النجف الاشرف
24-01-2009, 08:58 PM
السلام عليكم
اللهم صلٍ على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف ....
الطريق الأول:
الحضوري أنفع للأمة
لقد قامت الحجج النيرة والبراهين العقلية، على ان الرسول لا بد له من خليفة يجمع شمل الأمّة، لئلا تتفرق عن الحق، بعد اجتماعها عليه. وهل يجمع شملها إلا ذلك القائم مقام الرسول؟
كما دلت البراهين على أنّ الخليفة لابد وأن يتحلى بالصفات التي تؤهله لان يقوم مقام صاحب الرسالة، لئلا يعجز عن إدارة شؤون الأمّة، وعن دحض مزاعم أهل الأهواء الفاسدة، والعقائد الباطلة، بالبراهين القاطعة والحجج الحقة. فإن عجز عادت الأمَّة شيعاً وشعباً، ومللاً ونحلاً.
وكما دلت على أن يكون له من العلم، بمقدار ما يمكن أن يمتد إليه سلطانه، ويهيمن عليه نظام الشريعة. ولا يمكن أن يخيِّم العدل والإصلاح والأمن، وذلك النظام على كرة الأرض ما لم يكن لذلك القائم بالأمر علم بما يحدث في هاتيك البقاع والأصقاع.
ولا بد أن يكون علمه بالحوادث: كعلمه في سائر الفنون والاديان والمعارف والأحكام. وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو الحجة على العالم، والمؤدي عن صاحب الدعوة، والقائم بوظيفته.
ولو كان جاهلاً ببعض تلك الشؤون، أو كلها، لما صلح لأن يؤدي عن الرسول، ويقوم مقامه، ويكون حجة الله على العالم، الذي يحتج به على أهل الملل والأديان، وذوي الأهواء والآراء، والأضاليل والأباطيل وكيف يحتج الله على عباده بذوي الجهل، ومن لا فقه له، ولا علم لديه؟ وان سئل عن شيء صمت، او نطق أعرب بقوله عن جهله.
وجملة القول أنّ الإمامة ضرورية للأمّة، وأنّ الأمام لا بد له من ذلك العلم الزاخر المستمد من ينبوع علم العلام تعالى.
ولو لم يكن في الأمّة إمام على هذه الصفة، لما قامت لله الحجة البالغة على خلقه بعد الرسول، إذ لا تقوم الحجة بذوي الجهل.
فإذا كان أهل البيت هم الأئمة حقاً والخلفاء صدقاً، فلا بد أن يكونوا علماء بكل شيء علماً حضورياً مما كان ويكون وما هو كائن، وفي كل فن وحكم وأمر. فلا يجوز أن يسأل الإمام عن شيء مهما كان، ولا يكون عنده علمه، ولا يحدث شيء وهو غير خبير به، لتكون لله تعالى به الحجة البالغة على خلقه، كما كانت لصاحب الرسالة.
ولولا الإمام لانقطع أثر الرسالة العظيم، ولم تلمس الناس جدواها الجليلة في العاجل والآجل. إلى غير هذا مما يستلزم إضعاف شأن الرسألة وعدم سراية نفعها.
وإذا أبت الظروف أن تسمح لذلك الأمام باظهار ما أودعه العلام
سبحانه عنده من جليل علمه، وأسرار حكمه. فلا يكون معنى ذاك أنه ليس لديه هذا العلم، والوجدان خير مرشد إلى هذا الوجود، لظهوره أحياناً على أفعال ذلك الأمام وأقواله، ومحاوراته ومناظراته.
وإذا أضاعت الناس تلك المنفعة الجليلة من مخزون علم الإمام، وصالح إرشاده وجميل إصلاحه بإعراضهم عنه وإقبالهم على سواه. فلا يكون معنى ذلك أنه لا فائدة مهمة بعلمه، لأن الفائدة الجليلة إنما ضاعت بما اختاره الناس لأنفسهم. فإن من يضع على عينيه غشاوة لئلا يبصر القمر ونوره، فلا يعدم ذلك نور القمر، وإنما يعدم الإنتفاع بذلك النور بسوء ما اختار. ولولا هذه الإضاعة وتلك الغشاوة، للمسوا تلك الجدوى، ولاهتدوا بذلك النور.
نعم! لو كان الإمام صاحب السيف والصولجان، وكانت الوسادة مثنية له، لظهر علمه ناصعاً، تبصره كل عين، وتلمس آثاره كل يد. ولم يملك من أئمة أهل البيت عليهم السلام أزمة الأمور إلا أمير المؤمنين عليه السلام أربعة سنين وأشهراً. وأنت تعلم كيف لاقى من الأمة من النزاع والصراع والقراع. ومع ذلك فقد ظهرت له في هذه المدة الوجيزة من الفضائل والعلوم ما ملأ الخافقين. وهي وإن كانت غيضاً من فيض، إلا أنها أدهشت العقول وأحارت الألباب، حتى دعت بعض الضعفاء في البصائر إلى الغلوُّ فيه ورفعه عن مستوى البشر إلى منزلة الألوهية. فكيف تراهم لو أبدى جميع المكنون من علمه، والمخزون من حكمه وحكمه.
