أحمد إبراهيم الربيعي
09-02-2009, 11:39 AM
لكنت من المهلكين
محمود فلاح عاش مع أخوته السبعة في بستان أبيهم الذي كان بمثابة الجنة المصغرة لما تحويه من مختلف أنواع الفواكه والخضر والأشجار المثمرة، عاشوا متحابين لكل منهم بيته الخاص في داخل البستان، وكان محمود كبير أخوته السبعة ومحط احترامهم وتقديرهم وأكثرهم عيالاً. في أحد الأيام توقفت ثلاث سيارات يقودها مسلحون ملثمون ليترجلوا من سياراتهم ويوجهون أسلحتهم صوب البستان ويطلقون العيارات النارية بصورة مكثفة وعشوائية، ثم ركبوا سياراتهم وانطلقوا من حيث أتوا. وهذه الحالة أصبحت تعرف بأنها علامة من علامات التحذير بالهجوم، حينها هرع أخوة محمود إلى مكان ترجل المسلحين ليتأكدوا مما دار في أذهانهم فوجدوا مجموعة من الأوراق التي تنذرهم بالأسماء بالخروج من هذا البستان وترك المنطقة بالكامل خلال 48 ساعة وغلا سوف يأتونهم بقوة لا قبل لهم بها ويحرقون البستان ويهدمون بيوتهم فوق رؤوسهم، حينها بادر محمود إلى الاتصال بضابط في الجيش كان زميلاً له في الخدمة العسكرية وكان قد وعده بالنصرة إذا ما تعرضوا لمثل هذا الموقف، فقال له الضابط سنكون عندكم وبعونكم وبكافة تجهيزاتنا خلال 73 ساعة أي بعد ثلاثة أيام! فقال محمود: يا أخي لقد أمهلنا هؤلاء المجرمون 48 ساعة فقط وقد لا تلحقونا. فقال الضابط: وما أدراك يا محمود أنهم صادقون، ثم أنكم عصبة جيدة ولا بأس بها ثمانية اخوة ولديكم أسلحة وذخيرة جيدة حسب علمي ووضع بستانكم يمكنكم من قتال دفاعي مطمئن فاصبروا ورابطوا لنا هذه الفترة الزمنية والباقي علينا. لم يقتنع محمود بكلام صديقه الضابط فجمع أخوته السبعة ليتباحثوا في هذا الأمر الخطير،فكان أخوة محمود يؤيدون كلام الضابط بمواجهة العدو والمرابطة والصبر حتى تأتي القوات العسكرية، ولكن كان لمحمود راي منفرد ومغاير يختلف مع الجميع، فقال لهم وهو منفعل: أن هؤلاء المجرمون يهجمون كالجراد وبمجاميع كبيرة وأسلحة متنوعة ومتطورة وفتاكة ولا توجد في قلوبهم رحمة ولا رافة ألم تسمعوا ما فعلوه بعائلة فلان وبيت فلان وفلان ألم يقضوا عليهم ويقتلون رجالهم وأطفالهم ويستحيون نسائهم ويرمونهم بالنهر، فأجابه أخيه الأصغر: يا أخي العزيز أن بعض من ذكرت من هذه الأسماء كانوا هم السبب بما حل بهم من بلاء! فقد كانوا يعيشون عيشة الملوك في بساتينهم حالهم حالنا وكانوا يملكون المال والسلاح ولكنهم لم يقاوموا تلك المجاميع التكفيرية المجرمة والجبانة ولم يتحدوا فيما بينهم فحلت بهم تلك الفواجع ومن بقي من عوائلهم حياً بقي يعيش عيشة البؤس والشقاء في المخيمات بسبب الخضوع والخنوع والجبن والتراجع وعدم الأيمان. فقال محمود وهو قائم بإشارة منه لفض الجلسة: أنا لا أستطيع أن أغامر أو أضحي بواحد منكم أو من عيالي وسوف أشد الحال في الصباح الباكر قاصداً مركز المدينة عند خالي ومن أراد أن يتبعني فليحزم أغراضه من الآن واتجه إلى غرفته، وقرر بقية الأخوة السبعة البقاء والمرابطة والصبر فأخذ كل منهم سلاحه وموقعه مستعدين للدفاع عن أرضهم وعرضهم من الدخلاء المجرمين. وبقي محمود يتقلب على فراشه وهو في حيرة من أمره هل يترك أخوته يواجهون الموت لوحدهم خصوصاً أنهم لأول مرة يخالفونه الرأي أم يبقى معهم ليموت الجميع هو وأخوته وعياله؟ وبعد ارق وقلق طويلين أخلد إلى النوم، وفي الصباح الباكر قرر محمود الرحيل عسى أن يلحق به أخوته من بعده وبدء يحزم ما يستطيع حزمه من أغراضه وأغراض عياله وودع أخوته متجهاً إلى المدينة. وعندما وصل محمود إلى المدينة أستقبله خاله بالأحضان ولكنه بعد أن سمع القصة كاملةًً قال له: ما هكذا الظن بك يا محمود أتترك أخوتك هناك وتفر بجلدك أنت وزوجتك وأطفالك! أين وصايا أبيك في أخوتك؟ أخفت على نفسك وعيالك ولم تخف على أخوتك؟ بأس الرجل أنت يا محمود. حاول محمود أن يشرح الموقف لخاله ولكن دون جدوى، فأعقب خاله قائلاً: أهلاً وسهلاً بك وبعائلتك يامحمود هذا البيت بيتك ولكن يا ترى كيف سيهنأ لك بال ويغمض لك جفن وأخوتك في الخطر يواجهون الموت لوحدهم؟ وخرج خال محمود من البيت غضباناً. حينها قرر محمود أن لا يبقى في بيت خاله بسبب هذا الموقف. فخرج يبحث عن منزل للإيجار وبقي يبحث من الصباح حتى المساء ولكن دون جدوى، فأغلب البيوت مشغولةً من قبل المهجرين بحيث يقطن البيت الواحد من 5ـ6 عوائل مهجرة. هنا ضاقت الدنيا بمحمود، فنصحه البعض بالذهاب على مركز الشرطة حاله حال بقية المهجرين لكي يجدون لهم مأوى، قصد محمود مركز الشرطة، وبعد أن شرح لهم الموقف أرسلوا معه شرطياً مختصاً بهذا الأمر، وفي الطريق سأله محمود إلى أين نحن ذاهبون؟ قال الشرطي: إلى إحدى مدارس المدينة عسى أن نجد لكم صفاً فارغاً تسكنون فيه.فقال محمود متعجباً: ماذا صف في مدرسة؟! قال الشرطي: نعم صف، وهذا إذا كنت محظوظاً ولعلك لن تحصل عليه أيضاً.وبعد أن وصلوا إلى المدرسة المقصودة فوجئوا بأنها كانت مكتظةً بالعوائل المهجرة، حتى أن بعض الصفوف شطرت إلى نصفين لتسكنها عائلتين سويةً! قال محمود: وما الحل الآن؟قال الشرطي: الحل الأخير هو التوجه إلى مقر الهلال الأحمر لعلك تحصل على خيمة لعائلتك فتذهب وتنصبها في ملعب المدينة!قال محمود متعجباً ومستغرباً: خيمة وفي ملعب المدينة؟! قال الشرطي: نعم هذا إذا كنت محظوظاً! فلعلك لا تحصل حتى على الخيمة أو على مكان في الملعب؟ قال محمود: لا لن أذهب إلى الهلال الأحمر وسوف أتدبر نفسي شكراً لك. حينها شعر محمود بشيء من الذلة والانكسار، أين كان وكيف أصبح؟ لقد ضاقت عليه الأرض بعد أن كان يسكن بيتاً كبيراً في بستان كبير، وبعد أن أنهكه التعب قرر أن يبيت الليلة عند خاله متحملاً كل ما سوف يقع عليه من لوم وعتاب والذي لن يتوقف من قبل خاله لعله يجد في الصباح حلاً. ذهب إلى بيت خاله وغط في نوم عميق نتيجة الإرهاق والتعب، وفي الصباح الباكر خرج مبكراً حتى من غير إفطار لكي لا يلتقي خاله ولا يسمع ملامته وكذلك ليواصل البحث عن منزل للإيجار أو أي مأوىً آخر. كذلك بقي طيلة النهار يبحث ولكن دون جدوى، وكان أثناء البحث يحاول الاتصال بأخوته ليطمئن عليهم ولكن جميع محاولاته بائت بالفشل. وعاد في المساء منهك القوى ليغط في نوم عميق. وفي منتصف الليل نهض مفزوعاً على أثر طرقات الباب وصراخ خاله: محمود..