أبن المرجعية
12-12-2006, 11:34 PM
- دور الأئمة عليهم السلام بعد وفاة الرسول (ص)_
الصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
حينما توفي رسول الله (ص) خلّف امة ومجتمعا ودولة.
واقصد بالامة المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته ويعتقدون بنبوته واقصد بالمجتمع تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على اساس تلك الرسالة وتنشئ علاقاتها على اساس التنظيم المقرر لهذه الرسالة واقصد بالدولة القيادة التي كانت تتولى، تزعم التجربة في ذلك المجتمع، والاشتغال على تطبيق الاسلام وحمايته مما يهدده من أخطار وانحراف.
الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، كان أول ما كان في كيان الدولة، لأن القيادة كانت قد اتخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي، وقلنا بأن هذا الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، في زعامة التجربة أي الدولة، كان من الطبيعي في منطق الاحداث ان ينمو ويتسع، حتى يحيط بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الاسلام.
هذه الزعامة باعتبار انحرافها، وعدم كونها قادرة على تحمل المسؤولية، تنهار في حياتها العسكرية والسياسية، وحينما تنهار الدولة، حينما تنهار زعامة التجربة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الاسلامي، لانه يتقوم بالعلاقات التي تنشأ
{ 58 }
على أساس الاسلام، فاذا لم تبق زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنن قوانين لهذه العلاقات، فلا محالة ستتفتت هذه العلاقات، وتتبدل بعلاقات اُخرى قائمة على أساس آخر غير الاسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الاسلامي.
تبقى الامة بعد هذا وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدعاً وزوالاً، بعد ان زالت الدولة الشرعية الصحيحة، وزال المجتمع الاسلامي الصحيح، تبقى الامة، الا ان هذه ايضاً من المحتوم عليها ان تتفتت، وان تنهار، وان تنصهر ببوتقة الغزو الكافر، الذي اطاح بدولتها ومجتمعها. لأن الامة التي عاشت الاسلام زمناً قصيراً، لم تستطع ان تستوعب من الاسلام ما يحصنها، ما يحدد ابعادها ما يقويها، ما يعطيها اصالتها وشخصيتها وروحها العامة وقدرتها على الاجتماع على مقاومة التميع والتسيب والانصهار في البوتقات الاخرى.
هذه الامة بحكم ان الانحراف قصّر عمر التجربة، وبحكم ان الانحراف زوّر معالم الاسلام، بحكم هذين السببين الكمي والكيفي، الأمة غير مستوعبة، الامة تتحصّن بالطاقات التي تمنعها وتحفظها عن الانهيار امام الكافرين وامام ثقافات الكافرين، فتتنازل بالتدريج، عن عقيدتها عن آدابها، عن اهدافها وعن أحكامها، ويخرج الناس من دين اللّه افواجاً، وهذا ما أشارت اليه رواية عن احد الأئمة (ع) يقول فيها بأن أول ما يتعطل من الاسلام هو الحكم بما انزل اللّه سبحانه وتعالى، وآخر ما يتعطل من الاسلام هو الصلاة، هذا هو تعبير بسيط عما قلناه من ان اول ما يتعطل هو الحكم بما انزل اللّه أي ان الزعامة والقيادة للدولة تنحرف، وبانحرافها سوف يتعطل الحكم بما انزل اللّه. وهذا الخط ينتهي حتماً الى أن تتعطل الصلاة، يعني الى تمييع الامة، تعطل الصلاة هو مرحلة ان الامة تتعطل، ان الامة تتنازل عن عقيدتها، ان الامة تضيع عليها رسالتها وآدابها وتعاليمها.
الحكم بغير ما انزل اللّه، معناه ان التجربة تنحرف، ان المجتمع يتميّع...
في مقابل هذا المنطق وقف الأئمة (ع) على خطين كما قلنا:
{ 59 }
الخط الأول: هو خط محاولة تسلم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار الانحراف، ارجاع القيادة الى موضعها الطبيعي لأجل ان تكتمل العناصر الثلاثة: الامة والمجتمع والدولة.
الخط الثاني: الذي عمل عليه الائمة (ع)، هو خط تحصين الامة ضد الانهيار، بعد سقوط التجربة واعطائها من المقومات، القدر الكافي، لكي تبقى وتقف على قدميها، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة، بقدم راسخة وروح مجاهدة، وبايمان ثابت.
