السید الامینی
23-02-2009, 02:31 PM
شهادة الإمام الرضا عليه السّلام
مسألتان.. تلتقيان
إحدى القضايا المطروحة في التعرّف على حياة أهل البيت عليهم السّلام هي: كيف رحلوا عن دنيانا؟ هل جميعهم كانوا شهداء، أم بعضهم؟
وللتساؤل أسبابه، لاسيّما وأنّ كثيراً من النصوص التاريخيّة تذكر أنّهم لم يخرجوا من الدنيا إلاّ بالشهادة: منها ما هو عامّ فيهم جميعاً سلام الله عليهم، ومنها ما هو خاصّ بذكر أسمائهم.على سبيل المثال:
1. قول الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام: لقد حدّثني حبيبي جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم(1) وفي رواية أخرى: والله إنّه لَعهدٌ عهده إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله.. ما منّا إلاّ مسموم أو مقتول(2). مقتول: أي بالسيف.
2. وقول الإمام الصادق عليه السّلام: والله ما منّا إلاّ مقتول شهيد(3).
3. وقول الإمام الرضا عليه السّلام: ما منّا إلاّ مقتول(4). أي بالسيف أو بالسمّ وغير ذلك من التأكيدات على الشهادة، وهنالك أخبار وافرة في باب شهادة كلّ واحدٍ منهم سّلام الله عليهم.(5)
أما القضيّة الثانية فهي تساؤل آخر: إذا كان أهل البيت عليهم السّلام قد قضوا شهداء كلُّهم، فمَن كان قتَلَهم؟
والجواب يأتي هنا أيضاً على صيغة روايات أخبار عامّة وأخرى خاصّة.. أي مرّة تعيّن القاتل، ومرّة أخرى تذكر قصّة القتل. وعلى سبيل المثال لا الحصر:
• قال الشيخ الصدوق: أمير المؤمنين عليه السّلام قتله عبدالرحمن بن ملجم، والحسن بن عليّ عليه السّلام سمّته امرأته جعدة، والحسين بن علي عليه السّلام قتله سنان بن أنس النخعيّ، وعليّ بن الحسين عليه السّلام سمّه الوليد بن عبدالملك فقتله، والباقر عليه السّلام سمّه إبراهيم بن الوليد فقتله، والصادق عليه السّلام سمّه المنصور فقتله، وموسى بن جعفر عليه السّلام سمّه الرشيد فقتله، والرضا عليّ بن موسى عليه السّلام قتله المأمون بالسمّ، وأبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قتله المعتصم بالسمّ، وعليّ بن محمّد عليه السّلام قتله المتوكّل، والحسن بن عليّ عليه السّلام قتله المعتضد بالسمّ(6).
وربما كان ظنّ في اشتراك أكثر من واحد في القتل، أو يكون أحدهما الآمر والآخر المنفذّ للجريمة.
التعيين
ربّما تحيّر البعض بين أن تذكر بعضُ الأخبار أنّ المأمون كان يكرم الإمام الرضا عليه السّلام ويمدحه ويناقش في عقائد أهل البيت عليهم السّلام، وبين أن يذكر بعضها الآخر أنّه المتّهم الأوّل، بل الوحيد في قتل الإمام عليه السّلام.
فقد جاء لدى البعض أنّ المأمون بعد شهادة الرضا عليه السّلام توجّع وأظهر الحزن، وهجر الطعام والشراب أيّاماً، فربّما يكون غيره هو القاتل، أو ربّما كان المأمون قد حُرّض على القتل فأقدم بغير إرادة أو اختيار.
وهذه الحيرة تدعونا إلى أن نكشف شيئاً من شخصيّة المأمون، ليتبين لنا: هل كان فيها ذلك الاستعداد على الإقدام على القتل بشكلٍ عام، وعلى قتل الإمام عليٍّ عليه السّلام بشكل خاصّ؟
سوابق .. ووثائق
مَن لا يعرف أنّ المأمون قتل أخاه الأمين؟ فهو الذي أصدر الأمر لطاهر واليه على خراسان بأن يقتله. ولم يتكف بذلك، بل أعطى الذي جاءه برأس الأمين ألف ألف درهم بعد أن سجد شكراً لله. ولم يشفه ذلك، بل أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار. ولم يُهدّئه ذلك، إنّما أمر كلّ من قبض راتبه أن يلعن الأمين.
