محطم الاصنام
16-04-2009, 12:10 PM
كان العراق المركز الأصليّ للشيعة في العالم الإسلاميّ طوال العشرة الأولى في تاريخ الإسلام، وظلّ ولا يزال يُعدّ المركز الأصليّ حتّى بعد تأسيس الدولة الصفويّة في إيران..
وتعود بدايات التشيّع في العراق إلى ما قبل هجرة الإمام عليّ عليه السّلام إلى الكوفة، أيّ إلى زمن هجرة قبيلة هَمْدان وبني النَّخَع من جنوب جزيرة العرب إلى العراق. وكان هؤلاء قد عرفوا أمير المؤمنين عليه السّلام في السنوات الأخيرة من عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأسلموا على يده حين بعثه النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى بلاد اليمن.
وكان لشيعة العراق مساهمات هامة في صياغة التاريخ الإسلاميّ، فقد جاءوا سنة 35 هـ إلى المدينة للاحتجاج على عثمان، وطالبوه بالعودة إلى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله والكفّ عن سياسة تفضيل بني أميّة وتحكيمهم في رقاب المسلمين، وكان لحركتهم تلك الأثر الكبير في إعداد الأرضيّة لحكومة الإمام عليّ عليه السّلام.
ومن أهم رجال هؤلاء الشيعة: مالك الأشتر النَّخعيّ، وكُميل بن زياد وأصحابهما الذين اشتركوا في جيش أمير المؤمنين عليه السّلام لقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ونال بعضهم الشهادة في ساحات الجهاد والقتال.
وتعدّ قبيلة هَمْدان والنَّخع وبني عبدالقيس وكثيرٌ آخر من القبائل العربيّة من اوائل الشيعة، وكان لسياسة أمير المؤمنين عليه السّلام في العراق الأثر الكبير في انتماء هذه القبائل إلى صفّه وإيمانها بعدالة موقفه، فقد رأوا رأيَ العين مساواته في العطاء واقتفاءه سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعد أن عانَوا الأمرّين قبله من التفرقة في العطاء ومصادرة الحقوق والانحراف عن خطّ الرسالة. وقد بُحث أمر تشيّع الموالي بالتفصيل في كتاب آخر
وعلى أيّ حال فقد انتشر التشيّع في العراق واتّسع بمجيء أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام إلى الكوفة واتّخاذه إيّاها عاصمة لحكمه. وقد تنعّم أهل العراق في ظلّ حكم أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب من خمس سنوات، وكان خلال ذلك يخطب فيهم ويعظهم، فأثمر ذلك في انتشار الأفكار الإسلاميّة الأصيلة على أيدي أتباع أمير المؤمنين عليه السّلام وشيعته.
وعبّر أمير المؤمنين عليه السّلام عن حبّه للكوفة في عدّة مناسبات، فوصفها بأنّها « تربة تُحبّنا ونُحبّها ».
وقد ترسّخت جذور التشيّع في قلوب شيعة العراق، إلى درجة عجز معها الحجّاج بن يوسف الثقفي ـ بالرغم من قسوته الشديدة ـ عن صرف الناس عن موالاة الإمام عليّ عليه السّلام. ولا يزال أهل الكوفة بعد مرور القرون الطويلة لا يوجد فيهم من يتردّد في ترجيح الإمام عليّ عليه السّلام على غيره، أو يتردّد في رفض خلافة عثمان، وهي حقيقة أقرّ بها المؤرّخون .
وذكّر هشام بن عبدالملك واليَه على العراق ( أي الحجّاج ) في رسالةٍ بعثها إليه، بحقيقة أنّ أهل الكوفة يدينون بالولاء لأهل البيت، ويدينون لهم بالطاعه..
وحذّر المنصور العبّاسي ـ وهو الثاني من حكّام بني العبّاس ـ السفّاحَ من أن يجعل الكوفة مقرّاً لحكومته، لأنّها كانت مركزاً لشيعة الإمام عليّ عليه السّلام .
وبلغ من موالاة أهل الكوفة لأمير المؤمنين عليه السّلام أنّ البعض كان يتندّر بذلك، فيقول: مَن أحبّ أن يُستشهَد فليترحّم على عثمان في محلّة دار البطيّخ بالكوفة .