والآن، نريد ان نتبين هذين الخطين في حياة امير المؤمنين (ع)، مع استلال العبر في المشي على هذين الخطين.
على الخط الأول خط محاولة تصحيح الانحراف وارجاع الوضع الاجتماعي والدولي في الامة الاسلامية الى خطه الطبيعي، في هذا الخط، عمل (ع) حتى قيل عن علي (ع) انه أشد الناس رغبة في الحكم والولاية، اتهمه معاوية بن أبي سفيان، بانه طالب جاه، وانه طالب سلطان. اتهمه بالحقد على أبي بكر وعمر، اتهمه بكل ما يمكن ان يتهم الشخص المطالب بالجاه وبالسلطان وبالزعامة.
أمير المؤمنين (ع) عمل على هذا الخط خط تسلم زمام الحكم، وتفتيت هذا الانحراف، وكسب الزعامة زعامة التجربة الاسلامية الى شخصه الكريم، بدأ هذا العمل عقيب وفاة رسول اللّه (ص) مباشرة كما قلنا بالأمس، حيث حاول ايجاد تعبئة وتوعية فكرية عامة في صفوف المؤمنين واشعارهم بان الوضع وضع منحرف.
الا ان هذه التعبئة لم تنجح لاسباب ترتبط بشخص علي (ع) استعرضنا بعضها بالامس، ولاسباب أخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين انفسهم. لأن المسلمين وقتئذ لم يدركوا ان يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كل ما انفتح من بلاء على الخط الطويل لرسالة الاسلام، لم يدركوا هذا، ورأوا ان وجوهاً ظاهرة الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقياداتهم في هذا المجال، ومن الممكن خلال هذه القيادة، ان ينمو الاسلام وان تنمو الامة.
{ 60 }
لم يكن يفهم من علي (ع) الا ان له حقاً شخصياً يطالب به، وهو مقصر في مطالبته، الا ان المسألة لم تقف عند هذا الحد، فضاقت القصة على أمير المؤمنين (ع) من هذه الناحية، ومن أننا نجد في مراحل متأخرة من حياة امير المؤمنين (ع) المظاهر الاخرى لعمله على هذا الخط، لمحاولة تسلمه او سعيه في سبيل تسلم زعامة التجربة الاسلامية وتفادي الانحراف الذي وقع، الا ان الشيء الذي هو في غاية الوضح، من حياة أمير المؤمنين (ع) انه (ع) في عمله في سبيل تزعم التجربة، وفي سبيل محاربة الانحراف القائم ومواجهته بالقول الحق وبالعمل الحق، وبشرعية حقه في هذا المجال، كان يواجه مشكلة كبيرة جداً، وقد استطاع ان ينتصر على هذه المشكلة انتصاراً كبيراً جداً ايضاً.
هذه المشكلة التي كان يواجهها هي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل والوجه الواقعي لهذه العمل.
قد يتبادر الى ذهن الانسان الاعتيادي لأول مرة إن العمل في سبيل معارضة زعامة العصر، والعمل في سبيل كسب هذه الزعامة، انه عمل في اطار فكري، انه عمل يعبَّر عن شعور هذا العامل بوجوده، وفي مصالحه، وفي مكاسبه، وبأبعاد شخصيته، هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر الى الاذهان، من عمل يتمثل فيه الاصرار على معارضته في زعامة العصر على كسب هذه الزعامة، وقد حاول معاوية كما اشرنا ان يستغل هذه البداهة التقليدية في مثل هذا الموقف من أمير المؤمنين (ع).
الا ان الوجه الواقعي لهذا العمل من قبل الامام (ع) لم يكن هذا، الوجه الواقعي هو ان علياً كان يمثل الرسالة وكان هو الامين الاول من قبل رسول اللّه (ص) على التجربة على استقامتها وصلابتها، وعدم تميعها على الخط الطويل، الذي سوف يعيشه الاسلام والمسلمون بعد النبي (ص). فالعمل كان بروح الرسالة ولم يكن بروحه هو، كان عملاً بروح تلك الاهداف الكبيرة، ولم يكن عملاً بروح المصلحة الشخصية، لم يكن يريد ان يبني زعامة لنفسه، وانما كان يريد ان يبني زعامة الاسلام وقيادة الاسلام في المجتمع الاسلامي، وبالتالي في مجموع البشرية على وجه الارض.
