محمدي
07-12-2006, 11:08 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقاتكم بالخير والمسرات
سؤال طرح واجيب عليه حول القضاء والقدر
مع الأمثلة المقربة للمعنى المقصود
أتمنى الاطلاع والقراءة بتأني حتى النهاية
ولاتنسوني من الدعاء
معنى القضاء والقدر
السؤال:
ما المقصود بالقضاء و القدر؟ اذا كان المقصود أنّ الله تعالى حدد مصير كل شخص، فكلّ منا مجبور على إتباع ذلك، و لا نستطيع أن نتجاوز ما رسم لنا، فما هو معنى الآية الكريمة «و ان ليس للانسان إلاّ ما سعى» (1)؟
الظاهر من الآية أنّ مصير كل انسان بيده، بناءاً على ذلك لا تأثير للقضاء و القدر.
الجواب:
مسألة القضاء و القدر من المسائل الواردة في جميع الأديان لجميع شعوب العالم، و لاتختص أمة من الأمم بالاعتقاد بها ـ برغم أنّ كتابنا السماوي و أحاديثنا الاسلامية أولت اهتماماً خاصاً لهذا الموضوع.
للأسف نتيجةً لسوء التفسير الصادر من بعض غير المتخصصين بالنسبة للقضاء و القدر لا يملك الناس انطباعاً جيداً عن هذين اللفظين، غالباً يرتجفون من سماع هاتين الكلمتين و يظنون أنّ التقدير الالهي عمل خارج عن دائرة الحياة و له أثر مباشر على إرادة الانسان، يظهر أحياناً بشكل عامل إيجابي فيجبر الانسان على القيام بعمل عن طريق الجبر و الاكراه، و له أحياناً جانب سلبي فيمنع الانسان شاء أم أبى من القيام بعمل معين.
التقدير بهذا المعنى ـ فى أفعال البشر الاختيارية ـ ليس إلاّ اسطورةً، بل يجب البحث عن حقيقة التقدير في دائرة الحياة، و لا يجب أبداً تصور صانع لذلك الواقع غير الانسان و إرادته.
يصعب جداً على الطائفة التي قد تلوث ذهنها بالتفاسير غير الصحيحة للقضاء و القدر تصديق الرأى القائل: «ليس لدينا في عالم الكون عامل باسم القضاء و القدر في عرض سائر العوامل ليعرض نفسه أو يترك أثراً سلبياً أو ايجايباً على إرادة الانسان» ; لأنّ هؤلاء الأفراد اعتادو انقل أغلب الاشتباهات و القصور بل الكثير من تقصيراتهم الى عامل آخر خارج عن دائرة الحياة باسم «القضاء و القدر» و تحميله المسؤولية، فيتهربون من جميع أنواع المسؤوليات الملقاة على عاتقهم.
اليوم نتناول مسألة «الجبر في التاريخ» بدل القضاء و القدر وسط مجموعة من الاوربيين و المستغربين ليلقى عليها أغلب القصور.
لكن يتضح للناس الواقعيين و طلاب الحقيقة أنّه ليس للتقدير الالهي أثر مفروض على إرادة الانسان; يتضح هذا الموضوع ببيان السنن الالهية في عالم الكون التي تبين حقيقة القضاء و القدر.
التقدير الالهي:
كلما اطلعنا على التقادير الالهية سنرى عدم وجود عامل و محرك في صفحة الوجود باسم القضاء والقدر خارج عن دائرة الحياة و ارادة الفاعل; المقصود من التقادير الالهية هي السنن القطعية الحاكمة علينا و على العالم و تأثير هذه السنن في سعادة و شقاء البشر ـ حسن العاقبة و سوء العاقبة ـ قطعي و لا يتخلف عنها، فنحن أحرار و مختارون في اختيار أي سنّة من تلك السنن; لأجل إيضاح الموضوع انتبهوا الى الأمثاله التالية:
1ـ التقدير الالهي للأمة التي تذعن للكسل و البطالة، و يختلف و يتنازع أفرادها مع بعضهم البعض، و تضيع و تهدر القوى الالهية في طرق مغلوطة، و لا تمتلك الوعي المتناسب مع الزمان و المكان، و تجهل أحوال أبنائها من خلال الانغماس في المصالح الفردية، هو تلاشيها و تحطمها آجلاً أو عاجلا.
