عذراء الروح
08-03-2009, 04:15 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الهم صلي علي محمد وال محمد
تكاد تتفق كل نصوص الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة على أن هذا القرآن الموجود بين أيدينا هو الكتاب الذي أنزله الله على رسوله الأمين محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) وهو الكتاب الذي تكفّل الله بحفظه وتخليده باعتباره الدليل على خلود الرسالة التي اُنزل من أجل إثباتها وتثبيتها.
وقد تضمن هدى الله للبشرية والدين التام الذي ارتضاه لعباده ويحتج به على خلقه إلى يوم القيامة.
وقد صرّحت كلماته الخالدة عن هذا الكتاب الخالد بأنه يتكلّم عن القرآن الموجود بأيدينا، وهو القرآن الذي اُنزل على الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وجمع في عهده (عليه السلام) وتداوله المسلمون جيلاً بعد جيل لم ينقص منه حرف أو كلمة.
قال (عليه السلام): (واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يَغُشّ، والهادي الذي لا يُضِلُّ، والُمحدِّثُ الذي لا يكذبُ.
وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدىً أو نقصان من عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنىً، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لاَ ْوائِكم; فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال، فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبّه)(1).
وهذه النصوص الواردة عنه، حول القرآن الكريم الموجود بأيدي المسلمين في عصره وعصرنا هذا هي التي تفسّر قوله (عليه السلام):
(وإن الكتاب لَمعي، ما فارقته مُذ صحبتُه)(2).
هذا هو موقف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من كتاب الله الخالد. ولكنّ أعداء هذا الكتاب الإلهي انتهجوا لتفريق المسلمين سُبلاً شتّى، منها: اتّهام أهل البيت (عليهم السلام) ـ وهم حملة القرآن وعدله ورعاته والمفسّرون لآياته كما أُوحي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأتباعهم ـ بأنهم يزعمون أنّ لديهم سوى هذا القرآن قرآناً يحتفظون به(3) زاعمين أنّ هناك روايات تشير إلى ذلك.
ومن هنا ـ إيضاحاً للحقيقة التي يعرفها أهل الحق، والتي يحاول الأعداء تغييبها ـ نعالج هذا الزعم لنصل إلى ما ترشدنا إليه الروايات في هذا المجال، وذلك عبر ملاحظة تأريخ القرآن منذ عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتى عصر الإمام علي (عليه السلام) لنقف على حقيقة ما يسمى بمصحف الإمام علي (عليه السلام) في هذه النصوص.
لا يمكن البحث في قضية مصحف الإمام علي (عليه السلام) إلا بعد معرفة تاريخ جمع القرآن، لأن مصحف الإمام علي (عليه السلام) ما هو إلا جمع الإمام علي (عليه السلام) للقرآن الكريم وما حوله.
إن ترتيب القرآن وتاريخ جمعه وتنظيم سوره، وتشكيله وتنقيطه وتفصيله إلى أجزاء وأحزاب لم يكن وليد عامل واحد، ولم يكتمل في فترة زمنية قصيرة، فقد مرت عليه أدوار وأطوار ابتدأت بعهد الرسالة وانتهت بدور توحيد المصاحف على عهد عثمان، ثم إلى عهد الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أكمل تشكيله على ما هو بأيدينا اليوم.
يرى المؤرخون أن تاريخ جمع القرآن قد مر بثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأُولى : عهد النبي (صلى الله عليه وآله) حيث جمع القرآن كتابة وحفظاً في الصدور وكُتب في قراطيس وألواح من الرقاع والعسب(4) واللخاف(5) والأكتاف(6). فقد قال زيد بن ثابت: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلف، أي نكتب القرآن في الرقاع(7).
المرحلة الثانية: عهد أبي بكر، وذلك بانتساخه من العسب والرقاع وصدور الرجال(8).
