صاحب الراية
12-04-2009, 01:24 AM
عشية استشهاد الإمام الصدر الأول، كانت تنمو بداخلنا مشاعرُ الخوف الكبير على مستقبل قيادة الأمّة من بُعدها المرجعي.. كان الواحد منّا يتساءل هل يمكن أن يملأ فراغ الصدر مرجع يتحرك على نمطه؟ وهل يمكن أن تجودَ لنا الأمّة بمثل الصدر؟
وكان الجواب يأتي سريعاً بالإحباط، فلقد أدرك حينها كل الذين عاشوا الإمام الصدر اُستاذاً ومرجعاً وقائداً، أنّه نموذج قلَّ نظيره في عالمنا الصعب، إنّه ظاهرة يصعب أن تتكرر في حياتنا العامة، إلاّ بعد حقبة من الدهر.
وكنّا نتساءل سؤال المعجز:
من ذا الذي يقوى على النهوض بمشروع المرجعية الصالحة؟
من ذا الذي يملك أن يُعبّئ الأمّة ويصنع الحدث ويرسم الطريق في ساحة كلها تحديات، تحكمها سلطة لغتها العنف وحوارها السجن والقتل والاغتيال؟
وكنّا نعلم تمام العلم أنّ السيد الصدر بقدراته الاستثنائية، وبشخصيته الفذة، قد أتعب الجميع، وأننا لا نملك سوى الصبر والانتظار الطويل حتى يجودَ الدهر برجل آخر ويمنّ الله على الأجيال القادمة بشخصية عملاقة مثله ترسم معالم الطريق من جديد، وتعطي للامة ما تريد، وتلبي لها احتياجاتها الفكرية والعملية.
وكنّا نسلّي النفس بأنّ القادم المرتقب في عالم المرجعية سوف لن يواجه التحديات الداخلية التي تعرض لها الصدر الأول، بعد أن عاشت الأمّة تجربة الظّلامة التي تعرض لها في حياته، على أساس أنّ الذين هاجموا الصدر قد أحسوا بالتأنيب دون ريب يوم انتقل إلى عالم الخلود شهيداً صابراً محتسباً.
هكذا كنّا نمنّي النفس، وترقبنا كان لمستقبل سيأتي بعد حين.
لكن حساباتنا ورؤيتنا لم تكن متطابقة مع الواقع، لنعترف بهذه الحقيقة.. ولعلّنا نجد العذر بأنّ الارتباط العاطفي بالسيد الصدر، وحجم الفاجعة التي فُجعناها باستشهاده، قد جعلتنا نخضع لمثل تلك التصورات.
وبعد نيف وعشر سنوات عاد التاريخ يعيد نفسه، في ظاهرة مماثلة للإمام الشهيد من حيث المضمون، إنّها ظاهرة السيد محمد الصدر، تلميذه وفرعه وابن اُسرته آل العراق.. الضالة المنشودة والشخصية المرتقبة التي تملأ الفراغ، وتعيد الثقة للنفوس، بل وتدفعُ النفوس لتطلع أكبر وطموح أعلى وهي ترى لواء الصدر الأول معقوداً يرفرف على رأسه.
في غضون سنوات قليلة صار السيد محمد الصدر قائد الأمّة في العراق ومرجعها الذي يمنحها القوة من خلال مجموعة من المشاريع الاجتماعية الناجحة رغم الإرهاب السلطوي الذي يتحرك وفق استراتيجية تريد أن تجتث التشيع من الساحة، وتمحو من الخارطة العراقية الوجود السكاني للشيعة.
كانت حركة الشهيد الصدر الثاني تسير بخطى سريعة، محققة انجازات كبيرة على الصعيد الشعبي، فكان يحوّل الحاضر إلى ماض ليصنع حاضراً جديداً، متطلعاً لمستقبل أكبر من حركة العطاء الاسلامي التي تمتد على كل الشرائح الاجتماعية في العراق.
ولأنه كان كله للامة، فإنّ الأمّة كانت كلها له.. فلأوّل مرة في التاريخ الشيعي يقف في العراق مرجع يقيم صلاة الجمعة بشكل منتظم، صلاة كانت تظاهرة جماهيرية، أو لنقل حشراً جماهيرياً على طريق الوعي الإسلامي، وصار مسجدُ الكوفة مهبط الجمهور العراقي من مختلف المدن والقصبات.
في تحدي الجمعة كان (رضوان الله عليه)، يصنع للأمّة الوعي.. يشدها إلى إسلامها، وينفخ فيها من روحه لتستوي قائمة ثابتة تخوض التحدي بثقة فلا تخشى الإرهاب، ولا تعبأ بالتهديد والوعيد، لأنّها تعلمت أن تُرخص النفوس من أجل الإسلام، وذاك هو أحد الإنجازات الهائلة في حياة رجل العراق السيد محمد الصدر.
صيّر الجمعة يوماً مشهوداً في حياة الناس، وجعلها نقطة التلاقي بين المرجعية والأمّة، وجسراً ممتداً بين قلب المرجعية وعقل الأمّة. حتى ليمكن أن نصف خُطبه بأنّها كانت ثقافة الجمعة. حيث كان يتحدث فيها عن مختلف الشؤون التي تتصل بحياة المجتمع العراقي، فقد تناول في خُطب عديدة الموقف مع السلطة، وبذلك حطّم الحاجز المرعبَ الذي دأبت السلطةُ على بنائه طوال فترة حكمها، والتي كانت تحاول من خلاله أن تجعل الجماهير تخشى السلطة فلا تفكر في الاقتراب من محرّماتها، لكنه (رضوان الله عليه) تجاوز ذلك الجدار ووقف يتحدى إجراءاتها ويتحدث بثقة وثبات وقوة عن مطالب الشعب العراقي، ويُدين السلطة في فسحها المجال واسعاً أمام مظاهر الانحراف، في مُقابل تضييقها ومحاربتها للشعائر الدينية. واستطاع من خلال صلاة الجمعة أن يعزل السلطة عن الأمّة، بعدما كانت السلطة تحاول عزل الأمّة عن المرجعية.