وظلّت الكوفة منشأ للثورات العلويّة الزيديّة التي كانت تشتعل فيها بين الحين والحين، فتستقطب الناس حولها، وتسبّب المشكلات الصعبة للحكومات العبّاسيّة المتعاقبة.
ومن الجدير بالتأمّل أنّ العراق كان مركزاً للحكم العبّاسيّ الذي يُعدّ من المدافعين عن مذهب أهل السنة، لكنّ الشيعة ظلّوا ـ على الرغم من ذلك كلّه ـ يشكّلون غالبيّة السكّان، وهو أمر يتبيّن منه بوضوح أفضليّة التشيع وأرجحيّته هناك في مقابل المذاهب والاتّجاهات الأخرى.
وينبغي الالتفات إلى أنّ البصرة قد اختارت المذهب العثمانيّ نظراً لدورها في الانحياز لأصحاب الجمل، ونتيجة للضربات الموجعة التي تلقّتها من أهل الكوفة ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله .
وكان من آثار هذه المواجهة أنّ المنازعات الأدبيّة بين أهل هاتين المدينتين ظلّت قائمة مدّة طويلة، ثمّ اتّسع التشيّع ـ من جديد ـ بين أهل البصرة، فأضحت أحدَ أهمّ مراكز التشيّع في العراق في عصرنا الحاضر.
وخلال القرنين الهجريّين الرابع والخامس كان الشيعة هم الغالبيّة الساحقة لسكّان بغداد، بَيْد أنّ الشيعة وأهل السنّة كانوا يصطدمون ببعضهم نتيجة التعصّب المذهبيّ، وكانت تحصل بينهم مواجهات دمويّة، فكان بعض حكّام بغداد العبّاسيّين يحرّضون الحنابلة على مهاجمة الشيعة القاطنين في محلّة الكرخ، وكان ذلك يتسبّب في تحمّل الشيعة خسائر كبيرة.
وكتب المقدسيّ يقول عن بغداد في القرن الرابع الهجريّ بأنّ أغلب سكّانها كان من الحنابلة والشيعة .
وذُكر أنّ الشيعة في بغداد كانوا يُقيمون شعائرهم علناً في القرن الرابع فصاعداً ، ويقيمون مراسم العزاء والحزن في المحرّم على الإمام الحسين عليه السّلام، ويحتفلون بعيد الغدير.
وكان لمجيء الدولة البويهيّة الشيعيّة في بغداد ووجود علماء أجلاّء من أمثال الشيخ المفيد، والشريف الرضيّ، الشريف المرتضى، ومن بعدهم الشيخ الطوسيّ.. الأثر الكبير في انتشار التشيّع في العراق .
ومن أهم المحلاّت التي سكنها الشيعة في بغداد خلال القرن الرابع الهجريّ وما بعده محلّة الكرخ و « باب الطاق ».
ونقل ياقوت الحمويّ ( في نهاية القرن السادس ) أنّ ساكني محلّة « باب البصرة » في بغداد ـ وهي تقع بين الكرخ والقبلة ـ كلّهم من السنّة الحنابلة، وأنّ ساكني غرب محلة الكرخ وجنوبها هم من أهل السنّة أيضاً، أما ساكنو محلّة الكرخ فهُم قاطبةً من الشيعة.
وينبغي الإشارة إلى الدور الذي تقوم به العتبات المقدّسة عامّة، ومدينة النجف وكربلاء خاصّة، في هجرة الشيعة من سائر البلاد إلى هذه العتبات، لِما لها من موقع في قلوب الشيعة ومحبّي أهل البيت عليهم السّلام، وهو أمرٌ له دوره في رواج التشيّع وازدهاره.
وكان الشيخ الطوسيّ رحمة الله عليه قد وضع أُسس الحوزة العلميّة في مدينة النجف الأشرف، فاجتذبت الحوزة طلبة العلوم الدينيّة في سائر البلاد الإسلاميّة. وكان لازدهار علم الكلام، والحديث، والفقه الشيعيّ ـ متمثّلاً في مؤلّفات الشيخ الطوسيّ، من أمثال: « النهاية » و « المبسوط » ـ تأثير كبير في اتّساع وازدهار العلوم الإسلاميّة الشيعيّة في سائر البلاد، حتّى قبل قيام الحُجّاج الخراسانيين بنقل الكتب الهامّة من أمثال « التمسّك بحبل آل الرسول » تأليف ابن أبي عقيل، إلى ديارهم، الأمر الذي أثمر في انتشار الفقه الشيعيّ هناك.