المرحلة الثالثة: عهد عثمان بن عفان حيث جمع القرآن بين دفتين وحمل الناس على قراءة واحدة، وكتب منه عدة مصاحف أرسلها إلى الأمصار، وأحرق باقي المصاحف(9).
فُحول المرحلة الأُولى:
يذهب بعض علماء الإمامية على أن القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانه لم يترك دنياه إلى آخرته إلاّ بعد أن عارض ما في صدره بما في صدور الحفظة الذين كانوا كثرة وبما في مصاحف الذين جمعوا القرآن في عهده، وتشير إلى ذلك كثير من الروايات منها قوله (صلى الله عليه وآله): (من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه، أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته...)(10).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشرف بنفسه على ما يكتب، فعن زيد قال: فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسره فأكتب وهو يملي عليَّ فإذا فرغت قال: إقرأه، فأقرأُه، فان كان فيه سقط أقامه، ثم اخرج إلى الناس(11).
وروي أن الصحابة كانوا يختمون القرآن من أوله إلى آخره حتى قال (صلى الله عليه وآله): (إن لصاحب القرآن عند الله لكل ختم دعوة مستجابة)(12).
هل جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) القرآن بنفسه أم لا؟
لقد كان لدى النبي (صلى الله عليه وآله) مصحف مجموع، ففي حديث عثمان بن أبي العاص حيث جاء وفد ثقيف إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قال عثمان: فدخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألته مصحفاً كان عنده فأعطانيه(13). بل وترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصحفاً في بيته خلف فراشه مكتوباً في العسب والحرير والأكتاف، وقد أمر علياً(عليه السلام) بأخذه وجمعه...(14).
أما المرحلة الثانية من جمع القرآن التي يقال عنها أنها كانت في عهد أبي بكر فالأخبار حول هذا الجمع متضاربة، كما أنها لا ترتبط بما نحن بصدده.
أما شبهة أن للإمام علي (عليه السلام) مصحفاً غير هذا المصحف المتداول بين المسلمين من جهة النص فهذه شبهة لا دليل عليها ولا أساس لها من الصحة.
نعم، تفيد طائفة من أحاديث الشيعة وأهل السنة أن الإمام علياً اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجمع القرآن الكريم، وكان موقفه هذا بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه قال: لا أرتدي حتى أجمعه. وروي أنه لم يرتد إلاّ للصلاة حتى جمعه(15).
من أين جاءت تسمية مصحف الإمام علي (عليه السلام)؟
لقد كان للإمام مصحف كباقي المصاحف التي جمعت فيما بعد مثل مصحف زيد ومصحف ابن مسعود ومصحف أُبي بن كعب ومصحف أبي موسى الأشعري ومصحف المقداد بن الأسود، كما كان لعائشة أيضاً مصحف.
وكان أهل الكوفة يقرأون على مصحف عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرأون على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أبي كعب، وأهل دمشق على مصحف المقداد.
ولكن انتهى دور هذه المصاحف والقراءة فيها على عهد عثمان عندما أرسل عليها وأحرقها(16).
أما مصحف الإمام فقد احتفظ به لنفسه وأهل بيته ولم يظهره لأحد، حفاظاً على وحدة الأُمة، على ما سنبيّنه فيما بعد.
هل مصاحف الصحابة التي سميت بأسماء جامعيها تختلف فيما بينها؟ وهل لكل واحد منها خصوصية؟
يرى المؤرخون أن فروقاً من ناحية تقديم السور وتأخيرها تكتنف تلك المصاحف، فمثلاً مصحف ابن مسعود نجده مؤلفاً بتقديم السبع الطوال ثم المئتين ثم المثاني ثم الحواميم ثم الممتحنات ثم المفصلات.
أما مصحف اُبي بن كعب نجده قد قدّم الأنفال وجعلها بعد سورة يونس وقبل البراءة، وقدم سورة مريم والشعراء والحج على سورة يوسف(17).