المرجع الشهيد والسلطة:
من أهم القضايا التي ميّزت حياة السيد الشهيد محمد الصدر في فترة تصديه للمرجعية، قضية العلاقة مع السلطة في العراق، والتي حاول البعض أن يتخذها نقطة طعن في شخصيته (رضوان الله عليه).
لقد تعامل الشهيد الصدر الثاني مع السلطة وفق رؤية مدروسة وتحرك في هذا المجال على منهج واضح، يستدعي التأمل والدراسة، وهي مسألة طالما بحثها علماؤنا السابقون كالشيخ المفيد والمرتضى والطوسي تحت عنوان العمل مع حكّام الجور.
إنّ العلاقة مع السلطة الحاكمة في العراق تحتاج إلى تخطيط دقيق، وذلك لخصوصيات سياستها التي تقوم على أساس الإرهاب الدموي ولا تملكُ غير لغة العنف في التعامل مع خصومها السياسيين أو حتى من تشك أنّهم خصومها. وقد نظرت السلطة إلى شيعة العراق على أنّهم الوجود المتحدي الذي يهدف إلى اسقاطها، وتعززت هذه النظرة لدى السلطة بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة التي كانت واضحة في أهدافها وموقفها من الحكم البعثي في العراق.
وعلى هذا فإنّ أي مشروع في التحرك الإسلامي سيصطدم بالسلطة، لا سيما إذا كان مصدره الحوزة والمرجعية الشيعية، وسيكون مصيره ضربة عاجلة انتقامية توجهها السلطة في أية لحظة، خصوصاً وأنّها لا تحتاج إلى ايجاد مبررات لتغطية سياستها الإرهابية، فالقانون الحاكم عندها هو استباقُ الزمن مع التحديات المحتملة. بمعنى أنّ أيّ ظاهرة يُحتمل أن تشكل خطراً على السلطة ذات يوم، فإنّها تبادر إلى وأدها بأي شكل ووسيلة، سواء كانت هذه الظاهرة شخصاً أو حركة أو ممارسة.
إزاء هذا الواقع المعقّد رسم السيد الصدر الثاني منهجيته في التحرك الميداني والتي كانت تستدعي السيرَ بين الخطوط الحمراء من أجل تحقيق مشروعه في بناء الأمّة من جديد، وتحريك عوامل الوعي والتحدي فيها، بعد أن تعرضت لانتكاسة نفسية بعد الانتفاضة الشعبانية.
لقد وجد السيد الشهيد أنّ الأمّة تحتاج إلى عملية توعية جماهيرية، تكون مادتها الأمّة بكاملها، وليس إلى عمل نُخبوي يمارس مشروع التوعية.
وهذه المسألة لها أهميتها في مشروع السيد الصدر. وفي تقديري أن الذي دفعه إلى هذا التخطيط عاملان أساسيان:
أولاً: محاولته لاستثمار عامل الزمن إلى الحدود القصوى، على اعتبار أنّ بناء كتلة النخبة التي تقوم بعملية التوعية، سيحتاج بدون شك إلى مزيد من الوقت، وأنّ تحرك النخبة بعد مرحلة البناء تتطلب وقتاً آخر بحكم طبيعة التحرك الحذر في أجواء العراق الخانقة.
ثانياً: كان (رحمه الله) يُدرك أنّ العلاقة مع الجمهور من خلال النخبة، لن تُعطي النتائج المطلوبة في ربط الأمّة بالمرجعية، لأنّ النخبة ستكون بمثابة الجسر بين المرجعية وبين الأمّة، في حين أنّ الظروف تستدعي علاقة مباشرة بين المرجع وأمّته. ويبدو أنّ السيد الشهيد كان يؤمن بأنّ الأمّة وصلت إلى مستوى من الوعي بحيث أنّها لا تحتاج إلى ممارسة نخبوية، بل أنّ الذي تحتاجه هو التواصل بينها وبين القيادة الدينية، فهي تحتاج أن ترى القائد يتحرك على الساحة، تريدُ أن تأخذ منه مباشرة في علاقة مفتوحة متبادلة.
لقد تحرك مشروع السيد الشهيد على أساس الفعل الجماهيري المؤثر والسريع، وكان يريد أن يربط الأمّة بالمرجعية في تحرك ميداني سريع، لكن الظروف العامة في العراق لم تكن لتسمح بمثل هذا التحرك نتيجة الحساسية المفرطة التي تعيشها السلطة من المرجعية، وخوفها من أي حركة جماهيرية مستجيبة للمرجعية.