محمود..أفتح الباب يا محمود. وعندما فتح الباب. قال له خاله: لقد ذكرت النشرة الإخبارية أن هجوماً وقع على قريتكم من قبل المجاميع الإرهابية فهل اتصلت بأخوتك واطمأننت على سلامتهم؟ قال محمود: لقد حاولت مراراً وتكراراً ولكن دون جدوى. حينها لطم خاله على رأسه قائلاً: لم أكن أتوقعك بهذا البرود واللامبالاة. عندها خرج محمود مهرولاً إلى خارج الدار وبيده ثلاثة أجهزة نقالة فبدء يحاول الاتصال ويحاول ولكن دون جدوى. وأخذت منه الحيرة والقلق كل مأخذ، ترى ما لذي حصل؟ هل نفذ الإرهابيون التكفيريون تهديدهم؟ لا..لا..بدء محمود يبكي ويبكي وتتصفح مخيلته وجوه أخوته السبعة مع أطفالهم ويستذكر وجه أبيه على فراش الموت وهو يوصيه بأخوته ويؤكد عليه: (يا محمود أنت أبيهم من بعدي) وبقي محمود حتى طلوع الفجر في حال مزرية من البكاء والنحيب، وعند طلوع أول خيط للفجر قرر محمود أن يذهب إلى البستان ليطمئن على أخوته حتى لو كلفه ذلك حياته، وعندما وصل محمود إلى البستان لم يعرفه من شدة الدمار والدخان التي غيرت الكثير من معالمه وكأن معركةً جسيمةً حدثت في داخله، هنا بدء محمود وبحالة هستيرية يصرخ بأسماء أخوته واحداً تلوا الآخر، وفجأة سمع صوتاً خافتاً يناديه: محمود..محمود.. فألتفت محمود تجاه مصدر الصوت وإذا بأخيه الأصغر يختبئ في حفيرة صغيرة وهو في حالة يرثى لها. فجاءه محمود مهرولاً وأخذه بالأحضان وبدء يقبله ويشمه ويسأله عن بقية اخوته؟ فأجابه: لقد استشهد ثلاثة من أخوتك وجرح ثلاثة وكان الإرهابيون قد اخذوا الجرحى معهم وأكيد سوف يجهزون عليهم ويرمونهم في النهر كما يفعلون مع الجميع.أما أنا فقد نجوت بأعجوبة وقد أخليت من بقي من النساء والأطفال إلى البساتين المجاورة، لقد انتهينا يا محمود..انتهينا. هنا أنهار محمود وبدء يلطم رأسه ويحث التراب على رأسه. عندها وصلت مجموعة من السيارات والمصفحات العسكرية وترجل منها بعض الجنود يتقدمهم الضابط الذي وعد محمود بالنصرة بعد 73 ساعة، فاتجه محمود نحوهم وبدء يشتمهم ويلعنهم ويقول لهم ما فائدة قدومكم الآن. فقال الضابط: هدأ من روعك يا محمود لقد قلت لك أني لا أستطيع القدوم قبل 73 ساعة ووعدتك بعدها بالنصرة وها قد وفيت بوعدي، ولكن الخلل والتقصير واللوم يقع عليك لوحدك، فقد أخبرني أهالي البساتين المجاورة بالكالرثة التي وقعت، وأن أخوتك أدوا ما عليهم وكانوا يقاتلون كالشجعان، ولكنهم كانوا يفتقدون إلى التخطيط العسكري والخبرة التي لم يكن يمتلكها أحد منهم سواك، كان بإمكانك تغيير الموقف ولكنك خذلتهم وهربت لوحدك لتتركهم في وجه المدفع. حينها سقط محمود مغشياً عليه، وهكذا لم يستيقظ إلا على أذان الفجر، فنهض ليتوضأ للصلاة وعيناه مغرورقة بالدموع، ولكنه فوجأ بعدة أشياء منها أنه في منزله وأن زوجته وأطفاله بقربه، فأوقظ زوجته للصلاة. فقالت له زوجته وهي تستعد للوضوء هل ما زلت مصراً على الرحيل إلى المدينة يا محمود؟ أستغرب محمود كلامها، وخرج على أثره مهرولاً ليجد أخوته أجمعهم يتوضئون استعداداً للصلاة، فأخذ يقبلهم ويحتضنهم واحداً تلوا الآخر وهو يبكي ويحمد الله ويشكره..