الطريق الثاني:
الحضوري أكمل في الرسالة والإمامة
إن الأكمل في الرسالة والإمامة أن تكون الصفات في الرسول والإمام أتم الصفات، ولا تكون أتمها ما لم يكن علمه حضورياً غير معلق على الإشاءة والإرادة، لأن العلم المعلق على الإشاءة كمال لا أكمل، وفضيلة لا أفضل. الطريق الثالث:
الحضوري أسبغ في النعمة.
إن إرسال الرسل والأنبياء، وإقامة الأئمة والأوصياء، من النعم التي أسبغها المولى تعالى على عبيده، والتي يجب أن يشكرها العباد دوماً، معترفين بفضلها مقرين بجزيلها. وهل الأجود في هذه النعم التي منّ بها اللطيف سبحانه على عبادة أن تكون على أتم حاله وأكمل صنعه وأحسن صبغته، مع قدرته جل شأنه على هذه الأتمية، وعدم المانع عن إيجادها على الصفة الأكملية والصبغة الأحسنية. أو تكون على صفة التمام والكمال لا الأتمية والأكملية.
لا يرتاب العقل في أنّه من كمال المنة في أن تكون النعمة أسبغ،
والصفة أفضل والصبغة أحسن، كما لا يشك في أن العلم الحضوري هو الأسبغ في النعمة، والأكمل في الصنعة، والأفضل في الصفة، مع قابلية المحل والحاجة إليه. الطريق الرابع:
الحضوري أتم في القدرة
لا يشك العقل في أن الله جلت قدرته قادر على أن يجعل رسوله المصطفى وأوصياءه الأصفياء، على أكمل صنعة وأزكى نقيبة وأنفس صفة كما لا يرتاب في أنّ جعلهم على ذلك الكمال الأرفع والفضل الأسمى لا مانع يحجز دونه ولا حائل يقف أمامه.
فلأي شيء إذاً لا يجري الله سبحانه قدرته في صفوته من بريته على ذلك الصنع الأكمل والشأن الأفضل. حين لا مانع عن أجراء تلك القدرة الفضلى. الطريق الخامس:
الحضوري أكمل في اللطف
إن إرسال الرسل، وجعل الحجج، وإقامة البيِّنات؛ لطف منه
جل شأنه. وهل الأكمل في اللطف أن يكون على أجمل صورة، وأفضل صنعة وأكمل تركيب، أو أن يكون على وجه يحصل به اللطف من الجمال في الصورة، والكما في التركيب، والفضل في الصنعة، والحجة في الدلالة غير أنه على غير الأعلى والأسمى، والأتم في الحجة، والأكمل في الدلالة لا يشكل العقل في أنّ اللطيف جل لطفه إنما يجري نعمه وألطافه، وحججه وآياته على الأتم الأرفع، الأجمل الأسبغ.
والعقل، وإن لم يصل إلى جميع المصالح والحكم التي بنى عليها الحكيم تعالى أفعاله وصنايعه، إلا أنه على يقين لحسن الظن به سبحانه بأنه جل شأنه قد بنى سائر أعماله على الحكمة والصلاح، وأنَّ الأنسب بحكمته مع سعة قدرته أن تكون مصنوعاته وصنايعه على الوجه الأكمل وبيناته وآياته على النحو الأتم، وبنيانه على الأمتن الأقوى. الطريق السادس:
الأولى في الإمام اختيار الأفضل
إن النفس ـ ولا سيما الحساسة ـ التي نقت من دون الفضائل، وتحلت بجميل الفضائل والتي تستطيع بتلك الملكة القدسية أن تغتنم كل فضيلة، لا ريب في أنها تطمح إلى أفضل السمات وأشرف
الصفات. ولأي شيء لا تختار تلك المنزلة العليا والصفة الفضلى إذا كان لها الإختيار، ولم يكن ثمة حائل دون ما تختار، ولو لم تختر هاتيك الرتبة السامية لاعتقدنا بأن هناك قصوراً في الإدراك وضعفاً في الحس، وأنّها ليست كما يعتقد بها من ذلك السمو والتجرد والقدرة والإختيار.
ولا ريب في أن الحضوري أفضل من الإرادي. وإذا كان اختيار الاول راجعاً إلى الرسول أو الإمام نفسه. فلم لا يختار الأكمل، ويريد الأفضل. وأي نفس قدسية وملكة فردوسية، لا تختار الأسمى محلاً والأعلى رتبة. الطريق السابع:
الحضوري أبلغ في المثالية
إن صفات الرسول وأوصيائه مثال لصفات الجليل تبارك اسمه ولا شبهة في أنّ الأبلغ في المثالية أن تكون صفاتهم أكمل الصفات، وخصا لهم أفضل الخصال فالعلم الحضوري هو الأولى. لأنّه الأبلغ في المثالية.
وأما أن صفاتهم مثل لصفات الخالق تعالى، فهو ما يشهد له العقل والنقل.
