سيد عمار الجابري
07-05-2009, 03:43 PM
سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله) في سطور
ولادته ونشأته
لقد أثمر منبر الاِمام الخوئي الراحل قدس سره خلال أكثر من نصف قرن ثماراً عظيمة جليلة هي الاَزكى والاَفضل عطاءاً على صعيد الفكر الاِسلامي وفي مختلف العلوم والقضايا والمواقف الاِسلامية المهمة ، حيث تخرّج من بين يديه مئات الفقهاء والمجتهدين والفضلاء العظام الذين أخذوا على عاتقهم مواصلة مسيرته الفكرية ودربه الحافل بالبذل والعطاء والتضحية لخدمة الاِسلام والعلم والمجتمع ، معظمهم اليوم أساتذة الحوزات العلمية وبالخصوص في النجف الاَشرف وقم المقدسة ومنهم في مستوى الكفاءة والجدارة العلمية والاِجتماعية التي تؤهلهم للقيام بمسؤولية التربية والتعليم ومسؤولية المرجعية والقيادة ورعاية الاَمة في يومنا الحاضر. ومن أهم وأبرز أولئك العباقرة هو سيدنا الاَستاذ آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) فهو من أبرز تلامذة الاِمام الخوئي الراحل قدس سره نبوغاً وعلماً وفضلاً وأهليةً.
ولد سماحته في ربيع الاَول من عام 1349 للهجرة في المشهد الرضوي الشريف في أسرة علمية دينية ملتزمة ، وقد درس العلوم الاِبتدائية والمقدمات والسطوح وأعقبه بدراسة العلوم العقلية والمعارف الاِلهية لدى جملة من أعلامها ومدرسيها حتى أتقنها. وحضر دروس بحث الخارج في مشهد المقدسة واستفاد من فكر العلاّمة المحقق الميرزا مهدي الاصفهاني قدس سره. ثم انتقل إلى الحوزة العلمية الدينية في قم المقدسة على عهد المرجع الكبير السيّد حسين البروجردي قدس سره في عام 1368هـ وحضر بحوث علماء وفضلاء الحوزة آنذاك ، منهم السيّد البروجردي قدس سره في الفقه والاَصول وقد أخذ الكثير من خبرته الفقهية ونظرياته في علم الرجال والحديث كما حضر درس الفقيه العالم الفاضل السيّد الحجة الكوهكمري قدس سره وبقية الاَفاضل في حينه.
ثم غادر قم متجهاً إلى موئل العلم والفضل للحوزات العلمية في النجف الاَشرف عام 1371هـ وحضر دروس أساطين الفكر والعلم آنذاك من أمثال الاِمام الحكيم والشيخ حسين الحلي والاِمام الخوئي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وقد لازم بحوث الاِمام الخوئي قدس سره فقهاً وأصولاً أكثر من عشر سنوات ، كما لازم بحث الشيخ الحلي قدس سره دورة أصولية كاملة.
اشتغل سيدنا الاَستاذ بالبحث والتدريس بإلقاء محاضراته ( البحث الخارج ) 1381هـ في الفقه على ضوء مكاسب الشيخ الاَعظم الاَنصاري قدس سره وأعقبه بشرح كتاب العروة الوثقى للسيد الفقيه الطباطبائي قدس سره فتم له من ذلك شرح كتاب الطهارة وأكثر فروع كتاب الصلاة وبعض كتاب الخمس. كما ابتدأ بإلقاء محاضراته ( البحث الخارج ) في الاَصول في شعبان 1384هـ وقد أكمل دورته الثالثة منها في شعبان 1411هـ ، وقد سجل محاضراته الفقهية والاَصولية في تقريرات غير واحد من تلامذته.
نبوغه العلمي
لقد برز السيّد السيستاني ( دام ظله ) في بحوث أساتذته بتفوق بالغ على أقرانه وذلك في قوة الاِشكال وسرعة البديهية وكثرة التحقبق والتتبع في الفقه والرجال ومواصلة النشاط العلمي وإلمامه بكثير من النظريات في مختلف الحقول العلمية الحوزوية. وكانت بينه وبين الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره منافسة شديدة في مجال التفوق والنبوغ العلمي ومما يشهد على ذلك شهادة خطية من الاِمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه وشهادة أخرى من العلاّمة الشيخ حسين الحلي قدس سره وقد شهدا ببلوغه درجة الاِجتهاد في شهادتين مؤرختين في عام 1380هـ مغمورتين بالثناء الكبير على فضله وعلمه ، على أنّ المعروف عن الاِمام الخوئي قدس سره عدم شهادته لاَحد من تلامذته بالاِجتهاد شهادة خطية إلاّ لسيدنا الاَستاذ وآية الله الشيخ علي فلسفي من مشاهير علماء مشهد المقدسة. كما كتب له شيخ محدّثي عصره العلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني قدس سره شهادة مؤرخة في عام 1380هـ أيضاً ، يطري فيها على مهارته في علمّي الرجال والحديث. أي أن سيدنا الاَستاذ قد حاز على هذه المرتبة العظيمة بشهادة العظماء وهو في الحادية والثلاثين من عمره.
منذ 34 سنة بدأ يدرّس البحث الخارج فقهاً وأصولاً ورجالاً ويقدّم نتاجه وعطاءه الوافر ، وقد باحث المكاسب والطهارة والصلاة والقضاء والخمس وبعض القواعد الفقهية كالربا وقاعدة التقية وقاعدة الاِلزام. ودرّس الاَصول ثلاث دورات وبعض هذه البحوث جاهز للطبع كبحوثه في الاَصول العلمية والتعادل والتراجيح مع بعض المباحث الفقهية وبعض أبواب الصلاة وقاعدة التقية والاِلزام. وقد أخرج بحثه عدة من الفضلاء البارزين وبعضهم على مستوى تدريس البحث الخارج ، كالعلامة الشيخ مهدي مرواريد والعلاّمة السيّد حبيب حسينان والعلاّمة السيّد مرتضى الاصفهاني والعلاّمة السيّد أحمد المددي والعلاّمة الشيخ باقر الايرواني وغيرهم ممن هم من أفاضل أساتذة الحوزات العلمية. وضمن انشغال سماحته في الدرس والبحث خلال هذه المدة كان دام ظله مهتماً بتأليف كتب مهمة وجملة من الرسائل لرفد المكتبة العلمية الدينية بمجموعة مؤلفات قيمة ، مضافاً إلى ما كتبه من تقريرات بحوث أساتذته فقهاً وأصولاً. وفيما يلي قائمة بأسماء بعض مؤلفاته :
1 ـ شرح العروة الوثقى.
2 ـ البحوث الاَصولية.
3 ـ كتاب القضاء.
4 ـ كتاب البيع والخيارات .
5 ـ رسالة في اللباس المشكوك فيه .
6 ـ رسالة في قاعدة اليد .
7 ـ رسالة في صلاة المسافر .
8 ـ رسالة في قاعدة التجاوز والفراغ .
9 ـ رسالة في القبلة .
10 ـ رسالة في التقية .
11 ـ رسالة في قاعدة الاِلزام .
12 ـ رسالة في الاِجتهاد والتقليد .
13 ـ رسالة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار .
14 ـ رسالة في الربا .
15 ـ رسالة في حجية مراسيل ابن أبي عمير .
16 ـ نقد رسالة تصحيح الاَسانيد للاَردبيلي .
17 ـ شرح مشيخة التهذيبين .