وكانت هذه المشكلة تعني تجميد طموحات الصدر الشهيد، وابقاءها في الدائرة النظرية الخاصة، لكنه (رحمه الله) رسم منهجاً عملياً لتحقيق مشروعه، استطاع من خلاله أن يصل إلى ما يريد، وذلك عبر ممارسة الأساليب المرنة مع السلطة، فهو في بداية تحركه كان يحاول الابتعاد قدر الامكان عن أي خطوة تستفز السلطة من أجل أن يخلق الأرضية المناسبة لتحركه. أي أنّه كان بحاجة إلى نقطة انطلاق أولى، وقد وجد أنّ نقطة الانطلاق لا تتحقق بتجاوز الثوابت الحاكمة في الساحة السياسية، وإنّما تحتاج إلى مرحلة تمهيدية قصيرة الأمد لكنها ذات نتائج بعيدة مستقبلياً، فباشر (رحمه الله) مشروعه بصفته مشروعاً جماهيرياً خالصاً أي أنّه لا يحمل الصفة السياسية، حتى يبتعد عن إثارة الحكم.
وفي تقديرنا أنّه استفاد إلى حد كبير من تجربة الائمة عليهم السلام، ولعل استيعابه الدقيق لتجارب الائمة وفهمه الواسع للتاريخ الإسلامي لدرجة التشبع هي التي حدت به إلى اعتماد هذا النهج.
لقد كان (رضوان الله عليه) يدرك أنّ المرجع في العراق لابدّ أن يحدد علاقته بالسلطة إمّا بالمعارضة أو بالحياد التام إن لم نقل المهادنة. فكانت المعارضة المعلنة تعني الموت السريع في ظروف العراق الإرهابية، أمّا المهادنة فهي موقف ضعيف لا ينسجم مع دور المرجع.
من هنا اختطَّ (رضوان الله عليه) سبيلاً وسطاً، فقد اختزن المعارضة لمرحلة قادمة، فيما أعلنَ الحياد في خطوته الأولى، على أنّ من الضروري التأكيد أنّ حياده لم يكن سلبياً، أي أنّه لم يجعل منه حياد العزلة والانكفاء على الدائرة الخاصة، بل جعله الموقف الذي يُغطي تحركه الجماهيري. وإذا جاز لنا أن نشبهه بمواقف الائمة «ع»، فإننا نقول أنّه استلهم تجربة الأئمة من بعد الإمام الحسين عليه السلام. حيث قام ببناء القاعدة الجماهيرية وتحريكها في خط المرجعية بحيث وجدت الأمّة نفسها مشدودة إلى المرجعية مباشرة.
بعد مرحلة البناء الشعبي وصنع الحالة الجماهيرية الإسلامية التي تنطوي تحت لواء المرجعية يكون السيد الصدر قد أنهى المرحلة الأولى من مشروعه العام، فباشر في تنفيذ المرحلة الثانية من المشروع، وهي مرحلة عزل السلطة عن الأمة، فقد كان يسعى إلى تحويل الوضع العام في العراق إلى خندقين متقابلين، خندق السلطة وخندق الأمّة بقيادة المرجعية، وهو بهذا كان يعمل على تحطيم جدار الخوف الذي دأبت السلطة على إقامته، إلى جانب جعل الأمّة تقف وراء المرجعية في مشاريعها وتحركها.
وقد نجح (رضوان الله تعالى عليه) في هذا المجال نجاحاً كبيراً إذ استطاع من خلال صلاة الجمعة وتبنيه لعدد من المشاريع الجماهيرية أن يضع الأمّة على المسار الصحيح، وأن يجعلها رهن إشارة المرجعية.
وفي هذه المرحلة أصبح بإمكانه أن يعلن عن مواقفه السياسية وأن يوجه نقده العلني لممارسات السلطة بحق الشعب العراقي. وقد أراد (قدس سره) أن يكسب إلى جانبه مواقف المرجعيات الأخرى ويجعلها تتحرك في نفس الاتجاه الجماهيري، غير أنّه لم يتمكن من تقريبها إلى حركة الأمّة، نتيجة اختلاف القناعات أو نتيجة عوامل اخرى لسنا بصدد الخوض في تفصيلاتها.
وفي هذه المرحلة ايضا استطاع السيد الشهيد أن يكون الرمز القيادي للامة، فتوجهت إليه بكل وعي وإصرار تنتظر منه الرأي والموقف، وكان (رضوان الله عليه) سخياً معطاء في هذا المجال. فتحول الشارع العراقي إلى تيار حركي يسير تحت لوائه، وتحولت حركته إلى ظاهرة عامة في العراق.
والذي نفهمه من حركته (قدس سره) أنّه كان على وشك الدخول في المرحلة الثالثة والأخيرة من مشروعه الكبير، وهو قيادة الأمّة نحو التحرك الثوري والعصيان المدني كقرار مصيري ليحسم الصراع مع السلطة، فقد حقق خلال سنوات قليلة القاعدة الواعية، وصنع من جماهير العراق ثواراً على اُهبة الاستعداد. وقد أحسّت السلطة الحاكمة بالخطر القادم وأنّ ساعة الصفر وشيكة الوقوع، لاسيما وأنّ مؤشرات الانتفاضة الجديدة كانت تبرز على سطح الأحداث، وكان (رضوان الله علية) قد صعّد من تصديه ومعارضته العلنية للنظام الحاكم في خطب الجمعة الأخيرة التي سبقت استشهاده.
عند هذه النقطة لم يجد النظام خياراً غير رصاص الغدر، فكانت العملية الانتفامية الإجرامية في آخر يوم جمعة من حياته الشريفة، فاستشهد (رضوان الله تعالى عليه) مع اثنين من أبنائه، في أرض النجف الأشرف.. وفي الحقيقة أنّ الرصاصات اخطأت الهدف إذ لم تستطع أن تغتال السيد محمداً الصدر الظاهرة والضمير والوعي.
