النجف الاشرف
24-01-2009, 08:54 PM
السلام عليكم
اللهم صلٍ على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف ..............
1- ـ إنّ المراد بالإمام ها هنا: هو الحجة على العباد، ومن وجبت معرفته وطاعته، وحرم جهله وعصيانه. وكانت ميتة الجاهل به ميتة جاهلية، وهم: علي وأولاده الأحد عشر من الحسن إلى ابن الحسن الغائب المنتظر، عليهم من الله تعالى أزكى التحية وأفضل السلام.
أما الأنبياء السابقون، فليسوا الآن من محل الإبتلاء لنا لندخل في البحث. وأما نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم، فإنه يشمله البحث لكونه إماماً أيضاً. وسنشير إلى علمه قبل البحث في علم أوصيائه.
2 ـ إن المراد من العلم الحضوري أو الإرادي والإشائي، هو: ما كان موهوباً من العلاّم سبحانه، ومستفاضاً منه بطريق الإلهام، او النقر في الأسماع، أو التعليم من الرسول، أو غير ذلك من الأسباب. وهذا العلم اختص به الإمام دون غيره من الأنام.
وليس المراد من العلم ها هنا ما حصل بالكسب من الإمارات والحواس الظاهرية والصنايع الإكتسابية، لاشتراك الناس مع الإمام في هذا العلم، لأنه تابع لاسبابه الإعتيادية، وهذا لا يختص بأحد. وهو بخلاف الأول، إذ لا يمنحه علام الغيوب إلا لمن أراد واصطفى.
3 ـ إن علم الله تبارك اسمه قديم وسابق على المعلومات ، وهو عين ذاته وعلة للمعلومات. وأما علم الإمام الحضوري، فلا يشارك علم الله سبحانه في شيء من ذلك، لأنه حادث ومسبوق بالمعلومات. وهو غير الذات فيهم، وليس بعلة للمعلومات. وإنما حضوره عندهم بمعنى انكشاف المعلومات لديهم فعلاً.
فلا ينبغي أن يتوهم ذو بصيرة بأنهم مشاركون له تعالى في هذه الصفة وأن القول بالحضوري من الشرك او الغلو، لاختلاف العلمين في الصفة.
على أنّ علمه تعالى ذاتي، وعلمهم عرضي موهوب وممنوح منه جل شأنه. فلم يبق مجال لدعوى اتحاد العلمين بتاتاً.
4 ـ إنّ المراد من العلم في المقام هو العلم في الموضوعات الخارجية الجزئية الصِّرفة، لا العلم في الموضوعات للأحكام الكلية. لأن جهل الإمام بها نقص في رتبته وحطّ من منزلته، وإنّ بيانها من خصائصه ووظيفته، ولا العلم في الأحكام، لأن الإمام لابد وأن يكون علمه فيها حضورياً إذ لا يجوز أن يسئل عن حكم لم يكن علمه لديه حاضراً، وإلا لم يكن الحجة على العباد ، بل ولبطلت إمامته.
5 ـ إنّ الكلام في علم الإمام يشمل العلم بالساعة والاجال والمنايا وغيرها مما ظاهره استئثاره به تعالى، والتي يجمعها قوله جل شأنه: «إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت» ، لأن النصوص الخاصة صريحة في أن الله تعالى أطلعهم على هذا
العلم، بل وبعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: «ولا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول» وبها نرفع اليد عن ظواهر الآيات، والروايات التي دلت على اختصاصه تعالى بها دون خلقه؛ او يحمل الإختصاص على العلم الذاتي دون العرضي.
