ولائي لعلي
14-03-2009, 12:21 AM
ملامح العظمة في شخصية الرسول (ص)
بين عظمة وعظمة:
من العظماء، من إذا استغرقت في عناصر شخصيته فإنَّك تلتقي بذاته في نطاق الدائرة المحدودة من تلك العناصر التي جعلت منه إنساناً عظيماً صاحب فكرٍ أو صاحب قوّةٍ وما إلى ذلك، ما يمنح شخصيته ضخامتها الذاتية التي لا تمتد إلى أبعد من ذلك. ومن العظماء من إذا استغرقت في داخل شخصيته فإنَّك تنفتح على العالـم كلّه، ذلك هو الفرق بين عظيم يجمّع عناصر عظمته من أجل أن يؤكّد ذاته وبين عظيم يجمّع هذه العناصر من أجل أن يعطي الحياة عظمة ويتجه بالإنسان إلى مواقع العظمة حتى تكون عظمته حركة في الحياة، حركة في الإنسان، ويجتمع الإنسان والحياة وينطلقا ليعيشا مع أجواء العظمة في اللّه العليّ العظيم.
من أولئك أنبياء اللّه الذين عاشوا للّه، فاكتشفوا الحياة من خلاله لأنَّها هبته، واكتشفوا الإنسان من خلاله، لأنَّه خلقه. وبذلك، فإنَّهم لـم يعيشوا مع اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ استغراقاً في ذاته بالمعنى العاطفي للكلمة، لتكون كلّ حياتهم مجرّد تأوّهات وتنهّدات وحسرات وما إلى ذلك، ولكنَّهم رأوا بأنَّهم عندما ينقذون الإنسان من جهله، إنَّما بذلك يعبدون اللّه، فقد ارتفعوا إلى اللّه من خلال رفعهم للإنسان إلى مستوى المسؤولية عن الحياة من خلال تعاليم اللّه، عاشوا الآلام والحسرات مع اللّه من خلال حملهم لآلام الإنسان وتنهّداته من أجل أن تنطلق روحانيتهم في قلب مسؤوليتهم.
ولذلك فالأنبياء ليسوا شخصياتٍ عظيمةً تعيش في المجال الطبقي الذي يصنعه النّاس لعظمائهم، ولكنَّ الأنبياء كانوا يعيشون مع النّاس، كانوا فيهم كأحدهم، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، يفتحون قلوبهم لإنسان يعيش ألماً من أجل أن يفسحوا المجال للفرح حتّى يطرد ذلك الألـم، يتواضعون للنّاس، يستمعون إلى آلامهم، يشاركونهم، يعيشون معهم، لا يتحسّسون في أنفسهم أيّة حالة علوّ وهم في المراتب العليا، وممّا تنقله لنا السيرة »بأنَّ رسول اللّه كان ذات يوم يسير ورأته امرأة فارتعدت هيبةً له فقال (ص): ما عليك إنَّما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد«.
إنَّه لـم ينفتح على ما عاشته من هيبته لتكون هيبته فاصلاً بينها وبين إحساسها الإنساني به وإحساسه الإنساني بها، لـم يرد للعظمة أن تكون حاجزاً بين إنسان وإنسان كما يفعل الكثيرون ممن يتخيّلون أنفسهم خطباء أو يرفعهم النّاس إلى صفوف العظماء فإذا بك تجد بينهم وبين النّاس حواجز وحواجز لا يعيشون التفاعل مع النّاس، وبذلك سقطت عظمتهم من خلال ما كانوا يؤكدونه من عظمتهم.
سرّ الإنسانية في النبوّة:
أمّا رسول اللّه (ص) فقد ارتفع إلى أعلى درجات العظمة عندما عاش حياة الإنسان، محتضناً له، ليرحمه وليرأف به، فلأنَّ سرّ إنسانيته في سرّ نبوته، في سرّ حركته في الحياة. لذلك قد نجد أنَّ بعض النّاس يتحدّثون في أشعارهم عن جمال الرسول (ص) وعن لون عينيه وعن جمال وجهه ويتغزّلون به من خلال ذلك، في الوقت الذي نرى أنَّ اللّه لـم يتحدّث عن كلّ ذلك، والسبب في ذلك أنَّ اللّه أراد أن يقول لنا بأنَّ الأنبياء الذين هم رسل اللّه إلى النّاس، انطلقوا مع الإنسان في صفاته الإنسانية التي تلتقي بالإنسان الآخر، أن تكون أيّ شيء في جمالك، أن تكون أيّ شيء في خصائص جسدك ذاك شيء يخصك لا علاقة له بالنّاس، لكن ما هي أخلاقك، ما هي انفعالاتك بالنّاس، ما هو احتضانك لحياة النّاس، ما هي طبيعة أحاسيسك، هل هي أحاسيس ذاتية تعيشها في ذاتك أو هي أحاسيس إنسانية تحتضن بها أحاسيس النّاس؟ كيف قدّمه اللّه إلينا؟