وبعد عصر الشيخ الطوسيّ كان لعائلة آل طاووس الحسنيّة في الحلة دور هامّ في نشر التشيّع في العراق، وقد تسنّم رجال هذه العائلة من السادة الحسينيّن منصب نقابة العلويّين بعد سقوط دولة بني العبّاس إلى عصر الإيلخاني.
ومن أهم المدن الشيعيّة في العراق ـ بعد مدينتي النجف وكربلاء ـ مدينة الحلّة، وقد كانت مركزاً علميّاً هامّاً للشيعة لعدّة قرون، وتخرّج منها مئات من العلماء الأجلاّء، منهم: المحقّق الحلّي والعلاّمة الحلّي وأسرة آل نما العلمية، إضافة إلى أسرة آل طاووس.
وقد أشار ابن بطّوطة ( في القرن الثامن الهجريّ ) إلى مدينة الحلّة، وصرّح بأنّ عامّة أهلها من الشيعة الإماميّة ، كما أشار إلى بئر ملاّحة قُرب الكوفة ـ وكانت على وشك الأندثار آنذاك ـ فدعا أهلها بالروافض، وذكر كذلك مدينة كربلاء وقال: إنّ أهلها قاطبة من الشيعة الإماميّة .
وفي ذلك العصر أعلن السلطان محمّد خُدابنده انتماءه إلى المذهب الشيعيّ ، وكان له جهود دائبة في نشر التشيّع.
وينبغي أن نُشير إلى أنّ اضمحلال الدولة العبّاسيّة المتعصّبة اقترن برواج التسامح المذهبيّ وتقليل الضغط على الشيعة، ممّا مهّد لازدهار التشيّع وانتشاره في ربوع العراق، إلى الحدّ الذي عجزت معه الدولة العثمانيّة ـ التي سيطرت على آسيا الصغرى والبلاد العربية ومصر ـ عن وضع حدّ لانتشار التشيّع أو تقليله على الرغم من القدرة التي امتلكتها هذه الدولة الفتيّة وعدائها للدولة الصفويّة الشيعيّة، فبقي الشيعة يشكّلون الأكثريّة في العراق.
وقد انتمى كثير من القبائل العربيّة خلال القرنَين الفائتَين إلى المذهب الشيعيّ، ومن هذه القبائل قبيلة خزاعل ( تشيّعت قبل 150 سنة )؛ وقبيلة زبيد ( تشيّعت قبل 60 سنة )، وقبيلة كعب ( تشيعّت قبل 100 سنة )، وقبيلة ربيعة ( تشيّعت قبل 70 سنة ).
ووفقاً للإحصائيّات التي نشرتها الدولة البريطانيّة سنة 1919 م، كان مجموع شيعة العراق مليوناً واحداً و 492 ألف نسمة، يُقابلهم 992 ألف نسمة من أهل السنّة والأكراد، و 86 ألف من اليهود، و 87 ألف من النصارى، و 42 ألف من الطوائف الأخرى .ويلزم أن نذكر أنّ مدينة السليمانيّة لم يُحتسب عدد سكّانها في الإحصاء المذكور، وكان عددهم يقرب من 72 ألف نسمة.
ووفقاً لهذا الإحصاء كانت النسب المئويّة للسكّان على الترتيب التالي:
الشيعة العرب
العدد: 000/344/2
لنسبة المئويّة: 4/51
السنّة العرب
العدد: 000/90
لنسبة المئويّة: 7/19
السنّة الأكراد
العدد: 000/840
لنسبة المئويّة: 4/18
الشيعة الايرانيّون
العدد: 000/52
لنسبة المئويّة: 2/1
السنّة الأتراك
العدد: 000/50
لنسبة المئويّة: 1/1
الشيعة الأتراك
العدد: 000/42
لنسبة المئويّة: 9/0
الشيعة الأكراد
العدد: 000/30
لنسبة المئويّة: 6/0
المسيحيّون
العدد: 000/149
لنسبة المئويّة: 1/3
اليهود
العدد: 000/117
لنسبة المئويّة: 6/2
اليزيديّون والسَّبَك
العدد: 000/33
لنسبة المئويّة: 8/0
الصابئة
العدد: 000/7
لنسبة المئويّة: 2/0
وتُشير هذه الإحصائيّة إلى أنّ أكثريّة العرب العراقيّين هم من الشيعة، خلافاً لما يُشاع من أنّ شيعة العراق غالبيّتهم من الإيرانيّين، وهي اشاعة جهد خصوم الشيعة على الدوام في نشرها والتأكيد عليها .