علم النبي صلى الله عليية واله وسلم
قبل أن نبسط الكلام في علم الإمام، نسطر كلمة موجزة في علم الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن علم الرسول هو المنبع وعنه الصدور.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للعالم أجمع، وللخليقة التي على كرة المعمورة كافة، وما كانت شريعته لتعم البشر على اختلاف الألسنة، وتباين الطباع، وتغاير الألون، وتشاسع البلدان، إلا وهي صالحة لأن يكون نظامها العام الذي تنضوي تحت لوائه، والذي يوافق ك قطر، ويلائم كل جيل، ويجتمع مع كل لسان، من دون أن يكون لقطر أو جيل أو لسان ميزة على عداه «إنما المؤمنون إخوة» وليس لأخ فضل على أخيه، وإنما هم سواء في ذلك النظام العام. نعم إنما أقربهم إلى خالق السماء وبارىء النسيم منزلة، أطوعهم لامتثال أوامره، والإنتهاء عن زواجره «إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإن أولياؤه إلا المتقون» .
وما كان ذلك الرسول مبعوثاً بتلك الرسالة العامة للبشر: أبيضهم وأسودهم، شريفهم ووضيعهم، قريبهم وبعيدهم. من دون أن يكون القدير على تمشية ذلك النظام أو تطبيقه على الجميع، وتنفيذه فيهم كافة، بغير محاباة ولا مجاملة، او ميل لأحد على أحد، فيكون الكل لديه في الحق سواء، ولا تأخذه في الله لومة لائم. ولا فرق عنده في القيام بهذه المسؤولية العظمى والعبء الرازح، بين أن تكون دعوته قد عمّت البشر أجمع، وهيمنت على الكرة كلها، أو تكون مقصورة على إقليم خاص. ولو لم تكن له تلك الكفاءة والمقدرة، لما صلحت شريعته لأن تجمع العالم باسره تحت نظامها البديع وقانونها الباهر.
إن الهيمنة على الكرة بأسرها، وتعميم الشريعة للعالم أجمع، يتطلبان الكفاءة والمقدرة اللتين لا تكونان في العادة لبشر مهما كان له من العلم والقدرة، وقوة الفكر والمزاج، وإعتدال الطبايع.
إن الرسالة إصلاح للبشر وتسوية في الحقوق وعدل في الأمة ومن يرتدي هذه الحلة السماوية فلا يعدو أن يكون أهلاً للنهوض بهذه الأعباء الباهضة، وكيف يتبعث الله إنساناً بذلك العبء الثقيل، ولا يجعل فيه تلك القوى الجسيمة.
فلو كانت له السيطرة على أقصى البلاد التي لا تصل رسله إليها إلا بالشهور أو السنين، ولا تصل صرختهم إليه من ولاته ودعاته وجباته إلا بذلك الزمن البعيد، فكيف يكون عدله شاملاً وأمنه مستتباً، وفي يوم فيه عامله جائر وجابيه خائف وقاضيه ظالم، ولا تصله أخبارهم إليه ولا نجدته لهم ولا رفع الظلم عنهم والإنتصاف لهم من اولئك الخونة الجائرين إلا بعد إعلامه بالشأن، وإيقافه على الحال، وهو يتطلب ذلك الأمد الأبعد. نعم، لا بد وأن يكون لصاحب هذه الدعوى وتلك السيطرة، من العلم من لدن العلام جل وعلا، ما يحيط بالجليل والحقير والكبير والصغير، فيما تأتي به الحوادث في تلك البلاد قربت أو بعدت، ليتسنى له أن يتدارك الحيف ويرفع اظلم وينتقم من أهل العدوان، عند أول زمن. ولولا هذا العلم المحيط، وتلك القدرة على التنفيذ، لكانت الرسالة ناقصة والإصلاح والعدل غير شاملين. فعلم الرسول بالعالم، وإحاطته بما يحدث فيه. وقدرته على تعميم الإصلاح للداني والقاص والحاضر والباد. من أسس تلك الرسالة العامة، وقاعدة لزومية لتطبيق تلك الشريعة الشاملة.