ولم يُنزل رأس أخيه حتّى جاء رجل فلعن الرأس ووالديه وما وَلدا، وأدخلهم في كذا وكذا من أمّهاتهم، بحيث يسمعه المأمون، فتبسّم وتغافل وأمر بحطّ الرأس(7).
ثمّ بعد ذلك دبّر قتل وزيره الفضل بن سهل وكان أراد أن يزوّجه ابنته، في حادثة غامضة طعنه وتخلّص منه لأنّه أصبح عاراً عليه بعد قتله أخاه المأمون. ومِن بعده دبّر قتل قائده الكبير هرثمة بن أعين فور وصوله إلى مرو. ودبّر فيما بعد قتل طاهرٍ واليه على خراسان(8).
وفي ما مضى كان يظهر لهم الحبَّ ويتمايل إلى التقارب والمصاهرة، وفي كلِّ مرّة بعد قتلهم يتظاهر بالحزن العظيم عليهم، وطلب الثأر لهم، وتقديم التعازي لذويهم ويعمل على تعيين ولد القتيل مكان أبيه، بل وتقديم بعض الرؤوس لأهليهم بعنوان أنّهم القتله. وقد قتل محمّد بن جعفر ثمّ جاء بنفسه وحمل نعشه، ليؤكّد براءته بأساليب مختلفة، ويرضي جميع الأطراف.
هذه بعض طرقه، وهنالك طرق أخرى عرفها الآخرون، وربّما لم يشتهر كثيراً أنّ المأمون قتل سبعةً من أبناء الكاظم عليه السّلام إخوة الرضا عليه السّلام، منهم: إبراهيم بن موسى عليه السّلام، وزيد بن موسى عليه السّلام بعد أن عفا عنهما ظاهراً، وأحمد بن موسى عليه السّلام، ومحمّد العابد، وحمزة بن موسى عليه السّلام.. إضافة إلى عشراتٍ من الأعيان ومئات من العلويّين وآلاف من مخالفيه(9).
وفي كلّ هذا لم تَغِب عنه الحيلة والمكر والدهاء، إلى درجةٍ من النفاق الغريب الذي تعدّدت صوره وأساليبه ووقائعه:
فمثلاً كان يتظاهر بالتودّد للإمام الرضا عليه السّلام وفي الوقت ذاته يقدّم سيوفاً مسلولة إلى صبيح الديلميّ ـ أحد ثقاته ـ وإلى ثلاثين غلاماً يأخذ عليهم العهد والميثاق، ويحلّفهم ويقول لهم: يأخذ كلُّ واحد منكم سيفاً بيده، وامضوا حتّى تدخلوا على بن موسى الرضا في حجرته، واخلطوا لحمه ودمه وشعره وعظمه ومخّه، ثمّ اقلبوا عليه بساطه وامسحوا أسيافكم به، وصيروا إليّ، وقد جعلت لكلّ واحدٍ منكم على هذا الفعل وكتمانه عشرَ بُدر دراهم، وعشر ضياع منتجبة، والحظوظ عندي ما حييت وبقيت.
وتُنفّذ الخطّة لكنّها تخيب بالمعجزة، في قصّةٍ رهيبة يقول الإمام الرضا عليه السّلام في آخرها لهرثمة بن أعينَ: يا هرثمة! واللهِ لا يضرّنا كيدهم شيئاً حتّى يبلغ الكتابُ محلَّه.(10)
وفي الوقت الذي يُشيد المأمون بمعارف الإمام الرضا عليه السّلام وعلومه، يجنّد له علماء اليهود والنصارى ورؤساء المذاهب والفرق ممّن يبتعد عن الإسلام قليلاً أو كثيراً ليحاججوه لعلّهم يغلبونه.. فيخيبون ويخيب المأمون معهم، فما يكون منه إلاّ إظهار العجَب والإعجاب، واستبطان الغيلة والغدر.