18 ـ رسالة في مسالك القدماء في حجية الاَخبار .
بالاِضافة إلى مؤلفات مخطوطة أخرى ورسائل عملية في الاَحكام للمقلدين .
منهجه في البحث والتدريس
وهو منهج متميز على مناهج كثير من أساتذة الحوزة وأرباب البحث الخارج ، فعلى صعيد الاَصول يتجلى منهجه بعدة خصائص :
التحدث عن تاريخ البحث ومعرفة جذوره التي ربما تكون فلسفية كمسألة بساطة المشتق وتركيبه ، أو عقائدية وسياسية كبحث التعادل والتراجيح الذي أوضح فيه أن قضية اختلاف الاَحاديث فرضتها الصراعات الفكرية العقائدية آنذاك والظروف السياسية التي أحاطت بالائمّة عليهم السلام ومن الواضح أن الاِطلاع على تاريخ البحث يكشف عن زوايا المسألة ويوصلنا إلى واقع الآراء المطروحة فيها .
الربط بين الفكر الحوزوي والثقافات المعاصرة ففي بحثه حول المعنى الحرفي في بيان الفارق بينه وبين المعنى الاَسمى وهل هو فارق ذاتي أم لحاظي ؟ اختار اتجاه صاحب الكفاية في أن الفرق باللحاظ لكن بناه على النظرية الفلسفية الحديثة وهي نظرية التكثر الاِدراكي في فعالية الذهن البشري وخلاقيته ، فيمكن للذهن تصوّر مطلب واحد بصورتين تارة بصورة الاِستقلال والوضوح فيعبّر عنه بالاِسم وتارة بالآلية والاِنكماش ويعبّر عنه بالحرف ، وعندما دخل في بحث المشتق في النزاع الدائر بين العلماء حول اسم الزمان ، تحدّث عن الزمان بنظرة فلسفية جديدة في الغرب وهي انتزاع الزمان من المكان "زمكان" بلحاظ تعاقب النور والظلام ، وفي بحثه حول مدلول صيغة الاَمر ومادته وبحثه في التجري فقد طرح نظرية بعض علماء الاِجتماع من أن تقسيم الطلب لاَمر والتماس وسؤال نتيجة تدخّل صفة الطالب في حقيقة طلبه من كونه عالياً أو مساوياً أو سافلاً . وكذلك جعل ضابط استحقاق العقوبة عنوان تمرد العبد وطغيانه على المولى وأن ذلك مبني على التقسيم الطبقي للمجتمعات البشرية القديمة من وجود موالي وعبيد وعالٍ وسافل وما أشبه ذلك ، فهذه النظرية من رواسب الثقافات السالفة التي تتحدث باللغة الطبقية لا باللغة القانونية المبنية على المصالح الاِنسانية العامة .
الاِهتمام بالاَصول المرتبطة بالفقه وأن الطالب الحوزوي يلاحظ في كثير من العلماء إغراقهم وإسهابهم في بحوث أصولية لا يُعد الاِسهاب فيها إلاّ ترفاً فكرياً لا ينتج ثمرة عملية للفقيه في مسيرته الفقهية كبحثهم في الوضع وكونه أمراً اعتبارياً أو تكوينياً وأنه تعهد أو تخصيص ، وبحثهم في بيان موضوع العلم وبعض العوارض الذاتية في تعريف الفلاسفة لموضوع العلم وما شاكل ذلك . ولكن الملاحظ في دروس سيدنا الاَستاذ هو الاِغراق وبذل الجهد الشاق في الخروج بمبنى علمي رصين في البحوث الاَصولية المرتبطة بعملية الاِستنباط كمباحث الاَصول العملية والتعادل والتراجيح والعام والخاص ، وأما البحوث الاَخرى التي أشرنا لبعض مسمياتها ، فبحثه فيها بمقدار الثمرة العلمية في بحوث أخرى أو الثمرة العملية في الفقه .
الاِبداع والتجديد : هناك كثير من الاَساتذة الماهرين في الحوزة مَن لا يملك روح التجديد بل يصب اهتمامه على التعليق فقط والتركيز على جماليات البحث لا على جوهره فيطرح الآراء الموجودة ويعلّق على بعضها ويختار الاَقوى في نظره ويشغل نفسه بتحليل عبارات من قبيل: فتأمّل أو فافهم ، ويجري في البحث على أن في الاِشكال إشكالين وفي الاِشكالين تأمّلاً وفي التأمّل توقّف .
نكاح أهل الشرك جائز ـ وكذلك بالنسبة لقاعدة التزاحم التي يطرحها الفقهاء والاَصوليون كقاعدة عقلية أو عقلائية صرفة فيدخلها السيّد الاَستاذ تحت قاعدة الاِضطرار التي هي قاعدة شرعية أشارت لها النصوص نحو " ما من شيء حرّمه الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إليه" فإن مؤدّى قاعدة الاِضطرار هو مؤدّى قاعدة التزاحم بضميمة فهم الجعل التطبيقي . وأحياناً قد يقوم بتوسعة القاعدة كما في قاعدة "لا تعاد" حيث خصّها الفقهاء بالصلاة لورود النص في ذلك بينما السيّد السيستاني جعل صدر الرواية المتضمن لقوله "لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة" مصداقاً لكبرى أخرى تعم الصلاة وغيرها من الواجبات ، وهذه الكبرى موجودة في ذيل النص" ولا تنقض السنة الفريضة" فالمناط هو تقديم الفريضة على السنة في الصلاة وغيرها من مصاديق هذا التقديم هو تقديم الوقت والقبلة . . . الخ على غيرها من أجزاء الصلاة وشرائطها لاَن الوقت والقبلة من الفرائض لا من السُنن.
النظرة الاِجتماعية للنص : أن من الفقهاء من هو حرفي الفهم بمعنى أنه جامد على حدود حروف النص من دون محاولة التصرف في سعة دلالات النص وهناك من الفقهاء مَن يقرأ أجواء النص والظروف المحيطة به ليتعرف مع سائر الملابسات التي تؤثر على دلالته ، فمثلاً ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم أكل لحم الحُمر الاَهلية يوم خيبر ، فلو أخذنا بالفهم الحرفي لقلنا بالحُرمة أو الكراهة لاَكل لحم الحُمر الاَهلية ولو اتبعنا الفهم الاِجتماعي لرأينا أن النص ناظر لظرف حرج وهو ظرف الحرب مع اليهود في خيبر والحرب تحتاج لنقل السلاح والمؤنة ولم تكن هناك وسائل نقل إلاّ الدواب ومنها الحمير ، فالنهي في الواقع نهي إداري لمصلحة موضوعية اقتضتها الظروف آنذاك ولا يستفاد منه تشريع الحُرمة ولا الكراهة . وسيدنا الاَستاذ هو من النمط الثاني من العلماء في التعامل مع النص .