لـم يذكر لنا نسبه، ونحن دائماً نصرّ على العائلية في الحديث، فلـم يتحدّث لنا عن هاشميته ولا عن قرشيته ولا عن مكيته، لـم يحدّثنا عن اسم أبيه، عن اسم أمّه، ولكن حدّثنا عنه بصفته الرسولية الرسالية: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، لـم يأتِ من فوق ليطلّ عليكم من علياء العظمة، ولد بينكم، عاش معكم، تألَّـم كما تتألمون، وعاش الجوع كما تعيشون، وعاش اليُتم كما تعيشون اليُتم عندمـا تكونون أيتاماً، {من أنفسكم} وكلمة من أنفسكم تحمل في داخلها عمق المعنـى الإنسانـي الذي يجعل النبيّ (ص) في الصورة القرآنية إنساناً مندمجاً بالنّاس الآخرين، يعيش معهم، من داخل حياتهم، من داخل آلامهم، من داخل أحلامهم، من داخل قضاياهم، بحيث لا يوجد بينهم وبينه أيّ فاصل، إنَّه يتابعكم وأنتم تتألمون، يتابعكم وأنتم تتعبون، يتابعكم وأنتم تواجهون مشاكل الحياة التي تثقلكم، يعزّ عليه ذلك ويؤلمه ويثقله، لأنَّه يعيش دائماً في حالة نفسية متحفزة تراقب وترصد كلّ متاعبكم ومشاقكم {حريص عليكم} وكلمة حريص هنا تختزن في داخلها الكثير من الحنان، من الأبوة، من الاحتضان، من العاطفة.. يحرص عليكم فيضمّكم إليه، فتعيشون في قلبه، يقدّم لكم حلولاً لمشاكل حياتكم، عن كلّ تعقيداتكم، يحرص عليكم فيوحّدكم، ويجمع شملكم تماماً كما يحرص الأب على أبنائه والأم على أولادها، حريصٌ عليكم يخاف أن تضيعوا، يخاف أن تسقطوا، يخاف أن تـموتوا، وهو {بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128) الرأفة كلّها والرحمة كلّها، والرحمة في القرآن الكريـم ليست مجرّد حالة عاطفية، نبضة قلب وخفقة إحساس، بل الرحمة هي حركة الإنسان فيما يمكن له أن يحمي الإنسان، من نفسه، ومن غيره، من أجل الانطلاق بالإنسان.
رسول الرحمة:
ألـم نقرأ الآية الثانية وهي تحدّثنا عنه {فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم}، هذه الرحمة الإلهية التي أنزلها اللّه على النّاس من خلال تجسّدها في النبيّ، بحيث بعث إليهم رسولاً يعيش وعي الواقع ويواجه كلّ التحجّر، تحجّر التقاليد، والعادات والعقائد، والتعقيدات، وما إلى ذلك، فيواجه ذلك وهو يرى أنَّ هذا التحجّر يمكن أن يتحوّل إلى حجارة ترميه تماماً كما كانت الحجارة تدمي رجليه وهو في الطائف، وكما كانت حجارة القذارات تثقل جسده وهو عائد من البيت الحرام أو ساجد بين يديّ ربِّه. كان يعرف أنَّ هناك تحجّراً، وأنَّ الذي يريد أن يبعث الينابيع في قلوب النّاس لا بُدَّ له أن يكتشف في الحجارة شيئاً من الينبوع، لأنَّ اللّه حدّثنا أنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الماء، إنَّ هناك ينابيع في قلب الحجارة، لذلك لا تنظر إلى حجرية الحجارة ولكن انفذ إلى أعماقها.
لذلك لا تنفذ إلى النّاس المتحجّرين لتقول إنَّ هؤلاء لا ينفع معهم كلام ولا يمكن أن ينطلقوا إلى الحوار، اصبر جيّداً، انطلق بالينبوع من قلبك، ليكن قلبك ولسانك لينين، فإنَّ لين القلب ينفذ إلى أعماق الحجارة ليخرج منها الماء، ولين الكلمة تنفذ إلى حجارة العقل من أجل أن تفتح فيها أكثر من ثغرة {فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك} (آل عمران:159)، قال ذلك لكلّ إنسان يحمل مسؤولية فكر يريد أن يُقنع به إنساناً، أو يحمل مسؤولية عاطفة يريد أن يفتح عليها قلب إنسان، قال: أيُّها الإنسان المسؤول: المسؤولية تعني وعي إنسانية الآخر والصبر عليه، إن كنت مسؤولاً لا تصبر ابتعد عن المسؤولية، لأنَّك سوف تثقل النّاس فيما تعتبره مسؤوليتك، وإن لـم تعِ أمور النّاس، ولا تفهم حركية عقولهم وقلوبهم وأوضاعهم الحياتية فكيف يمكن أن تخاطب النّاس؟ فتِّش عن مفتاح الشخصية، وهو مفتاحٌ لا تصنعه عند صانع المفاتيح ولكن تصنعه وتأخذه من خلال خالق المفاتيح {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاَّ هو} (الأنعام:59).
ومن مفاتيح الغيب تنطلق مفاتيح الرسالة، ومن مفاتيح الرسالة تنطلق مفاتيح الوعي وتنفتح الحياة كلّها، صفاته هي رسالته، ولذلك إذا أردت أن تتحدّث عن صاحب أيّ فكرة فلا بُدَّ أن تتحدّث عن أخلاقيته في حركة الفكرة، لأنَّ ذلك هو الرابط الأساسي له بالنّاس، أمّا في مجال العلاقة بالإنسان الذي يتحلَّى بالجمال ويتمتع بقوّة جسدية فذلك ينحصر في المجال الذاتي لشخصيته، أمّا عن علاقة الإنسان بالإنسان فهي علاقة حركة الفكر، الذي يحتاجه الإنسان من إنسان آخر.