فلمّا عجز عن قتله في شخصيّته، وخاب في قتله اجتماعيّاً، بل كلّما أراد به كيداً أظهر الله للإمام مزيد الرفعة.. وجد المأمون أن لا محيص عن قتل البدن. وقد سُدل أبو الصلت الهروي: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إيّاه ومحبّته له؟! فأجاب، وكان في آخر جوابه. فلمّا أعيتْه الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسمّ.(11)
وهكذا نُقل أمر شهادة الإمام الرضا عليه السّلام على يد المأمون في المسلّمات حتّى ذكره عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام في رسالته إلى المأمون الذي منّاه بالأمان فلم يطمئن، فكتب إليه:
ـ عجبت من بَذْلك العهد وولايته لي بعدك، كأنّك تظنّ أنّه لم يبلغني ما فعلتَه بالرضا!!.. فواللهِ لئن أُقذف ـ وأنا حيّ ـ في نار تتأجّج أحبُّ إليّ من أن أليَ أمراً بين المسلمين، أو أشرب شربةً من غير حِلّها، مع عطش شديد قاتل، أم في العنب المسمون الذي قتلت به الرضا؟!...
فبأيّ شيء تغرّني؟! ما فعلتَه بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته (12)
وتلك ميميّة أبي فراس الحمدانيّ(ت357هـ) وفيها يقول:
ليس الرشيدُ كموسـى فـي القياس ولا مأمونُكم كالرضـا إن أنصـف الحـكَمُبـاؤوا بـقتـل الرضا مِن بـعد بيعتهِ وأبصروا بعض يومٍ رشدَهم وعَمُوا(13)
وذاك الأمير محمّد بن عبدالله السوسيّ (ت حدود 370هـ) يقول:
بأرض طوسٍ نائيَ الأوطانِ قد غرّه المأمونُ بالأمانـيحـين سـقاه السمَّ في الرمّانِ(14)
ومن هناك يقول القاضي التنوخيّ (ت 384هـ) يعيّر بني العبّاس:
ومأمونُكم سَمَّ الرضا بـعد بيـعـةٍ فآدت له شمّ الجبال الرواسبِ(15)
1. كفاية الأثر في النصّ على الأئمّة الآثني عشر، لأبي القاسم عليّ بن محمّد الخزّاز الرازي ـ باب ما جاء عن الحسن عليه السّلام.
2. أخرجه النباطيّ البيّاضيّ في كتابه (الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 128:2).
3. إعلام الورى بأعلام الهدى، للطبرسي349.
4. عيون أخبار الرضا عليه السّلام، للصدوق 203:2ح5.
5. نجدها في : تاريخ دمشق، لابن عساكر 74:3/الرقم 1118. فرائد السمطين، للجوينيّ 36:2. البداية و النهاية، لابن الأثير 43:8. مقتل الحسين عليه السّلام، للخوارزميّ ج2. الصواعق المحرقة، لابن حجر 200،203. ما روته العامّة من مناقب أهل البيت عليهم السّلام، للمولى الشروانيّ 262. الاتحاف بحبّ الأشراف، للشبراويّ 54. عمدة الطالب، لابن المهنّا 196. إثبات الوصيّة، للمسعوديّ 181 - 183، 192. دلائل الإمامة، للطبريّ الإماميّ 209،223. الفصول المهمّة، لابن الصبّاغ المالكيّ 283، 288. الصراط السويّ، للشيخانيّ 410. الاعتقادات، للشيخ الصدوق 109. إلزام الناصب في إثبات الحجّة الغائب، للمولى الشيخ عليّ اليزديّ الحائريّ ـ ط إصفهان 1351 هـ ش، ص 190.
6. اعتقادات الصدوق 109.
7. فوات الوفيات، للصفديّ 269:2. تاريخ الطبريّ 202:10. البداية والنهاية لابن الأثير243:10. حياة الحيوان، للدميريّ72:1. مروج الذهب، للمسعوديّ414:3. تاريخ الخلفاء، للسيوطيّ298.. وغيرها.
8. العِبر، لابن خلدون 245:3 و 249. تاريخ ابن الورديّ 289:1، البداية والنهاية 260:10. مرآة الجنان، لليافعيّ36:2. وفيات الأعيان، لابن خلّكان 237:1.. وغيرها.
9. مقاتل الطالبيّين، لأبي فرج الإصبهانيّ 339ـ382. وفيات الأعيان 491:1 صفوة الصفوة، لابن الجوزيّ 177:3 مرآة الجنان 393:1. فرق الشيعة، للنوبختيّ ـ هامش ص97، عن بحر الأنساب.
10. عيون أخبار الرضا عليه السّلام 214:2 ـ 216.
11. عيون أخبار الرضا عليه السّلام 239:2.
12. مقاتل الطالبيّين 630.
13. شرح الشافية، لمحمّد بن أمير حاج الحسينيّ6.
14. مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 374:4.