وتُشير بعض التقارير إلى أنّ محافظات كربلاء، والديوانيّة، والحلّة، والعمارة، والكوت يقطنها الشيعة؛ وأنّ محافظتَي السليمانيّة وأربيل يقطنهما السنّة من أتباع المذهب الشافعيّ؛ أمّا محافظة الموصل فيغلب على سكّانها الانتماء للمذهب الشافعيّ والحنبليّ، وأمّا محافظة كركوك فغالب سكّانها من أتباع المذهب الشافعيّ.
ويقطن محافظة ديالى أكثريّة شيعيّة، ويسكنها أيضاً طائفة من السنّة من أتباع المذهب الحنفيّ؛ كما يقطن العاصمة بغداد ومحافظة البصرة أكثريّة شيعيّة، وينتمي أهل السنّة فيهما إلى المذاهب السنيّة الأربعة.
ويسكن منطقة الدِّلَيم أكثريّة سنيّة، ويوجد فيها طائفة شيعيّة قليلة، وينتمي السنّة في هذه المنطقة إلى المذهبَين الحنفيّ والشافعيّ.
وتنتمي القبائل التي تقطن على ضفاف دجلة والفرات في وسط العراق وجنوبه إلى المذهب الشيعيّ، وتُشير إحصائيّات رسميّة أخرى إلى أنّ النسبة المئويّة للشيعة في العراق تقرب من 60 في المائة.
ونظراً للفتاوى التي أصدرها علماء الشيعة في مقاومة الاحتلال الانجليزي للعراق، وللمقاومة الفذّة التي أبداها الشيعة في ثورة العشرين وما بعدها في الوقوف في وجه الغزو الانجليزيّ، فقد بقي الشيعة في العراق في منأى عن المناصب الهامّة في الدولة، وظلّوا يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية
وتعود بدايات التشيّع في العراق إلى ما قبل هجرة الإمام عليّ عليه السّلام إلى الكوفة، أيّ إلى زمن هجرة قبيلة هَمْدان وبني النَّخَع من جنوب جزيرة العرب إلى العراق. وكان هؤلاء قد عرفوا أمير المؤمنين عليه السّلام في السنوات الأخيرة من عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأسلموا على يده حين بعثه النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى بلاد اليمن.
وكان لشيعة العراق مساهمات هامة في صياغة التاريخ الإسلاميّ، فقد جاءوا سنة 35 هـ إلى المدينة للاحتجاج على عثمان، وطالبوه بالعودة إلى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله والكفّ عن سياسة تفضيل بني أميّة وتحكيمهم في رقاب المسلمين، وكان لحركتهم تلك الأثر الكبير في إعداد الأرضيّة لحكومة الإمام عليّ عليه السّلام.
ومن أهم رجال هؤلاء الشيعة: مالك الأشتر النَّخعيّ، وكُميل بن زياد وأصحابهما الذين اشتركوا في جيش أمير المؤمنين عليه السّلام لقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ونال بعضهم الشهادة في ساحات الجهاد والقتال.
وتعدّ قبيلة هَمْدان والنَّخع وبني عبدالقيس وكثيرٌ آخر من القبائل العربيّة من اوائل الشيعة، وكان لسياسة أمير المؤمنين عليه السّلام في العراق الأثر الكبير في انتماء هذه القبائل إلى صفّه وإيمانها بعدالة موقفه، فقد رأوا رأيَ العين مساواته في العطاء واقتفاءه سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعد أن عانَوا الأمرّين قبله من التفرقة في العطاء ومصادرة الحقوق والانحراف عن خطّ الرسالة. وقد بُحث أمر تشيّع الموالي بالتفصيل في كتاب آخر
وعلى أيّ حال فقد انتشر التشيّع في العراق واتّسع بمجيء أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام إلى الكوفة واتّخاذه إيّاها عاصمة لحكمه. وقد تنعّم أهل العراق في ظلّ حكم أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب من خمس سنوات، وكان خلال ذلك يخطب فيهم ويعظهم، فأثمر ذلك في انتشار الأفكار الإسلاميّة الأصيلة على أيدي أتباع أمير المؤمنين عليه السّلام وشيعته.
