى أمة متفقهة في كليات الشريعة -فقها، وتاريخا، وسيرة- كأتباع مذهب أهل البيت (ع)، الذين يدخلون هذه الجامعة شهرين في كل عام.. هذه المآتم هي جامعة حسينية، والإمام هو عميد هذه الجامعات المتفرقة.
ثالثاً: الجاذبية.. وسبب هذه الجاذبية نكتشفه من القرآن الكريم، حيث هناك شبه كبير بين معاملة الله -تعالى- لخليله إبراهيم، وبين ذبيحه الحسين (عليهما السلام).. وذلك في أن الله -تعالى- جعل أفئدة من الناس تهوي إليهما، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}.. إن ما نلاحظه من إقبال الناس على ذكر الحسين (ع) وإقامة عزائه لمن الأمور المذهلة!.. فكما أننا نرى بعض غير الملتزمين طوال العام تهفو نفوسهم إلى حج بيت الله الحرام، كذلك نلاحظ أنهم يبدون ولاء لا يتناسب مع طبيعة مرحلتهم؛ بما يجعلنا نعلم أن هناك تصرفاً إلهياً في القلوب، وكأن هذه الحركة في موسمي الحج ومحرم، استجابة لدعوة إبراهيم.. ولا ريب أن ملاك هوى القلوب لآل محمد (ص) في وادي الشهادة في سبيل الله تعالى، ليس بأقل من ملاك هوى القلوب لآل إبراهيم (ع) في وادٍ غير ذي زرع!..
رابعاً: الأمل.. من الملاحظ مدى انتشار مجالس إقامة ذكر الحسين (ع) مع مرور الأيام، بما أحييت فينا الآمال، بأنه لا زال هناك قلب نابض في جسم هذه الأمة، ذلك القلب الذي يستمد دمه من الدماء الزكية في وادي الطف.. فهذه المظاهر الولائية، وهذا البكاء والنحيب في مجالس الحسين (ع)، تدل على أن النفوس حية.. فمع غيبة الولي، ومع فقد النبي، ومع عدم وجود تلك الحكومة العالمية العادلة، في ظل غياب الإمام (عج) هكذا النفوس!.. وعليه، فكيف إذا حضر شخص المعصوم الأخير (الحجة المنتظر) من تلك السلسلة المباركة؟!.. ولنتصور مدى احتفاء القلوب المتعطشة للعدالة، في شرق الأرض وغربها، بعدما يئست من كل الأطروحات المدعية إسعاد البشرية.
فإذن، هناك أمل.. وهذا الأمل هو على مستوى الأمة، وعلى المستوى الشخصي: فالإنسان هو الإنسان، لم يتغير شيء، فلماذا رق قلبه هذه الأيام؟.. ولماذا ترك المنكر هذه الأيام؟.. وعليه، فإن الإنسان لديه القابلية، إذا أراد أن يكون صالحاً فإنه يستطيع ذلك.. فهو في شهر رمضان، وفي موسم الحج، وفي شهري محرم وصفر؛ يكون على مستوى يعتد به.. فمن صام، وحج، وأحيا ذكر الحسين؛ أي أنه أربعة أشهر من السنة، وهو مشغول بطاعة الله -عز وجل-.. فإذا كسب ثلث السنة، عليه بالثلثين الباقيين، يحاول أن يكون في أعلى درجات الاستقامة، طالباً المدد من رب العالمين.
خامساً: الإخلاص.. مع الأسف هنالك من ينظر إلى كل ما يتعلق بأهل البيت (ع)، وكأن هذه المعالم هي في قبال معالم التوحيد!.. بينما هما وجهان لعملة واحدة: فوحدانية الرب متجلية: تارة في الكعبة، وتارة في كربلاء.. تارة في الصلاة والقرآن، وتارة في مجالس الحسين (ع).. تارة في المساجد، وتارة في المآتم والحسينيات.. كلها معنى واحد!.. عميد المنبر الحسيني، الشيخ الوائلي -رحمه الله- كان يفتتح كلامه بآية من كتاب الله -عز وجل- فيشبعها بحثا من الزمن، ثم يختم بذكر مصائب الحسين (ع).. هذا المجلس مجلس قرآني، محاضرة عن القرآن الكريم.. ولهذا عندما يريد أحدهم أن يميز ذلك المجلس عن المجلس الآخر، يميزه من خلال المفتتح؛ أي الآية التي كانت محور من البحث.
سادساً: الخلود: إن الذي خلد الصفا والمروة، وزمزم، والحجر؛ هو أيضاً الذي خلد ذكر الحسين (ع).. هاجر تبتلى بعطش ولدها، فيرتفع هذا العطش إلى ذلك النبع الخالد، فكيف بمن قدم الشهداء والأضاحي واحداً بعد الآخر؟.. إن الذي كتب الخلود لإبراهيم وآل إبراهيم لمجرد عطش في سويعات من نهار، كيف لا يكتب الخلود لهذه الفتية؟.. الله -عزّ وجل- في مثل هذه الأيام أراد أن يفهمنا درس الخلود والتضحية.. فالبعض يعتقد أنّ ما جرى على زينب (ع) أعظم مما جرى على الحسين!.. نعم، الحسين (ع) رأى ما رأى، لكنها (ع) نقلت من بلد إلى بلد، من مصر إلى مصر، يتصفح وجوههن القريب والبعيد.. ومع هذه المآسي عندما تسأل (ع) عن ملخص ما جرى؟.. تقول: (ما رأينا إلا جميلاً)!.. نعم، هنا سرُّ الخلود!..