متى جمع الإمام علي (عليه السلام) مصحفه؟
إنّ أول مَن تصدى لجمع القرآن بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وبوصية منه(18) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قعد في بيته مشتغلاً بجمع القرآن وترتيبه على ما نزل.
قال ابن النديم ـ بسند يذكره ـ: أن علياً (عليه السلام) رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فأقسم أن لا يضع رداءه حتى يجمع القرآن(19).
وروى محمد بن سيرين عن عكرمة، قال: لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن. قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أنزل الأول فالأول؟
قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يُألفوه هذا التأليف ما استطاعوه.
قال ابن سيرين: تطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه(20).
ما هو امتياز مصحف الإمام علي (عليه السلام) عن بقية المصاحف؟
واذا ما ثبت أن هناك مصحفاً للإمام علي (عليه السلام) قد جمعه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فما هي صفات ذلك المصحف؟ وهل يختلف عن غيره من المصاحف الأُخرى التي جمعت بعد مصحفه؟
قالوا: إنّ الفرق بين مصحف الإمام علي (عليه السلام) والمصاحف الأُخرى التي اختلفت فيما بينها أيضاً، هو أنّ الإمام (عليه السلام) رتّبه على ما نزل، كما اشتمل على شروح وتفاسير لمواضع من الآيات مع بيان أسباب ومواقع النزول.
قال(عليه السلام): (ما نزلت آية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا اقرأنيها وأملاها عليّ، فأكتبها بخطي. وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها. ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا)(21).
كما اشتمل على جملة من علوم القرآن الكريم، مثل: المحكم والمتشابه والمنسوخ والناسخ وتفسير الآيات وتأويلها(22).
هل عرض الإمام(عليه السلام) مصحفه على الناس؟
نعم، بعد أن جمعه جاء به إلى الناس وقال: إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغولاً بغسله وتجهيزه ثم بالقرآن حتى جمعته كله ولم ينزل الله على نبيّه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها(23).
وعرض الإمام مصحفه على الناس وأوضح مميزاته فقام إليه رجل من كبار القوم فنظر فيه، فقال: يا علي أردده فلا حاجة لنا فيه(24).
قال الإمام علي(عليه السلام): (أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرأوه)(25).
لماذا لم يخرج الإمام مصحفه في زمن الخليفة عثمان؟
خلال عهد عثمان اختلفت المصاحف، وأُثيرت الضجة بين المسلمين، فسأل طلحة الإمام علياً (عليه السلام) لو يخرج للناس مصحفه الذي جمعه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: وما يمنعك ـ يرحمك الله ـ أن تخرج كتاب الله إلى الناس؟! فكفّ (عليه السلام) عن الجواب أولاً، فكرّر طلحة السؤال، فقال: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك من أمر القرآن، ألا تظهره للناس؟
وأوضح الإمام (عليه السلام) سبب كفّه عن الجواب لطلحة مخافة أن تتمزق وحدة الأُمة، حيث قال: يا طلحة عمداً كففت عن جوابك فأخبرني عمّا كتبه القوم؟ أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كله. قال (عليه السلام): إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنّة...(26).
مصير مصحف الإمام علي (عليه السلام):
تفيد الروايات بأن المصحف قد سلّمه الإمام علي (عليه السلام) للأئمة من بعده وهم يتداولونه الواحد بعد الآخر لا يُرونه لأحد(27).
كما لم يعد خبر المصحف والحديث عنه خافياً على العلماء الباقين. ذكر ابن النديم أنه أول مصحف جمع فيه القرآن، وكان هذا المصحف عند آل جعفر، وفي قول آخر يتوارثه بنو الحسن(28).
ثم تابع ابن سيرين مصير المصحف في المدينة المنورة فلم يفلح على حصوله، وقد صرّح بخصوصية المصحف بقوله: (فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم)(29).