وعبّر أمير المؤمنين عليه السّلام عن حبّه للكوفة في عدّة مناسبات، فوصفها بأنّها « تربة تُحبّنا ونُحبّها ».
وقد ترسّخت جذور التشيّع في قلوب شيعة العراق، إلى درجة عجز معها الحجّاج بن يوسف الثقفي ـ بالرغم من قسوته الشديدة ـ عن صرف الناس عن موالاة الإمام عليّ عليه السّلام. ولا يزال أهل الكوفة بعد مرور القرون الطويلة لا يوجد فيهم من يتردّد في ترجيح الإمام عليّ عليه السّلام على غيره، أو يتردّد في رفض خلافة عثمان، وهي حقيقة أقرّ بها المؤرّخون .
وذكّر هشام بن عبدالملك واليَه على العراق ( أي الحجّاج ) في رسالةٍ بعثها إليه، بحقيقة أنّ أهل الكوفة يدينون بالولاء لأهل البيت، ويدينون لهم بالطاعه..
وحذّر المنصور العبّاسي ـ وهو الثاني من حكّام بني العبّاس ـ السفّاحَ من أن يجعل الكوفة مقرّاً لحكومته، لأنّها كانت مركزاً لشيعة الإمام عليّ عليه السّلام .
وبلغ من موالاة أهل الكوفة لأمير المؤمنين عليه السّلام أنّ البعض كان يتندّر بذلك، فيقول: مَن أحبّ أن يُستشهَد فليترحّم على عثمان في محلّة دار البطيّخ بالكوفة .
وظلّت الكوفة منشأ للثورات العلويّة الزيديّة التي كانت تشتعل فيها بين الحين والحين، فتستقطب الناس حولها، وتسبّب المشكلات الصعبة للحكومات العبّاسيّة المتعاقبة.
ومن الجدير بالتأمّل أنّ العراق كان مركزاً للحكم العبّاسيّ الذي يُعدّ من المدافعين عن مذهب أهل السنة، لكنّ الشيعة ظلّوا ـ على الرغم من ذلك كلّه ـ يشكّلون غالبيّة السكّان، وهو أمر يتبيّن منه بوضوح أفضليّة التشيع وأرجحيّته هناك في مقابل المذاهب والاتّجاهات الأخرى.
وينبغي الالتفات إلى أنّ البصرة قد اختارت المذهب العثمانيّ نظراً لدورها في الانحياز لأصحاب الجمل، ونتيجة للضربات الموجعة التي تلقّتها من أهل الكوفة ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله .
وكان من آثار هذه المواجهة أنّ المنازعات الأدبيّة بين أهل هاتين المدينتين ظلّت قائمة مدّة طويلة، ثمّ اتّسع التشيّع ـ من جديد ـ بين أهل البصرة، فأضحت أحدَ أهمّ مراكز التشيّع في العراق في عصرنا الحاضر.
وخلال القرنين الهجريّين الرابع والخامس كان الشيعة هم الغالبيّة الساحقة لسكّان بغداد، بَيْد أنّ الشيعة وأهل السنّة كانوا يصطدمون ببعضهم نتيجة التعصّب المذهبيّ، وكانت تحصل بينهم مواجهات دمويّة، فكان بعض حكّام بغداد العبّاسيّين يحرّضون الحنابلة على مهاجمة الشيعة القاطنين في محلّة الكرخ، وكان ذلك يتسبّب في تحمّل الشيعة خسائر كبيرة.
وكتب المقدسيّ يقول عن بغداد في القرن الرابع الهجريّ بأنّ أغلب سكّانها كان من الحنابلة والشيعة .
وذُكر أنّ الشيعة في بغداد كانوا يُقيمون شعائرهم علناً في القرن الرابع فصاعداً ، ويقيمون مراسم العزاء والحزن في المحرّم على الإمام الحسين عليه السّلام، ويحتفلون بعيد الغدير.