وقال في نفسه: (آه لقد كان كابوسٌ مزعج لم يمر بحياتي شيء مشابه له) فقالوا: هيا يا محمود لتصلي بنا جماعة لنروي لك ما حدث ليلة البارحة؟ وبعد أن انتهوا من الصلاة، أخبروه بأنهم لم يناموا ليلة البارحة وأنهم تناوبوا على الحراسة، وفي منتصف الليل رأينا من بعيد إنارة لمجموعة من السيارات وهي متجهةً نحونا، وعرفنا من خلال الناظور الليلي أنها السيارات الثلاثة التي قدمت يوم أمس لا غير فصوبنا أسلحتنا نحوهم ورشقناهم بوابل من العيارات النارية فولوا هاربين ولم يعقبوا، قال محمود: كان يجب أن توقظوني. فقالوا: لم نشأ أن نزعجك خصوصاً وأنك مقبل على سفر! قال محمود: وهل تضنون أني ارحل وأترككم لوحدكم، كلا يا إخوتي نحيا سويةً ونموت سوية ًواللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، حينها رن جرس الهاتف النقال فرفعه محمود وإذا به صديقه الضابط الذي قال له: أنكم محظوظون فقد استطعت أن أجهز قوتي وأن أصل إليكم بأقل من الفترة التي وعدتك بها وأنا الآن أمام بستانكم مع قواتي وقد أخبرني أصحاب البساتين المجاورة عن شجاعتكم وبسالتكم وأنكم أبليتم بلاءً حسناً ليلة أمس في دحر الإرهابيين والحيلولة دون وصولهم إلى هذه القرية، حينها سجد محمود شكراً لله تعالى على وافر نعمته، وقال في نفسه: (لو أن الكثير من الناس وخصوصاً من يمتلك الرجال والسلاح والمال قاموا ورابطوا وصبروا لم يحدث ما حدث من التهجير والذل والهوان، خصوصاً أولئك الذين تركوا منازلهم وفروا لمجرد ورقة تهديد كما فعلت أنا في ذلك الكابوس المزعج!!!).
محمود فلاح عاش مع أخوته السبعة في بستان أبيهم الذي كان بمثابة الجنة المصغرة لما تحويه من مختلف أنواع الفواكه والخضر والأشجار المثمرة، عاشوا متحابين لكل منهم بيته الخاص في داخل البستان، وكان محمود كبير أخوته السبعة ومحط احترامهم وتقديرهم وأكثرهم عيالاً. في أحد الأيام توقفت ثلاث سيارات يقودها مسلحون ملثمون ليترجلوا من سياراتهم ويوجهون أسلحتهم صوب البستان ويطلقون العيارات النارية بصورة مكثفة وعشوائية، ثم ركبوا سياراتهم وانطلقوا من حيث أتوا. وهذه الحالة أصبحت تعرف بأنها علامة من علامات التحذير بالهجوم، حينها هرع أخوة محمود إلى مكان ترجل المسلحين ليتأكدوا مما دار في أذهانهم فوجدوا مجموعة من الأوراق التي تنذرهم بالأسماء بالخروج من هذا البستان وترك المنطقة بالكامل خلال 48 ساعة وغلا سوف يأتونهم بقوة لا قبل لهم بها ويحرقون البستان ويهدمون بيوتهم فوق رؤوسهم، حينها بادر محمود إلى الاتصال بضابط في الجيش كان زميلاً له في الخدمة العسكرية وكان قد وعده بالنصرة إذا ما تعرضوا لمثل هذا الموقف، فقال له الضابط سنكون عندكم وبعونكم وبكافة تجهيزاتنا خلال 73 ساعة أي بعد ثلاثة أيام! فقال محمود: يا أخي لقد أمهلنا هؤلاء المجرمون 48 ساعة فقط وقد لا تلحقونا. فقال الضابط: وما أدراك يا محمود أنهم صادقون، ثم أنكم عصبة جيدة ولا بأس بها ثمانية اخوة ولديكم أسلحة وذخيرة جيدة حسب علمي ووضع بستانكم يمكنكم من قتال دفاعي مطمئن فاصبروا ورابطوا لنا هذه الفترة الزمنية