أما النقل فكثير، ومنه قول امير المؤمنين علي عليه السلام: «نحن صنائع الله؛ والناس بعد صنائع لنا». وتحليله أن يقال: إن الله تعالى شأنه لما احب أن يعرف خلق الخلق ليعرف، ولما أحس البشر أنّ لهم خالقاً خلقهم، ومصوراً أوجدهم، أرادوا أن يعرفوه وكيف بعد أن اوصلهم الحس إلى وجود الخالق لهم لهم لا تندفع نفوسهم إلى عرفانه. والمعرفة أساس الإتصال بين الخالق والمخلوق.
فكان ظهوره جل وعز أكشف للسر وأجلى للغشاء. ولما استحال ظهوره تعالى بنفسه لزم أن يظهر لعباده بصفاته، ولقصور العقول عن الإحاطة بغالي تلك الصفات. ولتقريب الأمر إليهم عن كثب. خلق لهم بشراً منهم يمثل لهم تلك الصفات السامية لذاته تعالى بما اتصفوا به من جميل الخصال.
وهل يا ترى خلق خلقاً أفضل في الصفات وأجمل في الخصال من نبينا الأكرم وأوصيائه الأمناء، فكانوا أحق البشر في أن يمثِّلوا صفاته القدسية. ولولا هؤلاء لما حصل الغرض من خلق الخلق، لعدم معرفتهم به تكل المعرفة المطلوبة، بدون أن يكونوا ممثلين لصفاته، فلذا كان خلق الخلق لأجل اولئك الذين مثَّلوه، ليحصل بذلك عرفانه، فكان الناس الصنايع لأجلهم.
وأما العقل، فهو بعد أن أدرك أن لهذا العالم الملموس موجداً ابتدعه يلتمس الوصول إليه. والاهتداء إلى الوقوف عليه. وبالآثار يتعرف ذلك المبدع الموجد. وأقربها إلى حسه أن يكون له مثال يكشف عن
سمو صفاته، بعد أن تعذّر عليه الوصل إلى قدسي ذاته.
فإذا عرفنا بالآثار أنّ خاتم الأنبياء وأوصياءه النجباء أكلم العالم صفاتاً وأفضلهم أعمالاً. عرفنا أن المثالية فيهم أتم وهل الأجدر فيها أن تكون على الطراز الأعلى والسنام الأرفع. أم على وجه لا يخلو من قصور…؟ ترى أنّ العقل يتردد في أختيار الغرار الأفضل للتمثيل، والطراز الأتم للتعريف. الطريق الثامن:
الحضوري أبلغ في الدلالة
إن الرسول الأمين وخلفاءه الأمناء؛ أدلاء على الموجد سبحانه، المتفضل بسوابغ النعم التي تفوت حد الإحصاء.
والدليل يجب ـ بحكم العقل ـ أن يكون صالحاً للقيام بوظيفته… وهل الأبلغ في الدلالة، والأمثل في الإشارة أن يكون الدليل على أحسن سمة وأفضل صفة، أو يكفي فيه أن يتحلى بمحاسن الخصال، وإن كان ثمة ما هو أرفع مقاماً، وأعلى منزلة؟
لا يشك العقل في أن الأجدر في الدليل أن يكون أعلى منزلة، إذا كان المدلول عليه لا يحيط به الوصف، ولا يصل إلى كنهه الحس، ليكون أقرب إلى الإشارة في تعريفه. واقدر على البيان في وصفه.
الطريق التاسع:
ذو العلم الحضوري أسلم عن الإنخداع
إذا لم تكن الضمائر متجلية للإمام، ولا الدفائن منكشفة له، جاز أن لا يعرف المؤمن من المنافق والسليم من السقيم. حينما يتساوى الجميع في المظاهر الجميلة، ويتنافسون في الأعمال الجليلة.
وما الذي ـ عند ذلك ـ يحجز عن انخداعه بذلك الجمال البارز، فيمنعه عن الوقوع في الأخطار، وإيقاع سواه في المهالك. كل ذلك ركونا إلى تلك الصور الجميلة، وإعتماداً على ذلك الحسن الفاتن.
وأما إذا كان علمه حضورياً فلا تخفى عليه دخائل الصدور وخبايا الزوايا فكيف يغتر بالجمال الظاهر، أو يفتتن بالبيان الساحر؟ فصاحب العلم الحاضر أسلم عن الإنخداع وأبعد عن الإفتتان. الطريق العاشر:
لابد أن يكون علم السفير والشهيد حضورياً
إن النبي وخلفاءه الأئمة سفراء الله في الناس وأمناؤه على خلقه،
وشهداؤه عليهم، وكيف يكون الشهيد على الناس والسفير فيهم والأمين عليهم، ومن لا يعلم شيئاً من حالهم، ولا يدري ما ذا كان عملهم، ولا يكون خبيراً بما تجنّه ضمائرهم، وتطويه سرائرهم..؟
فلو كان علمه حضورياً، لحقَّ أنَّ يكون الشهيد على الأمَّة المخبر عما تعمله، والامين على العالم الناصح لهم، والسفير فيهم، والوسيط بينه تعالى وبينهم، والمبلغ عنه أحكامه تعاليمه، وعنهم الطاعة أو العصيان.