{ 61 }
هذان وجهان مختلفان، قد يتعارضا في العامل نفسه، وقد يتعارضان في نفس الاشخاص الآخرين، الذين يريدون ان يفسروا عمل هذا العامل.
هذا العامل قد يتراءى له في لحظة انه يريد ان يبني زعامة الاسلام لا زعامة نفسه، الا انه خلال العمل، اذا لم يكن مزوداً بوعي كامل. اذا لم يكن مزوداً بارادة قوية، اذا لم يكن قد استحضر في كل لحظاته وآنات حياته، انه يعيش هذه الرسالة ولا يعيش نفسه، اذا لم يكن هكذا، فسوف يحصل في نفسه ولولا شعوريا انفصام بين الوجه الظاهري للعمل وبين الوجه الحقيقي للعمل، وبمثل هذا الانفصام سوف تضيع امامه كل الاهداف او جزء كبير من تلك الاهداف سوف ينسى انه لا يعمل لنفسه بل هو يعمل لتلك الرسالة سوف ينسى انه ملك غيره وانه ليس ملكاً لنفسه: كل شخص يحمل هذه الاهداف الكبيرة، يواجه خطر الضياع في نفسه، وخطر ان تنتصر انانيته على هذه الاهداف الكبيرة، فيسقط في اثناء الخط، يسقط في وسط الطريق، وهذا ما كان علي (ع) معه على طرفي نقيض. علي (ع) كان يصّر دائماً على ان يكون زعيماً، يصّر دائماً على ان يكون هو الاحق بالزعامة، علي الذي يتألم، الذي يتحسّر انه لم يصبح زعيماً بعد محمد (ص) الذي يقول: لقد تقصمها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى، في غمرة هذا الالم، في غمرة هذه الحساسية، يجب ان لا ننسى ان هذا الالم ليس لنفسه، ان هذه الحساسية ليست لنفسه، ان كل هذا العمل وكل هذا الجهد، ليس لاجل نفسه بل من أجل الاسلام. و كذلك كان يربي اصحابه على انهم اصحاب تلك الاهداف الكبيرة، لا اصحاب زعامته وشخصه، وقد انتصر علي عليه السلام انتصاراً عظيماً في كلتا الناحيتين.
انتصر علي على نفسه، وانتصر في اعطاء عمله اطاره الرسالي وطابعه العقائدي انتصاراً كبيراً.
على ربي اصحابه على انهم اصحاب الاهداف لا اصحاب نفسه. كان يدعو الى ان الانسان يجب ان يكون صاحب الحق، قبل ان يكون صاحب شخص بعينه. علي هو الذي قال: «اعرف الحق تعرف اهله» كان يربي اصحابه، يربى عماراً وأبا ذرّ والمقداد على انكم اعرفوا الحق... ثم احكموا
{ 62 }
على علي في اطار الحق. وهذا غاية ما يمكن ان يقدمه الزعيم من اخلاص في سبيل اهدافه. ان يؤكد دائماً لأصحابه واعوانه - وهذا مما يجب على كل المخلصين - ان المقياس هو الحق وليس هو الشخص. ان المقياس هو الاهداف وليس هو الفرد.
هل يوجد هناك شخص اعظم من علي بن ابي طالب. لا يوجد هناك شخص اعظم من علي الا استاذه، لكن مع هذا جعل المقياس هو الحق لا نفسه.
لما جاءه ذلك الشخص وسأله عن الحق في حرب الجمل هل هو مع هذا الجيش او مع ذلك الجيش، كان يعيش في حالة تردد بين عائشة وعلي، يريد ان يوازن بين عائشة وعلي، أيهما أفضل حتى يحكم بانه هو مع الحق أو عائشة. جهودها للإسلام أفضل أو جهود علي أفضل، قال له: اعرف الحق تعرف اهله.