توفير الخبرة بمواد الاَستنباط : أن السيّد السيستاني يركز دائماً على أن الفقيه لايكون فقيهاً بالمعنى الاَتم حتى يتوفر لدية خبرة وافية بكلام العرب وخطبهم وأشعارهم ومَجازاتهم كي يكون قادراً على تشخيص ظهور النص تشخيصاً موضوعياً لا ذاتياً وأن يكون على اطلاع تام بكتب اللغة وأحوال مؤلفيها ومناهج الكتابة فيها فإن ذلك دخيل في الاِعتماد على قول اللغوي أو عدم الاِعتماد عليه وأن يكون على إحاطة بأحاديث أهل البيت عليهم السلام ورواتها بالتفصيل ، فإن علم الرجال فن ضروري للمجتهد لتحصيل الوثوق الموضوعي التام بصلاحية المدرك . وله آراء خاصة يخالف بها المشهور مثلاً ما اشتهر من عدم الاِعتماد بقدح ابن الفضائري إما لكثرة قدحه أو لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه . فإن سيدنا الاَستاذ لا يرتضي ذلك بل يرى ثبوت الكتاب وأن ابن الفضائري هوالمعتمد في مقام الجرح والتعديل أكثر من النجاشي والشيخ وأمثالهما ، ويرى الاِعتماد على منهج الطبقات في تعيين الراوي وتوثيقه ومعرفة كون الحديث مسنداً أو مرسلاً على ما قرره السيّد البروجردي قدس سره . ويرى أيضاً ضرورة الاِلمام بكتب الحديث واختلاف النسخ ومعرفة حال المؤلف من حيث الضبط والتثبت ومنهج التأليف وما يشاع في هذا المجال من كون الصدوق أضبط من الشيخ فلا يرتضيه ، بل يرى الشيخ ناقلاً أميناً لما وجده من الكتب الحاضرة عنده بقرائن يستند اليها . فهذه الجهات الخبرية قد لا يعتمد عليها كثير من الفقهاء في مقام الاِستنباط بل يكتفي بعضهم بالظهور الشخصي من دون أن يجمع القرائن المختلفة لتحقيق الظهور الموضوعي بل قد يعتمد على كلام بعض اللغويين بدون التحقيق في المؤلف ومنهج التأليف ولا يكون لبعض آخر أي رصيد في علم الرجال والخبرة بكتب الحديث . إلاّ أن سيدنا الاَستاذ والسيّد الشهيد الصدر يختلفان في هذا المنهج فيحاول كل منهما محاولة الاِبداع والتجديد إما في صياغة المطلب بصياغة جديدة تتناسب مع الحاجة للبحث كما صنع السيّد السيستاني عندما دخل بحث استعمال اللفظ في عدة معانٍ ، حيث بحثه الاَصوليون من زاوية الاِمكان والاِستحالة كبحث عقلي فلسفي لا ثمرة عملية تترتب عليه وبحثه سيدنا الاَستاذ من حيث الوقوع وعدمه لاَنه أقوى دليل على الاِمكان ، وبحثه كذلك من حيث الاِستظهار وعدمه . وعندما دخل بحث التعادل والتراجيح رأى أن سر البحث يكمن في علة اختلاف الاَحاديث ، فإذا بحثنا وحددنا أسباب اختلاف النصوص الشرعية انحلّت المشكلة العويصة التي تعترض الفقيه والباحث والمستفيد من نصوص أهل البيت عليهم السلام وذلك يغنينا عن روايات الترجيح والتغيير كما حملها صاحب الكفاية على الاِستحباب ، وهذا البحث تناوله غيره كالسيد الصدر قدس سره ولكنه تناوله بشكل عقلي صرف ، أما السيّد الاَستاذ فإنه حشد فيه الشواهد التاريخية والحديثية وخرج منه بقواعد مهمة لحلّ الاِختلاف وقام بتطبيقها في دروسه الفقهية أيضاً .
المقارنة بين المدارس المختلفة : ان المعروف عن كثير من الاَساتذة حصر البحث في مدرسة معينة أو اتجاه خاص ولكن السيّد السيستاني يقارن بحثه بين فكر مدرسة مشهد وفكر مدرسة قم وفكر مدرسة النجف ، فهو يطرح آراء الميرزا مهدي الاصفهاني قدس سره من علماء مشهد وآراء السيّد البروجردي قدس سره كتعبير عن فكر مدرسة قم وآراء المحققين الثلاثة والسيّد الخوئي قدس سره والشيخ حسين الحلي قدس سره كمثال لمدرسة النجف ، وتعدد الاِتجاهات هذه يوسع أمامنا زوايا البحث والرؤية الواضحة لواقع المطلب العلمي . وأما منهجه الفقهي فله فيه منهج خاص يتميز في تدريس الفقه وطرحه ، ولهذا المنهج عدة ملامح :
أ ـ المقارنة بين فقه الشيعة وفقه غيرهم من المذاهب الاِسلامية الاَخرى ، فإن الاِطلاع على الفكر الفقهي السنّي المعاصر لزمان النص كالاِطلاع على موطأ مالك وخراج أبي يوسف وأمثالهم يوضّح أمامنا مقاصد الاَئمّة عليهم السلام ونظرهم حين طرح النصوص .
ب ـ الاِستفادة من علم القانون الحديث في بعض المواضع الفقهية كمراجعته للقانون العراقي والمصري والفرنسي عند بحثه في كتاب البيع والخيارات ، والاِحاطة بالفكر القانوني المعاصر تزوّد الاِنسان خبرة قانونية يستعين بها على تحليل القواعد الفقهية وتوسعة مداركها وموارد تطبيقها .
ج ـ التجديد في الاَطروحة : أن معظم علمائنا الاَعلام يتلقون بعض القواعد الفقهية بنفس الصياغة التي طرحها السابقون ولا يزيدون في البحث فيها إلاّ عن صلاحية المدرك لها أو عدمه ووجود مدرك آخر وعدمه ، أما السيّد السيستاني فإنه يحاول الاِهتمام في بعض القواعد الفقهية بتغير الصياغة مثلاً بالنسبة لقاعدة الاِلزام التي يفهمها بعض الفقهاء من الزاوية المصلحية بمعنى أن للمسلم المؤمن الاِستفادة في تحقيق بعض رغباته الشخصية من بعض القوانين للمذاهب الاَخرى وإن كان مذهبه لا يقرها ، بينما يطرحه السيّد السيستاني على أساس الاِحترام ويسميها بقاعدة الاِحترام أي احترام آراء الآخرين وقوانينهم ، وانطلاقه من حرية الرأي وهي على سياق ـ لكل قوم نكاح ـ .
معالم شخصيته
إن مَن يعاشر السيّد السيستاني ( دام ظله ) ويتصل به يرى فيه شخصية فذة تتمتع بالخصائص الروحية والمثالية التي حث عليها أهل البيت عليهم السلام والتي تجعل منه ومن أمثاله من العلماء المخلصين مظهراً جلياً لكلمة "عالم رباني" وقوله عليه السلام : "مجاري الامور بيد العلماء أمناء الله مع حلاله وحرامه" . من أجل وضع النقاط على الحروف أطرح بعض المعالم الفاضلة التي رأيتها بنفسي عند اتصالي به درساً ومعاشرة :
الاِنصاف واحترام الرأي : فإن السيّد السيستاني انطلاقاً من عشق العلم والمعرفة ورغبة في الوصول للحقيقة وتقديساً لحرية الرأي والكلمة البنّاءة تجده كثير القراءة والتتبع للكتب والبحوث ومعرفة الآراء حتى آراء زملاءه وأقرانه أو آراء بعض المغمورين في خضم الحوزة العلمية ، فتراه بعض الاَحيان قد يشير في بحثه لرأي لطيف لاَحد الاَفاضل مع أنه ليس من أساتذته أو الشيخ محمّد رضا المظفر في كتابه أصول الفقه ، فطرح هذه الآراء ومناقشتها مع أنها لم تصدر من أساطين أساتذته يمثل لنا صورة حية من صور الاِنصاف واحترام آراء الآخرين .