هذا بعض ما سنح في الفكر من تقريب العقل للحضوري؛ وتقديمه على الإشائي ولو أردنا بسط البحث، لكانت الأدلة أكثر.. وبما سبق كفاية.
هل هناك حكم عقلي معارض؟
إنا لو أطلنا التفكير في هذا الشأن، وأجلنا النظر في أطرافه، لم نجد برهاناً للعقل يدفع ما سلف، ويهدم أساس ذلك البناء الرصين.
نعم أقصى ما يمكن أن يدّعي نهوضه للمقاومة، أمور ثلاثة: ـ
الأول ـ أن العقل يستعظم ذلك المقام، ويستكبر تلك المنزلة، حتى يكاد أن يلحق ذلك الزعم بالغلو.
الثاني ـ لو كان علمهم حضورياً لا لتمست آثاره، وسمعت أخباره. وكيف تخفي مثل هذه الخلة العظيمة؟
الثالث ـ اية جدوى ملموسة، لو كانت لهم تلك الملكة النفسيّة. وهم لا يقوون على إعمالها؟ وأية فائدة محسوسة. إذا كانوا على تلك الصفة وهم لا يستطيعون أن يتظاهروا بها. الجواب عن الأول:
إن الإستعظام أو الإستبعاد ليسا من البراهين لتقوم بدفع ما سلف على أنًّ مثل الإستكبار لو فرض وقوعه من العقل. فهو عند أول نظرة، وحين عرض هذه الخلة. قبل الروّية والسير لما سجله العقل من الحجج وأتى به من الشواهد المقربة..
ولو فطن إلى أنّ الحضوري ممكن بنفسه لا مانع من اتصافهم به بل
وكان الأجدر بهم. وألانسب لمقامهم، لما وجد مجالاً للإستبعاد. ومحلاً للاستعظام.
وأما الغلو فلا مورد له. بعد ما أسلفنا بيانه في المقدمة الثالثة من الفرق بين علمه تعالى وعلم الإمام على تقدير كونه حضورياً. الجواب عن الثاني:
إن مشاهدة الأثر لذلك العلم الحضوري لا يختلف فيه إثنان. إلا من يريد الحط من مقام الأئمة ودفع تلك المنزلة من العصمة.
ومثل هؤلاء لا نقف معهم في مثل هذا الموقف. ولا نخوض وإياهم في مثل هذا البحث. ونكران المشاهدة مكارة محضة.
ومن أين ذهب بعض الضعاف في البصائر إلى القول بألوهيتهم لو لم يكن هناك ما يشاهدون من الآثار التي لم تتحملها عقولهم.
وهذه كتب الفضائل بين يديك تعطيك مثالاً صالحاً لذلك العلم. فكم أخبروا عما ات وعما هو فات. وكم حدَّثوا رجلاً عما ارتكب من فعل وعما نوى في نفسه، واختلج في صدره.
ولولا الإطالة لأتينا لكل إمام من ذلك طرفاً مستملحة. وإنَّ الكتب المعدة لسرد أحوالهم أشارت إلى شيء من تلك النوادر، وكفى منها: إرشاد الشيخ المفيد، وكشف الغمة، ومناقب ابن شهراشواب، وأصول الكافي في باب مواليدهم، وبصائر الدرجات والخرائج والجرائح وروضة الكافي، وجمع شطراً منها صاحب مدينة المعاجز.
الجواب عن الثالث:
إن تلبُّسهم بتلك الخصال الكريمة وإن كان لنفع البشر، إلا أنّ الناس إذا انصرفوا عن نور الحق، وتسكعوا في وهدة الباطل، بسوء الإختيار منهم، فأي تقصير يكون لمن تقمَّص بذلك الخلق الكريم، إذا لم يجد مساغاً لإظهار علمه، وإبراز ما يحمل من الهدى والرشاد..؟
ولو صح مثل هذا النقض لبطلت النبوات والشرائع، لصفح النسا عن اولئك الهداة، وإعراضهم عن هاتيك الأحكام الآلهية. بل لبطل خلق الخلق، لأنّهم لم يعرفوا الحق كما يحق ولم يعبدوه كما يجب.
نعم! لو ثُنيت الوسادة لأولئك المرشدين لعرفت الناس منازلهم حقاً ولظهرت آثارهم واضحة. ولكن كيف يمكنهم أن يعلنوا بما تضم جوانحهم، والناس مصرة على الإعراض عنهم، وعدم الاهتداء بنورهم والإنتفاع بعلمهم؛ بل والسيوف مجردة فوق رؤوسهم، إن فاه أحدهم بمكنون علمه، أو أظهر كرامة، أو أقام حجة، لم يجد ما يشيم عنه ذلك الصارم، أو يقف دون حده.
حتى أن الباقر عليه السلام قال: «لو كانت لألسنتكم أوكية لحدثت كلَّ امرىء بما له وعليه.. » وحتى قال الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق: «يابن النعمان إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم..» إلى كثير من أمثال هذا.فكانت المخاوف من جهة، وعدم تحمل الناس ذلك من جهة أخرى، إلى ما سوى هذه الجهات ، صوارفاً فألهم في إبداء ما منحوا من تلك الكرامة
اللهم صلٍ على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف ....