وكان لمجيء الدولة البويهيّة الشيعيّة في بغداد ووجود علماء أجلاّء من أمثال الشيخ المفيد، والشريف الرضيّ، الشريف المرتضى، ومن بعدهم الشيخ الطوسيّ.. الأثر الكبير في انتشار التشيّع في العراق .
ومن أهم المحلاّت التي سكنها الشيعة في بغداد خلال القرن الرابع الهجريّ وما بعده محلّة الكرخ و « باب الطاق ».
ونقل ياقوت الحمويّ ( في نهاية القرن السادس ) أنّ ساكني محلّة « باب البصرة » في بغداد ـ وهي تقع بين الكرخ والقبلة ـ كلّهم من السنّة الحنابلة، وأنّ ساكني غرب محلة الكرخ وجنوبها هم من أهل السنّة أيضاً، أما ساكنو محلّة الكرخ فهُم قاطبةً من الشيعة.
وينبغي الإشارة إلى الدور الذي تقوم به العتبات المقدّسة عامّة، ومدينة النجف وكربلاء خاصّة، في هجرة الشيعة من سائر البلاد إلى هذه العتبات، لِما لها من موقع في قلوب الشيعة ومحبّي أهل البيت عليهم السّلام، وهو أمرٌ له دوره في رواج التشيّع وازدهاره.
وكان الشيخ الطوسيّ رحمة الله عليه قد وضع أُسس الحوزة العلميّة في مدينة النجف الأشرف، فاجتذبت الحوزة طلبة العلوم الدينيّة في سائر البلاد الإسلاميّة. وكان لازدهار علم الكلام، والحديث، والفقه الشيعيّ ـ متمثّلاً في مؤلّفات الشيخ الطوسيّ، من أمثال: « النهاية » و « المبسوط » ـ تأثير كبير في اتّساع وازدهار العلوم الإسلاميّة الشيعيّة في سائر البلاد، حتّى قبل قيام الحُجّاج الخراسانيين بنقل الكتب الهامّة من أمثال « التمسّك بحبل آل الرسول » تأليف ابن أبي عقيل، إلى ديارهم، الأمر الذي أثمر في انتشار الفقه الشيعيّ هناك.
وبعد عصر الشيخ الطوسيّ كان لعائلة آل طاووس الحسنيّة في الحلة دور هامّ في نشر التشيّع في العراق، وقد تسنّم رجال هذه العائلة من السادة الحسينيّن منصب نقابة العلويّين بعد سقوط دولة بني العبّاس إلى عصر الإيلخاني.
ومن أهم المدن الشيعيّة في العراق ـ بعد مدينتي النجف وكربلاء ـ مدينة الحلّة، وقد كانت مركزاً علميّاً هامّاً للشيعة لعدّة قرون، وتخرّج منها مئات من العلماء الأجلاّء، منهم: المحقّق الحلّي والعلاّمة الحلّي وأسرة آل نما العلمية، إضافة إلى أسرة آل طاووس.
وقد أشار ابن بطّوطة ( في القرن الثامن الهجريّ ) إلى مدينة الحلّة، وصرّح بأنّ عامّة أهلها من الشيعة الإماميّة ، كما أشار إلى بئر ملاّحة قُرب الكوفة ـ وكانت على وشك الأندثار آنذاك ـ فدعا أهلها بالروافض، وذكر كذلك مدينة كربلاء وقال: إنّ أهلها قاطبة من الشيعة الإماميّة .
وفي ذلك العصر أعلن السلطان محمّد خُدابنده انتماءه إلى المذهب الشيعيّ ، وكان له جهود دائبة في نشر التشيّع.
وينبغي أن نُشير إلى أنّ اضمحلال الدولة العبّاسيّة المتعصّبة اقترن برواج التسامح المذهبيّ وتقليل الضغط على الشيعة، ممّا مهّد لازدهار التشيّع وانتشاره في ربوع العراق، إلى الحدّ الذي عجزت معه الدولة العثمانيّة ـ التي سيطرت على آسيا الصغرى والبلاد العربية ومصر ـ عن وضع حدّ لانتشار التشيّع أو تقليله على الرغم من القدرة التي امتلكتها هذه الدولة الفتيّة وعدائها للدولة الصفويّة الشيعيّة، فبقي الشيعة يشكّلون الأكثريّة في العراق.