15. مناقب آل أبي طالب 328:4.
مسألتان.. تلتقيان
إحدى القضايا المطروحة في التعرّف على حياة أهل البيت عليهم السّلام هي: كيف رحلوا عن دنيانا؟ هل جميعهم كانوا شهداء، أم بعضهم؟
وللتساؤل أسبابه، لاسيّما وأنّ كثيراً من النصوص التاريخيّة تذكر أنّهم لم يخرجوا من الدنيا إلاّ بالشهادة: منها ما هو عامّ فيهم جميعاً سلام الله عليهم، ومنها ما هو خاصّ بذكر أسمائهم.على سبيل المثال:
1. قول الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام: لقد حدّثني حبيبي جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم(1) وفي رواية أخرى: والله إنّه لَعهدٌ عهده إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله.. ما منّا إلاّ مسموم أو مقتول(2). مقتول: أي بالسيف.
2. وقول الإمام الصادق عليه السّلام: والله ما منّا إلاّ مقتول شهيد(3).
3. وقول الإمام الرضا عليه السّلام: ما منّا إلاّ مقتول(4). أي بالسيف أو بالسمّ وغير ذلك من التأكيدات على الشهادة، وهنالك أخبار وافرة في باب شهادة كلّ واحدٍ منهم سّلام الله عليهم.(5)
أما القضيّة الثانية فهي تساؤل آخر: إذا كان أهل البيت عليهم السّلام قد قضوا شهداء كلُّهم، فمَن كان قتَلَهم؟
والجواب يأتي هنا أيضاً على صيغة روايات أخبار عامّة وأخرى خاصّة.. أي مرّة تعيّن القاتل، ومرّة أخرى تذكر قصّة القتل. وعلى سبيل المثال لا الحصر:
• قال الشيخ الصدوق: أمير المؤمنين عليه السّلام قتله عبدالرحمن بن ملجم، والحسن بن عليّ عليه السّلام سمّته امرأته جعدة، والحسين بن علي عليه السّلام قتله سنان بن أنس النخعيّ، وعليّ بن الحسين عليه السّلام سمّه الوليد بن عبدالملك فقتله، والباقر عليه السّلام سمّه إبراهيم بن الوليد فقتله، والصادق عليه السّلام سمّه المنصور فقتله، وموسى بن جعفر عليه السّلام سمّه الرشيد فقتله، والرضا عليّ بن موسى عليه السّلام قتله المأمون بالسمّ، وأبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قتله المعتصم بالسمّ، وعليّ بن محمّد عليه السّلام قتله المتوكّل، والحسن بن عليّ عليه السّلام قتله المعتضد بالسمّ(6).
وربما كان ظنّ في اشتراك أكثر من واحد في القتل، أو يكون أحدهما الآمر والآخر المنفذّ للجريمة.
التعيين
ربّما تحيّر البعض بين أن تذكر بعضُ الأخبار أنّ المأمون كان يكرم الإمام الرضا عليه السّلام ويمدحه ويناقش في عقائد أهل البيت عليهم السّلام، وبين أن يذكر بعضها الآخر أنّه المتّهم الأوّل، بل الوحيد في قتل الإمام عليه السّلام.
فقد جاء لدى البعض أنّ المأمون بعد شهادة الرضا عليه السّلام توجّع وأظهر الحزن، وهجر الطعام والشراب أيّاماً، فربّما يكون غيره هو القاتل، أو ربّما كان المأمون قد حُرّض على القتل فأقدم بغير إرادة أو اختيار.
وهذه الحيرة تدعونا إلى أن نكشف شيئاً من شخصيّة المأمون، ليتبين لنا: هل كان فيها ذلك الاستعداد على الإقدام على القتل بشكلٍ عام، وعلى قتل الإمام عليٍّ عليه السّلام بشكل خاصّ؟
سوابق .. ووثائق
مَن لا يعرف أنّ المأمون قتل أخاه الأمين؟ فهو الذي أصدر الأمر لطاهر واليه على خراسان بأن يقتله. ولم يتكف بذلك، بل أعطى الذي جاءه برأس الأمين ألف ألف درهم بعد أن سجد شكراً لله. ولم يشفه ذلك، بل أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار. ولم يُهدّئه ذلك، إنّما أمر كلّ من قبض راتبه أن يلعن الأمين.