إذن تتلخص قصة مصحف الإمام علي (عليه السلام) بما يلي:
إن الإمام (عليه السلام) جمع القرآن بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكانت سوره وآياته هي آيات وسور القرآن المتداول بين المسلمين اليوم، وكان متضمناً ترتيب السور حسب النزول والى جانبها أسباب النزول، إلاّ أن موقف بعض الصحابة من مصحفه كان موقفاً سياسياً.
ومن هنا فالأحرى أن نعتبره نسخة أُخرى من القرآن الكريم متضمّنة لسوره وآياته، وليس هو قرآن آخر سوى القرآن الكريم.
وجاء الخصوم بعد ذلك ليقولوا: إن الشيعة تدّعي أن للإمام علي (عليه السلام) مصحفاً غير المصحف المتداول بين المسلمين ظلماً ورغبة في تفريق صف الأُمة المسلمة(30).
الهوامش:
1- نهج البلاغة ، الخطبة: 176 ، وراجع أيضاً المعجم الموضوعي لنهج البلاغة لتقف على مجموعة النصوص الواردة عنه في هذا الشأن.
2- نهج البلاغة : الخطبة: 122.
3- وهذا لا يعني أن الأصحاب أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ليست لديهم صحف حول القرآن الكريم قد تكون متضمنة لتفسيره وتأويله، أو أسباب نزوله وغير ذلك مما يرتبط بالقرآن الكريم.
4- العسب: جريد النخل.
5- اللخاف: الحجارة الرقيقة.
6- الأكتاف: عظمُ البعير.
7- المستدرك: 2 / 611.
8- الإتقان: 1 / 202 ومستدرك الحاكم 3: 656.
9- الإتقان: 1 / 211.
10- مجمع البيان: 1/85، ومناهل العرفان: 1/234، ومسند أحمد: 5/324، ومباحث علوم القرآن: 121، وحياة الصحابة: 3/260، ومستدرك الحاكم: 3/356.
11- مجمع الزوائد: 1/152.
12- كنز العمال: 1 / حديث 2280.
13- مجمع الزوائد: 9/371، حياة الصحابة 3: 344.
14- كنز العمال: 2 / حديث 4792.
15- انظر الطبقات الكبرى: 2/338، انساب الاشراف: 1/587، شرح بن أبي الحديد: 1/27، مناهل العرفان: 1/247، الإتقان: 1/204، كنز العمال 2: 588 / 4792.
16- صحيح البخاري: 6/225 ـ 226 ، المصاحف للسجستاني: 11 ـ 14، الكامل في التاريخ: 3/55 ، البرهان: 1 / 239 ـ 243.
17- التمهيد (محمد هادي معرفة): 1 / 312.
18- راجع تفسير القمي: 745 ، بحار الأنوار: 92 / 48 ح 5.
19- المناقب: 2/40.
20- الإتقان: 1/57، وراجع الطبقات: 2/101، الاستيعاب بهامش الإصابة: 2/253، التسهيل لعلوم التنزيل: 1/4، بحار الأنوار: 92 / 88 ح 27، آلاء الرحمن: 1/18.
21- تفسير البرهان: 1/16 ح 14.
22- راجع الإرشاد والرسالة السروية للمفيد، وأعيان الشيعة: 1 / 89، وتاريخ القرآن للأبياري: 85. حقائق هامة حول القرآن الكريم: 153 ـ 158.
23- الاحتجاج للطبرسي: 82.
24- كتاب سليم بن قيس: 72، المناقب: 1 / 40 ـ 41، الاحتجاج للطبرسي: 82، وبحار الأنوار: 92 / 51 ح 18.
25- تفسير الصافي: 1 / 36.
26- سليم بن قيس: 110، وعنه في بحار الأنوار: 92 / 42 ح 1.
27- بحار الأنوار: 92 / 42 ح 1.
28- الفهرست لابن النديم: 47 ـ 48.
29- الطبقات: 2 / 101 وعنه في الإتقان: 1 / 57.
30- لاحظ: الشيعة والسنّة لإحسان الهي ظهير: 88 وغيره ممن سار على نهجه.