الأسوة والقدوة:
وهذا ما يحدّثنا اللّه عنه في صفات رسوله (ص)، فإنَّه يقول لنا: {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوةٌ حسنة} (الأحزاب:21)، فتقولون هذه صفات رسول اللّه فأين نحن من رسول اللّه؟ إنَّ اللّه يقول لكم: إنَّ رسول اللّه انطلق في سيرته من خلال رسالته ورسالته بين أيديكم، فإذا لـم تستطيعوا أن تقتربوا من مستوى العظمة في وعيه لرسالته، ولـم تستطيعوا أن تبلغوا القمة حاولوا أن تقتربوا من القمة ولو قليلاً، والقدوة في المسألة الإنسانية هي إيحاءٌ للإنسان إن بإمكانك أن تقترب من القمة إذا لـم تستطع أن تصل إليها. وهكذا لن يكون الرسول (ص) مجرّد رسول في التاريخ، ولكنَّه ـ وذلك سرُّ عظمته ـ كان رسالة في رسوليته، وكانت رسوليته هي الامتداد لشخصيته، حتّى أنَّنا نشعر أنَّ حضوره فينا ونحن نصلّي عليه ونستحضر سيرته وندرس سنته ونقرأ القرآن الذي بلَّغه، بأنَّ حضوره فينا كأفضل الحضور أعظم من حضور كثيرٍ من النّاس الذين يحسبون أنفسهم حاضرين ولكنَّهم غائبون عن الأمّة، قد يكونون حاضرين في الساحة بأجسادهم ولكنَّهم غائبون عن عقول الأمّة وقلوبها وإحساسها، وقضية الحضور والغياب هي في مدى وعي النّاس الذين تعيش في داخلهم لا من خلال الحجم الذي تتّخذه لنفسك في سلطانك.
لذلك مَنْ مِنَّا ـ وكلّ واحد منّا يحمل مسؤولية، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مسؤوليته العائلية، التربوية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، أيّ شيء فيما يتعامل معه النّاس من مسؤوليات ـ مَنْ مِنَّا يعيش هذه الروح في الكلمة اللينة، القلب اللين، الروح التي يشق عليها تعب الذين يعيشون في داخل مسؤوليتك، الحرص الذي يشعر به على حياة النّاس الذين يتحرّكون من خلال مسؤوليتك؟!
لن نكون في خطّ رسول اللّه إذا لـم يتحوَّل كلّ واحد منَّا إلى رسول اللّه ولو بنسبة العشرة بالمائة، أو من خلال القدوة، وعلى الإنسان في حال اعترضته مشاكل نفسية وبيئية وما إلى ذلك أن يخترق كلّ الحواجز، والمهم في كلّ ذلك أن نمتلك الإرادة.
قصتنا في كثيرٍ من الحالات، هي هذا الفاصل بين الفكرة والإرادة، بين الرغبة والحركة، الرغبات تبقى أحلاماً، وبدلاً من أن نُنـزل هذه الأحلام إلى الواقع نحاول أن ننطلق بها إلى الخيال، والفكرة تبقى في عقولنا مجرّد معلومات، والقيمة الكامنة في المعلومات هي عندما تتحوّل إلى واقع، وإلاَّ كانت وهماً، كثيرٌ من الفلاسفة حشروا أنفسهم وتحوّلت فلسفاتهم إلى هواء، وأصبحت مجرّد شيء يُتعب عقلك ولا يغذي الحياة.. وجاء النّاس الذين يفكرون في الإنسان في رسالتهم، واستطاعوا أن ينطلقوا بالإنسان إلى مجالات واسعة.