الاَدب في الحوار : إن بحوث النجف معروفة بالحوار الساخن بين الزملاء أو الاَستاذ وتلميذه وذلك مما يصقل ثقافة الطالب وقوته العلمية ، وأحياناً قد يكون الحوار جدلاً فارغاً لا يوصل لهدف علمي بل مضمونه إبراز العضلات في الجدل وقوة المعارضة وذلك مما يستهلك وقت الطالب الطموح ويبعده عن الجو الروحي للعلم والمذاكرة ويتركه يحوم في حلقة عقيمة دون الوصول للهدف . أما بحث السيّد السيستاني ( دام ظله ) فإنه بعيد كل البعد عن الجدل وأساليب الاِسكات والتوهين فهو في النقاش مع أساتذته وآراء الآخرين يستخدم الكلمات المؤدبة التي تحفظ مقام العلماء وعظمتهم حتى ولو كان الرأي المطروح واضح الضعف والاِندفاع ، وفي إجابته لاستفهامات الطالب يتحدث بانفتاح وبروح الاِرشاد والتوجيه ، ولو صرف التلميذ الحوار الهادف إلى الجدل الفارغ عن المحتوى فإن السيّد السيستاني يحاول تكرار الجواب بصورة علمية ، ومع إصرار الطالب فإن السيّد الاَستاذ حينئذ يفضل السكوت على الكلام .
خلق التربية : التدريس ليس وظيفة رسمية أو روتينية يمارسها الاَستاذ في مقابل مقدار من المال ، فإن هذه النظرة تبعد المدرس عن تقويم التلميذ والعناية بتربيته والصعود بمستواه العلمي للتفوق والظهور، كما أن التدريس لا يقتصر على التربية العلمية من محاولة الترشيد التربوي لمسيرة الطالب بل التدريس رسالة خطيرة تحتاج مزاولتها لروح الحب والاِشفاق على الطالب ويحثَه نحو العلم وآداب العلم أيضاً وإذا كان يحصل في الحوزة أو غيرها أحياناً رجالاً لا يخلصون لمسؤولية التدريس والتعليم فإن في الحوزات أساتذة مخلصين يرون التدريس رسالة سماوية لابد من مزاولتها بروح المحبة والعناية التامة بمسيرة التلميذ العلمية والعملية وقد كان الاِمام الحكيم قدس سره مضرب المثل في خُلقه التربوي لتلامذته وطلابه ، وكما كانت علاقة الاِمام الخوئي قدس سره بتلامذته فلقد رأيت هذا الخُلق متجسداً في شخصية السيّد السيستاني ( دام ظله ) فهو يحث دائماً بعد الدرس على سؤاله ونقاشه فيقول : اسألوا ولو على رقم الصحفة ، لبحث معين أو اسم كتاب معين حتى تعتادوا على حوار الاَستاذ والصلة العلمية به وكان يدفعنا لمقارنة بحثه مع البحوث المطبوعة والوقوف عند نقاط الضعف والقوة وكان يؤكد دائماً على احترام العلماء والاِلتزام بالاَدب في نقاش أقوالهم ويتحدث عن أساتذته وروحياتهم العالية وأمثال ذلك من شواهد الخُلق الرفيع .
الورع : إن بحوث النجف ظاهرة جلية في كثير من العلماء والاَعاظم وهي ظاهر البعد عن مواقع الضوضاء والفتن وربما يعتبر هذا البعد عند البعض موقفاً سلبياً لاَنه هروب من مواجهة الواقع وتسجيل الموقف الصريح المرضي للشرع المقدس ، ولكنه عند التأمل يظهر بأنه موقف إيجابي وضروري أحياناً للمصلحة العامة ومواجهة الواقع وتسجيل الموقف الشرعي يحتاج لظروف موضوعية وأرضية صالحة تتفاعل مع هذا الموقف ، فلو وقعت في الساحة الاِسلامية أو المجتمع الحوزوي إثارات وملابسات بحيث تؤدي لطمس بعض المفاهيم الاَساسية في الشريعة الاِسلامية وجب على العلماء بالدرجة الاَولى التصدي لاِزالة الشبهات وإبراز الحقائق الناصعة ، فاذا ظهرت البدع وجب على العالم أن يُظهر علمه فإن لم يفعل سُلب منه نور الاِيمان ، كما جاء في الحديث ، ولكن لو كان مسار الفتنة مساراً شخصياً وجواً مفعماً بالمزايدات والتعصبات العرقية والشخصية لمرجع معين أو خط معين أو كانت الاَجواء تعيش حرباً دعائية مؤججة بنارالحقد والحسد المتبادل فإن علماء الحوزة منهم السيّد السيستاني ( دام ظله ) يلتزمون دوماً الصمت والوقار والبعد عن هذه الضوضاء الصاخبة كماحدث بعد وفاة السيّد البروجردي قدس سره ووفاة السيّد الحكيم قدس سره وما يحدث غالباً من التنافس على الاَلقاب والمناصب والاِختلافات الجزئية كما هوالحال في يومنا الحاضر مضافاً لزهده المتمثل في لباسه المتواضع ومسكنه الصغير الذي لا يملكه وأثاثه البسيط .
الاِنتاج الفكري : السيّد السيستاني ليس فقيهاً فقط بل هو رجل مثقف مطلع على الثقافات المعاصرة ومتفتح على الاَفكار الحضارية المختلفة ويمتلك الرؤية الثاقبة في المسيرة العالمية في المجال الاِقتصادي والسياسي وعنده نظرات إدراية جيدة وأفكار اجتماعية مواكبة للتطور الملحوظ واستيعاب للاَوضاع المعاصرة بحيث تكون الفتوى في نظره طريقاً صالحاً للخير في المجتمع المسلم .
مرجعيته
نقل بعض أساتذة النجف الاَشرف أنه بعد وفاة آية الله السيّد نصر الله المستنبط اقترح مجموعة من الفضلاء على الاِمام الخوئي قدس سره إعداد الاَرضية لشخص يشار إليه بالبنان مؤهل للمحافظة على المرجعية والحوزة العلمية في النجف الاَشرف ، فكان اختيار السيّد السيستاني ( دام ظله ) لفضله العلمي وصفاء سلوكه وخطه وابتدأ بالصلاة في محراب الاِمام الخوئي قدس سره والبحث في مدرسته وكتابة التعليقة على رسالة الاِمام الخوئي قدس سره ومنسكه ، وبعد وفاة الاِمام الخوئي قدس سره كان من الستة المشيعين لجنازته ليلاً وهو الذي صلى على جثمانه الطاهر ، وقد تصدى بعدها للتقليد وشؤون المرجعية وزعامة الحوزة العلمية بإرسال الاِجازات وتوزيع الحقوق والتدريس على منبر الاِمام الخوئي قدس سره في مسجد الخضراء ، وبدأ ينتشر تقليده وبشكل سريع في العراق والخليج ومناطق أخرى كالهند وأفريقيا وغيرها وخصوصاً بين الاَفاضل في الحوزات العلمية وبين الطبقات المثقفة والشابة لما يُعرف عنه من أفكار حضارية متطورة ، وهو دام ظله من القلة المعدودين من أعاظم الفقهاء الذين تدور حولهم الاَعلمية بشهادة غيرواحد من أهل الخبرة وأساتيذ الحوزات العلمية في النجف الاَشرف وقم المقدسة ، فأدام الله ظله الوارف على رؤوس الاَنام وجعله لنا ذخراً وملاذاً.