لكنّ تقدير الله جل و علا بشأن الأمة التي تفكر في محروميها و كادحيها، و تحاول تمتيعهم بحياة كريمة تليق بالبشر من خلال تقليل الفوارق الطبقية، و تسدد الحقوق التي جعلها الله تعالى في أموال الأثرياء لعلاج و ترميم حياة الفقراء و المساكين ـ الخلاصة أمة عطوفة و عادلة ـ هو أنّها تتمتع دائماً بالثبات و الاستقرار و الترقي و التقدم و التحرك و البناء، و هذان التقديران و اضحان و ملموسان جداً بحيث لا يمكن لأحد التشكيك فيهما.
تتساوى جميع الأمم أمام هذين التقديرين، و ليس هناك أي عامل خارج عن إرادة الأمم يجبرها على اختيار أحد التقديرين، نحن هؤلاء الذين نختار أحدهما من خلال إطاعة الهوى أو حكم العقل، و على كل حال تكون النتيجة التي تعود علينا من هذا الانتخاب تقديره و قضاءه; لأنّه هو الذي أوجد هذه السنن و أمضاها و جعلنا أحراراً في اختيار أي منها.
2ـ الشاب الذي ابتداأ حياته بامكانيات كثيرة و أعصاب حديدية و ذكاء و فهم مفعم،ينتظره تقديران و مصيران كلاهما قضاء إلهي حتى يختار أحدهما; كلما وظف إمكانياته المادية و المعنوية لدراسة العلوم أو للتجارة سوف يمضي عمره بسعادة و سلامة; لكنّه متى ما أساء استعمال ثرواته المادية و الفكرية، و استغل تلك الامكانيات في طريق شرب الخمر و لعب القمار و المعاصي الأخرى التي تؤدي الى فساد و ضياع حياته و عمره، قطعاً سيؤول مصيره بعد مدة الى بدن عاجز و مريض و أعصاب منهكة و يقبع في زواية من الحياة، و ينهي عمره بالألم و المرض، كلا التقديرن يرتبطان بالله تعالى، لكنّه حرّ فى انتخاب أحدهما، و النتيجة التي تحيق به من جراء انتخابه هي تقدير و إرادة الله; اذا عاد من منتصف الطريق فقد استبدل مصيراً و تقديراً بدل الآخر و هذا أيضاً بتقدير الله، لأنّه هو الذي خلقنا و أذن لنا في العودة من منتصف الطريق و الندم على ما فعلنا، و فى النتيجة استبدلنا تقديراً بدل الآخر.
3ـ اذا راجع الشخص المريض الطبيب و استعمل الدواء يشفى، و اذا لم يذهب الى الدكتور أو لم يستعمل الدواء فإما أن يموت أويكون عليلا و مريضاً في إحدى الزوايا، على كل حال، كلا التقديرين. بحكم الله و انتخاب أحدهما يقع على عاتقنا، و أياً كان انتخابنا يكون أثره بحكم الله و قضائه.
تستطيعون أنفسكم أن تجدوا مئات الأمثلة للقضاء و القدر المرتبطة بأفعال البشر من خلال مراجعة السنن الالهية في عالم الخلقة لتحصلوا على معنى القضاء و القدر في أفعال الانسان.
أحاديث الأئمة الكرام:
ما بيّن من خلال طرح تلك الأمثلة هو في الواقع شرح للأحاديث التي وصلت إلينا من أئمة الاسلام و العظام ـ أي أولئك الذين طرحوا علينا مسألة القضاء و القدر ـ يقول النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) : «خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم رجل مرّ بحائط مائل و هو يقبل اليه و لم يسرع المشي حتى سقط عليه» (2).