علي كان دائماً مصرّاً على ان يعطي العمل الشخصي طابعه الرسالي، لا طابع المكاسب الشخصية بالنسبة اليه، وهذا هو الذي يفّسر لنا كيف ان علياً (ع)، بعد ان فشل في تعبئته الفكرية عقيب وفاة رسول اللّه (ص)، لم يعارض ابا بكر وعمر معارضة واضحة سافرة طيلة حياة ابي بكر وعمر، وذلك ان اول موقف اعتزل فيه علي المعارضة بعد تلك التعبئة الفكرية واعطائها شكلاً واضحاً صريحاً كان عقيب وفاة عمر، يوم الشورى حينما خالف ابا بكر وعمر، هذا عندما حاول عبد الرحمن بن عوف حينما اقترح عليه المبايعة ان يبايعه على كتاب اللّه وسنة رسول وسنة الشيخين، قال عليه السلام: بل على كتاب اللّه وسنة نبيه واجتهادي. هنا فقط اعلن عن معارضة عمر، في حياة ابي بكر وعمر بعد تلك التعبئة، لم يبد موقفاً ايجابياً واضحاً في معارضتهما، والوجه في هذا، هو ان علياً (ع) كان يريد ان تكون المعارضة في اطارها الرسالي، وان ينعكس هذا الاطار على المسلمين، ان يفهموا ان المعارضة ليست لنفسه، وانما هي للرسالة، وحيث ان ابا بكر وعمر كانا قد بدآ الانحراف، ولكن الانحراف لم يكن قد تعمق بعد والمسلمون القصير والنظر، الذين قدموا ابا بكر على علي (ع) ثم قدموا عمر على علي (ع)، هؤلاء
{ 63 }
المسلمون القصيرو النظر لم يكونوا يستطيعون ان يعمقوا النظر الى هذه الجذور، التي نشأت في ايام ابي بكر وعمر فكان معنى مواصلة المعارضة بشكل جديد ان يفسر من أكثر المسلمين، بأنه عمل شخصي، وانها منافسة شخصية مع ابي بكر وعمر وان بدأت بهم بذور الانحراف في عهدهما الا انه حتى هذه البذور كانت الاغلب مصبوغة بالصبغة الايمانية، كانا يربطانها بالحرارة الايمانية الموجودة عند الامة، وحيث انها حرارة ايمانية بلا وعي، ولهذا لم تكن الامة تميز هذا الانحراف.
تتبع ...
الصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
حينما توفي رسول الله (ص) خلّف امة ومجتمعا ودولة.
واقصد بالامة المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته ويعتقدون بنبوته واقصد بالمجتمع تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على اساس تلك الرسالة وتنشئ علاقاتها على اساس التنظيم المقرر لهذه الرسالة واقصد بالدولة القيادة التي كانت تتولى، تزعم التجربة في ذلك المجتمع، والاشتغال على تطبيق الاسلام وحمايته مما يهدده من أخطار وانحراف.
الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، كان أول ما كان في كيان الدولة، لأن القيادة كانت قد اتخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي، وقلنا بأن هذا الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، في زعامة التجربة أي الدولة، كان من الطبيعي في منطق الاحداث ان ينمو ويتسع، حتى يحيط بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الاسلام.
هذه الزعامة باعتبار انحرافها، وعدم كونها قادرة على تحمل المسؤولية، تنهار في حياتها العسكرية والسياسية، وحينما تنهار الدولة، حينما تنهار زعامة التجربة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الاسلامي، لانه يتقوم بالعلاقات التي تنشأ
{ 58 }
على أساس الاسلام، فاذا لم تبق زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنن قوانين لهذه العلاقات، فلا محالة ستتفتت هذه العلاقات، وتتبدل بعلاقات اُخرى قائمة على أساس آخر غير الاسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الاسلامي.
تبقى الامة بعد هذا وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدعاً وزوالاً، بعد ان زالت الدولة الشرعية الصحيحة، وزال المجتمع الاسلامي الصحيح، تبقى الامة، الا ان هذه ايضاً من المحتوم عليها ان تتفتت، وان تنهار، وان تنصهر ببوتقة الغزو الكافر، الذي اطاح بدولتها ومجتمعها. لأن الامة التي عاشت الاسلام زمناً قصيراً، لم تستطع ان تستوعب من الاسلام ما يحصنها، ما يحدد ابعادها ما يقويها، ما يعطيها اصالتها وشخصيتها وروحها العامة وقدرتها على الاجتماع على مقاومة التميع والتسيب والانصهار في البوتقات الاخرى.