سابعاً: العفاف.. كانت زينب (ع) في منتهى درجات العفاف، وكذلك في منتهى الجرأة والشجاعة في الذب عن الدين بما أوتيت من قوة.. فهذه زينب (ع) التي لم يُرى في الخدر والحياء مثلها، وكان أمير المؤمنين (ع) يحاول إخفاء خيالها عن غير المحارم، عندما كان يطفئ السراج أو يخفته عند زيارتها لقبر جدها رسول الله (ص)، ولكنها مع ذلك كانت اللسان الناطق باسم الشريعة، في محضر إمام زمانها السجاد (ع).. ومن هنا صح أن يقال: كما أن الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء.. فإن حركة الإصلاح كانت: حسينية الحدوث، زينبية البقاء.
ثامناً: العاقبة: إن من دروس عاشوراء المهمة هو الحذر من سوء العاقبة، فإن البعض ممن شارك في كربلاء -كما نقل- كان من أصحاب علي (ع)، ولكن بلغ سوء العاقبة بهم إلى أن شركوا في قتل إمام زمانهم!.. وهؤلاء كثيرون طوال التاريخ، ممن صدر اللعن في حقهم من قبل أئمة الهدى، والذين كانوا يوما في ركابهم!.. فلا بد من أن يراعي كل فرد منا هذه البذور الخفية للانحرافات العظمى في الحياة -وخاصة في حقل العقائد- فإن من سمات آخر الزمان هو المسخ الفكري الذي نعتقد أن من أسبابه: المعاصي الكبيرة، ومعاشرة المنحرفين، وأكل السحت، وطلب الدنيا بالدين، والاستماع إلى زخرف القول الذي يلقيه الشيطان لأوليائه، كما ذكر القرآن قائلا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.. الذنوب عندما تتراكم، تصل بالإنسان إلى هذه الدرجة من المسخ الباطني.
وفي المقابل أنظروا إلى عكس المسخ!.. وهب بن عبد الله الكلبي، وكان نصرانياً ومعه أمه وزوجته، فأسلموا على يد الحسين في أثناء الطريق، ورافقوه إلى كربلاء.. فأقبلت أمه وقالت: يا بني!.. قٌم وانصُر ابن بنت رسول الله.. فقال: أفعل يا أماه ولا أقصّر.. فقتل جماعة منهم، ثمّ رجع إلى أمّه وقال: يا أماه ارضيِ عنّي؟.. فقالت: ما رضيتُ حتى تقتل بين يدي الحسين، فقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني في نفسك، فقالت أمه: أعزب عنها ولا تقبل قولها، وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله؛ تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.. فرجع فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً وعشرين راجلاً، ثم قطعت أصابع يده، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي!.. قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله، فأقبل كي يردّها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك، فقال لها: كنت تنهينني عن القتال والآن تحرّضينني؟.. قالت: يا وهب!.. لقد عفتُ الحياة منذ سمعت نداء الحسين ينادي: واغربتاه!.. واقلّة ناصراه!.. أما من ذابّ يذبّ عنّا؟.. أما من مجير يجيرنا؟.. ثم استعان وهب بالحسين، وقال: سيدي ردّها، فقال الحسين: (جزيتم من أهل بيت خيراً)!.. إرجعي إلى النساء يرحمك الله، فانصرفت، وقتل وهب ورموا برأسه إلى عسكر الحسين، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته وجعلت تمسح الدم من وجهه وهي تقول: الحمد لله الذي بيّض وجهي بشهادتك -يا ولدي- بين يدي أبي عبد الله الحسين.. ثم رمت بالرأس، وأخذت عمود الخيمة، فقال لها الحسين: "ارجعي يا أم وهب أنت وابنك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)".. فذهبت امرأته تمسح الدم والتراب عن وجهه وهي تقول: هنيئاً لك الجنّة!.. فبصر بها شمرٌ، فأمر غلامه فضربها بعمود فقتلها.. هي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين.
إذا أراد الإنسان أن تستجاب دعوته، فليقسم على الله -عزّ وجل- فإنه يحبّ أن يقسم عليه بأوليائه.. ومن الأقسام التي تستوجب الإجابة، أن يسأل الإنسان الله -عزّ وجلّ- باضطرار أهل البيت (ع)، ففي يوم عاشوراء كان هنالك اضطراران:
الاضطرار الأول: اضطرار الحسين (ع) في مقتله.. حيث كان يناجي ربه، وعيونه على خيام أهله، فيقطع مناجاته ويلتمس القوم بترك خيامه وعياله، فينادي: (يا قوم!.. أقصدوني بنفسي واتركوا حرمي).. في وضح النهار، يهجم هؤلاء الأجلاف على خيام آل البيت (ع)، التي لم تفارق ذكر الله -عزّ وجلّ- ويشعلون فيها النيران!..
الاضطرار الثاني: اضطرار عيال الحسين (ع) وهم ينظرون إلى هذه الأجساد الطاهرة المضرجة بالدماء كالأضاحي على الرمال، ولا تدري زينب أتنظر إلى تلك الأجساد الطاهرة، أم تلملم شمل العيال، أم تداوي ذلك العليل الذي كان في الخيمة، بقية الماضين، بقية الحسين (ع)؟!..
ونقسم أيضاً على الله باضطرار فاطمة (ع).. وبالمضطر الذي يجاب إذا دعا، بإمام زماننا ببقية الماضين في عصرنا.