الطريق الأول:
الحضوري أنفع للأمة
لقد قامت الحجج النيرة والبراهين العقلية، على ان الرسول لا بد له من خليفة يجمع شمل الأمّة، لئلا تتفرق عن الحق، بعد اجتماعها عليه. وهل يجمع شملها إلا ذلك القائم مقام الرسول؟
كما دلت البراهين على أنّ الخليفة لابد وأن يتحلى بالصفات التي تؤهله لان يقوم مقام صاحب الرسالة، لئلا يعجز عن إدارة شؤون الأمّة، وعن دحض مزاعم أهل الأهواء الفاسدة، والعقائد الباطلة، بالبراهين القاطعة والحجج الحقة. فإن عجز عادت الأمَّة شيعاً وشعباً، ومللاً ونحلاً.
وكما دلت على أن يكون له من العلم، بمقدار ما يمكن أن يمتد إليه سلطانه، ويهيمن عليه نظام الشريعة. ولا يمكن أن يخيِّم العدل والإصلاح والأمن، وذلك النظام على كرة الأرض ما لم يكن لذلك القائم بالأمر علم بما يحدث في هاتيك البقاع والأصقاع.
ولا بد أن يكون علمه بالحوادث: كعلمه في سائر الفنون والاديان والمعارف والأحكام. وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو الحجة على العالم، والمؤدي عن صاحب الدعوة، والقائم بوظيفته.
ولو كان جاهلاً ببعض تلك الشؤون، أو كلها، لما صلح لأن يؤدي عن الرسول، ويقوم مقامه، ويكون حجة الله على العالم، الذي يحتج به على أهل الملل والأديان، وذوي الأهواء والآراء، والأضاليل والأباطيل وكيف يحتج الله على عباده بذوي الجهل، ومن لا فقه له، ولا علم لديه؟ وان سئل عن شيء صمت، او نطق أعرب بقوله عن جهله.
وجملة القول أنّ الإمامة ضرورية للأمّة، وأنّ الأمام لا بد له من ذلك العلم الزاخر المستمد من ينبوع علم العلام تعالى.
ولو لم يكن في الأمّة إمام على هذه الصفة، لما قامت لله الحجة البالغة على خلقه بعد الرسول، إذ لا تقوم الحجة بذوي الجهل.
فإذا كان أهل البيت هم الأئمة حقاً والخلفاء صدقاً، فلا بد أن يكونوا علماء بكل شيء علماً حضورياً مما كان ويكون وما هو كائن، وفي كل فن وحكم وأمر. فلا يجوز أن يسأل الإمام عن شيء مهما كان، ولا يكون عنده علمه، ولا يحدث شيء وهو غير خبير به، لتكون لله تعالى به الحجة البالغة على خلقه، كما كانت لصاحب الرسالة.
ولولا الإمام لانقطع أثر الرسالة العظيم، ولم تلمس الناس جدواها الجليلة في العاجل والآجل. إلى غير هذا مما يستلزم إضعاف شأن الرسألة وعدم سراية نفعها.
وإذا أبت الظروف أن تسمح لذلك الأمام باظهار ما أودعه العلام
سبحانه عنده من جليل علمه، وأسرار حكمه. فلا يكون معنى ذاك أنه ليس لديه هذا العلم، والوجدان خير مرشد إلى هذا الوجود، لظهوره أحياناً على أفعال ذلك الأمام وأقواله، ومحاوراته ومناظراته.
وإذا أضاعت الناس تلك المنفعة الجليلة من مخزون علم الإمام، وصالح إرشاده وجميل إصلاحه بإعراضهم عنه وإقبالهم على سواه. فلا يكون معنى ذلك أنه لا فائدة مهمة بعلمه، لأن الفائدة الجليلة إنما ضاعت بما اختاره الناس لأنفسهم. فإن من يضع على عينيه غشاوة لئلا يبصر القمر ونوره، فلا يعدم ذلك نور القمر، وإنما يعدم الإنتفاع بذلك النور بسوء ما اختار. ولولا هذه الإضاعة وتلك الغشاوة، للمسوا تلك الجدوى، ولاهتدوا بذلك النور.
نعم! لو كان الإمام صاحب السيف والصولجان، وكانت الوسادة مثنية له، لظهر علمه ناصعاً، تبصره كل عين، وتلمس آثاره كل يد. ولم يملك من أئمة أهل البيت عليهم السلام أزمة الأمور إلا أمير المؤمنين عليه السلام أربعة سنين وأشهراً. وأنت تعلم كيف لاقى من الأمة من النزاع والصراع والقراع. ومع ذلك فقد ظهرت له في هذه المدة الوجيزة من الفضائل والعلوم ما ملأ الخافقين. وهي وإن كانت غيضاً من فيض، إلا أنها أدهشت العقول وأحارت الألباب، حتى دعت بعض الضعفاء في البصائر إلى الغلوُّ فيه ورفعه عن مستوى البشر إلى منزلة الألوهية. فكيف تراهم لو أبدى جميع المكنون من علمه، والمخزون من حكمه وحكمه.