والباقي علينا. لم يقتنع محمود بكلام صديقه الضابط فجمع أخوته السبعة ليتباحثوا في هذا الأمر الخطير،فكان أخوة محمود يؤيدون كلام الضابط بمواجهة العدو والمرابطة والصبر حتى تأتي القوات العسكرية، ولكن كان لمحمود راي منفرد ومغاير يختلف مع الجميع، فقال لهم وهو منفعل: أن هؤلاء المجرمون يهجمون كالجراد وبمجاميع كبيرة وأسلحة متنوعة ومتطورة وفتاكة ولا توجد في قلوبهم رحمة ولا رافة ألم تسمعوا ما فعلوه بعائلة فلان وبيت فلان وفلان ألم يقضوا عليهم ويقتلون رجالهم وأطفالهم ويستحيون نسائهم ويرمونهم بالنهر، فأجابه أخيه الأصغر: يا أخي العزيز أن بعض من ذكرت من هذه الأسماء كانوا هم السبب بما حل بهم من بلاء! فقد كانوا يعيشون عيشة الملوك في بساتينهم حالهم حالنا وكانوا يملكون المال والسلاح ولكنهم لم يقاوموا تلك المجاميع التكفيرية المجرمة والجبانة ولم يتحدوا فيما بينهم فحلت بهم تلك الفواجع ومن بقي من عوائلهم حياً بقي يعيش عيشة البؤس والشقاء في المخيمات بسبب الخضوع والخنوع والجبن والتراجع وعدم الأيمان. فقال محمود وهو قائم بإشارة منه لفض الجلسة: أنا لا أستطيع أن أغامر أو أضحي بواحد منكم أو من عيالي وسوف أشد الحال في الصباح الباكر قاصداً مركز المدينة عند خالي ومن أراد أن يتبعني فليحزم أغراضه من الآن واتجه إلى غرفته، وقرر بقية الأخوة السبعة البقاء والمرابطة والصبر فأخذ كل منهم سلاحه وموقعه مستعدين للدفاع عن أرضهم وعرضهم من الدخلاء المجرمين. وبقي محمود يتقلب على فراشه وهو في حيرة من أمره هل يترك أخوته يواجهون الموت لوحدهم خصوصاً أنهم لأول مرة يخالفونه الرأي أم يبقى معهم ليموت الجميع هو وأخوته وعياله؟ وبعد ارق وقلق طويلين أخلد إلى النوم، وفي الصباح الباكر قرر محمود الرحيل عسى أن يلحق به أخوته من بعده وبدء يحزم ما يستطيع حزمه من أغراضه وأغراض عياله وودع أخوته متجهاً إلى المدينة. وعندما وصل محمود إلى المدينة أستقبله خاله بالأحضان ولكنه بعد أن سمع القصة كاملةًً قال له: ما هكذا الظن بك يا محمود أتترك أخوتك هناك وتفر بجلدك أنت وزوجتك وأطفالك! أين وصايا أبيك في أخوتك؟ أخفت على نفسك وعيالك ولم تخف على أخوتك؟ بأس الرجل أنت يا محمود. حاول محمود أن يشرح الموقف لخاله ولكن دون جدوى، فأعقب خاله قائلاً: أهلاً وسهلاً بك وبعائلتك يامحمود هذا البيت بيتك ولكن يا ترى كيف سيهنأ لك بال ويغمض لك جفن وأخوتك في الخطر يواجهون الموت لوحدهم؟ وخرج خال محمود من البيت غضباناً. حينها قرر محمود أن لا يبقى في بيت خاله بسبب هذا الموقف. فخرج يبحث عن منزل للإيجار وبقي يبحث من الصباح حتى المساء ولكن دون جدوى، فأغلب البيوت مشغولةً من قبل المهجرين بحيث يقطن البيت الواحد من 5ـ6 عوائل مهجرة. هنا ضاقت الدنيا بمحمود، فنصحه البعض بالذهاب على مركز الشرطة حاله حال بقية المهجرين لكي يجدون لهم مأوى، قصد محمود مركز الشرطة، وبعد أن شرح لهم الموقف أرسلوا معه شرطياً مختصاً بهذا الأمر، وفي الطريق سأله محمود إلى أين نحن ذاهبون؟ قال الشرطي: إلى إحدى مدارس المدينة عسى أن نجد لكم صفاً فارغاً تسكنون فيه.