إذاً قيمة الفكرة أن تتحوّل إلى واقع، ونحن نعرف، حتّى في قرآننا وفي سنتنا، أنَّه لا قيمة للإيمان إذا لـم يكن مقترناً بالعمل الصالح، لأنَّ العمل الصالح هو حركية الإيمان في واقعك، كما أنَّ الإيمان هو حركية الصلاح في عقلك، وعندما تكون صالحاً في عقلك من خلال إيمانك وتكون صالحاً في عملك من خلال حركة إيمانك، عند ذلك يمكن أن تعطي الحياة صلاحاً، هذا هو {وإنَّك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، هل الخلق ابتسامة؟ هل الخلق مجرّد مصافحة حنونة؟ هل هو مجرّد مجاملات؟ هل الخلق حالة عناق أو احتضان؟ الخلق هو أنت في كلّ حركتك في الحياة، الأخلاق تختصر كلّ حياتك، علاقتك بنفسك هي خُلُق، علاقتك باللّه، علاقتك بعيالك، علاقتك بالنّاس الذين تعمل معهم ويعملون معك، علاقتك بالحكم، بالحاكم، بالقضايا الكبرى. وبعبارة أخرى، الأخلاق ليست شيئاً على هامش حياتنا، إنَّما هي كلّ حياتنا، هي أسلوبنا في الحياة، أسلوبنا في التعامل، أسلوبنا في الكلام، أسلوبنا في اتخاذ المواقف، أسلوبنا في تحديد المواقع، أسلوبنا في مواجهة التحدّيات، ولذلك رأينا أنَّ رسول اللّه (ص) اختصر الإسلام كلّه بكلمة واحدة: «إنَّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
الرسالات كلُّها هي حركةٌ في واقع الإنسان من أجل أن تتمِّم له أخلاقه، ولكلّ مرحلة أخلاقها، وتأتي المرحلة الثانية لتكمل ما نقص ممّا جدّ واستجدَّ من قضايا الحياة ومشاكلها، حتى كان ختام الأخلاق الرسالية هو ختام الرسالة في محمَّد (ص) الذي جاء ليتمِّم ويكمل للإنسان أخلاقه، وانطلق بالإسلام لا ليكون ديناً في مقابل الأديان، ولكنَّه دين يحتضن كلّ الأديان، مصدّقاً لما بين يديه، يؤمن بالرسل كلّهم، ينطلق ليأخذ من كلّ رسالة ما أراد اللّه له أن يأخذه ممّا يبقى للحياة، لأنَّ هناك شيئاً في الرسالات قد يكون مرحلياً، ولذلك جاء عيسى (ع) ليحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم، وجاء موسى قبله ليحرّم عليهم بعض ما أحلّ لهم. والقضية هي أنَّ قيمة الإسلام هي هذه، الإسلام ليس ديناً في مواجهة اليهودية، كما يواجه الفكر الخصم فكراً خصماً آخر، وليس في مواجهة النصرانية، ولكنَّه يحتضن ما يبقى من النصرانية وما يبقى من اليهودية وما يبقى من صحف إبراهيم وما يبقى من كلّ النبوَّات صغيراً أو كبيراً، ليقول للإنسان كلّه: أيُّها الإنسان، لقد كان هناك تاريخ للرسالات وأنا اختصرت لك كلّ هذا التاريخ، آمن بالرسل كلّهم، ولتكن حياتك في خطّ الرسل كلّهم، فأنا خاتمهم وأنا معهم أسير.
خصوصية الإسلام:
ولذلك فإنَّ مقدسات اليهودية في رموزها هي مقدّساتنا، وكذلك فيما يتعلّق برموز النصرانية ومقدّساتها، قد ينطلق يهودي أو نصراني ليسبّ مقدّساتنا، ولكنَّنا لا نستطيع أن نقف بردة فعل لنسبّ مقدّسات هذا أو ذاك، لأنَّ مقدّساتهم مقدّساتنا، لأنَّ موسى كما عيسى هما من أنبيائنا، ولأنَّ مريـم العذراء (ع) هي الإنسانة التي كرّمها اللّه وطهَّرها وفضَّلها على نساء العالمين، لذلك ماذا نقول؟ إنَّنا ندعو لهم بالهداية، هذا ردّ فعلنا، وهكذا نتعلّم من هذه الشمولية في حركة الإسلام الذي يمثّل إسلام القلب والعقل والفكر والوجه للّه ـ سبحانه وتعالى ـ ننطلق لنكون المنفتحين على الحياة كلّها وذلك من خلال الرسول إلى الرسالة.
فنحن نقرأ القرآن، والقرآن يحدّثنا عن كلّ ما أثير حول الرسول (ص) من خلال ما قال عنه المشركون بأنَّه ساحر، شاعر، كاهن، كذاب، كما قالوا عن القرآن بأنَّه {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} (الفرقان:5)، وقالوا عنه {إنَّما يعلّمه بشر}.
لقد حدّثنا القرآن عن كلّ ذلك، وبلّغ الرسول (ص) هذه الاتهامات للنّاس، قائلاً للذين لـم يعيشوا تجربة مكة، ومن خلال آيات اللّه: هذا نبيّكم قيل عنه إنَّه مجنون وقيل عنه إنَّه كاذب وساحر وكاهن وقيل عن قرآنكم إنَّ هناك بشراً علم النبي!! لـم يخف من أن يضل النّاس بالحديث عن نقاط الضعف التي أثاروها زوراً وبهتاناً.
ونستوحي من خلال ذلك بأنَّ الإنسان الذي يملك الحقّ لا يخاف من كلّ الكلمات التي تصوّر حقّه باطلاً. إذا كنت إنساناً تملك قوّة الحقّ في حياتك فليقل النّاس ما يقولون، عليك أن لا تخاف، لأنَّ الحقّ أقوى من كلّ ما يقولون إذا كانوا يقولون الباطل، واللّه تكفّل أن يزهق الباطل، أن يزهقه من عقول النّاس إذا لـم يُزهق من حياتهم.
كما أنَّنا نتعلّم من ذلك أن لا نتعقّد عندما نكون مسؤولين، أن لا نتعقّد من الاتهامات التي توجّه إلينا.. كن مسؤولاً في موقع ديني، كن مسؤولاً في موقع اجتماعي، كن مسؤولاً في موقع رسالي، إنَّ معنى مسؤوليتك هي أنَّك تقف موقف التحدّي لفكر الآخرين ولمصالح الآخرين أو لأوضاع الآخرين، ولذلك من الطبيعي أن يحاربك الآخرون منذ البداية بما يكذبون ويفترون، عليك أن تعتبر أنَّ ذلك أمر طبيعي في ساحة الصراع.