علة عدم استجابة دعاء هكذا انسان واضحة، لأنّ مصير من عبر أمام حائط مائل و لم يهرب هو الموت، لكنّه استقبل هذا المصيره باختياره بينما كان يستطيع اختيار مصير آخر.
إنّ أميرالمؤمنين عدل من عند حائط مائل الى حائط آخر فقيل له يا أميرالمؤمنين: أتفر من قضاء الله؟
فقال: «أفرّ من قضاء الله الى قدر الله» (3). أنا حرّ فى انتخاب أحدهما، اذا جلست تحته و انهار علىّ و متّ فهذا حكم القضاء، و اذا فررت و بقيت حياً فذلك بحكم القضاء و القدر أيضاً.
عندما سئل الامام الرضا(عليه السلام) ما هو قضاء الله المتعال حول الافعال الحسنة و القبيحة لعباده؟
أجاب الامام(عليه السلام): «ما من فعل يفعله العباد من خير و شر إلاّ و لله فيه قضاء» ثم يفسر الامام(عليه السلام) هذا القضاء ـ الشامل لجميع أفعال العباد الأعم من الخير و الشر ـ بالنتائج التي يبتلى بها الانسان في الدنيا و الآخرة و يقول: «الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة» (4).
توضح هذه الأحاديث الحقيقة التي ذكرناها عن القضاء و القدر و تبين أنّ القضاء الالهي; لو نثر بذور المحبة و البر فسوف يرى نتائجه الايجابية و الحسنة بمقتضى القضاء الالهي، و لو غرص شجرة النفاق و السوء فسوف يتذوق ثمارها النكدة و كلاهما بتقدير الله تعالى، فلا يخرج أي عمل حسن أو قبيح عن دائرة القضاء و القدر.
مصير المسلمين في صدر الاسلام تعلم المسلمون في صدر الاسلام مسألة القضاء و القدر ـ على أثر الالهام من الوحي بحيث لم يعتبروا وجود أي مخالفة و منافاة بينه و بين حرية البشر في تقرير مصيره; كُتب فى الفتوحات الاسلامية أنّ الخليفة الثاني وصل الى سواحل الشام، ثم أخبر عن شيوع مرض الطاعون فيها، فقال له أصحابه: عد بنفس الطريق الذي جئت به، و كان رأيه هذا أيضاً، و لما اعترض عليه أحد الحاضرين و قال: هل تفرمن قضاء الله؟
فأجابه قائلا: بأمر الله أفر من قضاء الى آخر! و قال أحد الحاضرين مؤيداً رأي الخليفة: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله)يقول: لا تدخلوا مكاناً شاع فيه الطاعون،و لو كنتم فيه فلا تخرجوا منه (لئلاتسببون العدوى اللآخرين) (5)يتضح من هذا البيان أنّ الاعتقاد بمسألة القضاء و القدر ليس دليلا على نفي الاختيار و الحرية و الارادة، و تفصل بين مسألة القضاء و القدر و مسألة الجبر آلاف الفراسخ، و اذا اعتبر عدد من المستشرقين نتيجة الاعتقاد بالقضاء و القدر جبراً آخر، فذلك لعدم إطلاعهم على المعارف الاسلامية الرفيعة و الراسخة، لقد تكلم أولئك في مواضيع لم يكن لهم حق التحكيم فيها.
يقول «آلبرماله» في تاريخه: «لم يكن في الاسلام في أيامه الأولى سوى الاعتقاد بوحدانية الله و رسالة محمد، لكن في الفترة اللاحقة قال متكلموا الاسلام أنّ الله يحدد مصير الأشخاص و لا يمكن تغيير مشيته و يسمون هذه الطريقة الجبر» (6).