معطيات التجربة
قدّم السيد الصدر رغم تجربته القصيرة منهاجاً عملياً في التعامل مع الأمّة وتحريكها باتجاه الهدف الإسلامي، ويمكن أن نستخلص أهم سمات هذا المنهاج بما يلي:
أولاً: إنّ الأمّة في العراق لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والمهام الفكرية، إنّما تحتاج إلى قائد يعيشها وتعيشه في علاقة حب متبادلة، فالقائد الذي يمنح الأمّة قلبه، يجدها سخيةً في منحه الولاء، تُعطي الروح والجسد بكل أريحية، وليس بعد هذا وفاء. قلب القائد هو التعبير الواقعي عن مصداقية القيادة وجدارتها في رسم الطريق للأمّة والتفاعل بها ومعها. وقلبُ القائد هو شرط أول في القائد الميداني.
ثانياً: لقد استطاع السيد الصدر أن يَفهم الأمّة، ولأنّه فهِمَها بعمق ودقة فإنه تمكن أن يؤثر فيها، والأمّة تريد القائد الذي يفهمها... ويراها وتراه بلا حجاب أو ستار.. إنّها تريد قيادة ميدانية تتقدم الصفوف بشجاعة، وعند ذاك تبادر إلى فعل كل ما يراد منها، تحول إيماءته إلى موقف... وإشارته إلى فعل... ورأيه إلى تيار.
ثالثاً: إنّ الأمّة لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والتنضيج، بل هي واعية وناضجة إلى ما فيه الكفاية، وهل هناك نضج ووعي أكثر من ارادة الثورة والتضحية، وقد أدرك السيد الصدر هذه الحقيقة وعمل على أساسها، فقد كان (رضوان الله عليه) يركز على ثقافة الثورة وليس ثورة الثقافة. كان يريد ثقافة الفعل لا الفعل الثقافي. وهذا ما يدعونا إلى تقييم دائم لجماهيرنا لمعرفة مستوى النضج والوعي على اسس موضوعية تقدر مستوى النضج، وتقدر نقاط التحول التاريخي في مسارات الأمّة وحركتها.
رابعاً: يخطئ من يفكر بأنّ الإنسان العراقي يتعب أو يرهقه طول السير، فهو يتجدد مع الأيام، يتمرد على الجراح والحزن، والأكثر من ذلك يستطيع أن يبدع القوة.. يجمع الأشلاء ليحولها إلى عملاق يتحدى.. يؤلف من دموع المحنة نشيداً متحدياً... ويحول من الآهات صرخة ثورة. وهذا ما بينه الشهيد الصدر الأول في أخريات حياته، وجاء من بعده رائد مدرسته ليسير على هذا الاتجاه، ويحقق نجاحاً تاريخياً تشهد له أرض العراق بجماهيرها ونخيلها ومساجدها، ولا حاجة بعد ذلك لمزيد شهود.
خامساً: كان السيد الصدر ـ وكما يفهم من تجربته ومن بعض الأحاديث الخاصة التي أدلى بها لمريديه والمقربين منه ـ يؤمن بضرورة المبادرة القيادية عندما تكون مطابقة للحكم الشرعي، وأن العمل بالتكليف الشرعي هو ضمانة للمواصلة والاستمرار، ولم يكن يميل إلى تعقيد المشروع بالدراسات المستفيضة التي تقتله بحثاً ونقاشاً فإذا ما خرج إلى شمس الواقع خرج أرمدَ من كثرة ما أرهقه سهر النقاش. وهو في ذلك يشترك مع منهج الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في التحرك والفعل الجماهيري. فالأمّة ليست موضوعاً للنقاش والتأمل، إنما هي قوة بحاجة إلى استثمار وتحريك باتجاه الهدف المطلوب، ولا يحرك هذه القوة قائد النظرية فحسب بل قائد النظرية والتطبيق.
وخلاصة القول أنّ الصدر الثاني كان ظاهرة في العمل الإسلامي ومدرسة في الموقف القيادي، كما كان سلفه المؤسس ظاهرة رائدة ولدت في عصرها لتحدث التغيير في مرتكزات المفاهيم السائدة، وأخالف كل الذين يقولون أنّه ولد في غير عصره. لقد صنع الصدر الأول العصر الذي يريد.. وجاء الصدر الثاني ليصنع العصر الذي يريد أيضاً، وإذا بالأمّة في العراق تفتح عينيها لتجد في العراق ثلاثة روافد دجلة والفرات والصدر.. خالدين يملأون العراق رياً ونماءً.
إنّ اللحظة التي استُشهد فيها الصدر الأول أو الثاني هي واحدة لا فرق بينهما، فكلاهما بداية لتحديد المسؤولية لمن يأتي ليحمل الراية المضرجة بالدم والمشرقة بآمال النصر. والأمّة تتطلع من بين الوجوه لمن يحملها بيد قوية ويتطلع بعين ثاقبة ويفكر بعقل هو الأمّة. تبحث عن قائد يعمل بشجاعة وصدق فيحول الرأي إلى موقف والقرار إلى فعل، ولا فرق عنده بين أن يموت أو يحيا ما دام ذلك من أجل الإسلام.
علّمنا الصدر (ولا فرق بين الأول والثاني) أنّ الأمّة تريد القائد الذي يضم بين ضلوعه قلب الجماهير ويحمل في رأسه عقلها، وملامحه هي الشعب كله.. وعند ذلك يكون قائداً لا يقتله الرصاص، مثلما عجز الرصاص عن قتل رافد العراق الثالث.. السيد الصدر.