بين عظمة وعظمة:
من العظماء، من إذا استغرقت في عناصر شخصيته فإنَّك تلتقي بذاته في نطاق الدائرة المحدودة من تلك العناصر التي جعلت منه إنساناً عظيماً صاحب فكرٍ أو صاحب قوّةٍ وما إلى ذلك، ما يمنح شخصيته ضخامتها الذاتية التي لا تمتد إلى أبعد من ذلك. ومن العظماء من إذا استغرقت في داخل شخصيته فإنَّك تنفتح على العالـم كلّه، ذلك هو الفرق بين عظيم يجمّع عناصر عظمته من أجل أن يؤكّد ذاته وبين عظيم يجمّع هذه العناصر من أجل أن يعطي الحياة عظمة ويتجه بالإنسان إلى مواقع العظمة حتى تكون عظمته حركة في الحياة، حركة في الإنسان، ويجتمع الإنسان والحياة وينطلقا ليعيشا مع أجواء العظمة في اللّه العليّ العظيم.
من أولئك أنبياء اللّه الذين عاشوا للّه، فاكتشفوا الحياة من خلاله لأنَّها هبته، واكتشفوا الإنسان من خلاله، لأنَّه خلقه. وبذلك، فإنَّهم لـم يعيشوا مع اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ استغراقاً في ذاته بالمعنى العاطفي للكلمة، لتكون كلّ حياتهم مجرّد تأوّهات وتنهّدات وحسرات وما إلى ذلك، ولكنَّهم رأوا بأنَّهم عندما ينقذون الإنسان من جهله، إنَّما بذلك يعبدون اللّه، فقد ارتفعوا إلى اللّه من خلال رفعهم للإنسان إلى مستوى المسؤولية عن الحياة من خلال تعاليم اللّه، عاشوا الآلام والحسرات مع اللّه من خلال حملهم لآلام الإنسان وتنهّداته من أجل أن تنطلق روحانيتهم في قلب مسؤوليتهم.
ولذلك فالأنبياء ليسوا شخصياتٍ عظيمةً تعيش في المجال الطبقي الذي يصنعه النّاس لعظمائهم، ولكنَّ الأنبياء كانوا يعيشون مع النّاس، كانوا فيهم كأحدهم، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، يفتحون قلوبهم لإنسان يعيش ألماً من أجل أن يفسحوا المجال للفرح حتّى يطرد ذلك الألـم، يتواضعون للنّاس، يستمعون إلى آلامهم، يشاركونهم، يعيشون معهم، لا يتحسّسون في أنفسهم أيّة حالة علوّ وهم في المراتب العليا، وممّا تنقله لنا السيرة »بأنَّ رسول اللّه كان ذات يوم يسير ورأته امرأة فارتعدت هيبةً له فقال (ص): ما عليك إنَّما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد«.
إنَّه لـم ينفتح على ما عاشته من هيبته لتكون هيبته فاصلاً بينها وبين إحساسها الإنساني به وإحساسه الإنساني بها، لـم يرد للعظمة أن تكون حاجزاً بين إنسان وإنسان كما يفعل الكثيرون ممن يتخيّلون أنفسهم خطباء أو يرفعهم النّاس إلى صفوف العظماء فإذا بك تجد بينهم وبين النّاس حواجز وحواجز لا يعيشون التفاعل مع النّاس، وبذلك سقطت عظمتهم من خلال ما كانوا يؤكدونه من عظمتهم.
سرّ الإنسانية في النبوّة:
أمّا رسول اللّه (ص) فقد ارتفع إلى أعلى درجات العظمة عندما عاش حياة الإنسان، محتضناً له، ليرحمه وليرأف به، فلأنَّ سرّ إنسانيته في سرّ نبوته، في سرّ حركته في الحياة. لذلك قد نجد أنَّ بعض النّاس يتحدّثون في أشعارهم عن جمال الرسول (ص) وعن لون عينيه وعن جمال وجهه ويتغزّلون به من خلال ذلك، في الوقت الذي نرى أنَّ اللّه لـم يتحدّث عن كلّ ذلك، والسبب في ذلك أنَّ اللّه أراد أن يقول لنا بأنَّ الأنبياء الذين هم رسل اللّه إلى النّاس، انطلقوا مع الإنسان في صفاته الإنسانية التي تلتقي بالإنسان الآخر، أن تكون أيّ شيء في جمالك، أن تكون أيّ شيء في خصائص جسدك ذاك شيء يخصك لا علاقة له بالنّاس، لكن ما هي أخلاقك، ما هي انفعالاتك بالنّاس، ما هو احتضانك لحياة النّاس، ما هي طبيعة أحاسيسك، هل هي أحاسيس ذاتية تعيشها في ذاتك أو هي أحاسيس إنسانية تحتضن بها أحاسيس النّاس؟ كيف قدّمه اللّه إلينا؟