يقول «جوستاولبون» في مقام الاعتذار بعد سلسلة من الأحاديث حول القضاء و القدر في الاسلام و أنّ نتيحته جبر آخر: «الآيات الواردة في القرآن بشأن القضاء و القدر ليست أكثر من الآيات المذكورة في الكتاب المقدس بهذا الخصوص» (7).
إنتشار هكذا تهم و استنتاجات خاطئة بين الاوربيين دعت «السيد جمال الدين الأسد آبادي» الى كتابة رسالة في الدفاع عن مسألة القضاء و القدر أثناء إقامته في باريس، ثم نشرها في أسبوعية «العروة الوثقى»، يقول في رسالته:
«اعتقدت هذه الفرقة من الأوربيين أنّه لافرق بين القضاء و القدر و الاعتقاد بمذهب الجبر، و الانسان في ضوء اعتقاده بالقضاء و القدر كالجن المعلق في الهواء تلعب به الريح و تنقله من جهة لأخرى، الاعتقاد بالقضاء و القدر يؤدي الى كون الانسان لا يملك اختياراً وإرادةً في فعله و قوله و سكوته و حركته، و يسلم زمام أموره بيد قوة صلبة و قمعية، هكذا أمة لاتستعمل كامل قواها الطبيعية، و تفتقد الى دوافع العمل و الاجتهاد، و بهذه الحالة تسير من عالم الوجود الى العدم...!» (8).
1. سورة النجم، الآية 39.
2. بحار الانوار، ج5، ص105 بالنقل عن خصال الصدوق.
3. توحيد الصدوق، ص 369.
4. عيون أخبار الرضا، ص78، بحار الانوار، ج 5، ص 12.
5. تاريخ الطبري، ج ّ، ص 57، طبعة دار المعارف، و شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد، ج 8، ص 300.
6. تاريخ آلبرماله، ج 3، ص 99.
7. حضارة الاسلام و العرب، ص 141.
8. العروة الوثقى، ص 50 ـ 51.
من موقع آية الله الشيخ مكارم الشيرازي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقاتكم بالخير والمسرات
سؤال طرح واجيب عليه حول القضاء والقدر
مع الأمثلة المقربة للمعنى المقصود
أتمنى الاطلاع والقراءة بتأني حتى النهاية
ولاتنسوني من الدعاء
معنى القضاء والقدر
السؤال:
ما المقصود بالقضاء و القدر؟ اذا كان المقصود أنّ الله تعالى حدد مصير كل شخص، فكلّ منا مجبور على إتباع ذلك، و لا نستطيع أن نتجاوز ما رسم لنا، فما هو معنى الآية الكريمة «و ان ليس للانسان إلاّ ما سعى» (1)؟
الظاهر من الآية أنّ مصير كل انسان بيده، بناءاً على ذلك لا تأثير للقضاء و القدر.
الجواب:
مسألة القضاء و القدر من المسائل الواردة في جميع الأديان لجميع شعوب العالم، و لاتختص أمة من الأمم بالاعتقاد بها ـ برغم أنّ كتابنا السماوي و أحاديثنا الاسلامية أولت اهتماماً خاصاً لهذا الموضوع.
للأسف نتيجةً لسوء التفسير الصادر من بعض غير المتخصصين بالنسبة للقضاء و القدر لا يملك الناس انطباعاً جيداً عن هذين اللفظين، غالباً يرتجفون من سماع هاتين الكلمتين و يظنون أنّ التقدير الالهي عمل خارج عن دائرة الحياة و له أثر مباشر على إرادة الانسان، يظهر أحياناً بشكل عامل إيجابي فيجبر الانسان على القيام بعمل عن طريق الجبر و الاكراه، و له أحياناً جانب سلبي فيمنع الانسان شاء أم أبى من القيام بعمل معين.
التقدير بهذا المعنى ـ فى أفعال البشر الاختيارية ـ ليس إلاّ اسطورةً، بل يجب البحث عن حقيقة التقدير في دائرة الحياة، و لا يجب أبداً تصور صانع لذلك الواقع غير الانسان و إرادته.