الهم صلي علي محمد وال محمد
تكاد تتفق كل نصوص الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة على أن هذا القرآن الموجود بين أيدينا هو الكتاب الذي أنزله الله على رسوله الأمين محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) وهو الكتاب الذي تكفّل الله بحفظه وتخليده باعتباره الدليل على خلود الرسالة التي اُنزل من أجل إثباتها وتثبيتها.
وقد تضمن هدى الله للبشرية والدين التام الذي ارتضاه لعباده ويحتج به على خلقه إلى يوم القيامة.
وقد صرّحت كلماته الخالدة عن هذا الكتاب الخالد بأنه يتكلّم عن القرآن الموجود بأيدينا، وهو القرآن الذي اُنزل على الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وجمع في عهده (عليه السلام) وتداوله المسلمون جيلاً بعد جيل لم ينقص منه حرف أو كلمة.
قال (عليه السلام): (واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يَغُشّ، والهادي الذي لا يُضِلُّ، والُمحدِّثُ الذي لا يكذبُ.
وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدىً أو نقصان من عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنىً، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لاَ ْوائِكم; فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال، فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبّه)(1).
وهذه النصوص الواردة عنه، حول القرآن الكريم الموجود بأيدي المسلمين في عصره وعصرنا هذا هي التي تفسّر قوله (عليه السلام):
(وإن الكتاب لَمعي، ما فارقته مُذ صحبتُه)(2).
هذا هو موقف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من كتاب الله الخالد. ولكنّ أعداء هذا الكتاب الإلهي انتهجوا لتفريق المسلمين سُبلاً شتّى، منها: اتّهام أهل البيت (عليهم السلام) ـ وهم حملة القرآن وعدله ورعاته والمفسّرون لآياته كما أُوحي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأتباعهم ـ بأنهم يزعمون أنّ لديهم سوى هذا القرآن قرآناً يحتفظون به(3) زاعمين أنّ هناك روايات تشير إلى ذلك.
ومن هنا ـ إيضاحاً للحقيقة التي يعرفها أهل الحق، والتي يحاول الأعداء تغييبها ـ نعالج هذا الزعم لنصل إلى ما ترشدنا إليه الروايات في هذا المجال، وذلك عبر ملاحظة تأريخ القرآن منذ عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتى عصر الإمام علي (عليه السلام) لنقف على حقيقة ما يسمى بمصحف الإمام علي (عليه السلام) في هذه النصوص.
لا يمكن البحث في قضية مصحف الإمام علي (عليه السلام) إلا بعد معرفة تاريخ جمع القرآن، لأن مصحف الإمام علي (عليه السلام) ما هو إلا جمع الإمام علي (عليه السلام) للقرآن الكريم وما حوله.
إن ترتيب القرآن وتاريخ جمعه وتنظيم سوره، وتشكيله وتنقيطه وتفصيله إلى أجزاء وأحزاب لم يكن وليد عامل واحد، ولم يكتمل في فترة زمنية قصيرة، فقد مرت عليه أدوار وأطوار ابتدأت بعهد الرسالة وانتهت بدور توحيد المصاحف على عهد عثمان، ثم إلى عهد الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أكمل تشكيله على ما هو بأيدينا اليوم.
يرى المؤرخون أن تاريخ جمع القرآن قد مر بثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأُولى : عهد النبي (صلى الله عليه وآله) حيث جمع القرآن كتابة وحفظاً في الصدور وكُتب في قراطيس وألواح من الرقاع والعسب(4) واللخاف(5) والأكتاف(6). فقد قال زيد بن ثابت: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلف، أي نكتب القرآن في الرقاع(7).
المرحلة الثانية: عهد أبي بكر، وذلك بانتساخه من العسب والرقاع وصدور الرجال(8).
المرحلة الثالثة: عهد عثمان بن عفان حيث جمع القرآن بين دفتين وحمل الناس على قراءة واحدة، وكتب منه عدة مصاحف أرسلها إلى الأمصار، وأحرق باقي المصاحف(9).