هذه الامة بحكم ان الانحراف قصّر عمر التجربة، وبحكم ان الانحراف زوّر معالم الاسلام، بحكم هذين السببين الكمي والكيفي، الأمة غير مستوعبة، الامة تتحصّن بالطاقات التي تمنعها وتحفظها عن الانهيار امام الكافرين وامام ثقافات الكافرين، فتتنازل بالتدريج، عن عقيدتها عن آدابها، عن اهدافها وعن أحكامها، ويخرج الناس من دين اللّه افواجاً، وهذا ما أشارت اليه رواية عن احد الأئمة (ع) يقول فيها بأن أول ما يتعطل من الاسلام هو الحكم بما انزل اللّه سبحانه وتعالى، وآخر ما يتعطل من الاسلام هو الصلاة، هذا هو تعبير بسيط عما قلناه من ان اول ما يتعطل هو الحكم بما انزل اللّه أي ان الزعامة والقيادة للدولة تنحرف، وبانحرافها سوف يتعطل الحكم بما انزل اللّه. وهذا الخط ينتهي حتماً الى أن تتعطل الصلاة، يعني الى تمييع الامة، تعطل الصلاة هو مرحلة ان الامة تتعطل، ان الامة تتنازل عن عقيدتها، ان الامة تضيع عليها رسالتها وآدابها وتعاليمها.
الحكم بغير ما انزل اللّه، معناه ان التجربة تنحرف، ان المجتمع يتميّع...
في مقابل هذا المنطق وقف الأئمة (ع) على خطين كما قلنا:
{ 59 }
الخط الأول: هو خط محاولة تسلم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار الانحراف، ارجاع القيادة الى موضعها الطبيعي لأجل ان تكتمل العناصر الثلاثة: الامة والمجتمع والدولة.
الخط الثاني: الذي عمل عليه الائمة (ع)، هو خط تحصين الامة ضد الانهيار، بعد سقوط التجربة واعطائها من المقومات، القدر الكافي، لكي تبقى وتقف على قدميها، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة، بقدم راسخة وروح مجاهدة، وبايمان ثابت.
والآن، نريد ان نتبين هذين الخطين في حياة امير المؤمنين (ع)، مع استلال العبر في المشي على هذين الخطين.
على الخط الأول خط محاولة تصحيح الانحراف وارجاع الوضع الاجتماعي والدولي في الامة الاسلامية الى خطه الطبيعي، في هذا الخط، عمل (ع) حتى قيل عن علي (ع) انه أشد الناس رغبة في الحكم والولاية، اتهمه معاوية بن أبي سفيان، بانه طالب جاه، وانه طالب سلطان. اتهمه بالحقد على أبي بكر وعمر، اتهمه بكل ما يمكن ان يتهم الشخص المطالب بالجاه وبالسلطان وبالزعامة.
أمير المؤمنين (ع) عمل على هذا الخط خط تسلم زمام الحكم، وتفتيت هذا الانحراف، وكسب الزعامة زعامة التجربة الاسلامية الى شخصه الكريم، بدأ هذا العمل عقيب وفاة رسول اللّه (ص) مباشرة كما قلنا بالأمس، حيث حاول ايجاد تعبئة وتوعية فكرية عامة في صفوف المؤمنين واشعارهم بان الوضع وضع منحرف.
الا ان هذه التعبئة لم تنجح لاسباب ترتبط بشخص علي (ع) استعرضنا بعضها بالامس، ولاسباب أخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين انفسهم. لأن المسلمين وقتئذ لم يدركوا ان يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كل ما انفتح من بلاء على الخط الطويل لرسالة الاسلام، لم يدركوا هذا، ورأوا ان وجوهاً ظاهرة الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقياداتهم في هذا المجال، ومن الممكن خلال هذه القيادة، ان ينمو الاسلام وان تنمو الامة.