يصعب جداً على الطائفة التي قد تلوث ذهنها بالتفاسير غير الصحيحة للقضاء و القدر تصديق الرأى القائل: «ليس لدينا في عالم الكون عامل باسم القضاء و القدر في عرض سائر العوامل ليعرض نفسه أو يترك أثراً سلبياً أو ايجايباً على إرادة الانسان» ; لأنّ هؤلاء الأفراد اعتادو انقل أغلب الاشتباهات و القصور بل الكثير من تقصيراتهم الى عامل آخر خارج عن دائرة الحياة باسم «القضاء و القدر» و تحميله المسؤولية، فيتهربون من جميع أنواع المسؤوليات الملقاة على عاتقهم.
اليوم نتناول مسألة «الجبر في التاريخ» بدل القضاء و القدر وسط مجموعة من الاوربيين و المستغربين ليلقى عليها أغلب القصور.
لكن يتضح للناس الواقعيين و طلاب الحقيقة أنّه ليس للتقدير الالهي أثر مفروض على إرادة الانسان; يتضح هذا الموضوع ببيان السنن الالهية في عالم الكون التي تبين حقيقة القضاء و القدر.
التقدير الالهي:
كلما اطلعنا على التقادير الالهية سنرى عدم وجود عامل و محرك في صفحة الوجود باسم القضاء والقدر خارج عن دائرة الحياة و ارادة الفاعل; المقصود من التقادير الالهية هي السنن القطعية الحاكمة علينا و على العالم و تأثير هذه السنن في سعادة و شقاء البشر ـ حسن العاقبة و سوء العاقبة ـ قطعي و لا يتخلف عنها، فنحن أحرار و مختارون في اختيار أي سنّة من تلك السنن; لأجل إيضاح الموضوع انتبهوا الى الأمثاله التالية:
1ـ التقدير الالهي للأمة التي تذعن للكسل و البطالة، و يختلف و يتنازع أفرادها مع بعضهم البعض، و تضيع و تهدر القوى الالهية في طرق مغلوطة، و لا تمتلك الوعي المتناسب مع الزمان و المكان، و تجهل أحوال أبنائها من خلال الانغماس في المصالح الفردية، هو تلاشيها و تحطمها آجلاً أو عاجلا.
لكنّ تقدير الله جل و علا بشأن الأمة التي تفكر في محروميها و كادحيها، و تحاول تمتيعهم بحياة كريمة تليق بالبشر من خلال تقليل الفوارق الطبقية، و تسدد الحقوق التي جعلها الله تعالى في أموال الأثرياء لعلاج و ترميم حياة الفقراء و المساكين ـ الخلاصة أمة عطوفة و عادلة ـ هو أنّها تتمتع دائماً بالثبات و الاستقرار و الترقي و التقدم و التحرك و البناء، و هذان التقديران و اضحان و ملموسان جداً بحيث لا يمكن لأحد التشكيك فيهما.
تتساوى جميع الأمم أمام هذين التقديرين، و ليس هناك أي عامل خارج عن إرادة الأمم يجبرها على اختيار أحد التقديرين، نحن هؤلاء الذين نختار أحدهما من خلال إطاعة الهوى أو حكم العقل، و على كل حال تكون النتيجة التي تعود علينا من هذا الانتخاب تقديره و قضاءه; لأنّه هو الذي أوجد هذه السنن و أمضاها و جعلنا أحراراً في اختيار أي منها.