لـم يذكر لنا نسبه، ونحن دائماً نصرّ على العائلية في الحديث، فلـم يتحدّث لنا عن هاشميته ولا عن قرشيته ولا عن مكيته، لـم يحدّثنا عن اسم أبيه، عن اسم أمّه، ولكن حدّثنا عنه بصفته الرسولية الرسالية: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، لـم يأتِ من فوق ليطلّ عليكم من علياء العظمة، ولد بينكم، عاش معكم، تألَّـم كما تتألمون، وعاش الجوع كما تعيشون، وعاش اليُتم كما تعيشون اليُتم عندمـا تكونون أيتاماً، {من أنفسكم} وكلمة من أنفسكم تحمل في داخلها عمق المعنـى الإنسانـي الذي يجعل النبيّ (ص) في الصورة القرآنية إنساناً مندمجاً بالنّاس الآخرين، يعيش معهم، من داخل حياتهم، من داخل آلامهم، من داخل أحلامهم، من داخل قضاياهم، بحيث لا يوجد بينهم وبينه أيّ فاصل، إنَّه يتابعكم وأنتم تتألمون، يتابعكم وأنتم تتعبون، يتابعكم وأنتم تواجهون مشاكل الحياة التي تثقلكم، يعزّ عليه ذلك ويؤلمه ويثقله، لأنَّه يعيش دائماً في حالة نفسية متحفزة تراقب وترصد كلّ متاعبكم ومشاقكم {حريص عليكم} وكلمة حريص هنا تختزن في داخلها الكثير من الحنان، من الأبوة، من الاحتضان، من العاطفة.. يحرص عليكم فيضمّكم إليه، فتعيشون في قلبه، يقدّم لكم حلولاً لمشاكل حياتكم، عن كلّ تعقيداتكم، يحرص عليكم فيوحّدكم، ويجمع شملكم تماماً كما يحرص الأب على أبنائه والأم على أولادها، حريصٌ عليكم يخاف أن تضيعوا، يخاف أن تسقطوا، يخاف أن تـموتوا، وهو {بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128) الرأفة كلّها والرحمة كلّها، والرحمة في القرآن الكريـم ليست مجرّد حالة عاطفية، نبضة قلب وخفقة إحساس، بل الرحمة هي حركة الإنسان فيما يمكن له أن يحمي الإنسان، من نفسه، ومن غيره، من أجل الانطلاق بالإنسان.
رسول الرحمة:
ألـم نقرأ الآية الثانية وهي تحدّثنا عنه {فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم}، هذه الرحمة الإلهية التي أنزلها اللّه على النّاس من خلال تجسّدها في النبيّ، بحيث بعث إليهم رسولاً يعيش وعي الواقع ويواجه كلّ التحجّر، تحجّر التقاليد، والعادات والعقائد، والتعقيدات، وما إلى ذلك، فيواجه ذلك وهو يرى أنَّ هذا التحجّر يمكن أن يتحوّل إلى حجارة ترميه تماماً كما كانت الحجارة تدمي رجليه وهو في الطائف، وكما كانت حجارة القذارات تثقل جسده وهو عائد من البيت الحرام أو ساجد بين يديّ ربِّه. كان يعرف أنَّ هناك تحجّراً، وأنَّ الذي يريد أن يبعث الينابيع في قلوب النّاس لا بُدَّ له أن يكتشف في الحجارة شيئاً من الينبوع، لأنَّ اللّه حدّثنا أنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الماء، إنَّ هناك ينابيع في قلب الحجارة، لذلك لا تنظر إلى حجرية الحجارة ولكن انفذ إلى أعماقها.
لذلك لا تنفذ إلى النّاس المتحجّرين لتقول إنَّ هؤلاء لا ينفع معهم كلام ولا يمكن أن ينطلقوا إلى الحوار، اصبر جيّداً، انطلق بالينبوع من قلبك، ليكن قلبك ولسانك لينين، فإنَّ لين القلب ينفذ إلى أعماق الحجارة ليخرج منها الماء، ولين الكلمة تنفذ إلى حجارة العقل من أجل أن تفتح فيها أكثر من ثغرة {فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك} (آل عمران:159)، قال ذلك لكلّ إنسان يحمل مسؤولية فكر يريد أن يُقنع به إنساناً، أو يحمل مسؤولية عاطفة يريد أن يفتح عليها قلب إنسان، قال: أيُّها الإنسان المسؤول: المسؤولية تعني وعي إنسانية الآخر والصبر عليه، إن كنت مسؤولاً لا تصبر ابتعد عن المسؤولية، لأنَّك سوف تثقل النّاس فيما تعتبره مسؤوليتك، وإن لـم تعِ أمور النّاس، ولا تفهم حركية عقولهم وقلوبهم وأوضاعهم الحياتية فكيف يمكن أن تخاطب النّاس؟ فتِّش عن مفتاح الشخصية، وهو مفتاحٌ لا تصنعه عند صانع المفاتيح ولكن تصنعه وتأخذه من خلال خالق المفاتيح {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاَّ هو} (الأنعام:59).
ومن مفاتيح الغيب تنطلق مفاتيح الرسالة، ومن مفاتيح الرسالة تنطلق مفاتيح الوعي وتنفتح الحياة كلّها، صفاته هي رسالته، ولذلك إذا أردت أن تتحدّث عن صاحب أيّ فكرة فلا بُدَّ أن تتحدّث عن أخلاقيته في حركة الفكرة، لأنَّ ذلك هو الرابط الأساسي له بالنّاس، أمّا في مجال العلاقة بالإنسان الذي يتحلَّى بالجمال ويتمتع بقوّة جسدية فذلك ينحصر في المجال الذاتي لشخصيته، أمّا عن علاقة الإنسان بالإنسان فهي علاقة حركة الفكر، الذي يحتاجه الإنسان من إنسان آخر.
الأسوة والقدوة:
وهذا ما يحدّثنا اللّه عنه في صفات رسوله (ص)، فإنَّه يقول لنا: {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوةٌ حسنة} (الأحزاب:21)، فتقولون هذه صفات رسول اللّه فأين نحن من رسول اللّه؟ إنَّ اللّه يقول لكم: إنَّ رسول اللّه انطلق في سيرته من خلال رسالته ورسالته بين أيديكم، فإذا لـم تستطيعوا أن تقتربوا من مستوى العظمة في وعيه لرسالته، ولـم تستطيعوا أن تبلغوا القمة حاولوا أن تقتربوا من القمة ولو قليلاً، والقدوة في المسألة الإنسانية هي إيحاءٌ للإنسان إن بإمكانك أن تقترب من القمة إذا لـم تستطع أن تصل إليها. وهكذا لن يكون الرسول (ص) مجرّد رسول في التاريخ، ولكنَّه ـ وذلك سرُّ عظمته ـ كان رسالة في رسوليته، وكانت رسوليته هي الامتداد لشخصيته، حتّى أنَّنا نشعر أنَّ حضوره فينا ونحن نصلّي عليه ونستحضر سيرته وندرس سنته ونقرأ القرآن الذي بلَّغه، بأنَّ حضوره فينا كأفضل الحضور أعظم من حضور كثيرٍ من النّاس الذين يحسبون أنفسهم حاضرين ولكنَّهم غائبون عن الأمّة، قد يكونون حاضرين في الساحة بأجسادهم ولكنَّهم غائبون عن عقول الأمّة وقلوبها وإحساسها، وقضية الحضور والغياب هي في مدى وعي النّاس الذين تعيش في داخلهم لا من خلال الحجم الذي تتّخذه لنفسك في سلطانك.
لذلك مَنْ مِنَّا ـ وكلّ واحد منّا يحمل مسؤولية، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مسؤوليته العائلية، التربوية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، أيّ شيء فيما يتعامل معه النّاس من مسؤوليات ـ مَنْ مِنَّا يعيش هذه الروح في الكلمة اللينة، القلب اللين، الروح التي يشق عليها تعب الذين يعيشون في داخل مسؤوليتك، الحرص الذي يشعر به على حياة النّاس الذين يتحرّكون من خلال مسؤوليتك؟!
لن نكون في خطّ رسول اللّه إذا لـم يتحوَّل كلّ واحد منَّا إلى رسول اللّه ولو بنسبة العشرة بالمائة، أو من خلال القدوة، وعلى الإنسان في حال اعترضته مشاكل نفسية وبيئية وما إلى ذلك أن يخترق كلّ الحواجز، والمهم في كلّ ذلك أن نمتلك الإرادة.
قصتنا في كثيرٍ من الحالات، هي هذا الفاصل بين الفكرة والإرادة، بين الرغبة والحركة، الرغبات تبقى أحلاماً، وبدلاً من أن نُنـزل هذه الأحلام إلى الواقع نحاول أن ننطلق بها إلى الخيال، والفكرة تبقى في عقولنا مجرّد معلومات، والقيمة الكامنة في المعلومات هي عندما تتحوّل إلى واقع، وإلاَّ كانت وهماً، كثيرٌ من الفلاسفة حشروا أنفسهم وتحوّلت فلسفاتهم إلى هواء، وأصبحت مجرّد شيء يُتعب عقلك ولا يغذي الحياة.. وجاء النّاس الذين يفكرون في الإنسان في رسالتهم، واستطاعوا أن ينطلقوا بالإنسان إلى مجالات واسعة.