فقال محمود متعجباً: ماذا صف في مدرسة؟! قال الشرطي: نعم صف، وهذا إذا كنت محظوظاً ولعلك لن تحصل عليه أيضاً.وبعد أن وصلوا إلى المدرسة المقصودة فوجئوا بأنها كانت مكتظةً بالعوائل المهجرة، حتى أن بعض الصفوف شطرت إلى نصفين لتسكنها عائلتين سويةً! قال محمود: وما الحل الآن؟قال الشرطي: الحل الأخير هو التوجه إلى مقر الهلال الأحمر لعلك تحصل على خيمة لعائلتك فتذهب وتنصبها في ملعب المدينة!قال محمود متعجباً ومستغرباً: خيمة وفي ملعب المدينة؟! قال الشرطي: نعم هذا إذا كنت محظوظاً! فلعلك لا تحصل حتى على الخيمة أو على مكان في الملعب؟ قال محمود: لا لن أذهب إلى الهلال الأحمر وسوف أتدبر نفسي شكراً لك. حينها شعر محمود بشيء من الذلة والانكسار، أين كان وكيف أصبح؟ لقد ضاقت عليه الأرض بعد أن كان يسكن بيتاً كبيراً في بستان كبير، وبعد أن أنهكه التعب قرر أن يبيت الليلة عند خاله متحملاً كل ما سوف يقع عليه من لوم وعتاب والذي لن يتوقف من قبل خاله لعله يجد في الصباح حلاً. ذهب إلى بيت خاله وغط في نوم عميق نتيجة الإرهاق والتعب، وفي الصباح الباكر خرج مبكراً حتى من غير إفطار لكي لا يلتقي خاله ولا يسمع ملامته وكذلك ليواصل البحث عن منزل للإيجار أو أي مأوىً آخر. كذلك بقي طيلة النهار يبحث ولكن دون جدوى، وكان أثناء البحث يحاول الاتصال بأخوته ليطمئن عليهم ولكن جميع محاولاته بائت بالفشل. وعاد في المساء منهك القوى ليغط في نوم عميق. وفي منتصف الليل نهض مفزوعاً على أثر طرقات الباب وصراخ خاله: محمود..محمود..أفتح الباب يا محمود. وعندما فتح الباب. قال له خاله: لقد ذكرت النشرة الإخبارية أن هجوماً وقع على قريتكم من قبل المجاميع الإرهابية فهل اتصلت بأخوتك واطمأننت على سلامتهم؟ قال محمود: لقد حاولت مراراً وتكراراً ولكن دون جدوى. حينها لطم خاله على رأسه قائلاً: لم أكن أتوقعك بهذا البرود واللامبالاة. عندها خرج محمود مهرولاً إلى خارج الدار وبيده ثلاثة أجهزة نقالة فبدء يحاول الاتصال ويحاول ولكن دون جدوى. وأخذت منه الحيرة والقلق كل مأخذ، ترى ما لذي حصل؟ هل نفذ الإرهابيون التكفيريون تهديدهم؟ لا..لا..بدء محمود يبكي ويبكي وتتصفح مخيلته وجوه أخوته السبعة مع أطفالهم ويستذكر وجه أبيه على فراش الموت وهو يوصيه بأخوته ويؤكد عليه: (يا محمود أنت أبيهم من بعدي) وبقي محمود حتى طلوع الفجر في حال مزرية من البكاء والنحيب، وعند طلوع أول خيط للفجر قرر محمود أن يذهب إلى البستان ليطمئن على أخوته حتى لو كلفه ذلك حياته، وعندما وصل محمود إلى البستان لم يعرفه من شدة الدمار والدخان التي غيرت الكثير من معالمه وكأن معركةً جسيمةً حدثت في داخله، هنا بدء محمود وبحالة هستيرية يصرخ بأسماء أخوته واحداً تلوا الآخر، وفجأة سمع صوتاً خافتاً يناديه: محمود..محمود.. فألتفت محمود تجاه مصدر الصوت وإذا بأخيه الأصغر يختبئ في حفيرة صغيرة وهو في حالة يرثى لها. فجاءه محمود مهرولاً وأخذه بالأحضان وبدء يقبله ويشمه ويسأله عن بقية اخوته؟ فأجابه: لقد استشهد ثلاثة من أخوتك وجرح ثلاثة وكان الإرهابيون قد اخذوا الجرحى معهم وأكيد سوف يجهزون عليهم ويرمونهم في النهر كما يفعلون مع الجميع.