وقد انتمى كثير من القبائل العربيّة خلال القرنَين الفائتَين إلى المذهب الشيعيّ، ومن هذه القبائل قبيلة خزاعل ( تشيّعت قبل 150 سنة )؛ وقبيلة زبيد ( تشيّعت قبل 60 سنة )، وقبيلة كعب ( تشيعّت قبل 100 سنة )، وقبيلة ربيعة ( تشيّعت قبل 70 سنة ).
ووفقاً للإحصائيّات التي نشرتها الدولة البريطانيّة سنة 1919 م، كان مجموع شيعة العراق مليوناً واحداً و 492 ألف نسمة، يُقابلهم 992 ألف نسمة من أهل السنّة والأكراد، و 86 ألف من اليهود، و 87 ألف من النصارى، و 42 ألف من الطوائف الأخرى .ويلزم أن نذكر أنّ مدينة السليمانيّة لم يُحتسب عدد سكّانها في الإحصاء المذكور، وكان عددهم يقرب من 72 ألف نسمة.
ووفقاً لهذا الإحصاء كانت النسب المئويّة للسكّان على الترتيب التالي:
الشيعة العرب
العدد: 000/344/2
لنسبة المئويّة: 4/51
السنّة العرب
العدد: 000/90
لنسبة المئويّة: 7/19
السنّة الأكراد
العدد: 000/840
لنسبة المئويّة: 4/18
الشيعة الايرانيّون
العدد: 000/52
لنسبة المئويّة: 2/1
السنّة الأتراك
العدد: 000/50
لنسبة المئويّة: 1/1
الشيعة الأتراك
العدد: 000/42
لنسبة المئويّة: 9/0
الشيعة الأكراد
العدد: 000/30
لنسبة المئويّة: 6/0
المسيحيّون
العدد: 000/149
لنسبة المئويّة: 1/3
اليهود
العدد: 000/117
لنسبة المئويّة: 6/2
اليزيديّون والسَّبَك
العدد: 000/33
لنسبة المئويّة: 8/0
الصابئة
العدد: 000/7
لنسبة المئويّة: 2/0
وتُشير هذه الإحصائيّة إلى أنّ أكثريّة العرب العراقيّين هم من الشيعة، خلافاً لما يُشاع من أنّ شيعة العراق غالبيّتهم من الإيرانيّين، وهي اشاعة جهد خصوم الشيعة على الدوام في نشرها والتأكيد عليها .
وتُشير بعض التقارير إلى أنّ محافظات كربلاء، والديوانيّة، والحلّة، والعمارة، والكوت يقطنها الشيعة؛ وأنّ محافظتَي السليمانيّة وأربيل يقطنهما السنّة من أتباع المذهب الشافعيّ؛ أمّا محافظة الموصل فيغلب على سكّانها الانتماء للمذهب الشافعيّ والحنبليّ، وأمّا محافظة كركوك فغالب سكّانها من أتباع المذهب الشافعيّ.
ويقطن محافظة ديالى أكثريّة شيعيّة، ويسكنها أيضاً طائفة من السنّة من أتباع المذهب الحنفيّ؛ كما يقطن العاصمة بغداد ومحافظة البصرة أكثريّة شيعيّة، وينتمي أهل السنّة فيهما إلى المذاهب السنيّة الأربعة.
ويسكن منطقة الدِّلَيم أكثريّة سنيّة، ويوجد فيها طائفة شيعيّة قليلة، وينتمي السنّة في هذه المنطقة إلى المذهبَين الحنفيّ والشافعيّ.
وتنتمي القبائل التي تقطن على ضفاف دجلة والفرات في وسط العراق وجنوبه إلى المذهب الشيعيّ، وتُشير إحصائيّات رسميّة أخرى إلى أنّ النسبة المئويّة للشيعة في العراق تقرب من 60 في المائة.
ونظراً للفتاوى التي أصدرها علماء الشيعة في مقاومة الاحتلال الانجليزي للعراق، وللمقاومة الفذّة التي أبداها الشيعة في ثورة العشرين وما بعدها في الوقوف في وجه الغزو الانجليزيّ، فقد بقي الشيعة في العراق في منأى عن المناصب الهامّة في الدولة، وظلّوا يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية