سامي حسون
07-02-2009, 10:32 AM
ذات صباح يثربيّ أصلها.. وبالتحديد في الخامسة فجرا.. أضيع في شوارعها للسابعة والنصف بين تفرعات أزقتها ومزارعها.. غائب منذ أعوام، لا اعرف فيها الإ طريق الحرم النبوي، لان مآذنه شامخة، قد تشاهدها من كل اتجاه... كأنها العزلة.. أن تشعر بالوحدة ونحن في القرن الواحد والعشرون على هذا الكوكب أمر مثير للسخرية....
كان التجول أوسع مما تحتمله وحدتي في هذه المدينة الروح لقلبي، طفولة نقية أكثر مما يحتمله فوضى هواجسي، والهدوء الذي اشتهيته خرق مسامير اللحم في قلبي.، وفي صباحها العشق، . يقودني عشقاً أخر نحو قبر المصطفى.. فرحت أتخطى تفرعات أزقتها وشوارعها مرورا بمزارعها.. اشتم رائحة ثمارها من ماضي دافئ..... أدركَت أنى أحب التيه في جوانحها.
وأدركتُ أني أدركت. فحاولت الهروب، كي أعيش الماضي على أهدابها فقط.. والمؤلم عندما شعرت أني أمام امرأة لن تكون طيف في حياتي.. حملت أذيال ثوبي وهربت عنها بمسافة أربعمائة كيلو في مدينة ساحلية عرجاء في شوارعها وسكانها.. هكذا شاء قدري، وحين قررت العودة إلى وحشتي الأولى...
فجأة وبدون أمراً مسبق أدرت راسي نحوها وألقيت نظرة طائرة أوقعتني في فخ أنثى خارج سورها البراني.. فقد كانت تلك المرأة مخلوقة نحيلة قمحييت اللون أشبه بزهرة مصفرة متوافقة مع أشعة الشمس، وكنت حريصاً أن ابتعد عن الطيش والشقاوة، وأنا في سفح المراهقة، ملامح هذه الأنوثة لم تسمح لي بالكذب أو المراوغة، شعرت بأنها قيدتني كلياً، ولا مجال للتلاعب أو الهرب، قلت وبشهوة الكلام، وكأنني أتحدث لنفسي: أجمل ما في هذا اللقاء أن خمارها لا يترك لي متسعاً للتفكير في ملامح وجهها!... لثام مشدودا بقوى لا يظهر منه الإ عينيها الجميلتين.. الملئ بالكحل الداكن.. وكوني بليد في لغة العيون أجد نفسي لا أتقن قراءتها.. نقلت نظراتي بإمعان عليها وشعرت بروحي ترتجف من جسدي وتعود منكسرة...
على أثرها التفت فشاهدتها تنـزع عن وجهها شيله بلون الشفق الأحمر عند الغروب، تنـزعه فيرتبك الضوء في المكان.. تلك الجهة الجنوبية من المدينة وبالتحديد خلف سورها البراني.. تهيم برائحة عطرة افتقدتها في حفل عرس.. وأخرى شممتها في صدري أمي في أشهر فرح غير محرمة، وجدت لحظتها جريان يسري في عروقي من جرأة صلبة تدفعني للنطق فأقول:
من أنت؟
لم تكترث بسؤالي فاستدارت مولية ظهرها عني، تأملتها سراً وتلاشى جمالها البهي في مكان يدعي الجياشية، ولم يبقى منها الإ تلك الرائحة التي تحجر شبقها الكامن بي، جلست فأومأت لي بالرحيل، ثم أعرضت مخترقة مزرعة تغطي أرضيتها أشجار النخيل وبعض من شجيرات ليمون «أبو زهير» بقامة ٍممتلئة بالكثير.. مشبعة بشهوة الحرام بالحلال... استعذت بالله من الشيطان الرجيم.. توقفت في صمت.. الصمت الذي يتسلل المكان فتعمى الآذان.... صمت غير معتاد يطفئ الضوء، كي يعم الظلام.. فجأة تذكرت كلمات جدتي «خديجة» رحمة الله عليها عندما قالت لي:
ستمر عليك وجوه تبدو لك كالظل المغادر الذي يتلصص على سحنتك وجوه تختلف وتحتّد وتصفعك بارتقاء!!