2ـ الشاب الذي ابتداأ حياته بامكانيات كثيرة و أعصاب حديدية و ذكاء و فهم مفعم،ينتظره تقديران و مصيران كلاهما قضاء إلهي حتى يختار أحدهما; كلما وظف إمكانياته المادية و المعنوية لدراسة العلوم أو للتجارة سوف يمضي عمره بسعادة و سلامة; لكنّه متى ما أساء استعمال ثرواته المادية و الفكرية، و استغل تلك الامكانيات في طريق شرب الخمر و لعب القمار و المعاصي الأخرى التي تؤدي الى فساد و ضياع حياته و عمره، قطعاً سيؤول مصيره بعد مدة الى بدن عاجز و مريض و أعصاب منهكة و يقبع في زواية من الحياة، و ينهي عمره بالألم و المرض، كلا التقديرن يرتبطان بالله تعالى، لكنّه حرّ فى انتخاب أحدهما، و النتيجة التي تحيق به من جراء انتخابه هي تقدير و إرادة الله; اذا عاد من منتصف الطريق فقد استبدل مصيراً و تقديراً بدل الآخر و هذا أيضاً بتقدير الله، لأنّه هو الذي خلقنا و أذن لنا في العودة من منتصف الطريق و الندم على ما فعلنا، و فى النتيجة استبدلنا تقديراً بدل الآخر.
3ـ اذا راجع الشخص المريض الطبيب و استعمل الدواء يشفى، و اذا لم يذهب الى الدكتور أو لم يستعمل الدواء فإما أن يموت أويكون عليلا و مريضاً في إحدى الزوايا، على كل حال، كلا التقديرين. بحكم الله و انتخاب أحدهما يقع على عاتقنا، و أياً كان انتخابنا يكون أثره بحكم الله و قضائه.
تستطيعون أنفسكم أن تجدوا مئات الأمثلة للقضاء و القدر المرتبطة بأفعال البشر من خلال مراجعة السنن الالهية في عالم الخلقة لتحصلوا على معنى القضاء و القدر في أفعال الانسان.
أحاديث الأئمة الكرام:
ما بيّن من خلال طرح تلك الأمثلة هو في الواقع شرح للأحاديث التي وصلت إلينا من أئمة الاسلام و العظام ـ أي أولئك الذين طرحوا علينا مسألة القضاء و القدر ـ يقول النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) : «خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم رجل مرّ بحائط مائل و هو يقبل اليه و لم يسرع المشي حتى سقط عليه» (2).
علة عدم استجابة دعاء هكذا انسان واضحة، لأنّ مصير من عبر أمام حائط مائل و لم يهرب هو الموت، لكنّه استقبل هذا المصيره باختياره بينما كان يستطيع اختيار مصير آخر.
إنّ أميرالمؤمنين عدل من عند حائط مائل الى حائط آخر فقيل له يا أميرالمؤمنين: أتفر من قضاء الله؟
فقال: «أفرّ من قضاء الله الى قدر الله» (3). أنا حرّ فى انتخاب أحدهما، اذا جلست تحته و انهار علىّ و متّ فهذا حكم القضاء، و اذا فررت و بقيت حياً فذلك بحكم القضاء و القدر أيضاً.
عندما سئل الامام الرضا(عليه السلام) ما هو قضاء الله المتعال حول الافعال الحسنة و القبيحة لعباده؟
أجاب الامام(عليه السلام): «ما من فعل يفعله العباد من خير و شر إلاّ و لله فيه قضاء» ثم يفسر الامام(عليه السلام) هذا القضاء ـ الشامل لجميع أفعال العباد الأعم من الخير و الشر ـ بالنتائج التي يبتلى بها الانسان في الدنيا و الآخرة و يقول: «الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة» (4).
توضح هذه الأحاديث الحقيقة التي ذكرناها عن القضاء و القدر و تبين أنّ القضاء الالهي; لو نثر بذور المحبة و البر فسوف يرى نتائجه الايجابية و الحسنة بمقتضى القضاء الالهي، و لو غرص شجرة النفاق و السوء فسوف يتذوق ثمارها النكدة و كلاهما بتقدير الله تعالى، فلا يخرج أي عمل حسن أو قبيح عن دائرة القضاء و القدر.