غير أن الظروف لم تسمح لصاحب هذه الرسالة أن يظهر للأمّة تلك القوى القدسية. والعلم الرباني الفياض. وكيف يعلن بتلك المواهب والإسلام غض جديد. والناس لم تتعرف تعاليم الإسلام الفرعية بعد..؟ فكيف تقبل أن يتظاهر بتلك الموهبة العظمى، وتطمئن إلى الإيمان بذلك العلم؟ على أن سلطته ما اجتازت الجزيرة، وشريعته لم تهيمن على العرب كافة. دون سواهم من الأمم. بل ولم يكن كل قومه الذين انضووا تحت لوائه من ذوي الإيمان الراسخ. وما خضع البعض منهم للسلطة النبوية إلا بعد اللّتيا والتي وبعد الترهيب والترغيب. بل وكان البعض منهم يبطن الكفر ويظهر الإسلام رهبة أو رغبة «وممن حولك من الأعراب رجال منافقون. ومن أهل المدينة مردوا على النفاق» إلى غير هؤلاء ممن لم يعرف منزلة النبوة ولا يقوى على عرفانها. فكيف والحال كما وصفنا. يتسنى له العمل بكل ما أوتي من ميزة ولطف. ويقدر على إظهار كل موهبة.
وظيفة الخليفة
لما تجلّى لديك أن الرسول لابد وأن يتحلى بتلك الصفات السامية والمواهب الإلهية. ومن العلم والقوى العالية. اللذين يؤهلانه لأن يكون صاحب السلطتين الزمنية والروحية على الأرض كلها، وأن يكون إصلاحه وعدله مخيمين على البسيطة أجمع، مسيراً لشؤون العالم. من دون أن يعاني التعب في البعيد دون القريب، والجهد في القاصي دون الداني بل هو في ذلك كله على نهج واحد. وأن أمد الرسول منقضٍ مهما طال. وجب أن يكون له خليفة ينهض بجمع الناس، وتسييرهم تحت لواء واحد. وتطبيق نظام الشريعة عليهم، وقيامه بما قام به الرسول من إفشاء العدل والإصلاح. واستتباب الأمن.
فالخلافة وظيفة تنوب عن الرسالة وتنهض بعبئها الباهض. سوى مقام النبوة والتشريع، ولو لم يكن للخليفة تلك الملكة السامية القدسية السماوية، من العلم بما يحدث في العالم، ليسير بها على سنن العدل ومناهج الإصلاح، ومن القوى النفسية التي يستطيع بها على تمشية ذلك النظام الآلهي من دون ملل أو كلل. أو سأم وبرم، أو ميل لقريب وحبيب أو ميل على بعيد وغريب، لما حصل الغرض الأقصى من لطف الرسالة، ولذهبت الدعوة النبوية أدراج الرياح، فإن ما جاء به الرسول عن الجليل تعالى من الأحكام، وتطبيقها على المجتمع البشري لم يكن مقصوراً على زمن الرسالة وأهل أوانها فحسب، بل هو عام لكل قوم وجيل وزمان ومكان «إنما أنت منذر ولكل قوم هاد» فتطبيق ما صدع به الرسول بعد عصر الرسالة يحتاج إلى ذلك الخبير في كل وقت وحين بتلك الأحكام كما أنزلت؛ وبذلك النظام كما صدع به، وبما يحدث في العالم، كما كان عليه الرسول، لتعميم العدل والأمن، وتنفيذ أحكام الشريعة، وذلك الخبير هو الهاد بعد المنذر، من دون فصل، ومن دون استثناء زمن، ولولا ذلك الخبير الهاد ـ إذا أطيع ـ لدخلت الأهواء الباطلة والآراء الضالة، في تلك الأحكام وذلك النظام، فتصبح الأمة مذاهب وشيعاً. واحزاباً وفرقاً.
وهل وقعت في هذه الحبائل إلا حين صفحت عن ذلك الطَّبن بأمور الدنيا والدين، وصافحت من هو في أمس الحاجة إلى الإرشاد والاصلاح وإقالة العثرات «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع. أمَّن لا يهدي إلا أن يهدى» .
وخلاصة الكلام أن الخلافة تسيير لنظام الرسالة. ونهوض بعبئها من كافة الجهات، حذو القذة بالقذة، إلا ما كان من الوحي ومقام الرسالة الخاص.