والسلام عليكم
وكان الجواب يأتي سريعاً بالإحباط، فلقد أدرك حينها كل الذين عاشوا الإمام الصدر اُستاذاً ومرجعاً وقائداً، أنّه نموذج قلَّ نظيره في عالمنا الصعب، إنّه ظاهرة يصعب أن تتكرر في حياتنا العامة، إلاّ بعد حقبة من الدهر.
وكنّا نتساءل سؤال المعجز:
من ذا الذي يقوى على النهوض بمشروع المرجعية الصالحة؟
من ذا الذي يملك أن يُعبّئ الأمّة ويصنع الحدث ويرسم الطريق في ساحة كلها تحديات، تحكمها سلطة لغتها العنف وحوارها السجن والقتل والاغتيال؟
وكنّا نعلم تمام العلم أنّ السيد الصدر بقدراته الاستثنائية، وبشخصيته الفذة، قد أتعب الجميع، وأننا لا نملك سوى الصبر والانتظار الطويل حتى يجودَ الدهر برجل آخر ويمنّ الله على الأجيال القادمة بشخصية عملاقة مثله ترسم معالم الطريق من جديد، وتعطي للامة ما تريد، وتلبي لها احتياجاتها الفكرية والعملية.
وكنّا نسلّي النفس بأنّ القادم المرتقب في عالم المرجعية سوف لن يواجه التحديات الداخلية التي تعرض لها الصدر الأول، بعد أن عاشت الأمّة تجربة الظّلامة التي تعرض لها في حياته، على أساس أنّ الذين هاجموا الصدر قد أحسوا بالتأنيب دون ريب يوم انتقل إلى عالم الخلود شهيداً صابراً محتسباً.
هكذا كنّا نمنّي النفس، وترقبنا كان لمستقبل سيأتي بعد حين.
لكن حساباتنا ورؤيتنا لم تكن متطابقة مع الواقع، لنعترف بهذه الحقيقة.. ولعلّنا نجد العذر بأنّ الارتباط العاطفي بالسيد الصدر، وحجم الفاجعة التي فُجعناها باستشهاده، قد جعلتنا نخضع لمثل تلك التصورات.
وبعد نيف وعشر سنوات عاد التاريخ يعيد نفسه، في ظاهرة مماثلة للإمام الشهيد من حيث المضمون، إنّها ظاهرة السيد محمد الصدر، تلميذه وفرعه وابن اُسرته آل العراق.. الضالة المنشودة والشخصية المرتقبة التي تملأ الفراغ، وتعيد الثقة للنفوس، بل وتدفعُ النفوس لتطلع أكبر وطموح أعلى وهي ترى لواء الصدر الأول معقوداً يرفرف على رأسه.
في غضون سنوات قليلة صار السيد محمد الصدر قائد الأمّة في العراق ومرجعها الذي يمنحها القوة من خلال مجموعة من المشاريع الاجتماعية الناجحة رغم الإرهاب السلطوي الذي يتحرك وفق استراتيجية تريد أن تجتث التشيع من الساحة، وتمحو من الخارطة العراقية الوجود السكاني للشيعة.
كانت حركة الشهيد الصدر الثاني تسير بخطى سريعة، محققة انجازات كبيرة على الصعيد الشعبي، فكان يحوّل الحاضر إلى ماض ليصنع حاضراً جديداً، متطلعاً لمستقبل أكبر من حركة العطاء الاسلامي التي تمتد على كل الشرائح الاجتماعية في العراق.
ولأنه كان كله للامة، فإنّ الأمّة كانت كلها له.. فلأوّل مرة في التاريخ الشيعي يقف في العراق مرجع يقيم صلاة الجمعة بشكل منتظم، صلاة كانت تظاهرة جماهيرية، أو لنقل حشراً جماهيرياً على طريق الوعي الإسلامي، وصار مسجدُ الكوفة مهبط الجمهور العراقي من مختلف المدن والقصبات.
في تحدي الجمعة كان (رضوان الله عليه)، يصنع للأمّة الوعي.. يشدها إلى إسلامها، وينفخ فيها من روحه لتستوي قائمة ثابتة تخوض التحدي بثقة فلا تخشى الإرهاب، ولا تعبأ بالتهديد والوعيد، لأنّها تعلمت أن تُرخص النفوس من أجل الإسلام، وذاك هو أحد الإنجازات الهائلة في حياة رجل العراق السيد محمد الصدر.
صيّر الجمعة يوماً مشهوداً في حياة الناس، وجعلها نقطة التلاقي بين المرجعية والأمّة، وجسراً ممتداً بين قلب المرجعية وعقل الأمّة. حتى ليمكن أن نصف خُطبه بأنّها كانت ثقافة الجمعة. حيث كان يتحدث فيها عن مختلف الشؤون التي تتصل بحياة المجتمع العراقي، فقد تناول في خُطب عديدة الموقف مع السلطة، وبذلك حطّم الحاجز المرعبَ الذي دأبت السلطةُ على بنائه طوال فترة حكمها، والتي كانت تحاول من خلاله أن تجعل الجماهير تخشى السلطة فلا تفكر في الاقتراب من محرّماتها، لكنه (رضوان الله عليه) تجاوز ذلك الجدار ووقف يتحدى إجراءاتها ويتحدث بثقة وثبات وقوة عن مطالب الشعب العراقي، ويُدين السلطة في فسحها المجال واسعاً أمام مظاهر الانحراف، في مُقابل تضييقها ومحاربتها للشعائر الدينية. واستطاع من خلال صلاة الجمعة أن يعزل السلطة عن الأمّة، بعدما كانت السلطة تحاول عزل الأمّة عن المرجعية.