فُحول المرحلة الأُولى:
يذهب بعض علماء الإمامية على أن القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانه لم يترك دنياه إلى آخرته إلاّ بعد أن عارض ما في صدره بما في صدور الحفظة الذين كانوا كثرة وبما في مصاحف الذين جمعوا القرآن في عهده، وتشير إلى ذلك كثير من الروايات منها قوله (صلى الله عليه وآله): (من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه، أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته...)(10).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشرف بنفسه على ما يكتب، فعن زيد قال: فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسره فأكتب وهو يملي عليَّ فإذا فرغت قال: إقرأه، فأقرأُه، فان كان فيه سقط أقامه، ثم اخرج إلى الناس(11).
وروي أن الصحابة كانوا يختمون القرآن من أوله إلى آخره حتى قال (صلى الله عليه وآله): (إن لصاحب القرآن عند الله لكل ختم دعوة مستجابة)(12).
هل جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) القرآن بنفسه أم لا؟
لقد كان لدى النبي (صلى الله عليه وآله) مصحف مجموع، ففي حديث عثمان بن أبي العاص حيث جاء وفد ثقيف إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قال عثمان: فدخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألته مصحفاً كان عنده فأعطانيه(13). بل وترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصحفاً في بيته خلف فراشه مكتوباً في العسب والحرير والأكتاف، وقد أمر علياً(عليه السلام) بأخذه وجمعه...(14).
أما المرحلة الثانية من جمع القرآن التي يقال عنها أنها كانت في عهد أبي بكر فالأخبار حول هذا الجمع متضاربة، كما أنها لا ترتبط بما نحن بصدده.
أما شبهة أن للإمام علي (عليه السلام) مصحفاً غير هذا المصحف المتداول بين المسلمين من جهة النص فهذه شبهة لا دليل عليها ولا أساس لها من الصحة.
نعم، تفيد طائفة من أحاديث الشيعة وأهل السنة أن الإمام علياً اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجمع القرآن الكريم، وكان موقفه هذا بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه قال: لا أرتدي حتى أجمعه. وروي أنه لم يرتد إلاّ للصلاة حتى جمعه(15).
من أين جاءت تسمية مصحف الإمام علي (عليه السلام)؟
لقد كان للإمام مصحف كباقي المصاحف التي جمعت فيما بعد مثل مصحف زيد ومصحف ابن مسعود ومصحف أُبي بن كعب ومصحف أبي موسى الأشعري ومصحف المقداد بن الأسود، كما كان لعائشة أيضاً مصحف.
وكان أهل الكوفة يقرأون على مصحف عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرأون على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أبي كعب، وأهل دمشق على مصحف المقداد.
ولكن انتهى دور هذه المصاحف والقراءة فيها على عهد عثمان عندما أرسل عليها وأحرقها(16).
أما مصحف الإمام فقد احتفظ به لنفسه وأهل بيته ولم يظهره لأحد، حفاظاً على وحدة الأُمة، على ما سنبيّنه فيما بعد.
هل مصاحف الصحابة التي سميت بأسماء جامعيها تختلف فيما بينها؟ وهل لكل واحد منها خصوصية؟
يرى المؤرخون أن فروقاً من ناحية تقديم السور وتأخيرها تكتنف تلك المصاحف، فمثلاً مصحف ابن مسعود نجده مؤلفاً بتقديم السبع الطوال ثم المئتين ثم المثاني ثم الحواميم ثم الممتحنات ثم المفصلات.
أما مصحف اُبي بن كعب نجده قد قدّم الأنفال وجعلها بعد سورة يونس وقبل البراءة، وقدم سورة مريم والشعراء والحج على سورة يوسف(17).