ولادته ونشأته
لقد أثمر منبر الاِمام الخوئي الراحل قدس سره خلال أكثر من نصف قرن ثماراً عظيمة جليلة هي الاَزكى والاَفضل عطاءاً على صعيد الفكر الاِسلامي وفي مختلف العلوم والقضايا والمواقف الاِسلامية المهمة ، حيث تخرّج من بين يديه مئات الفقهاء والمجتهدين والفضلاء العظام الذين أخذوا على عاتقهم مواصلة مسيرته الفكرية ودربه الحافل بالبذل والعطاء والتضحية لخدمة الاِسلام والعلم والمجتمع ، معظمهم اليوم أساتذة الحوزات العلمية وبالخصوص في النجف الاَشرف وقم المقدسة ومنهم في مستوى الكفاءة والجدارة العلمية والاِجتماعية التي تؤهلهم للقيام بمسؤولية التربية والتعليم ومسؤولية المرجعية والقيادة ورعاية الاَمة في يومنا الحاضر. ومن أهم وأبرز أولئك العباقرة هو سيدنا الاَستاذ آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) فهو من أبرز تلامذة الاِمام الخوئي الراحل قدس سره نبوغاً وعلماً وفضلاً وأهليةً.
ولد سماحته في ربيع الاَول من عام 1349 للهجرة في المشهد الرضوي الشريف في أسرة علمية دينية ملتزمة ، وقد درس العلوم الاِبتدائية والمقدمات والسطوح وأعقبه بدراسة العلوم العقلية والمعارف الاِلهية لدى جملة من أعلامها ومدرسيها حتى أتقنها. وحضر دروس بحث الخارج في مشهد المقدسة واستفاد من فكر العلاّمة المحقق الميرزا مهدي الاصفهاني قدس سره. ثم انتقل إلى الحوزة العلمية الدينية في قم المقدسة على عهد المرجع الكبير السيّد حسين البروجردي قدس سره في عام 1368هـ وحضر بحوث علماء وفضلاء الحوزة آنذاك ، منهم السيّد البروجردي قدس سره في الفقه والاَصول وقد أخذ الكثير من خبرته الفقهية ونظرياته في علم الرجال والحديث كما حضر درس الفقيه العالم الفاضل السيّد الحجة الكوهكمري قدس سره وبقية الاَفاضل في حينه.
ثم غادر قم متجهاً إلى موئل العلم والفضل للحوزات العلمية في النجف الاَشرف عام 1371هـ وحضر دروس أساطين الفكر والعلم آنذاك من أمثال الاِمام الحكيم والشيخ حسين الحلي والاِمام الخوئي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وقد لازم بحوث الاِمام الخوئي قدس سره فقهاً وأصولاً أكثر من عشر سنوات ، كما لازم بحث الشيخ الحلي قدس سره دورة أصولية كاملة.
اشتغل سيدنا الاَستاذ بالبحث والتدريس بإلقاء محاضراته ( البحث الخارج ) 1381هـ في الفقه على ضوء مكاسب الشيخ الاَعظم الاَنصاري قدس سره وأعقبه بشرح كتاب العروة الوثقى للسيد الفقيه الطباطبائي قدس سره فتم له من ذلك شرح كتاب الطهارة وأكثر فروع كتاب الصلاة وبعض كتاب الخمس. كما ابتدأ بإلقاء محاضراته ( البحث الخارج ) في الاَصول في شعبان 1384هـ وقد أكمل دورته الثالثة منها في شعبان 1411هـ ، وقد سجل محاضراته الفقهية والاَصولية في تقريرات غير واحد من تلامذته.
نبوغه العلمي
لقد برز السيّد السيستاني ( دام ظله ) في بحوث أساتذته بتفوق بالغ على أقرانه وذلك في قوة الاِشكال وسرعة البديهية وكثرة التحقبق والتتبع في الفقه والرجال ومواصلة النشاط العلمي وإلمامه بكثير من النظريات في مختلف الحقول العلمية الحوزوية. وكانت بينه وبين الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره منافسة شديدة في مجال التفوق والنبوغ العلمي ومما يشهد على ذلك شهادة خطية من الاِمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه وشهادة أخرى من العلاّمة الشيخ حسين الحلي قدس سره وقد شهدا ببلوغه درجة الاِجتهاد في شهادتين مؤرختين في عام 1380هـ مغمورتين بالثناء الكبير على فضله وعلمه ، على أنّ المعروف عن الاِمام الخوئي قدس سره عدم شهادته لاَحد من تلامذته بالاِجتهاد شهادة خطية إلاّ لسيدنا الاَستاذ وآية الله الشيخ علي فلسفي من مشاهير علماء مشهد المقدسة. كما كتب له شيخ محدّثي عصره العلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني قدس سره شهادة مؤرخة في عام 1380هـ أيضاً ، يطري فيها على مهارته في علمّي الرجال والحديث. أي أن سيدنا الاَستاذ قد حاز على هذه المرتبة العظيمة بشهادة العظماء وهو في الحادية والثلاثين من عمره.
منذ 34 سنة بدأ يدرّس البحث الخارج فقهاً وأصولاً ورجالاً ويقدّم نتاجه وعطاءه الوافر ، وقد باحث المكاسب والطهارة والصلاة والقضاء والخمس وبعض القواعد الفقهية كالربا وقاعدة التقية وقاعدة الاِلزام. ودرّس الاَصول ثلاث دورات وبعض هذه البحوث جاهز للطبع كبحوثه في الاَصول العلمية والتعادل والتراجيح مع بعض المباحث الفقهية وبعض أبواب الصلاة وقاعدة التقية والاِلزام. وقد أخرج بحثه عدة من الفضلاء البارزين وبعضهم على مستوى تدريس البحث الخارج ، كالعلامة الشيخ مهدي مرواريد والعلاّمة السيّد حبيب حسينان والعلاّمة السيّد مرتضى الاصفهاني والعلاّمة السيّد أحمد المددي والعلاّمة الشيخ باقر الايرواني وغيرهم ممن هم من أفاضل أساتذة الحوزات العلمية. وضمن انشغال سماحته في الدرس والبحث خلال هذه المدة كان دام ظله مهتماً بتأليف كتب مهمة وجملة من الرسائل لرفد المكتبة العلمية الدينية بمجموعة مؤلفات قيمة ، مضافاً إلى ما كتبه من تقريرات بحوث أساتذته فقهاً وأصولاً. وفيما يلي قائمة بأسماء بعض مؤلفاته :
1 ـ شرح العروة الوثقى.
2 ـ البحوث الاَصولية.
3 ـ كتاب القضاء.
4 ـ كتاب البيع والخيارات .
5 ـ رسالة في اللباس المشكوك فيه .
6 ـ رسالة في قاعدة اليد .
7 ـ رسالة في صلاة المسافر .
8 ـ رسالة في قاعدة التجاوز والفراغ .
9 ـ رسالة في القبلة .
10 ـ رسالة في التقية .
11 ـ رسالة في قاعدة الاِلزام .
12 ـ رسالة في الاِجتهاد والتقليد .
13 ـ رسالة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار .
14 ـ رسالة في الربا .
15 ـ رسالة في حجية مراسيل ابن أبي عمير .
16 ـ نقد رسالة تصحيح الاَسانيد للاَردبيلي .
17 ـ شرح مشيخة التهذيبين .
18 ـ رسالة في مسالك القدماء في حجية الاَخبار .