المرجع الشهيد والسلطة:
من أهم القضايا التي ميّزت حياة السيد الشهيد محمد الصدر في فترة تصديه للمرجعية، قضية العلاقة مع السلطة في العراق، والتي حاول البعض أن يتخذها نقطة طعن في شخصيته (رضوان الله عليه).
لقد تعامل الشهيد الصدر الثاني مع السلطة وفق رؤية مدروسة وتحرك في هذا المجال على منهج واضح، يستدعي التأمل والدراسة، وهي مسألة طالما بحثها علماؤنا السابقون كالشيخ المفيد والمرتضى والطوسي تحت عنوان العمل مع حكّام الجور.
إنّ العلاقة مع السلطة الحاكمة في العراق تحتاج إلى تخطيط دقيق، وذلك لخصوصيات سياستها التي تقوم على أساس الإرهاب الدموي ولا تملكُ غير لغة العنف في التعامل مع خصومها السياسيين أو حتى من تشك أنّهم خصومها. وقد نظرت السلطة إلى شيعة العراق على أنّهم الوجود المتحدي الذي يهدف إلى اسقاطها، وتعززت هذه النظرة لدى السلطة بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة التي كانت واضحة في أهدافها وموقفها من الحكم البعثي في العراق.
وعلى هذا فإنّ أي مشروع في التحرك الإسلامي سيصطدم بالسلطة، لا سيما إذا كان مصدره الحوزة والمرجعية الشيعية، وسيكون مصيره ضربة عاجلة انتقامية توجهها السلطة في أية لحظة، خصوصاً وأنّها لا تحتاج إلى ايجاد مبررات لتغطية سياستها الإرهابية، فالقانون الحاكم عندها هو استباقُ الزمن مع التحديات المحتملة. بمعنى أنّ أيّ ظاهرة يُحتمل أن تشكل خطراً على السلطة ذات يوم، فإنّها تبادر إلى وأدها بأي شكل ووسيلة، سواء كانت هذه الظاهرة شخصاً أو حركة أو ممارسة.
إزاء هذا الواقع المعقّد رسم السيد الصدر الثاني منهجيته في التحرك الميداني والتي كانت تستدعي السيرَ بين الخطوط الحمراء من أجل تحقيق مشروعه في بناء الأمّة من جديد، وتحريك عوامل الوعي والتحدي فيها، بعد أن تعرضت لانتكاسة نفسية بعد الانتفاضة الشعبانية.
لقد وجد السيد الشهيد أنّ الأمّة تحتاج إلى عملية توعية جماهيرية، تكون مادتها الأمّة بكاملها، وليس إلى عمل نُخبوي يمارس مشروع التوعية.
وهذه المسألة لها أهميتها في مشروع السيد الصدر. وفي تقديري أن الذي دفعه إلى هذا التخطيط عاملان أساسيان:
أولاً: محاولته لاستثمار عامل الزمن إلى الحدود القصوى، على اعتبار أنّ بناء كتلة النخبة التي تقوم بعملية التوعية، سيحتاج بدون شك إلى مزيد من الوقت، وأنّ تحرك النخبة بعد مرحلة البناء تتطلب وقتاً آخر بحكم طبيعة التحرك الحذر في أجواء العراق الخانقة.
ثانياً: كان (رحمه الله) يُدرك أنّ العلاقة مع الجمهور من خلال النخبة، لن تُعطي النتائج المطلوبة في ربط الأمّة بالمرجعية، لأنّ النخبة ستكون بمثابة الجسر بين المرجعية وبين الأمّة، في حين أنّ الظروف تستدعي علاقة مباشرة بين المرجع وأمّته. ويبدو أنّ السيد الشهيد كان يؤمن بأنّ الأمّة وصلت إلى مستوى من الوعي بحيث أنّها لا تحتاج إلى ممارسة نخبوية، بل أنّ الذي تحتاجه هو التواصل بينها وبين القيادة الدينية، فهي تحتاج أن ترى القائد يتحرك على الساحة، تريدُ أن تأخذ منه مباشرة في علاقة مفتوحة متبادلة.
لقد تحرك مشروع السيد الشهيد على أساس الفعل الجماهيري المؤثر والسريع، وكان يريد أن يربط الأمّة بالمرجعية في تحرك ميداني سريع، لكن الظروف العامة في العراق لم تكن لتسمح بمثل هذا التحرك نتيجة الحساسية المفرطة التي تعيشها السلطة من المرجعية، وخوفها من أي حركة جماهيرية مستجيبة للمرجعية.
وكانت هذه المشكلة تعني تجميد طموحات الصدر الشهيد، وابقاءها في الدائرة النظرية الخاصة، لكنه (رحمه الله) رسم منهجاً عملياً لتحقيق مشروعه، استطاع من خلاله أن يصل إلى ما يريد، وذلك عبر ممارسة الأساليب المرنة مع السلطة، فهو في بداية تحركه كان يحاول الابتعاد قدر الامكان عن أي خطوة تستفز السلطة من أجل أن يخلق الأرضية المناسبة لتحركه. أي أنّه كان بحاجة إلى نقطة انطلاق أولى، وقد وجد أنّ نقطة الانطلاق لا تتحقق بتجاوز الثوابت الحاكمة في الساحة السياسية، وإنّما تحتاج إلى مرحلة تمهيدية قصيرة الأمد لكنها ذات نتائج بعيدة مستقبلياً، فباشر (رحمه الله) مشروعه بصفته مشروعاً جماهيرياً خالصاً أي أنّه لا يحمل الصفة السياسية، حتى يبتعد عن إثارة الحكم.