{ 60 }
لم يكن يفهم من علي (ع) الا ان له حقاً شخصياً يطالب به، وهو مقصر في مطالبته، الا ان المسألة لم تقف عند هذا الحد، فضاقت القصة على أمير المؤمنين (ع) من هذه الناحية، ومن أننا نجد في مراحل متأخرة من حياة امير المؤمنين (ع) المظاهر الاخرى لعمله على هذا الخط، لمحاولة تسلمه او سعيه في سبيل تسلم زعامة التجربة الاسلامية وتفادي الانحراف الذي وقع، الا ان الشيء الذي هو في غاية الوضح، من حياة أمير المؤمنين (ع) انه (ع) في عمله في سبيل تزعم التجربة، وفي سبيل محاربة الانحراف القائم ومواجهته بالقول الحق وبالعمل الحق، وبشرعية حقه في هذا المجال، كان يواجه مشكلة كبيرة جداً، وقد استطاع ان ينتصر على هذه المشكلة انتصاراً كبيراً جداً ايضاً.
هذه المشكلة التي كان يواجهها هي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل والوجه الواقعي لهذه العمل.
قد يتبادر الى ذهن الانسان الاعتيادي لأول مرة إن العمل في سبيل معارضة زعامة العصر، والعمل في سبيل كسب هذه الزعامة، انه عمل في اطار فكري، انه عمل يعبَّر عن شعور هذا العامل بوجوده، وفي مصالحه، وفي مكاسبه، وبأبعاد شخصيته، هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر الى الاذهان، من عمل يتمثل فيه الاصرار على معارضته في زعامة العصر على كسب هذه الزعامة، وقد حاول معاوية كما اشرنا ان يستغل هذه البداهة التقليدية في مثل هذا الموقف من أمير المؤمنين (ع).
الا ان الوجه الواقعي لهذا العمل من قبل الامام (ع) لم يكن هذا، الوجه الواقعي هو ان علياً كان يمثل الرسالة وكان هو الامين الاول من قبل رسول اللّه (ص) على التجربة على استقامتها وصلابتها، وعدم تميعها على الخط الطويل، الذي سوف يعيشه الاسلام والمسلمون بعد النبي (ص). فالعمل كان بروح الرسالة ولم يكن بروحه هو، كان عملاً بروح تلك الاهداف الكبيرة، ولم يكن عملاً بروح المصلحة الشخصية، لم يكن يريد ان يبني زعامة لنفسه، وانما كان يريد ان يبني زعامة الاسلام وقيادة الاسلام في المجتمع الاسلامي، وبالتالي في مجموع البشرية على وجه الارض.
{ 61 }
هذان وجهان مختلفان، قد يتعارضا في العامل نفسه، وقد يتعارضان في نفس الاشخاص الآخرين، الذين يريدون ان يفسروا عمل هذا العامل.
هذا العامل قد يتراءى له في لحظة انه يريد ان يبني زعامة الاسلام لا زعامة نفسه، الا انه خلال العمل، اذا لم يكن مزوداً بوعي كامل. اذا لم يكن مزوداً بارادة قوية، اذا لم يكن قد استحضر في كل لحظاته وآنات حياته، انه يعيش هذه الرسالة ولا يعيش نفسه، اذا لم يكن هكذا، فسوف يحصل في نفسه ولولا شعوريا انفصام بين الوجه الظاهري للعمل وبين الوجه الحقيقي للعمل، وبمثل هذا الانفصام سوف تضيع امامه كل الاهداف او جزء كبير من تلك الاهداف سوف ينسى انه لا يعمل لنفسه بل هو يعمل لتلك الرسالة سوف ينسى انه ملك غيره وانه ليس ملكاً لنفسه: كل شخص يحمل هذه الاهداف الكبيرة، يواجه خطر الضياع في نفسه، وخطر ان تنتصر انانيته على هذه الاهداف الكبيرة، فيسقط في اثناء الخط، يسقط في وسط الطريق، وهذا ما كان علي (ع) معه على طرفي نقيض. علي (ع) كان يصّر دائماً على ان يكون زعيماً، يصّر دائماً على ان يكون هو الاحق بالزعامة، علي الذي يتألم، الذي يتحسّر انه لم يصبح زعيماً بعد محمد (ص) الذي يقول: لقد تقصمها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى، في غمرة هذا الالم، في غمرة هذه الحساسية، يجب ان لا ننسى ان هذا الالم ليس لنفسه، ان هذه الحساسية ليست لنفسه، ان كل هذا العمل وكل هذا الجهد، ليس لاجل نفسه بل من أجل الاسلام. و كذلك كان يربي اصحابه على انهم اصحاب تلك الاهداف الكبيرة، لا اصحاب زعامته وشخصه، وقد انتصر علي عليه السلام انتصاراً عظيماً في كلتا الناحيتين.