إذاً قيمة الفكرة أن تتحوّل إلى واقع، ونحن نعرف، حتّى في قرآننا وفي سنتنا، أنَّه لا قيمة للإيمان إذا لـم يكن مقترناً بالعمل الصالح، لأنَّ العمل الصالح هو حركية الإيمان في واقعك، كما أنَّ الإيمان هو حركية الصلاح في عقلك، وعندما تكون صالحاً في عقلك من خلال إيمانك وتكون صالحاً في عملك من خلال حركة إيمانك، عند ذلك يمكن أن تعطي الحياة صلاحاً، هذا هو {وإنَّك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، هل الخلق ابتسامة؟ هل الخلق مجرّد مصافحة حنونة؟ هل هو مجرّد مجاملات؟ هل الخلق حالة عناق أو احتضان؟ الخلق هو أنت في كلّ حركتك في الحياة، الأخلاق تختصر كلّ حياتك، علاقتك بنفسك هي خُلُق، علاقتك باللّه، علاقتك بعيالك، علاقتك بالنّاس الذين تعمل معهم ويعملون معك، علاقتك بالحكم، بالحاكم، بالقضايا الكبرى. وبعبارة أخرى، الأخلاق ليست شيئاً على هامش حياتنا، إنَّما هي كلّ حياتنا، هي أسلوبنا في الحياة، أسلوبنا في التعامل، أسلوبنا في الكلام، أسلوبنا في اتخاذ المواقف، أسلوبنا في تحديد المواقع، أسلوبنا في مواجهة التحدّيات، ولذلك رأينا أنَّ رسول اللّه (ص) اختصر الإسلام كلّه بكلمة واحدة: «إنَّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
الرسالات كلُّها هي حركةٌ في واقع الإنسان من أجل أن تتمِّم له أخلاقه، ولكلّ مرحلة أخلاقها، وتأتي المرحلة الثانية لتكمل ما نقص ممّا جدّ واستجدَّ من قضايا الحياة ومشاكلها، حتى كان ختام الأخلاق الرسالية هو ختام الرسالة في محمَّد (ص) الذي جاء ليتمِّم ويكمل للإنسان أخلاقه، وانطلق بالإسلام لا ليكون ديناً في مقابل الأديان، ولكنَّه دين يحتضن كلّ الأديان، مصدّقاً لما بين يديه، يؤمن بالرسل كلّهم، ينطلق ليأخذ من كلّ رسالة ما أراد اللّه له أن يأخذه ممّا يبقى للحياة، لأنَّ هناك شيئاً في الرسالات قد يكون مرحلياً، ولذلك جاء عيسى (ع) ليحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم، وجاء موسى قبله ليحرّم عليهم بعض ما أحلّ لهم. والقضية هي أنَّ قيمة الإسلام هي هذه، الإسلام ليس ديناً في مواجهة اليهودية، كما يواجه الفكر الخصم فكراً خصماً آخر، وليس في مواجهة النصرانية، ولكنَّه يحتضن ما يبقى من النصرانية وما يبقى من اليهودية وما يبقى من صحف إبراهيم وما يبقى من كلّ النبوَّات صغيراً أو كبيراً، ليقول للإنسان كلّه: أيُّها الإنسان، لقد كان هناك تاريخ للرسالات وأنا اختصرت لك كلّ هذا التاريخ، آمن بالرسل كلّهم، ولتكن حياتك في خطّ الرسل كلّهم، فأنا خاتمهم وأنا معهم أسير.
خصوصية الإسلام:
ولذلك فإنَّ مقدسات اليهودية في رموزها هي مقدّساتنا، وكذلك فيما يتعلّق برموز النصرانية ومقدّساتها، قد ينطلق يهودي أو نصراني ليسبّ مقدّساتنا، ولكنَّنا لا نستطيع أن نقف بردة فعل لنسبّ مقدّسات هذا أو ذاك، لأنَّ مقدّساتهم مقدّساتنا، لأنَّ موسى كما عيسى هما من أنبيائنا، ولأنَّ مريـم العذراء (ع) هي الإنسانة التي كرّمها اللّه وطهَّرها وفضَّلها على نساء العالمين، لذلك ماذا نقول؟ إنَّنا ندعو لهم بالهداية، هذا ردّ فعلنا، وهكذا نتعلّم من هذه الشمولية في حركة الإسلام الذي يمثّل إسلام القلب والعقل والفكر والوجه للّه ـ سبحانه وتعالى ـ ننطلق لنكون المنفتحين على الحياة كلّها وذلك من خلال الرسول إلى الرسالة.
فنحن نقرأ القرآن، والقرآن يحدّثنا عن كلّ ما أثير حول الرسول (ص) من خلال ما قال عنه المشركون بأنَّه ساحر، شاعر، كاهن، كذاب، كما قالوا عن القرآن بأنَّه {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} (الفرقان:5)، وقالوا عنه {إنَّما يعلّمه بشر}.
لقد حدّثنا القرآن عن كلّ ذلك، وبلّغ الرسول (ص) هذه الاتهامات للنّاس، قائلاً للذين لـم يعيشوا تجربة مكة، ومن خلال آيات اللّه: هذا نبيّكم قيل عنه إنَّه مجنون وقيل عنه إنَّه كاذب وساحر وكاهن وقيل عن قرآنكم إنَّ هناك بشراً علم النبي!! لـم يخف من أن يضل النّاس بالحديث عن نقاط الضعف التي أثاروها زوراً وبهتاناً.
ونستوحي من خلال ذلك بأنَّ الإنسان الذي يملك الحقّ لا يخاف من كلّ الكلمات التي تصوّر حقّه باطلاً. إذا كنت إنساناً تملك قوّة الحقّ في حياتك فليقل النّاس ما يقولون، عليك أن لا تخاف، لأنَّ الحقّ أقوى من كلّ ما يقولون إذا كانوا يقولون الباطل، واللّه تكفّل أن يزهق الباطل، أن يزهقه من عقول النّاس إذا لـم يُزهق من حياتهم.
كما أنَّنا نتعلّم من ذلك أن لا نتعقّد عندما نكون مسؤولين، أن لا نتعقّد من الاتهامات التي توجّه إلينا.. كن مسؤولاً في موقع ديني، كن مسؤولاً في موقع اجتماعي، كن مسؤولاً في موقع رسالي، إنَّ معنى مسؤوليتك هي أنَّك تقف موقف التحدّي لفكر الآخرين ولمصالح الآخرين أو لأوضاع الآخرين، ولذلك من الطبيعي أن يحاربك الآخرون منذ البداية بما يكذبون ويفترون، عليك أن تعتبر أنَّ ذلك أمر طبيعي في ساحة الصراع.