متى جمع الإمام علي (عليه السلام) مصحفه؟
إنّ أول مَن تصدى لجمع القرآن بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وبوصية منه(18) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قعد في بيته مشتغلاً بجمع القرآن وترتيبه على ما نزل.
قال ابن النديم ـ بسند يذكره ـ: أن علياً (عليه السلام) رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فأقسم أن لا يضع رداءه حتى يجمع القرآن(19).
وروى محمد بن سيرين عن عكرمة، قال: لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن. قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أنزل الأول فالأول؟
قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يُألفوه هذا التأليف ما استطاعوه.
قال ابن سيرين: تطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه(20).
ما هو امتياز مصحف الإمام علي (عليه السلام) عن بقية المصاحف؟
واذا ما ثبت أن هناك مصحفاً للإمام علي (عليه السلام) قد جمعه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فما هي صفات ذلك المصحف؟ وهل يختلف عن غيره من المصاحف الأُخرى التي جمعت بعد مصحفه؟
قالوا: إنّ الفرق بين مصحف الإمام علي (عليه السلام) والمصاحف الأُخرى التي اختلفت فيما بينها أيضاً، هو أنّ الإمام (عليه السلام) رتّبه على ما نزل، كما اشتمل على شروح وتفاسير لمواضع من الآيات مع بيان أسباب ومواقع النزول.
قال(عليه السلام): (ما نزلت آية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا اقرأنيها وأملاها عليّ، فأكتبها بخطي. وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها. ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا)(21).
كما اشتمل على جملة من علوم القرآن الكريم، مثل: المحكم والمتشابه والمنسوخ والناسخ وتفسير الآيات وتأويلها(22).
هل عرض الإمام(عليه السلام) مصحفه على الناس؟
نعم، بعد أن جمعه جاء به إلى الناس وقال: إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغولاً بغسله وتجهيزه ثم بالقرآن حتى جمعته كله ولم ينزل الله على نبيّه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها(23).
وعرض الإمام مصحفه على الناس وأوضح مميزاته فقام إليه رجل من كبار القوم فنظر فيه، فقال: يا علي أردده فلا حاجة لنا فيه(24).
قال الإمام علي(عليه السلام): (أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرأوه)(25).
لماذا لم يخرج الإمام مصحفه في زمن الخليفة عثمان؟
خلال عهد عثمان اختلفت المصاحف، وأُثيرت الضجة بين المسلمين، فسأل طلحة الإمام علياً (عليه السلام) لو يخرج للناس مصحفه الذي جمعه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: وما يمنعك ـ يرحمك الله ـ أن تخرج كتاب الله إلى الناس؟! فكفّ (عليه السلام) عن الجواب أولاً، فكرّر طلحة السؤال، فقال: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك من أمر القرآن، ألا تظهره للناس؟
وأوضح الإمام (عليه السلام) سبب كفّه عن الجواب لطلحة مخافة أن تتمزق وحدة الأُمة، حيث قال: يا طلحة عمداً كففت عن جوابك فأخبرني عمّا كتبه القوم؟ أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كله. قال (عليه السلام): إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنّة...(26).
مصير مصحف الإمام علي (عليه السلام):
تفيد الروايات بأن المصحف قد سلّمه الإمام علي (عليه السلام) للأئمة من بعده وهم يتداولونه الواحد بعد الآخر لا يُرونه لأحد(27).
كما لم يعد خبر المصحف والحديث عنه خافياً على العلماء الباقين. ذكر ابن النديم أنه أول مصحف جمع فيه القرآن، وكان هذا المصحف عند آل جعفر، وفي قول آخر يتوارثه بنو الحسن(28).
ثم تابع ابن سيرين مصير المصحف في المدينة المنورة فلم يفلح على حصوله، وقد صرّح بخصوصية المصحف بقوله: (فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم)(29).