بالاِضافة إلى مؤلفات مخطوطة أخرى ورسائل عملية في الاَحكام للمقلدين .
منهجه في البحث والتدريس
وهو منهج متميز على مناهج كثير من أساتذة الحوزة وأرباب البحث الخارج ، فعلى صعيد الاَصول يتجلى منهجه بعدة خصائص :
التحدث عن تاريخ البحث ومعرفة جذوره التي ربما تكون فلسفية كمسألة بساطة المشتق وتركيبه ، أو عقائدية وسياسية كبحث التعادل والتراجيح الذي أوضح فيه أن قضية اختلاف الاَحاديث فرضتها الصراعات الفكرية العقائدية آنذاك والظروف السياسية التي أحاطت بالائمّة عليهم السلام ومن الواضح أن الاِطلاع على تاريخ البحث يكشف عن زوايا المسألة ويوصلنا إلى واقع الآراء المطروحة فيها .
الربط بين الفكر الحوزوي والثقافات المعاصرة ففي بحثه حول المعنى الحرفي في بيان الفارق بينه وبين المعنى الاَسمى وهل هو فارق ذاتي أم لحاظي ؟ اختار اتجاه صاحب الكفاية في أن الفرق باللحاظ لكن بناه على النظرية الفلسفية الحديثة وهي نظرية التكثر الاِدراكي في فعالية الذهن البشري وخلاقيته ، فيمكن للذهن تصوّر مطلب واحد بصورتين تارة بصورة الاِستقلال والوضوح فيعبّر عنه بالاِسم وتارة بالآلية والاِنكماش ويعبّر عنه بالحرف ، وعندما دخل في بحث المشتق في النزاع الدائر بين العلماء حول اسم الزمان ، تحدّث عن الزمان بنظرة فلسفية جديدة في الغرب وهي انتزاع الزمان من المكان "زمكان" بلحاظ تعاقب النور والظلام ، وفي بحثه حول مدلول صيغة الاَمر ومادته وبحثه في التجري فقد طرح نظرية بعض علماء الاِجتماع من أن تقسيم الطلب لاَمر والتماس وسؤال نتيجة تدخّل صفة الطالب في حقيقة طلبه من كونه عالياً أو مساوياً أو سافلاً . وكذلك جعل ضابط استحقاق العقوبة عنوان تمرد العبد وطغيانه على المولى وأن ذلك مبني على التقسيم الطبقي للمجتمعات البشرية القديمة من وجود موالي وعبيد وعالٍ وسافل وما أشبه ذلك ، فهذه النظرية من رواسب الثقافات السالفة التي تتحدث باللغة الطبقية لا باللغة القانونية المبنية على المصالح الاِنسانية العامة .
الاِهتمام بالاَصول المرتبطة بالفقه وأن الطالب الحوزوي يلاحظ في كثير من العلماء إغراقهم وإسهابهم في بحوث أصولية لا يُعد الاِسهاب فيها إلاّ ترفاً فكرياً لا ينتج ثمرة عملية للفقيه في مسيرته الفقهية كبحثهم في الوضع وكونه أمراً اعتبارياً أو تكوينياً وأنه تعهد أو تخصيص ، وبحثهم في بيان موضوع العلم وبعض العوارض الذاتية في تعريف الفلاسفة لموضوع العلم وما شاكل ذلك . ولكن الملاحظ في دروس سيدنا الاَستاذ هو الاِغراق وبذل الجهد الشاق في الخروج بمبنى علمي رصين في البحوث الاَصولية المرتبطة بعملية الاِستنباط كمباحث الاَصول العملية والتعادل والتراجيح والعام والخاص ، وأما البحوث الاَخرى التي أشرنا لبعض مسمياتها ، فبحثه فيها بمقدار الثمرة العلمية في بحوث أخرى أو الثمرة العملية في الفقه .
الاِبداع والتجديد : هناك كثير من الاَساتذة الماهرين في الحوزة مَن لا يملك روح التجديد بل يصب اهتمامه على التعليق فقط والتركيز على جماليات البحث لا على جوهره فيطرح الآراء الموجودة ويعلّق على بعضها ويختار الاَقوى في نظره ويشغل نفسه بتحليل عبارات من قبيل: فتأمّل أو فافهم ، ويجري في البحث على أن في الاِشكال إشكالين وفي الاِشكالين تأمّلاً وفي التأمّل توقّف .
نكاح أهل الشرك جائز ـ وكذلك بالنسبة لقاعدة التزاحم التي يطرحها الفقهاء والاَصوليون كقاعدة عقلية أو عقلائية صرفة فيدخلها السيّد الاَستاذ تحت قاعدة الاِضطرار التي هي قاعدة شرعية أشارت لها النصوص نحو " ما من شيء حرّمه الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إليه" فإن مؤدّى قاعدة الاِضطرار هو مؤدّى قاعدة التزاحم بضميمة فهم الجعل التطبيقي . وأحياناً قد يقوم بتوسعة القاعدة كما في قاعدة "لا تعاد" حيث خصّها الفقهاء بالصلاة لورود النص في ذلك بينما السيّد السيستاني جعل صدر الرواية المتضمن لقوله "لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة" مصداقاً لكبرى أخرى تعم الصلاة وغيرها من الواجبات ، وهذه الكبرى موجودة في ذيل النص" ولا تنقض السنة الفريضة" فالمناط هو تقديم الفريضة على السنة في الصلاة وغيرها من مصاديق هذا التقديم هو تقديم الوقت والقبلة . . . الخ على غيرها من أجزاء الصلاة وشرائطها لاَن الوقت والقبلة من الفرائض لا من السُنن.
النظرة الاِجتماعية للنص : أن من الفقهاء من هو حرفي الفهم بمعنى أنه جامد على حدود حروف النص من دون محاولة التصرف في سعة دلالات النص وهناك من الفقهاء مَن يقرأ أجواء النص والظروف المحيطة به ليتعرف مع سائر الملابسات التي تؤثر على دلالته ، فمثلاً ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم أكل لحم الحُمر الاَهلية يوم خيبر ، فلو أخذنا بالفهم الحرفي لقلنا بالحُرمة أو الكراهة لاَكل لحم الحُمر الاَهلية ولو اتبعنا الفهم الاِجتماعي لرأينا أن النص ناظر لظرف حرج وهو ظرف الحرب مع اليهود في خيبر والحرب تحتاج لنقل السلاح والمؤنة ولم تكن هناك وسائل نقل إلاّ الدواب ومنها الحمير ، فالنهي في الواقع نهي إداري لمصلحة موضوعية اقتضتها الظروف آنذاك ولا يستفاد منه تشريع الحُرمة ولا الكراهة . وسيدنا الاَستاذ هو من النمط الثاني من العلماء في التعامل مع النص .