وفي تقديرنا أنّه استفاد إلى حد كبير من تجربة الائمة عليهم السلام، ولعل استيعابه الدقيق لتجارب الائمة وفهمه الواسع للتاريخ الإسلامي لدرجة التشبع هي التي حدت به إلى اعتماد هذا النهج.
لقد كان (رضوان الله عليه) يدرك أنّ المرجع في العراق لابدّ أن يحدد علاقته بالسلطة إمّا بالمعارضة أو بالحياد التام إن لم نقل المهادنة. فكانت المعارضة المعلنة تعني الموت السريع في ظروف العراق الإرهابية، أمّا المهادنة فهي موقف ضعيف لا ينسجم مع دور المرجع.
من هنا اختطَّ (رضوان الله عليه) سبيلاً وسطاً، فقد اختزن المعارضة لمرحلة قادمة، فيما أعلنَ الحياد في خطوته الأولى، على أنّ من الضروري التأكيد أنّ حياده لم يكن سلبياً، أي أنّه لم يجعل منه حياد العزلة والانكفاء على الدائرة الخاصة، بل جعله الموقف الذي يُغطي تحركه الجماهيري. وإذا جاز لنا أن نشبهه بمواقف الائمة «ع»، فإننا نقول أنّه استلهم تجربة الأئمة من بعد الإمام الحسين عليه السلام. حيث قام ببناء القاعدة الجماهيرية وتحريكها في خط المرجعية بحيث وجدت الأمّة نفسها مشدودة إلى المرجعية مباشرة.
بعد مرحلة البناء الشعبي وصنع الحالة الجماهيرية الإسلامية التي تنطوي تحت لواء المرجعية يكون السيد الصدر قد أنهى المرحلة الأولى من مشروعه العام، فباشر في تنفيذ المرحلة الثانية من المشروع، وهي مرحلة عزل السلطة عن الأمة، فقد كان يسعى إلى تحويل الوضع العام في العراق إلى خندقين متقابلين، خندق السلطة وخندق الأمّة بقيادة المرجعية، وهو بهذا كان يعمل على تحطيم جدار الخوف الذي دأبت السلطة على إقامته، إلى جانب جعل الأمّة تقف وراء المرجعية في مشاريعها وتحركها.
وقد نجح (رضوان الله تعالى عليه) في هذا المجال نجاحاً كبيراً إذ استطاع من خلال صلاة الجمعة وتبنيه لعدد من المشاريع الجماهيرية أن يضع الأمّة على المسار الصحيح، وأن يجعلها رهن إشارة المرجعية.
وفي هذه المرحلة أصبح بإمكانه أن يعلن عن مواقفه السياسية وأن يوجه نقده العلني لممارسات السلطة بحق الشعب العراقي. وقد أراد (قدس سره) أن يكسب إلى جانبه مواقف المرجعيات الأخرى ويجعلها تتحرك في نفس الاتجاه الجماهيري، غير أنّه لم يتمكن من تقريبها إلى حركة الأمّة، نتيجة اختلاف القناعات أو نتيجة عوامل اخرى لسنا بصدد الخوض في تفصيلاتها.
وفي هذه المرحلة ايضا استطاع السيد الشهيد أن يكون الرمز القيادي للامة، فتوجهت إليه بكل وعي وإصرار تنتظر منه الرأي والموقف، وكان (رضوان الله عليه) سخياً معطاء في هذا المجال. فتحول الشارع العراقي إلى تيار حركي يسير تحت لوائه، وتحولت حركته إلى ظاهرة عامة في العراق.
والذي نفهمه من حركته (قدس سره) أنّه كان على وشك الدخول في المرحلة الثالثة والأخيرة من مشروعه الكبير، وهو قيادة الأمّة نحو التحرك الثوري والعصيان المدني كقرار مصيري ليحسم الصراع مع السلطة، فقد حقق خلال سنوات قليلة القاعدة الواعية، وصنع من جماهير العراق ثواراً على اُهبة الاستعداد. وقد أحسّت السلطة الحاكمة بالخطر القادم وأنّ ساعة الصفر وشيكة الوقوع، لاسيما وأنّ مؤشرات الانتفاضة الجديدة كانت تبرز على سطح الأحداث، وكان (رضوان الله علية) قد صعّد من تصديه ومعارضته العلنية للنظام الحاكم في خطب الجمعة الأخيرة التي سبقت استشهاده.
عند هذه النقطة لم يجد النظام خياراً غير رصاص الغدر، فكانت العملية الانتفامية الإجرامية في آخر يوم جمعة من حياته الشريفة، فاستشهد (رضوان الله تعالى عليه) مع اثنين من أبنائه، في أرض النجف الأشرف.. وفي الحقيقة أنّ الرصاصات اخطأت الهدف إذ لم تستطع أن تغتال السيد محمداً الصدر الظاهرة والضمير والوعي.