إذن تتلخص قصة مصحف الإمام علي (عليه السلام) بما يلي:
إن الإمام (عليه السلام) جمع القرآن بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكانت سوره وآياته هي آيات وسور القرآن المتداول بين المسلمين اليوم، وكان متضمناً ترتيب السور حسب النزول والى جانبها أسباب النزول، إلاّ أن موقف بعض الصحابة من مصحفه كان موقفاً سياسياً.
ومن هنا فالأحرى أن نعتبره نسخة أُخرى من القرآن الكريم متضمّنة لسوره وآياته، وليس هو قرآن آخر سوى القرآن الكريم.
وجاء الخصوم بعد ذلك ليقولوا: إن الشيعة تدّعي أن للإمام علي (عليه السلام) مصحفاً غير المصحف المتداول بين المسلمين ظلماً ورغبة في تفريق صف الأُمة المسلمة(30).
الهوامش:
1- نهج البلاغة ، الخطبة: 176 ، وراجع أيضاً المعجم الموضوعي لنهج البلاغة لتقف على مجموعة النصوص الواردة عنه في هذا الشأن.
2- نهج البلاغة : الخطبة: 122.
3- وهذا لا يعني أن الأصحاب أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ليست لديهم صحف حول القرآن الكريم قد تكون متضمنة لتفسيره وتأويله، أو أسباب نزوله وغير ذلك مما يرتبط بالقرآن الكريم.
4- العسب: جريد النخل.
5- اللخاف: الحجارة الرقيقة.
6- الأكتاف: عظمُ البعير.
7- المستدرك: 2 / 611.
8- الإتقان: 1 / 202 ومستدرك الحاكم 3: 656.
9- الإتقان: 1 / 211.
10- مجمع البيان: 1/85، ومناهل العرفان: 1/234، ومسند أحمد: 5/324، ومباحث علوم القرآن: 121، وحياة الصحابة: 3/260، ومستدرك الحاكم: 3/356.
11- مجمع الزوائد: 1/152.
12- كنز العمال: 1 / حديث 2280.
13- مجمع الزوائد: 9/371، حياة الصحابة 3: 344.
14- كنز العمال: 2 / حديث 4792.
15- انظر الطبقات الكبرى: 2/338، انساب الاشراف: 1/587، شرح بن أبي الحديد: 1/27، مناهل العرفان: 1/247، الإتقان: 1/204، كنز العمال 2: 588 / 4792.
16- صحيح البخاري: 6/225 ـ 226 ، المصاحف للسجستاني: 11 ـ 14، الكامل في التاريخ: 3/55 ، البرهان: 1 / 239 ـ 243.
17- التمهيد (محمد هادي معرفة): 1 / 312.
18- راجع تفسير القمي: 745 ، بحار الأنوار: 92 / 48 ح 5.
19- المناقب: 2/40.
20- الإتقان: 1/57، وراجع الطبقات: 2/101، الاستيعاب بهامش الإصابة: 2/253، التسهيل لعلوم التنزيل: 1/4، بحار الأنوار: 92 / 88 ح 27، آلاء الرحمن: 1/18.
21- تفسير البرهان: 1/16 ح 14.
22- راجع الإرشاد والرسالة السروية للمفيد، وأعيان الشيعة: 1 / 89، وتاريخ القرآن للأبياري: 85. حقائق هامة حول القرآن الكريم: 153 ـ 158.
23- الاحتجاج للطبرسي: 82.
24- كتاب سليم بن قيس: 72، المناقب: 1 / 40 ـ 41، الاحتجاج للطبرسي: 82، وبحار الأنوار: 92 / 51 ح 18.
25- تفسير الصافي: 1 / 36.
26- سليم بن قيس: 110، وعنه في بحار الأنوار: 92 / 42 ح 1.
27- بحار الأنوار: 92 / 42 ح 1.
28- الفهرست لابن النديم: 47 ـ 48.
29- الطبقات: 2 / 101 وعنه في الإتقان: 1 / 57.
30- لاحظ: الشيعة والسنّة لإحسان الهي ظهير: 88 وغيره ممن سار على نهجه.