توفير الخبرة بمواد الاَستنباط : أن السيّد السيستاني يركز دائماً على أن الفقيه لايكون فقيهاً بالمعنى الاَتم حتى يتوفر لدية خبرة وافية بكلام العرب وخطبهم وأشعارهم ومَجازاتهم كي يكون قادراً على تشخيص ظهور النص تشخيصاً موضوعياً لا ذاتياً وأن يكون على اطلاع تام بكتب اللغة وأحوال مؤلفيها ومناهج الكتابة فيها فإن ذلك دخيل في الاِعتماد على قول اللغوي أو عدم الاِعتماد عليه وأن يكون على إحاطة بأحاديث أهل البيت عليهم السلام ورواتها بالتفصيل ، فإن علم الرجال فن ضروري للمجتهد لتحصيل الوثوق الموضوعي التام بصلاحية المدرك . وله آراء خاصة يخالف بها المشهور مثلاً ما اشتهر من عدم الاِعتماد بقدح ابن الفضائري إما لكثرة قدحه أو لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه . فإن سيدنا الاَستاذ لا يرتضي ذلك بل يرى ثبوت الكتاب وأن ابن الفضائري هوالمعتمد في مقام الجرح والتعديل أكثر من النجاشي والشيخ وأمثالهما ، ويرى الاِعتماد على منهج الطبقات في تعيين الراوي وتوثيقه ومعرفة كون الحديث مسنداً أو مرسلاً على ما قرره السيّد البروجردي قدس سره . ويرى أيضاً ضرورة الاِلمام بكتب الحديث واختلاف النسخ ومعرفة حال المؤلف من حيث الضبط والتثبت ومنهج التأليف وما يشاع في هذا المجال من كون الصدوق أضبط من الشيخ فلا يرتضيه ، بل يرى الشيخ ناقلاً أميناً لما وجده من الكتب الحاضرة عنده بقرائن يستند اليها . فهذه الجهات الخبرية قد لا يعتمد عليها كثير من الفقهاء في مقام الاِستنباط بل يكتفي بعضهم بالظهور الشخصي من دون أن يجمع القرائن المختلفة لتحقيق الظهور الموضوعي بل قد يعتمد على كلام بعض اللغويين بدون التحقيق في المؤلف ومنهج التأليف ولا يكون لبعض آخر أي رصيد في علم الرجال والخبرة بكتب الحديث . إلاّ أن سيدنا الاَستاذ والسيّد الشهيد الصدر يختلفان في هذا المنهج فيحاول كل منهما محاولة الاِبداع والتجديد إما في صياغة المطلب بصياغة جديدة تتناسب مع الحاجة للبحث كما صنع السيّد السيستاني عندما دخل بحث استعمال اللفظ في عدة معانٍ ، حيث بحثه الاَصوليون من زاوية الاِمكان والاِستحالة كبحث عقلي فلسفي لا ثمرة عملية تترتب عليه وبحثه سيدنا الاَستاذ من حيث الوقوع وعدمه لاَنه أقوى دليل على الاِمكان ، وبحثه كذلك من حيث الاِستظهار وعدمه . وعندما دخل بحث التعادل والتراجيح رأى أن سر البحث يكمن في علة اختلاف الاَحاديث ، فإذا بحثنا وحددنا أسباب اختلاف النصوص الشرعية انحلّت المشكلة العويصة التي تعترض الفقيه والباحث والمستفيد من نصوص أهل البيت عليهم السلام وذلك يغنينا عن روايات الترجيح والتغيير كما حملها صاحب الكفاية على الاِستحباب ، وهذا البحث تناوله غيره كالسيد الصدر قدس سره ولكنه تناوله بشكل عقلي صرف ، أما السيّد الاَستاذ فإنه حشد فيه الشواهد التاريخية والحديثية وخرج منه بقواعد مهمة لحلّ الاِختلاف وقام بتطبيقها في دروسه الفقهية أيضاً .
المقارنة بين المدارس المختلفة : ان المعروف عن كثير من الاَساتذة حصر البحث في مدرسة معينة أو اتجاه خاص ولكن السيّد السيستاني يقارن بحثه بين فكر مدرسة مشهد وفكر مدرسة قم وفكر مدرسة النجف ، فهو يطرح آراء الميرزا مهدي الاصفهاني قدس سره من علماء مشهد وآراء السيّد البروجردي قدس سره كتعبير عن فكر مدرسة قم وآراء المحققين الثلاثة والسيّد الخوئي قدس سره والشيخ حسين الحلي قدس سره كمثال لمدرسة النجف ، وتعدد الاِتجاهات هذه يوسع أمامنا زوايا البحث والرؤية الواضحة لواقع المطلب العلمي . وأما منهجه الفقهي فله فيه منهج خاص يتميز في تدريس الفقه وطرحه ، ولهذا المنهج عدة ملامح :
أ ـ المقارنة بين فقه الشيعة وفقه غيرهم من المذاهب الاِسلامية الاَخرى ، فإن الاِطلاع على الفكر الفقهي السنّي المعاصر لزمان النص كالاِطلاع على موطأ مالك وخراج أبي يوسف وأمثالهم يوضّح أمامنا مقاصد الاَئمّة عليهم السلام ونظرهم حين طرح النصوص .
ب ـ الاِستفادة من علم القانون الحديث في بعض المواضع الفقهية كمراجعته للقانون العراقي والمصري والفرنسي عند بحثه في كتاب البيع والخيارات ، والاِحاطة بالفكر القانوني المعاصر تزوّد الاِنسان خبرة قانونية يستعين بها على تحليل القواعد الفقهية وتوسعة مداركها وموارد تطبيقها .
ج ـ التجديد في الاَطروحة : أن معظم علمائنا الاَعلام يتلقون بعض القواعد الفقهية بنفس الصياغة التي طرحها السابقون ولا يزيدون في البحث فيها إلاّ عن صلاحية المدرك لها أو عدمه ووجود مدرك آخر وعدمه ، أما السيّد السيستاني فإنه يحاول الاِهتمام في بعض القواعد الفقهية بتغير الصياغة مثلاً بالنسبة لقاعدة الاِلزام التي يفهمها بعض الفقهاء من الزاوية المصلحية بمعنى أن للمسلم المؤمن الاِستفادة في تحقيق بعض رغباته الشخصية من بعض القوانين للمذاهب الاَخرى وإن كان مذهبه لا يقرها ، بينما يطرحه السيّد السيستاني على أساس الاِحترام ويسميها بقاعدة الاِحترام أي احترام آراء الآخرين وقوانينهم ، وانطلاقه من حرية الرأي وهي على سياق ـ لكل قوم نكاح ـ .
معالم شخصيته
إن مَن يعاشر السيّد السيستاني ( دام ظله ) ويتصل به يرى فيه شخصية فذة تتمتع بالخصائص الروحية والمثالية التي حث عليها أهل البيت عليهم السلام والتي تجعل منه ومن أمثاله من العلماء المخلصين مظهراً جلياً لكلمة "عالم رباني" وقوله عليه السلام : "مجاري الامور بيد العلماء أمناء الله مع حلاله وحرامه" . من أجل وضع النقاط على الحروف أطرح بعض المعالم الفاضلة التي رأيتها بنفسي عند اتصالي به درساً ومعاشرة :
الاِنصاف واحترام الرأي : فإن السيّد السيستاني انطلاقاً من عشق العلم والمعرفة ورغبة في الوصول للحقيقة وتقديساً لحرية الرأي والكلمة البنّاءة تجده كثير القراءة والتتبع للكتب والبحوث ومعرفة الآراء حتى آراء زملاءه وأقرانه أو آراء بعض المغمورين في خضم الحوزة العلمية ، فتراه بعض الاَحيان قد يشير في بحثه لرأي لطيف لاَحد الاَفاضل مع أنه ليس من أساتذته أو الشيخ محمّد رضا المظفر في كتابه أصول الفقه ، فطرح هذه الآراء ومناقشتها مع أنها لم تصدر من أساطين أساتذته يمثل لنا صورة حية من صور الاِنصاف واحترام آراء الآخرين .