الطريق الثاني:
الحضوري أكمل في الرسالة والإمامة
إن الأكمل في الرسالة والإمامة أن تكون الصفات في الرسول والإمام أتم الصفات، ولا تكون أتمها ما لم يكن علمه حضورياً غير معلق على الإشاءة والإرادة، لأن العلم المعلق على الإشاءة كمال لا أكمل، وفضيلة لا أفضل. الطريق الثالث:
الحضوري أسبغ في النعمة.
إن إرسال الرسل والأنبياء، وإقامة الأئمة والأوصياء، من النعم التي أسبغها المولى تعالى على عبيده، والتي يجب أن يشكرها العباد دوماً، معترفين بفضلها مقرين بجزيلها. وهل الأجود في هذه النعم التي منّ بها اللطيف سبحانه على عبادة أن تكون على أتم حاله وأكمل صنعه وأحسن صبغته، مع قدرته جل شأنه على هذه الأتمية، وعدم المانع عن إيجادها على الصفة الأكملية والصبغة الأحسنية. أو تكون على صفة التمام والكمال لا الأتمية والأكملية.
لا يرتاب العقل في أنّه من كمال المنة في أن تكون النعمة أسبغ،
والصفة أفضل والصبغة أحسن، كما لا يشك في أن العلم الحضوري هو الأسبغ في النعمة، والأكمل في الصنعة، والأفضل في الصفة، مع قابلية المحل والحاجة إليه. الطريق الرابع:
الحضوري أتم في القدرة
لا يشك العقل في أن الله جلت قدرته قادر على أن يجعل رسوله المصطفى وأوصياءه الأصفياء، على أكمل صنعة وأزكى نقيبة وأنفس صفة كما لا يرتاب في أنّ جعلهم على ذلك الكمال الأرفع والفضل الأسمى لا مانع يحجز دونه ولا حائل يقف أمامه.
فلأي شيء إذاً لا يجري الله سبحانه قدرته في صفوته من بريته على ذلك الصنع الأكمل والشأن الأفضل. حين لا مانع عن أجراء تلك القدرة الفضلى. الطريق الخامس:
الحضوري أكمل في اللطف
إن إرسال الرسل، وجعل الحجج، وإقامة البيِّنات؛ لطف منه
جل شأنه. وهل الأكمل في اللطف أن يكون على أجمل صورة، وأفضل صنعة وأكمل تركيب، أو أن يكون على وجه يحصل به اللطف من الجمال في الصورة، والكما في التركيب، والفضل في الصنعة، والحجة في الدلالة غير أنه على غير الأعلى والأسمى، والأتم في الحجة، والأكمل في الدلالة لا يشكل العقل في أنّ اللطيف جل لطفه إنما يجري نعمه وألطافه، وحججه وآياته على الأتم الأرفع، الأجمل الأسبغ.
والعقل، وإن لم يصل إلى جميع المصالح والحكم التي بنى عليها الحكيم تعالى أفعاله وصنايعه، إلا أنه على يقين لحسن الظن به سبحانه بأنه جل شأنه قد بنى سائر أعماله على الحكمة والصلاح، وأنَّ الأنسب بحكمته مع سعة قدرته أن تكون مصنوعاته وصنايعه على الوجه الأكمل وبيناته وآياته على النحو الأتم، وبنيانه على الأمتن الأقوى. الطريق السادس:
الأولى في الإمام اختيار الأفضل
إن النفس ـ ولا سيما الحساسة ـ التي نقت من دون الفضائل، وتحلت بجميل الفضائل والتي تستطيع بتلك الملكة القدسية أن تغتنم كل فضيلة، لا ريب في أنها تطمح إلى أفضل السمات وأشرف
الصفات. ولأي شيء لا تختار تلك المنزلة العليا والصفة الفضلى إذا كان لها الإختيار، ولم يكن ثمة حائل دون ما تختار، ولو لم تختر هاتيك الرتبة السامية لاعتقدنا بأن هناك قصوراً في الإدراك وضعفاً في الحس، وأنّها ليست كما يعتقد بها من ذلك السمو والتجرد والقدرة والإختيار.
ولا ريب في أن الحضوري أفضل من الإرادي. وإذا كان اختيار الاول راجعاً إلى الرسول أو الإمام نفسه. فلم لا يختار الأكمل، ويريد الأفضل. وأي نفس قدسية وملكة فردوسية، لا تختار الأسمى محلاً والأعلى رتبة. الطريق السابع:
الحضوري أبلغ في المثالية
إن صفات الرسول وأوصيائه مثال لصفات الجليل تبارك اسمه ولا شبهة في أنّ الأبلغ في المثالية أن تكون صفاتهم أكمل الصفات، وخصا لهم أفضل الخصال فالعلم الحضوري هو الأولى. لأنّه الأبلغ في المثالية.
وأما أن صفاتهم مثل لصفات الخالق تعالى، فهو ما يشهد له العقل والنقل.