أما أنا فقد نجوت بأعجوبة وقد أخليت من بقي من النساء والأطفال إلى البساتين المجاورة، لقد انتهينا يا محمود..انتهينا. هنا أنهار محمود وبدء يلطم رأسه ويحث التراب على رأسه. عندها وصلت مجموعة من السيارات والمصفحات العسكرية وترجل منها بعض الجنود يتقدمهم الضابط الذي وعد محمود بالنصرة بعد 73 ساعة، فاتجه محمود نحوهم وبدء يشتمهم ويلعنهم ويقول لهم ما فائدة قدومكم الآن. فقال الضابط: هدأ من روعك يا محمود لقد قلت لك أني لا أستطيع القدوم قبل 73 ساعة ووعدتك بعدها بالنصرة وها قد وفيت بوعدي، ولكن الخلل والتقصير واللوم يقع عليك لوحدك، فقد أخبرني أهالي البساتين المجاورة بالكالرثة التي وقعت، وأن أخوتك أدوا ما عليهم وكانوا يقاتلون كالشجعان، ولكنهم كانوا يفتقدون إلى التخطيط العسكري والخبرة التي لم يكن يمتلكها أحد منهم سواك، كان بإمكانك تغيير الموقف ولكنك خذلتهم وهربت لوحدك لتتركهم في وجه المدفع. حينها سقط محمود مغشياً عليه، وهكذا لم يستيقظ إلا على أذان الفجر، فنهض ليتوضأ للصلاة وعيناه مغرورقة بالدموع، ولكنه فوجأ بعدة أشياء منها أنه في منزله وأن زوجته وأطفاله بقربه، فأوقظ زوجته للصلاة. فقالت له زوجته وهي تستعد للوضوء هل ما زلت مصراً على الرحيل إلى المدينة يا محمود؟ أستغرب محمود كلامها، وخرج على أثره مهرولاً ليجد أخوته أجمعهم يتوضئون استعداداً للصلاة، فأخذ يقبلهم ويحتضنهم واحداً تلوا الآخر وهو يبكي ويحمد الله ويشكره..وقال في نفسه: (آه لقد كان كابوسٌ مزعج لم يمر بحياتي شيء مشابه له) فقالوا: هيا يا محمود لتصلي بنا جماعة لنروي لك ما حدث ليلة البارحة؟ وبعد أن انتهوا من الصلاة، أخبروه بأنهم لم يناموا ليلة البارحة وأنهم تناوبوا على الحراسة، وفي منتصف الليل رأينا من بعيد إنارة لمجموعة من السيارات وهي متجهةً نحونا، وعرفنا من خلال الناظور الليلي أنها السيارات الثلاثة التي قدمت يوم أمس لا غير فصوبنا أسلحتنا نحوهم ورشقناهم بوابل من العيارات النارية فولوا هاربين ولم يعقبوا، قال محمود: كان يجب أن توقظوني. فقالوا: لم نشأ أن نزعجك خصوصاً وأنك مقبل على سفر! قال محمود: وهل تضنون أني ارحل وأترككم لوحدكم، كلا يا إخوتي نحيا سويةً ونموت سوية ًواللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، حينها رن جرس الهاتف النقال فرفعه محمود وإذا به صديقه الضابط الذي قال له: أنكم محظوظون فقد استطعت أن أجهز قوتي وأن أصل إليكم بأقل من الفترة التي وعدتك بها وأنا الآن أمام بستانكم مع قواتي وقد أخبرني أصحاب البساتين المجاورة عن شجاعتكم وبسالتكم وأنكم أبليتم بلاءً حسناً ليلة أمس في دحر الإرهابيين والحيلولة دون وصولهم إلى هذه القرية، حينها سجد محمود شكراً لله تعالى على وافر نعمته، وقال في نفسه: (لو أن الكثير من الناس وخصوصاً من يمتلك الرجال والسلاح والمال قاموا ورابطوا وصبروا لم يحدث ما حدث من التهجير والذل والهوان، خصوصاً أولئك الذين تركوا منازلهم وفروا لمجرد ورقة تهديد كما فعلت أنا في ذلك الكابوس المزعج!!!).