معطيات التجربة
قدّم السيد الصدر رغم تجربته القصيرة منهاجاً عملياً في التعامل مع الأمّة وتحريكها باتجاه الهدف الإسلامي، ويمكن أن نستخلص أهم سمات هذا المنهاج بما يلي:
أولاً: إنّ الأمّة في العراق لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والمهام الفكرية، إنّما تحتاج إلى قائد يعيشها وتعيشه في علاقة حب متبادلة، فالقائد الذي يمنح الأمّة قلبه، يجدها سخيةً في منحه الولاء، تُعطي الروح والجسد بكل أريحية، وليس بعد هذا وفاء. قلب القائد هو التعبير الواقعي عن مصداقية القيادة وجدارتها في رسم الطريق للأمّة والتفاعل بها ومعها. وقلبُ القائد هو شرط أول في القائد الميداني.
ثانياً: لقد استطاع السيد الصدر أن يَفهم الأمّة، ولأنّه فهِمَها بعمق ودقة فإنه تمكن أن يؤثر فيها، والأمّة تريد القائد الذي يفهمها... ويراها وتراه بلا حجاب أو ستار.. إنّها تريد قيادة ميدانية تتقدم الصفوف بشجاعة، وعند ذاك تبادر إلى فعل كل ما يراد منها، تحول إيماءته إلى موقف... وإشارته إلى فعل... ورأيه إلى تيار.
ثالثاً: إنّ الأمّة لم تعد بحاجة إلى المزيد من التوعية والتنضيج، بل هي واعية وناضجة إلى ما فيه الكفاية، وهل هناك نضج ووعي أكثر من ارادة الثورة والتضحية، وقد أدرك السيد الصدر هذه الحقيقة وعمل على أساسها، فقد كان (رضوان الله عليه) يركز على ثقافة الثورة وليس ثورة الثقافة. كان يريد ثقافة الفعل لا الفعل الثقافي. وهذا ما يدعونا إلى تقييم دائم لجماهيرنا لمعرفة مستوى النضج والوعي على اسس موضوعية تقدر مستوى النضج، وتقدر نقاط التحول التاريخي في مسارات الأمّة وحركتها.
رابعاً: يخطئ من يفكر بأنّ الإنسان العراقي يتعب أو يرهقه طول السير، فهو يتجدد مع الأيام، يتمرد على الجراح والحزن، والأكثر من ذلك يستطيع أن يبدع القوة.. يجمع الأشلاء ليحولها إلى عملاق يتحدى.. يؤلف من دموع المحنة نشيداً متحدياً... ويحول من الآهات صرخة ثورة. وهذا ما بينه الشهيد الصدر الأول في أخريات حياته، وجاء من بعده رائد مدرسته ليسير على هذا الاتجاه، ويحقق نجاحاً تاريخياً تشهد له أرض العراق بجماهيرها ونخيلها ومساجدها، ولا حاجة بعد ذلك لمزيد شهود.
خامساً: كان السيد الصدر ـ وكما يفهم من تجربته ومن بعض الأحاديث الخاصة التي أدلى بها لمريديه والمقربين منه ـ يؤمن بضرورة المبادرة القيادية عندما تكون مطابقة للحكم الشرعي، وأن العمل بالتكليف الشرعي هو ضمانة للمواصلة والاستمرار، ولم يكن يميل إلى تعقيد المشروع بالدراسات المستفيضة التي تقتله بحثاً ونقاشاً فإذا ما خرج إلى شمس الواقع خرج أرمدَ من كثرة ما أرهقه سهر النقاش. وهو في ذلك يشترك مع منهج الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في التحرك والفعل الجماهيري. فالأمّة ليست موضوعاً للنقاش والتأمل، إنما هي قوة بحاجة إلى استثمار وتحريك باتجاه الهدف المطلوب، ولا يحرك هذه القوة قائد النظرية فحسب بل قائد النظرية والتطبيق.
وخلاصة القول أنّ الصدر الثاني كان ظاهرة في العمل الإسلامي ومدرسة في الموقف القيادي، كما كان سلفه المؤسس ظاهرة رائدة ولدت في عصرها لتحدث التغيير في مرتكزات المفاهيم السائدة، وأخالف كل الذين يقولون أنّه ولد في غير عصره. لقد صنع الصدر الأول العصر الذي يريد.. وجاء الصدر الثاني ليصنع العصر الذي يريد أيضاً، وإذا بالأمّة في العراق تفتح عينيها لتجد في العراق ثلاثة روافد دجلة والفرات والصدر.. خالدين يملأون العراق رياً ونماءً.
إنّ اللحظة التي استُشهد فيها الصدر الأول أو الثاني هي واحدة لا فرق بينهما، فكلاهما بداية لتحديد المسؤولية لمن يأتي ليحمل الراية المضرجة بالدم والمشرقة بآمال النصر. والأمّة تتطلع من بين الوجوه لمن يحملها بيد قوية ويتطلع بعين ثاقبة ويفكر بعقل هو الأمّة. تبحث عن قائد يعمل بشجاعة وصدق فيحول الرأي إلى موقف والقرار إلى فعل، ولا فرق عنده بين أن يموت أو يحيا ما دام ذلك من أجل الإسلام.
علّمنا الصدر (ولا فرق بين الأول والثاني) أنّ الأمّة تريد القائد الذي يضم بين ضلوعه قلب الجماهير ويحمل في رأسه عقلها، وملامحه هي الشعب كله.. وعند ذلك يكون قائداً لا يقتله الرصاص، مثلما عجز الرصاص عن قتل رافد العراق الثالث.. السيد الصدر.
والسلام عليكم