أما النقل فكثير، ومنه قول امير المؤمنين علي عليه السلام: «نحن صنائع الله؛ والناس بعد صنائع لنا». وتحليله أن يقال: إن الله تعالى شأنه لما احب أن يعرف خلق الخلق ليعرف، ولما أحس البشر أنّ لهم خالقاً خلقهم، ومصوراً أوجدهم، أرادوا أن يعرفوه وكيف بعد أن اوصلهم الحس إلى وجود الخالق لهم لهم لا تندفع نفوسهم إلى عرفانه. والمعرفة أساس الإتصال بين الخالق والمخلوق.
فكان ظهوره جل وعز أكشف للسر وأجلى للغشاء. ولما استحال ظهوره تعالى بنفسه لزم أن يظهر لعباده بصفاته، ولقصور العقول عن الإحاطة بغالي تلك الصفات. ولتقريب الأمر إليهم عن كثب. خلق لهم بشراً منهم يمثل لهم تلك الصفات السامية لذاته تعالى بما اتصفوا به من جميل الخصال.
وهل يا ترى خلق خلقاً أفضل في الصفات وأجمل في الخصال من نبينا الأكرم وأوصيائه الأمناء، فكانوا أحق البشر في أن يمثِّلوا صفاته القدسية. ولولا هؤلاء لما حصل الغرض من خلق الخلق، لعدم معرفتهم به تكل المعرفة المطلوبة، بدون أن يكونوا ممثلين لصفاته، فلذا كان خلق الخلق لأجل اولئك الذين مثَّلوه، ليحصل بذلك عرفانه، فكان الناس الصنايع لأجلهم.
وأما العقل، فهو بعد أن أدرك أن لهذا العالم الملموس موجداً ابتدعه يلتمس الوصول إليه. والاهتداء إلى الوقوف عليه. وبالآثار يتعرف ذلك المبدع الموجد. وأقربها إلى حسه أن يكون له مثال يكشف عن
سمو صفاته، بعد أن تعذّر عليه الوصل إلى قدسي ذاته.
فإذا عرفنا بالآثار أنّ خاتم الأنبياء وأوصياءه النجباء أكلم العالم صفاتاً وأفضلهم أعمالاً. عرفنا أن المثالية فيهم أتم وهل الأجدر فيها أن تكون على الطراز الأعلى والسنام الأرفع. أم على وجه لا يخلو من قصور…؟ ترى أنّ العقل يتردد في أختيار الغرار الأفضل للتمثيل، والطراز الأتم للتعريف. الطريق الثامن:
الحضوري أبلغ في الدلالة
إن الرسول الأمين وخلفاءه الأمناء؛ أدلاء على الموجد سبحانه، المتفضل بسوابغ النعم التي تفوت حد الإحصاء.
والدليل يجب ـ بحكم العقل ـ أن يكون صالحاً للقيام بوظيفته… وهل الأبلغ في الدلالة، والأمثل في الإشارة أن يكون الدليل على أحسن سمة وأفضل صفة، أو يكفي فيه أن يتحلى بمحاسن الخصال، وإن كان ثمة ما هو أرفع مقاماً، وأعلى منزلة؟
لا يشك العقل في أن الأجدر في الدليل أن يكون أعلى منزلة، إذا كان المدلول عليه لا يحيط به الوصف، ولا يصل إلى كنهه الحس، ليكون أقرب إلى الإشارة في تعريفه. واقدر على البيان في وصفه.
الطريق التاسع:
ذو العلم الحضوري أسلم عن الإنخداع
إذا لم تكن الضمائر متجلية للإمام، ولا الدفائن منكشفة له، جاز أن لا يعرف المؤمن من المنافق والسليم من السقيم. حينما يتساوى الجميع في المظاهر الجميلة، ويتنافسون في الأعمال الجليلة.
وما الذي ـ عند ذلك ـ يحجز عن انخداعه بذلك الجمال البارز، فيمنعه عن الوقوع في الأخطار، وإيقاع سواه في المهالك. كل ذلك ركونا إلى تلك الصور الجميلة، وإعتماداً على ذلك الحسن الفاتن.
وأما إذا كان علمه حضورياً فلا تخفى عليه دخائل الصدور وخبايا الزوايا فكيف يغتر بالجمال الظاهر، أو يفتتن بالبيان الساحر؟ فصاحب العلم الحاضر أسلم عن الإنخداع وأبعد عن الإفتتان. الطريق العاشر:
لابد أن يكون علم السفير والشهيد حضورياً
إن النبي وخلفاءه الأئمة سفراء الله في الناس وأمناؤه على خلقه،
وشهداؤه عليهم، وكيف يكون الشهيد على الناس والسفير فيهم والأمين عليهم، ومن لا يعلم شيئاً من حالهم، ولا يدري ما ذا كان عملهم، ولا يكون خبيراً بما تجنّه ضمائرهم، وتطويه سرائرهم..؟
فلو كان علمه حضورياً، لحقَّ أنَّ يكون الشهيد على الأمَّة المخبر عما تعمله، والامين على العالم الناصح لهم، والسفير فيهم، والوسيط بينه تعالى وبينهم، والمبلغ عنه أحكامه تعاليمه، وعنهم الطاعة أو العصيان.