ولم يُنزل رأس أخيه حتّى جاء رجل فلعن الرأس ووالديه وما وَلدا، وأدخلهم في كذا وكذا من أمّهاتهم، بحيث يسمعه المأمون، فتبسّم وتغافل وأمر بحطّ الرأس(7).
ثمّ بعد ذلك دبّر قتل وزيره الفضل بن سهل وكان أراد أن يزوّجه ابنته، في حادثة غامضة طعنه وتخلّص منه لأنّه أصبح عاراً عليه بعد قتله أخاه المأمون. ومِن بعده دبّر قتل قائده الكبير هرثمة بن أعين فور وصوله إلى مرو. ودبّر فيما بعد قتل طاهرٍ واليه على خراسان(8).
وفي ما مضى كان يظهر لهم الحبَّ ويتمايل إلى التقارب والمصاهرة، وفي كلِّ مرّة بعد قتلهم يتظاهر بالحزن العظيم عليهم، وطلب الثأر لهم، وتقديم التعازي لذويهم ويعمل على تعيين ولد القتيل مكان أبيه، بل وتقديم بعض الرؤوس لأهليهم بعنوان أنّهم القتله. وقد قتل محمّد بن جعفر ثمّ جاء بنفسه وحمل نعشه، ليؤكّد براءته بأساليب مختلفة، ويرضي جميع الأطراف.
هذه بعض طرقه، وهنالك طرق أخرى عرفها الآخرون، وربّما لم يشتهر كثيراً أنّ المأمون قتل سبعةً من أبناء الكاظم عليه السّلام إخوة الرضا عليه السّلام، منهم: إبراهيم بن موسى عليه السّلام، وزيد بن موسى عليه السّلام بعد أن عفا عنهما ظاهراً، وأحمد بن موسى عليه السّلام، ومحمّد العابد، وحمزة بن موسى عليه السّلام.. إضافة إلى عشراتٍ من الأعيان ومئات من العلويّين وآلاف من مخالفيه(9).
وفي كلّ هذا لم تَغِب عنه الحيلة والمكر والدهاء، إلى درجةٍ من النفاق الغريب الذي تعدّدت صوره وأساليبه ووقائعه:
فمثلاً كان يتظاهر بالتودّد للإمام الرضا عليه السّلام وفي الوقت ذاته يقدّم سيوفاً مسلولة إلى صبيح الديلميّ ـ أحد ثقاته ـ وإلى ثلاثين غلاماً يأخذ عليهم العهد والميثاق، ويحلّفهم ويقول لهم: يأخذ كلُّ واحد منكم سيفاً بيده، وامضوا حتّى تدخلوا على بن موسى الرضا في حجرته، واخلطوا لحمه ودمه وشعره وعظمه ومخّه، ثمّ اقلبوا عليه بساطه وامسحوا أسيافكم به، وصيروا إليّ، وقد جعلت لكلّ واحدٍ منكم على هذا الفعل وكتمانه عشرَ بُدر دراهم، وعشر ضياع منتجبة، والحظوظ عندي ما حييت وبقيت.
وتُنفّذ الخطّة لكنّها تخيب بالمعجزة، في قصّةٍ رهيبة يقول الإمام الرضا عليه السّلام في آخرها لهرثمة بن أعينَ: يا هرثمة! واللهِ لا يضرّنا كيدهم شيئاً حتّى يبلغ الكتابُ محلَّه.(10)
وفي الوقت الذي يُشيد المأمون بمعارف الإمام الرضا عليه السّلام وعلومه، يجنّد له علماء اليهود والنصارى ورؤساء المذاهب والفرق ممّن يبتعد عن الإسلام قليلاً أو كثيراً ليحاججوه لعلّهم يغلبونه.. فيخيبون ويخيب المأمون معهم، فما يكون منه إلاّ إظهار العجَب والإعجاب، واستبطان الغيلة والغدر.
فلمّا عجز عن قتله في شخصيّته، وخاب في قتله اجتماعيّاً، بل كلّما أراد به كيداً أظهر الله للإمام مزيد الرفعة.. وجد المأمون أن لا محيص عن قتل البدن. وقد سُدل أبو الصلت الهروي: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إيّاه ومحبّته له؟! فأجاب، وكان في آخر جوابه. فلمّا أعيتْه الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسمّ.(11)
وهكذا نُقل أمر شهادة الإمام الرضا عليه السّلام على يد المأمون في المسلّمات حتّى ذكره عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام في رسالته إلى المأمون الذي منّاه بالأمان فلم يطمئن، فكتب إليه:
ـ عجبت من بَذْلك العهد وولايته لي بعدك، كأنّك تظنّ أنّه لم يبلغني ما فعلتَه بالرضا!!.. فواللهِ لئن أُقذف ـ وأنا حيّ ـ في نار تتأجّج أحبُّ إليّ من أن أليَ أمراً بين المسلمين، أو أشرب شربةً من غير حِلّها، مع عطش شديد قاتل، أم في العنب المسمون الذي قتلت به الرضا؟!...