الاَدب في الحوار : إن بحوث النجف معروفة بالحوار الساخن بين الزملاء أو الاَستاذ وتلميذه وذلك مما يصقل ثقافة الطالب وقوته العلمية ، وأحياناً قد يكون الحوار جدلاً فارغاً لا يوصل لهدف علمي بل مضمونه إبراز العضلات في الجدل وقوة المعارضة وذلك مما يستهلك وقت الطالب الطموح ويبعده عن الجو الروحي للعلم والمذاكرة ويتركه يحوم في حلقة عقيمة دون الوصول للهدف . أما بحث السيّد السيستاني ( دام ظله ) فإنه بعيد كل البعد عن الجدل وأساليب الاِسكات والتوهين فهو في النقاش مع أساتذته وآراء الآخرين يستخدم الكلمات المؤدبة التي تحفظ مقام العلماء وعظمتهم حتى ولو كان الرأي المطروح واضح الضعف والاِندفاع ، وفي إجابته لاستفهامات الطالب يتحدث بانفتاح وبروح الاِرشاد والتوجيه ، ولو صرف التلميذ الحوار الهادف إلى الجدل الفارغ عن المحتوى فإن السيّد السيستاني يحاول تكرار الجواب بصورة علمية ، ومع إصرار الطالب فإن السيّد الاَستاذ حينئذ يفضل السكوت على الكلام .
خلق التربية : التدريس ليس وظيفة رسمية أو روتينية يمارسها الاَستاذ في مقابل مقدار من المال ، فإن هذه النظرة تبعد المدرس عن تقويم التلميذ والعناية بتربيته والصعود بمستواه العلمي للتفوق والظهور، كما أن التدريس لا يقتصر على التربية العلمية من محاولة الترشيد التربوي لمسيرة الطالب بل التدريس رسالة خطيرة تحتاج مزاولتها لروح الحب والاِشفاق على الطالب ويحثَه نحو العلم وآداب العلم أيضاً وإذا كان يحصل في الحوزة أو غيرها أحياناً رجالاً لا يخلصون لمسؤولية التدريس والتعليم فإن في الحوزات أساتذة مخلصين يرون التدريس رسالة سماوية لابد من مزاولتها بروح المحبة والعناية التامة بمسيرة التلميذ العلمية والعملية وقد كان الاِمام الحكيم قدس سره مضرب المثل في خُلقه التربوي لتلامذته وطلابه ، وكما كانت علاقة الاِمام الخوئي قدس سره بتلامذته فلقد رأيت هذا الخُلق متجسداً في شخصية السيّد السيستاني ( دام ظله ) فهو يحث دائماً بعد الدرس على سؤاله ونقاشه فيقول : اسألوا ولو على رقم الصحفة ، لبحث معين أو اسم كتاب معين حتى تعتادوا على حوار الاَستاذ والصلة العلمية به وكان يدفعنا لمقارنة بحثه مع البحوث المطبوعة والوقوف عند نقاط الضعف والقوة وكان يؤكد دائماً على احترام العلماء والاِلتزام بالاَدب في نقاش أقوالهم ويتحدث عن أساتذته وروحياتهم العالية وأمثال ذلك من شواهد الخُلق الرفيع .
الورع : إن بحوث النجف ظاهرة جلية في كثير من العلماء والاَعاظم وهي ظاهر البعد عن مواقع الضوضاء والفتن وربما يعتبر هذا البعد عند البعض موقفاً سلبياً لاَنه هروب من مواجهة الواقع وتسجيل الموقف الصريح المرضي للشرع المقدس ، ولكنه عند التأمل يظهر بأنه موقف إيجابي وضروري أحياناً للمصلحة العامة ومواجهة الواقع وتسجيل الموقف الشرعي يحتاج لظروف موضوعية وأرضية صالحة تتفاعل مع هذا الموقف ، فلو وقعت في الساحة الاِسلامية أو المجتمع الحوزوي إثارات وملابسات بحيث تؤدي لطمس بعض المفاهيم الاَساسية في الشريعة الاِسلامية وجب على العلماء بالدرجة الاَولى التصدي لاِزالة الشبهات وإبراز الحقائق الناصعة ، فاذا ظهرت البدع وجب على العالم أن يُظهر علمه فإن لم يفعل سُلب منه نور الاِيمان ، كما جاء في الحديث ، ولكن لو كان مسار الفتنة مساراً شخصياً وجواً مفعماً بالمزايدات والتعصبات العرقية والشخصية لمرجع معين أو خط معين أو كانت الاَجواء تعيش حرباً دعائية مؤججة بنارالحقد والحسد المتبادل فإن علماء الحوزة منهم السيّد السيستاني ( دام ظله ) يلتزمون دوماً الصمت والوقار والبعد عن هذه الضوضاء الصاخبة كماحدث بعد وفاة السيّد البروجردي قدس سره ووفاة السيّد الحكيم قدس سره وما يحدث غالباً من التنافس على الاَلقاب والمناصب والاِختلافات الجزئية كما هوالحال في يومنا الحاضر مضافاً لزهده المتمثل في لباسه المتواضع ومسكنه الصغير الذي لا يملكه وأثاثه البسيط .
الاِنتاج الفكري : السيّد السيستاني ليس فقيهاً فقط بل هو رجل مثقف مطلع على الثقافات المعاصرة ومتفتح على الاَفكار الحضارية المختلفة ويمتلك الرؤية الثاقبة في المسيرة العالمية في المجال الاِقتصادي والسياسي وعنده نظرات إدراية جيدة وأفكار اجتماعية مواكبة للتطور الملحوظ واستيعاب للاَوضاع المعاصرة بحيث تكون الفتوى في نظره طريقاً صالحاً للخير في المجتمع المسلم .
مرجعيته
نقل بعض أساتذة النجف الاَشرف أنه بعد وفاة آية الله السيّد نصر الله المستنبط اقترح مجموعة من الفضلاء على الاِمام الخوئي قدس سره إعداد الاَرضية لشخص يشار إليه بالبنان مؤهل للمحافظة على المرجعية والحوزة العلمية في النجف الاَشرف ، فكان اختيار السيّد السيستاني ( دام ظله ) لفضله العلمي وصفاء سلوكه وخطه وابتدأ بالصلاة في محراب الاِمام الخوئي قدس سره والبحث في مدرسته وكتابة التعليقة على رسالة الاِمام الخوئي قدس سره ومنسكه ، وبعد وفاة الاِمام الخوئي قدس سره كان من الستة المشيعين لجنازته ليلاً وهو الذي صلى على جثمانه الطاهر ، وقد تصدى بعدها للتقليد وشؤون المرجعية وزعامة الحوزة العلمية بإرسال الاِجازات وتوزيع الحقوق والتدريس على منبر الاِمام الخوئي قدس سره في مسجد الخضراء ، وبدأ ينتشر تقليده وبشكل سريع في العراق والخليج ومناطق أخرى كالهند وأفريقيا وغيرها وخصوصاً بين الاَفاضل في الحوزات العلمية وبين الطبقات المثقفة والشابة لما يُعرف عنه من أفكار حضارية متطورة ، وهو دام ظله من القلة المعدودين من أعاظم الفقهاء الذين تدور حولهم الاَعلمية بشهادة غيرواحد من أهل الخبرة وأساتيذ الحوزات العلمية في النجف الاَشرف وقم المقدسة ، فأدام الله ظله الوارف على رؤوس الاَنام وجعله لنا ذخراً وملاذاً.