هذا بعض ما سنح في الفكر من تقريب العقل للحضوري؛ وتقديمه على الإشائي ولو أردنا بسط البحث، لكانت الأدلة أكثر.. وبما سبق كفاية.
هل هناك حكم عقلي معارض؟
إنا لو أطلنا التفكير في هذا الشأن، وأجلنا النظر في أطرافه، لم نجد برهاناً للعقل يدفع ما سلف، ويهدم أساس ذلك البناء الرصين.
نعم أقصى ما يمكن أن يدّعي نهوضه للمقاومة، أمور ثلاثة: ـ
الأول ـ أن العقل يستعظم ذلك المقام، ويستكبر تلك المنزلة، حتى يكاد أن يلحق ذلك الزعم بالغلو.
الثاني ـ لو كان علمهم حضورياً لا لتمست آثاره، وسمعت أخباره. وكيف تخفي مثل هذه الخلة العظيمة؟
الثالث ـ اية جدوى ملموسة، لو كانت لهم تلك الملكة النفسيّة. وهم لا يقوون على إعمالها؟ وأية فائدة محسوسة. إذا كانوا على تلك الصفة وهم لا يستطيعون أن يتظاهروا بها. الجواب عن الأول:
إن الإستعظام أو الإستبعاد ليسا من البراهين لتقوم بدفع ما سلف على أنًّ مثل الإستكبار لو فرض وقوعه من العقل. فهو عند أول نظرة، وحين عرض هذه الخلة. قبل الروّية والسير لما سجله العقل من الحجج وأتى به من الشواهد المقربة..
ولو فطن إلى أنّ الحضوري ممكن بنفسه لا مانع من اتصافهم به بل
وكان الأجدر بهم. وألانسب لمقامهم، لما وجد مجالاً للإستبعاد. ومحلاً للاستعظام.
وأما الغلو فلا مورد له. بعد ما أسلفنا بيانه في المقدمة الثالثة من الفرق بين علمه تعالى وعلم الإمام على تقدير كونه حضورياً. الجواب عن الثاني:
إن مشاهدة الأثر لذلك العلم الحضوري لا يختلف فيه إثنان. إلا من يريد الحط من مقام الأئمة ودفع تلك المنزلة من العصمة.
ومثل هؤلاء لا نقف معهم في مثل هذا الموقف. ولا نخوض وإياهم في مثل هذا البحث. ونكران المشاهدة مكارة محضة.
ومن أين ذهب بعض الضعاف في البصائر إلى القول بألوهيتهم لو لم يكن هناك ما يشاهدون من الآثار التي لم تتحملها عقولهم.
وهذه كتب الفضائل بين يديك تعطيك مثالاً صالحاً لذلك العلم. فكم أخبروا عما ات وعما هو فات. وكم حدَّثوا رجلاً عما ارتكب من فعل وعما نوى في نفسه، واختلج في صدره.
ولولا الإطالة لأتينا لكل إمام من ذلك طرفاً مستملحة. وإنَّ الكتب المعدة لسرد أحوالهم أشارت إلى شيء من تلك النوادر، وكفى منها: إرشاد الشيخ المفيد، وكشف الغمة، ومناقب ابن شهراشواب، وأصول الكافي في باب مواليدهم، وبصائر الدرجات والخرائج والجرائح وروضة الكافي، وجمع شطراً منها صاحب مدينة المعاجز.
الجواب عن الثالث:
إن تلبُّسهم بتلك الخصال الكريمة وإن كان لنفع البشر، إلا أنّ الناس إذا انصرفوا عن نور الحق، وتسكعوا في وهدة الباطل، بسوء الإختيار منهم، فأي تقصير يكون لمن تقمَّص بذلك الخلق الكريم، إذا لم يجد مساغاً لإظهار علمه، وإبراز ما يحمل من الهدى والرشاد..؟
ولو صح مثل هذا النقض لبطلت النبوات والشرائع، لصفح النسا عن اولئك الهداة، وإعراضهم عن هاتيك الأحكام الآلهية. بل لبطل خلق الخلق، لأنّهم لم يعرفوا الحق كما يحق ولم يعبدوه كما يجب.
نعم! لو ثُنيت الوسادة لأولئك المرشدين لعرفت الناس منازلهم حقاً ولظهرت آثارهم واضحة. ولكن كيف يمكنهم أن يعلنوا بما تضم جوانحهم، والناس مصرة على الإعراض عنهم، وعدم الاهتداء بنورهم والإنتفاع بعلمهم؛ بل والسيوف مجردة فوق رؤوسهم، إن فاه أحدهم بمكنون علمه، أو أظهر كرامة، أو أقام حجة، لم يجد ما يشيم عنه ذلك الصارم، أو يقف دون حده.
حتى أن الباقر عليه السلام قال: «لو كانت لألسنتكم أوكية لحدثت كلَّ امرىء بما له وعليه.. » وحتى قال الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق: «يابن النعمان إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم..» إلى كثير من أمثال هذا.فكانت المخاوف من جهة، وعدم تحمل الناس ذلك من جهة أخرى، إلى ما سوى هذه الجهات ، صوارفاً فألهم في إبداء ما منحوا من تلك الكرامة