ولو لم يكن في الأمة من يقوم بهذه المهمة العظمى، لذهب فضل الرسالة، ولم يعرف شأوها الرفيع، ولخابت تلك الجهود الكبيرة من صاحب الرسالة، لقصور الأمة عن عرفان تلك السنن، وتمشيتها على الوجه الأكمل.
وهل أحد غير ذلك الخليفة خبير بالشريعة الحقة وقدير على تغذيتها؛ كما شاء الشارع وأراد الصادع..؟ وهل احد سواه يقوى على قمع الباطل وقطع حجج ذوي الضلال..؟
الخلافة وأهل البيت
لم نقصد بما سلف إثبات الخلافة لأهل البيت ونفيها عن غيرهم، وإنما أردنا البرهان على ما يجب أن يتصف به الخليفة، فلو استلزم هذا البيان حصرها فيهم، فليس مقصوراً بالأهل ومنظوراً بالبحث.
إن إمامة أهل البيت معتقد فرقة إسلامية، ذات العدة والعدد والعلم والعمل. ولها في هذا الميدان الحلبة والواسعة والحجج القويمة، من لدن أن وجدت الإمامة والخلافة حتى هذه الساعة.
ومهما كان الأمر، فإن الخليفة ـ كما قلنا ـ لابد وأن يتقمص بتلك الخلال الكريمة من العلم الذي لا يحصل في العادة بالكسب والتعلم؛ ومن القوى التي لا توجد عادة في إنسان قط وإن أمكن عقلاً، وإنما هو من الفيوضات الربانية والمواهب السماوية.
ومن لم تكن فيه تلك المنح، فلا يقدر على تأدية ذلك الواجب. وإن صفح الناس عمن اتصف بتلك السمات لا يمس بكرامته، ولا يغض من مقامه، بل يعود وباله على من أعرض عنه، لأنه انما أعرض عن حظه من العدل والصلاح والهداية والفلاح.
اللهم صلٍ على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف ..............
1- ـ إنّ المراد بالإمام ها هنا: هو الحجة على العباد، ومن وجبت معرفته وطاعته، وحرم جهله وعصيانه. وكانت ميتة الجاهل به ميتة جاهلية، وهم: علي وأولاده الأحد عشر من الحسن إلى ابن الحسن الغائب المنتظر، عليهم من الله تعالى أزكى التحية وأفضل السلام.
أما الأنبياء السابقون، فليسوا الآن من محل الإبتلاء لنا لندخل في البحث. وأما نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم، فإنه يشمله البحث لكونه إماماً أيضاً. وسنشير إلى علمه قبل البحث في علم أوصيائه.
2 ـ إن المراد من العلم الحضوري أو الإرادي والإشائي، هو: ما كان موهوباً من العلاّم سبحانه، ومستفاضاً منه بطريق الإلهام، او النقر في الأسماع، أو التعليم من الرسول، أو غير ذلك من الأسباب. وهذا العلم اختص به الإمام دون غيره من الأنام.
وليس المراد من العلم ها هنا ما حصل بالكسب من الإمارات والحواس الظاهرية والصنايع الإكتسابية، لاشتراك الناس مع الإمام في هذا العلم، لأنه تابع لاسبابه الإعتيادية، وهذا لا يختص بأحد. وهو بخلاف الأول، إذ لا يمنحه علام الغيوب إلا لمن أراد واصطفى.
3 ـ إن علم الله تبارك اسمه قديم وسابق على المعلومات ، وهو عين ذاته وعلة للمعلومات. وأما علم الإمام الحضوري، فلا يشارك علم الله سبحانه في شيء من ذلك، لأنه حادث ومسبوق بالمعلومات. وهو غير الذات فيهم، وليس بعلة للمعلومات. وإنما حضوره عندهم بمعنى انكشاف المعلومات لديهم فعلاً.
فلا ينبغي أن يتوهم ذو بصيرة بأنهم مشاركون له تعالى في هذه الصفة وأن القول بالحضوري من الشرك او الغلو، لاختلاف العلمين في الصفة.
على أنّ علمه تعالى ذاتي، وعلمهم عرضي موهوب وممنوح منه جل شأنه. فلم يبق مجال لدعوى اتحاد العلمين بتاتاً.
4 ـ إنّ المراد من العلم في المقام هو العلم في الموضوعات الخارجية الجزئية الصِّرفة، لا العلم في الموضوعات للأحكام الكلية. لأن جهل الإمام بها نقص في رتبته وحطّ من منزلته، وإنّ بيانها من خصائصه ووظيفته، ولا العلم في الأحكام، لأن الإمام لابد وأن يكون علمه فيها حضورياً إذ لا يجوز أن يسئل عن حكم لم يكن علمه لديه حاضراً، وإلا لم يكن الحجة على العباد ، بل ولبطلت إمامته.
5 ـ إنّ الكلام في علم الإمام يشمل العلم بالساعة والاجال والمنايا وغيرها مما ظاهره استئثاره به تعالى، والتي يجمعها قوله جل شأنه: «إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت» ، لأن النصوص الخاصة صريحة في أن الله تعالى أطلعهم على هذا
العلم، بل وبعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: «ولا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول» وبها نرفع اليد عن ظواهر الآيات، والروايات التي دلت على اختصاصه تعالى بها دون خلقه؛ او يحمل الإختصاص على العلم الذاتي دون العرضي.
علم النبي صلى الله عليية واله وسلم
قبل أن نبسط الكلام في علم الإمام، نسطر كلمة موجزة في علم الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن علم الرسول هو المنبع وعنه الصدور.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للعالم أجمع، وللخليقة التي على كرة المعمورة كافة، وما كانت شريعته لتعم البشر على اختلاف الألسنة، وتباين الطباع، وتغاير الألون، وتشاسع البلدان، إلا وهي صالحة لأن يكون نظامها العام الذي تنضوي تحت لوائه، والذي يوافق ك قطر، ويلائم كل جيل، ويجتمع مع كل لسان، من دون أن يكون لقطر أو جيل أو لسان ميزة على عداه «إنما المؤمنون إخوة» وليس لأخ فضل على أخيه، وإنما هم سواء في ذلك النظام العام. نعم إنما أقربهم إلى خالق السماء وبارىء النسيم منزلة، أطوعهم لامتثال أوامره، والإنتهاء عن زواجره «إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإن أولياؤه إلا المتقون» .
وما كان ذلك الرسول مبعوثاً بتلك الرسالة العامة للبشر: أبيضهم وأسودهم، شريفهم ووضيعهم، قريبهم وبعيدهم. من دون أن يكون القدير على تمشية ذلك النظام أو تطبيقه على الجميع، وتنفيذه فيهم كافة، بغير محاباة ولا مجاملة، او ميل لأحد على أحد، فيكون الكل لديه في الحق سواء، ولا تأخذه في الله لومة لائم. ولا فرق عنده في القيام بهذه المسؤولية العظمى والعبء الرازح، بين أن تكون دعوته قد عمّت البشر أجمع، وهيمنت على الكرة كلها، أو تكون مقصورة على إقليم خاص. ولو لم تكن له تلك الكفاءة والمقدرة، لما صلحت شريعته لأن تجمع العالم باسره تحت نظامها البديع وقانونها الباهر.
إن الهيمنة على الكرة بأسرها، وتعميم الشريعة للعالم أجمع، يتطلبان الكفاءة والمقدرة اللتين لا تكونان في العادة لبشر مهما كان له من العلم والقدرة، وقوة الفكر والمزاج، وإعتدال الطبايع.
إن الرسالة إصلاح للبشر وتسوية في الحقوق وعدل في الأمة ومن يرتدي هذه الحلة السماوية فلا يعدو أن يكون أهلاً للنهوض بهذه الأعباء الباهضة، وكيف يتبعث الله إنساناً بذلك العبء الثقيل، ولا يجعل فيه تلك القوى الجسيمة.
فلو كانت له السيطرة على أقصى البلاد التي لا تصل رسله إليها إلا بالشهور أو السنين، ولا تصل صرختهم إليه من ولاته ودعاته وجباته إلا بذلك الزمن البعيد، فكيف يكون عدله شاملاً وأمنه مستتباً، وفي يوم فيه عامله جائر وجابيه خائف وقاضيه ظالم، ولا تصله أخبارهم إليه ولا نجدته لهم ولا رفع الظلم عنهم والإنتصاف لهم من اولئك الخونة الجائرين إلا بعد إعلامه بالشأن، وإيقافه على الحال، وهو يتطلب ذلك الأمد الأبعد. نعم، لا بد وأن يكون لصاحب هذه الدعوى وتلك السيطرة، من العلم من لدن العلام جل وعلا، ما يحيط بالجليل والحقير والكبير والصغير، فيما تأتي به الحوادث في تلك البلاد قربت أو بعدت، ليتسنى له أن يتدارك الحيف ويرفع اظلم وينتقم من أهل العدوان، عند أول زمن. ولولا هذا العلم المحيط، وتلك القدرة على التنفيذ، لكانت الرسالة ناقصة والإصلاح والعدل غير شاملين. فعلم الرسول بالعالم، وإحاطته بما يحدث فيه. وقدرته على تعميم الإصلاح للداني والقاص والحاضر والباد. من أسس تلك الرسالة العامة، وقاعدة لزومية لتطبيق تلك الشريعة الشاملة.
غير أن الظروف لم تسمح لصاحب هذه الرسالة أن يظهر للأمّة تلك القوى القدسية. والعلم الرباني الفياض. وكيف يعلن بتلك المواهب والإسلام غض جديد. والناس لم تتعرف تعاليم الإسلام الفرعية بعد..؟ فكيف تقبل أن يتظاهر بتلك الموهبة العظمى، وتطمئن إلى الإيمان بذلك العلم؟ على أن سلطته ما اجتازت الجزيرة، وشريعته لم تهيمن على العرب كافة. دون سواهم من الأمم. بل ولم يكن كل قومه الذين انضووا تحت لوائه من ذوي الإيمان الراسخ. وما خضع البعض منهم للسلطة النبوية إلا بعد اللّتيا والتي وبعد الترهيب والترغيب. بل وكان البعض منهم يبطن الكفر ويظهر الإسلام رهبة أو رغبة «وممن حولك من الأعراب رجال منافقون. ومن أهل المدينة مردوا على النفاق» إلى غير هؤلاء ممن لم يعرف منزلة النبوة ولا يقوى على عرفانها. فكيف والحال كما وصفنا. يتسنى له العمل بكل ما أوتي من ميزة ولطف. ويقدر على إظهار كل موهبة.
وظيفة الخليفة
لما تجلّى لديك أن الرسول لابد وأن يتحلى بتلك الصفات السامية والمواهب الإلهية. ومن العلم والقوى العالية. اللذين يؤهلانه لأن يكون صاحب السلطتين الزمنية والروحية على الأرض كلها، وأن يكون إصلاحه وعدله مخيمين على البسيطة أجمع، مسيراً لشؤون العالم. من دون أن يعاني التعب في البعيد دون القريب، والجهد في القاصي دون الداني بل هو في ذلك كله على نهج واحد. وأن أمد الرسول منقضٍ مهما طال. وجب أن يكون له خليفة ينهض بجمع الناس، وتسييرهم تحت لواء واحد. وتطبيق نظام الشريعة عليهم، وقيامه بما قام به الرسول من إفشاء العدل والإصلاح. واستتباب الأمن.
فالخلافة وظيفة تنوب عن الرسالة وتنهض بعبئها الباهض. سوى مقام النبوة والتشريع، ولو لم يكن للخليفة تلك الملكة السامية القدسية السماوية، من العلم بما يحدث في العالم، ليسير بها على سنن العدل ومناهج الإصلاح، ومن القوى النفسية التي يستطيع بها على تمشية ذلك النظام الآلهي من دون ملل أو كلل. أو سأم وبرم، أو ميل لقريب وحبيب أو ميل على بعيد وغريب، لما حصل الغرض الأقصى من لطف الرسالة، ولذهبت الدعوة النبوية أدراج الرياح، فإن ما جاء به الرسول عن الجليل تعالى من الأحكام، وتطبيقها على المجتمع البشري لم يكن مقصوراً على زمن الرسالة وأهل أوانها فحسب، بل هو عام لكل قوم وجيل وزمان ومكان «إنما أنت منذر ولكل قوم هاد» فتطبيق ما صدع به الرسول بعد عصر الرسالة يحتاج إلى ذلك الخبير في كل وقت وحين بتلك الأحكام كما أنزلت؛ وبذلك النظام كما صدع به، وبما يحدث في العالم، كما كان عليه الرسول، لتعميم العدل والأمن، وتنفيذ أحكام الشريعة، وذلك الخبير هو الهاد بعد المنذر، من دون فصل، ومن دون استثناء زمن، ولولا ذلك الخبير الهاد ـ إذا أطيع ـ لدخلت الأهواء الباطلة والآراء الضالة، في تلك الأحكام وذلك النظام، فتصبح الأمة مذاهب وشيعاً. واحزاباً وفرقاً.
وهل وقعت في هذه الحبائل إلا حين صفحت عن ذلك الطَّبن بأمور الدنيا والدين، وصافحت من هو في أمس الحاجة إلى الإرشاد والاصلاح وإقالة العثرات «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع. أمَّن لا يهدي إلا أن يهدى» .
وخلاصة الكلام أن الخلافة تسيير لنظام الرسالة. ونهوض بعبئها من كافة الجهات، حذو القذة بالقذة، إلا ما كان من الوحي ومقام الرسالة الخاص.
ولو لم يكن في الأمة من يقوم بهذه المهمة العظمى، لذهب فضل الرسالة، ولم يعرف شأوها الرفيع، ولخابت تلك الجهود الكبيرة من صاحب الرسالة، لقصور الأمة عن عرفان تلك السنن، وتمشيتها على الوجه الأكمل.
وهل أحد غير ذلك الخليفة خبير بالشريعة الحقة وقدير على تغذيتها؛ كما شاء الشارع وأراد الصادع..؟ وهل احد سواه يقوى على قمع الباطل وقطع حجج ذوي الضلال..؟
الخلافة وأهل البيت
لم نقصد بما سلف إثبات الخلافة لأهل البيت ونفيها عن غيرهم، وإنما أردنا البرهان على ما يجب أن يتصف به الخليفة، فلو استلزم هذا البيان حصرها فيهم، فليس مقصوراً بالأهل ومنظوراً بالبحث.
إن إمامة أهل البيت معتقد فرقة إسلامية، ذات العدة والعدد والعلم والعمل. ولها في هذا الميدان الحلبة والواسعة والحجج القويمة، من لدن أن وجدت الإمامة والخلافة حتى هذه الساعة.
ومهما كان الأمر، فإن الخليفة ـ كما قلنا ـ لابد وأن يتقمص بتلك الخلال الكريمة من العلم الذي لا يحصل في العادة بالكسب والتعلم؛ ومن القوى التي لا توجد عادة في إنسان قط وإن أمكن عقلاً، وإنما هو من الفيوضات الربانية والمواهب السماوية.
ومن لم تكن فيه تلك المنح، فلا يقدر على تأدية ذلك الواجب. وإن صفح الناس عمن اتصف بتلك السمات لا يمس بكرامته، ولا يغض من مقامه، بل يعود وباله على من أعرض عنه، لأنه انما أعرض عن حظه من العدل والصلاح والهداية والفلاح.