مصير المسلمين في صدر الاسلام تعلم المسلمون في صدر الاسلام مسألة القضاء و القدر ـ على أثر الالهام من الوحي بحيث لم يعتبروا وجود أي مخالفة و منافاة بينه و بين حرية البشر في تقرير مصيره; كُتب فى الفتوحات الاسلامية أنّ الخليفة الثاني وصل الى سواحل الشام، ثم أخبر عن شيوع مرض الطاعون فيها، فقال له أصحابه: عد بنفس الطريق الذي جئت به، و كان رأيه هذا أيضاً، و لما اعترض عليه أحد الحاضرين و قال: هل تفرمن قضاء الله؟
فأجابه قائلا: بأمر الله أفر من قضاء الى آخر! و قال أحد الحاضرين مؤيداً رأي الخليفة: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله)يقول: لا تدخلوا مكاناً شاع فيه الطاعون،و لو كنتم فيه فلا تخرجوا منه (لئلاتسببون العدوى اللآخرين) (5)يتضح من هذا البيان أنّ الاعتقاد بمسألة القضاء و القدر ليس دليلا على نفي الاختيار و الحرية و الارادة، و تفصل بين مسألة القضاء و القدر و مسألة الجبر آلاف الفراسخ، و اذا اعتبر عدد من المستشرقين نتيجة الاعتقاد بالقضاء و القدر جبراً آخر، فذلك لعدم إطلاعهم على المعارف الاسلامية الرفيعة و الراسخة، لقد تكلم أولئك في مواضيع لم يكن لهم حق التحكيم فيها.
يقول «آلبرماله» في تاريخه: «لم يكن في الاسلام في أيامه الأولى سوى الاعتقاد بوحدانية الله و رسالة محمد، لكن في الفترة اللاحقة قال متكلموا الاسلام أنّ الله يحدد مصير الأشخاص و لا يمكن تغيير مشيته و يسمون هذه الطريقة الجبر» (6).
يقول «جوستاولبون» في مقام الاعتذار بعد سلسلة من الأحاديث حول القضاء و القدر في الاسلام و أنّ نتيحته جبر آخر: «الآيات الواردة في القرآن بشأن القضاء و القدر ليست أكثر من الآيات المذكورة في الكتاب المقدس بهذا الخصوص» (7).
إنتشار هكذا تهم و استنتاجات خاطئة بين الاوربيين دعت «السيد جمال الدين الأسد آبادي» الى كتابة رسالة في الدفاع عن مسألة القضاء و القدر أثناء إقامته في باريس، ثم نشرها في أسبوعية «العروة الوثقى»، يقول في رسالته:
«اعتقدت هذه الفرقة من الأوربيين أنّه لافرق بين القضاء و القدر و الاعتقاد بمذهب الجبر، و الانسان في ضوء اعتقاده بالقضاء و القدر كالجن المعلق في الهواء تلعب به الريح و تنقله من جهة لأخرى، الاعتقاد بالقضاء و القدر يؤدي الى كون الانسان لا يملك اختياراً وإرادةً في فعله و قوله و سكوته و حركته، و يسلم زمام أموره بيد قوة صلبة و قمعية، هكذا أمة لاتستعمل كامل قواها الطبيعية، و تفتقد الى دوافع العمل و الاجتهاد، و بهذه الحالة تسير من عالم الوجود الى العدم...!» (8).
1. سورة النجم، الآية 39.
2. بحار الانوار، ج5، ص105 بالنقل عن خصال الصدوق.
3. توحيد الصدوق، ص 369.
4. عيون أخبار الرضا، ص78، بحار الانوار، ج 5، ص 12.
5. تاريخ الطبري، ج ّ، ص 57، طبعة دار المعارف، و شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد، ج 8، ص 300.
6. تاريخ آلبرماله، ج 3، ص 99.
7. حضارة الاسلام و العرب، ص 141.
8. العروة الوثقى، ص 50 ـ 51.
من موقع آية الله الشيخ مكارم الشيرازي