فبأيّ شيء تغرّني؟! ما فعلتَه بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته (12)
وتلك ميميّة أبي فراس الحمدانيّ(ت357هـ) وفيها يقول:
ليس الرشيدُ كموسـى فـي القياس ولا مأمونُكم كالرضـا إن أنصـف الحـكَمُبـاؤوا بـقتـل الرضا مِن بـعد بيعتهِ وأبصروا بعض يومٍ رشدَهم وعَمُوا(13)
وذاك الأمير محمّد بن عبدالله السوسيّ (ت حدود 370هـ) يقول:
بأرض طوسٍ نائيَ الأوطانِ قد غرّه المأمونُ بالأمانـيحـين سـقاه السمَّ في الرمّانِ(14)
ومن هناك يقول القاضي التنوخيّ (ت 384هـ) يعيّر بني العبّاس:
ومأمونُكم سَمَّ الرضا بـعد بيـعـةٍ فآدت له شمّ الجبال الرواسبِ(15)
1. كفاية الأثر في النصّ على الأئمّة الآثني عشر، لأبي القاسم عليّ بن محمّد الخزّاز الرازي ـ باب ما جاء عن الحسن عليه السّلام.
2. أخرجه النباطيّ البيّاضيّ في كتابه (الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 128:2).
3. إعلام الورى بأعلام الهدى، للطبرسي349.
4. عيون أخبار الرضا عليه السّلام، للصدوق 203:2ح5.
5. نجدها في : تاريخ دمشق، لابن عساكر 74:3/الرقم 1118. فرائد السمطين، للجوينيّ 36:2. البداية و النهاية، لابن الأثير 43:8. مقتل الحسين عليه السّلام، للخوارزميّ ج2. الصواعق المحرقة، لابن حجر 200،203. ما روته العامّة من مناقب أهل البيت عليهم السّلام، للمولى الشروانيّ 262. الاتحاف بحبّ الأشراف، للشبراويّ 54. عمدة الطالب، لابن المهنّا 196. إثبات الوصيّة، للمسعوديّ 181 - 183، 192. دلائل الإمامة، للطبريّ الإماميّ 209،223. الفصول المهمّة، لابن الصبّاغ المالكيّ 283، 288. الصراط السويّ، للشيخانيّ 410. الاعتقادات، للشيخ الصدوق 109. إلزام الناصب في إثبات الحجّة الغائب، للمولى الشيخ عليّ اليزديّ الحائريّ ـ ط إصفهان 1351 هـ ش، ص 190.
6. اعتقادات الصدوق 109.
7. فوات الوفيات، للصفديّ 269:2. تاريخ الطبريّ 202:10. البداية والنهاية لابن الأثير243:10. حياة الحيوان، للدميريّ72:1. مروج الذهب، للمسعوديّ414:3. تاريخ الخلفاء، للسيوطيّ298.. وغيرها.
8. العِبر، لابن خلدون 245:3 و 249. تاريخ ابن الورديّ 289:1، البداية والنهاية 260:10. مرآة الجنان، لليافعيّ36:2. وفيات الأعيان، لابن خلّكان 237:1.. وغيرها.
9. مقاتل الطالبيّين، لأبي فرج الإصبهانيّ 339ـ382. وفيات الأعيان 491:1 صفوة الصفوة، لابن الجوزيّ 177:3 مرآة الجنان 393:1. فرق الشيعة، للنوبختيّ ـ هامش ص97، عن بحر الأنساب.
10. عيون أخبار الرضا عليه السّلام 214:2 ـ 216.
11. عيون أخبار الرضا عليه السّلام 239:2.
12. مقاتل الطالبيّين 630.
13. شرح الشافية، لمحمّد بن أمير حاج الحسينيّ6.
14. مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب 374:4.
15. مناقب آل أبي طالب 328:4.