وتشرع على إيقافك بنظرات محرمة يرفضها حلال محمد، ممعنة في كل شيء، تجعلك في غمرة إحساس مروع.. فهي معتادة على الدفاع بهروب الاختراقات الضيقة التي تتلاشى قيها الثغور والجحور بحراسها، مثلها مثل كل الأشياء القابلة للكسر.. تدافع عن نفسها عند سقوطها بالتخدير الأنثوي الشيطاني،، وجوه تتكاثر في ملامحها السحر الجمالي في خصوبتنا ويزداد فيها تجوالك، وتجعلك تلقائيا تستغيث من نفسك بنفسك،، وعبثا ستبحث عن من نثر أشلاءك ورماك بورد بالي!!... لكن لم أبالي في ذلك... أحسست وقتها أن جدتي قد فراءت حالتي النفسية كثيرا
قررت بعدها ان اترك المكان،، بينما رائحة العطر تستعمره بقوة... قاصداً زيارة قبر جدتي التي رحلت عنا قبل عشرون سنة وبعض الأشهر في بقيع «الغرقد» مرروا بدرب الجنائز سابقا.. أما الآن لا اعرف ماذا يسمي ولا توجد لوحة بتسميته.. وكلما عبرت الشارع تسعفني الذاكرة بأماكن جميلة.. لها ذكريات طفولية... أشير بأصابعي في خجل.. ضاغطاً على مخارج الحروف حتى لا يعلم بي أحد من المارة. كأنها عين تتحدث بصمت...
و.. في تلعثم: هنا كانت دكان العم «مرزوق» الذي نجلب منه بعض الحاجيات السريعة للطبخ أو بعض من الشمع إثناء انقطاع تيار الكهرباء أو في مناسبة مولد النبي والأئمة المكرمين... وهو في صمت يقيدها على حساب جدي في ورقيات الكراتين التالفة.. وقد نجده يخطئ في حساباته.. يضعها مع حسابات الجيران.. وفي تلك الزاوية الضيقة، كانت مقهى العم «علي» وبجانبها شجرة السدر التي لها ذكريات طريفة أنا وأخي الذي يكبرني بثلاثة عشر وخمسة خطوات.. نتسلقها في عودتنا من المدرسة القريبة من الحرم... لنقطف ثمارها «النبق».. وفي الخلف حوش المغربي.. وفرن العم «صلاح» الذي يتقن عيش الحب والقسمات الذي له نكهة خاصة،، عندما تحضره جدتي في شهر عاشوراء وفي الجهة الأخرى من الشارع يوجد محل العم «يوسف» الجزار الذي تشاجر مع موظف البلدية يوما.. بسبب رفضه في نقل المحل إلى الخان الكائن بجوار البلدية وحوش منصور.. كله تبخرت في عصرنا. هذا. مستبدلة بعمارات وفنادق ضخمة.. تتعب النظر والرقبة في مشاهدتها..
بينما أنا في دوامة ذاكرة اقتربت من سور البقيع، ذلك السور الذي يشبه كفن الموتى.. وجدت نفسي أتصبب عرقا لا اعلم من أي جزاء في جسدي، أصابتني حالة ارتجاف عفوية.. مرددا: «ومنهم من قضى نحبه،، ومنهم من ينتظر،، وما بدلوا تبديلا».
كان التجول أوسع مما تحتمله وحدتي في هذه المدينة الروح لقلبي، طفولة نقية أكثر مما يحتمله فوضى هواجسي، والهدوء الذي اشتهيته خرق مسامير اللحم في قلبي.، وفي صباحها العشق، . يقودني عشقاً أخر نحو قبر المصطفى.. فرحت أتخطى تفرعات أزقتها وشوارعها مرورا بمزارعها.. اشتم رائحة ثمارها من ماضي دافئ..... أدركَت أنى أحب التيه في جوانحها.
وأدركتُ أني أدركت. فحاولت الهروب، كي أعيش الماضي على أهدابها فقط.. والمؤلم عندما شعرت أني أمام امرأة لن تكون طيف في حياتي.. حملت أذيال ثوبي وهربت عنها بمسافة أربعمائة كيلو في مدينة ساحلية عرجاء في شوارعها وسكانها.. هكذا شاء قدري، وحين قررت العودة إلى وحشتي الأولى...
فجأة وبدون أمراً مسبق أدرت راسي نحوها وألقيت نظرة طائرة أوقعتني في فخ أنثى خارج سورها البراني.. فقد كانت تلك المرأة مخلوقة نحيلة قمحييت اللون أشبه بزهرة مصفرة متوافقة مع أشعة الشمس، وكنت حريصاً أن ابتعد عن الطيش والشقاوة، وأنا في سفح المراهقة، ملامح هذه الأنوثة لم تسمح لي بالكذب أو المراوغة، شعرت بأنها قيدتني كلياً، ولا مجال للتلاعب أو الهرب، قلت وبشهوة الكلام، وكأنني أتحدث لنفسي: أجمل ما في هذا اللقاء أن خمارها لا يترك لي متسعاً للتفكير في ملامح وجهها!... لثام مشدودا بقوى لا يظهر منه الإ عينيها الجميلتين.. الملئ بالكحل الداكن.. وكوني بليد في لغة العيون أجد نفسي لا أتقن قراءتها.. نقلت نظراتي بإمعان عليها وشعرت بروحي ترتجف من جسدي وتعود منكسرة...