انتصر علي على نفسه، وانتصر في اعطاء عمله اطاره الرسالي وطابعه العقائدي انتصاراً كبيراً.
على ربي اصحابه على انهم اصحاب الاهداف لا اصحاب نفسه. كان يدعو الى ان الانسان يجب ان يكون صاحب الحق، قبل ان يكون صاحب شخص بعينه. علي هو الذي قال: «اعرف الحق تعرف اهله» كان يربي اصحابه، يربى عماراً وأبا ذرّ والمقداد على انكم اعرفوا الحق... ثم احكموا
{ 62 }
على علي في اطار الحق. وهذا غاية ما يمكن ان يقدمه الزعيم من اخلاص في سبيل اهدافه. ان يؤكد دائماً لأصحابه واعوانه - وهذا مما يجب على كل المخلصين - ان المقياس هو الحق وليس هو الشخص. ان المقياس هو الاهداف وليس هو الفرد.
هل يوجد هناك شخص اعظم من علي بن ابي طالب. لا يوجد هناك شخص اعظم من علي الا استاذه، لكن مع هذا جعل المقياس هو الحق لا نفسه.
لما جاءه ذلك الشخص وسأله عن الحق في حرب الجمل هل هو مع هذا الجيش او مع ذلك الجيش، كان يعيش في حالة تردد بين عائشة وعلي، يريد ان يوازن بين عائشة وعلي، أيهما أفضل حتى يحكم بانه هو مع الحق أو عائشة. جهودها للإسلام أفضل أو جهود علي أفضل، قال له: اعرف الحق تعرف اهله.
علي كان دائماً مصرّاً على ان يعطي العمل الشخصي طابعه الرسالي، لا طابع المكاسب الشخصية بالنسبة اليه، وهذا هو الذي يفّسر لنا كيف ان علياً (ع)، بعد ان فشل في تعبئته الفكرية عقيب وفاة رسول اللّه (ص)، لم يعارض ابا بكر وعمر معارضة واضحة سافرة طيلة حياة ابي بكر وعمر، وذلك ان اول موقف اعتزل فيه علي المعارضة بعد تلك التعبئة الفكرية واعطائها شكلاً واضحاً صريحاً كان عقيب وفاة عمر، يوم الشورى حينما خالف ابا بكر وعمر، هذا عندما حاول عبد الرحمن بن عوف حينما اقترح عليه المبايعة ان يبايعه على كتاب اللّه وسنة رسول وسنة الشيخين، قال عليه السلام: بل على كتاب اللّه وسنة نبيه واجتهادي. هنا فقط اعلن عن معارضة عمر، في حياة ابي بكر وعمر بعد تلك التعبئة، لم يبد موقفاً ايجابياً واضحاً في معارضتهما، والوجه في هذا، هو ان علياً (ع) كان يريد ان تكون المعارضة في اطارها الرسالي، وان ينعكس هذا الاطار على المسلمين، ان يفهموا ان المعارضة ليست لنفسه، وانما هي للرسالة، وحيث ان ابا بكر وعمر كانا قد بدآ الانحراف، ولكن الانحراف لم يكن قد تعمق بعد والمسلمون القصير والنظر، الذين قدموا ابا بكر على علي (ع) ثم قدموا عمر على علي (ع)، هؤلاء
{ 63 }
المسلمون القصيرو النظر لم يكونوا يستطيعون ان يعمقوا النظر الى هذه الجذور، التي نشأت في ايام ابي بكر وعمر فكان معنى مواصلة المعارضة بشكل جديد ان يفسر من أكثر المسلمين، بأنه عمل شخصي، وانها منافسة شخصية مع ابي بكر وعمر وان بدأت بهم بذور الانحراف في عهدهما الا انه حتى هذه البذور كانت الاغلب مصبوغة بالصبغة الايمانية، كانا يربطانها بالحرارة الايمانية الموجودة عند الامة، وحيث انها حرارة ايمانية بلا وعي، ولهذا لم تكن الامة تميز هذا الانحراف.
تتبع ...