على أثرها التفت فشاهدتها تنـزع عن وجهها شيله بلون الشفق الأحمر عند الغروب، تنـزعه فيرتبك الضوء في المكان.. تلك الجهة الجنوبية من المدينة وبالتحديد خلف سورها البراني.. تهيم برائحة عطرة افتقدتها في حفل عرس.. وأخرى شممتها في صدري أمي في أشهر فرح غير محرمة، وجدت لحظتها جريان يسري في عروقي من جرأة صلبة تدفعني للنطق فأقول:
من أنت؟
لم تكترث بسؤالي فاستدارت مولية ظهرها عني، تأملتها سراً وتلاشى جمالها البهي في مكان يدعي الجياشية، ولم يبقى منها الإ تلك الرائحة التي تحجر شبقها الكامن بي، جلست فأومأت لي بالرحيل، ثم أعرضت مخترقة مزرعة تغطي أرضيتها أشجار النخيل وبعض من شجيرات ليمون «أبو زهير» بقامة ٍممتلئة بالكثير.. مشبعة بشهوة الحرام بالحلال... استعذت بالله من الشيطان الرجيم.. توقفت في صمت.. الصمت الذي يتسلل المكان فتعمى الآذان.... صمت غير معتاد يطفئ الضوء، كي يعم الظلام.. فجأة تذكرت كلمات جدتي «خديجة» رحمة الله عليها عندما قالت لي:
ستمر عليك وجوه تبدو لك كالظل المغادر الذي يتلصص على سحنتك وجوه تختلف وتحتّد وتصفعك بارتقاء!!
وتشرع على إيقافك بنظرات محرمة يرفضها حلال محمد، ممعنة في كل شيء، تجعلك في غمرة إحساس مروع.. فهي معتادة على الدفاع بهروب الاختراقات الضيقة التي تتلاشى قيها الثغور والجحور بحراسها، مثلها مثل كل الأشياء القابلة للكسر.. تدافع عن نفسها عند سقوطها بالتخدير الأنثوي الشيطاني،، وجوه تتكاثر في ملامحها السحر الجمالي في خصوبتنا ويزداد فيها تجوالك، وتجعلك تلقائيا تستغيث من نفسك بنفسك،، وعبثا ستبحث عن من نثر أشلاءك ورماك بورد بالي!!... لكن لم أبالي في ذلك... أحسست وقتها أن جدتي قد فراءت حالتي النفسية كثيرا
قررت بعدها ان اترك المكان،، بينما رائحة العطر تستعمره بقوة... قاصداً زيارة قبر جدتي التي رحلت عنا قبل عشرون سنة وبعض الأشهر في بقيع «الغرقد» مرروا بدرب الجنائز سابقا.. أما الآن لا اعرف ماذا يسمي ولا توجد لوحة بتسميته.. وكلما عبرت الشارع تسعفني الذاكرة بأماكن جميلة.. لها ذكريات طفولية... أشير بأصابعي في خجل.. ضاغطاً على مخارج الحروف حتى لا يعلم بي أحد من المارة. كأنها عين تتحدث بصمت...
و.. في تلعثم: هنا كانت دكان العم «مرزوق» الذي نجلب منه بعض الحاجيات السريعة للطبخ أو بعض من الشمع إثناء انقطاع تيار الكهرباء أو في مناسبة مولد النبي والأئمة المكرمين... وهو في صمت يقيدها على حساب جدي في ورقيات الكراتين التالفة.. وقد نجده يخطئ في حساباته.. يضعها مع حسابات الجيران.. وفي تلك الزاوية الضيقة، كانت مقهى العم «علي» وبجانبها شجرة السدر التي لها ذكريات طريفة أنا وأخي الذي يكبرني بثلاثة عشر وخمسة خطوات.. نتسلقها في عودتنا من المدرسة القريبة من الحرم... لنقطف ثمارها «النبق».. وفي الخلف حوش المغربي.. وفرن العم «صلاح» الذي يتقن عيش الحب والقسمات الذي له نكهة خاصة،، عندما تحضره جدتي في شهر عاشوراء وفي الجهة الأخرى من الشارع يوجد محل العم «يوسف» الجزار الذي تشاجر مع موظف البلدية يوما.. بسبب رفضه في نقل المحل إلى الخان الكائن بجوار البلدية وحوش منصور.. كله تبخرت في عصرنا. هذا. مستبدلة بعمارات وفنادق ضخمة.. تتعب النظر والرقبة في مشاهدتها..
بينما أنا في دوامة ذاكرة اقتربت من سور البقيع، ذلك السور الذي يشبه كفن الموتى.. وجدت نفسي أتصبب عرقا لا اعلم من أي جزاء في جسدي، أصابتني حالة ارتجاف عفوية.. مرددا: «ومنهم من قضى نحبه،، ومنهم من ينتظر،، وما بدلوا تبديلا».