المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : استثمار العطلة الصيفيّة*


عاشق الزهراء
09-07-2009, 09:54 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
حديثنا يدور ـ بإذن الله تعالى ـ حول وضع برنامج للعطلة الصيفية التي نحن على مشارفها ونتحدّث بإذن الله تعالى حول هذا الموضوع ضمن محورين:
المحور الأول: ضرورة وضع البرنامج بشكل عامّ.
المحور الثاني: ما هو البرنامج الذي ينبغي أن نضعه لهذه العطلة؟
المحور الأول: ضرورة وضع البرنامج
أمّا بالنسبة إلى المحور الأوّل فوضع البرنامج بنحو عامّ هو أحد العوامل المهمّة في صناعة وتطوير نظام القناعات.
تعلمون أنّ نظام القناعات هو أحد الأنظمة المهمّة في الحياة البشرية، بل يمكن القول: إنّ نظام القناعات هو القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها الحياة البشرية. فالذي جعل العالِم عالماً والجاهل جاهلاً هو نظام القناعات؛ لأنّ العالِم اقتنع بأنه يمكن أن يكون عالماً.
وهنالك قاعدة معروفة تقول: «أوّل الفكر آخر العمل». أي ليس المهمّ آخر العمل وإنّما المهمّ أوّل الفكر لأنه هو الذي يصنع آخر العمل، فالعالم اقتنع منذ اليوم الأول بأنّه يمكن أن يكون عالماً، وهذه الصورة هي التي كانت في ذهنه.
يقال: كان هنالك رجل يعمل سكرتيراً في عيادة طبّية وكان يطمح أن يكون طبيباً، فوضع في غرفته صورته الشخصية وكتب تحتها اسمه: الطبيب فلان. فكان كلّ يوم يأتي وينظر إلى هذه الصورة. وهذا أوّل الفكر، أي كان يفكر أنه في يوم من الأيام سيكون طبيباً، وفعلاً أصبح فيما بعد طبيباً ـ في قضية لا يهمّنا ذكرهاـ.
إذاً الذي جعل العالم عالماً والجاهل جاهلاً هو نظام القناعات، والذي جعل الغنيّ غنياً، والفقير فقيراً هو نظام القناعات، والذي جعل الحاكم حاكماً والمحكوم محكوماً هو نظام القناعات، والذي جعل العظماء عظماء وجعل التافهين تافهين في الحياة هو نظام القناعات. الفرق بين الأفراد إنما هو في هذا النظام الذهني المهمّ، ولذلك فإنّ هذا النظام في الحقيقة له دور عجيب في الحياة وفي تفاصيلها.
في إحدى التجارب العلمية جيء بمريض يعاني من آلام في القلب ويتناول قرصاً معيّناً لتسكينها، واتفّق أنّ هذا القرص مفقود، أو أنّ الأطباء أرادوا القيام بعملية اختبار على هذا المريض، فأعطوه قرصاً يشبه في ظاهره ذلك الدواء المطلوب، فلاحظوا أنه شعر بالراحة، وما ذلك إلاّ لأنه كان مقتنعاً تماماً بتأثير الدواء الذي يتناوله يومياً وعنده تجارب متقدّمة، فشعر بالراحة عند تناوله هذا الدواء المزّيف، ولاشك أن الذي أثّر هو القناعة التي عند المريض وليس الدواء المزيّف الذي تناوله. طبعاً هذه ليست حالة عامّة وشاملة ولكن هنالك في بعض الحالات تجارب تثبت هذا الموضوع.
عندما لايكون للفرد برنامح، ولا تكون عنده خريطة عمل ولا تكون عنده خطّة، ومن ثم تكون قناعته أنه لا يُطلب منه شيء ولا يُنتظر منه شيء، فمثل هذا الشخص هذه القناعة تدفعه إلى النوم والكسل. فمن ليس له برنامج ما الذي يفعل؟ يذهب وينام أو يقضي وقته في مجالس البطّالين وفي الأفكار السلبية؛ فهنالك بعض الأفراد يعيشون دائماً حالة سلبية، ولا يفكّرون إلا في الجوانب المظلمة من الحياة.
أجل، إن الإنسان الذي لا هدف عنده في الحياة، يصاب بالكآبة وتكون نظرته تشاؤمية إلى نفسه وإلى الحياة وإلى الآخرين وإلى كل شيء، أما إذا كان عند الإنسان هدف وبرنامج وخريطة لبلوغ ذلك الهدف فإنها تؤثر في قناعاته ويكون إيجابياً وينظر إلى الجوانب المضيئة في الحياة، ويقول أنا مطلوب مني أن أحقّق البرنامج الكذائي، ويدخل هذا في روعه.
فصاحب كتاب (جواهر الكلام) ـ مثلاً ـ كانت قناعتهُ أنه يجب أن ينهي الجواهر، ولذلك عمل ليل نهار، وهكذا صاحب (مفتاح الكرامة) كانت قناعته أن يُكمل ذلك المشروع العظيم، ولذلك تراه حتى في حصار النجف الأشرف اشترك مع المجاهدين في الجهاد وكتب كتابه الفقهي أيضاً.
إن البرامج تحرّك الطاقات وتعطي القوة. هنالك كلمة رائعة لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يقول فيها: «قدر الرجل على قدر همّته، وعمله على قدر نيّته»(1). وهذا معناه:
أولاً: إذا أردتم أن تعرفوا قيمة أيّ فرد، فلاحظوا ما هي همّته وما هي طموحاته في الحياة. يقول الشاعر في وصف النبي الأعظم صلى الله عليه وآله:
له همـم، لا منتـهى لـكبارها
وهمّته الصغرى أجلّ من الدهر(2)
ثانياً: إذا أردتم معرفة قيمة عمل الشخص فانظروا ماهي نيّته؟
الخريطة التي وضعتها لنفسك هي التي تحدّد عملك ونشاطك بل تحدّد ضعفك وقوتّك أيضاً. وعلى أعتاب الهدف يشعر الإنسان بالضعف؛ فلو كان الهدف قريباً كان شعور صاحبه بالضعف أسرع، وكلما كان الهدف أبعد فإن خريطته تكون أكبر وعمله يكون أكبر وفترة عدم شعوره بالضعف أطول؛ وهذا معنى «على قدر نيّته».
لذلك كلّه يجب أن نضع لأنفسنا برنامجاً حافلاً في الحياة، برنامجاً قد لا نصله قبل أربعين عاماً مثلاً.
كان شابّ في الخامسة عشرة من عمره فأمسك ورقة وقلماً وحدّد فيها أهدافه في الحياة، فكتب 127 هدفاً يجب أن يحققها. وكانت بعض أهدافه خطرة حتى أنه تعرض في طريق تحقيق بعضها إلى الموت 18 مرة، ما يعني أنها لم تكن أهدافاً عادية. وعندما بلغ التاسعة والخمسين أي بعد حوالي 44 عاماً، رأى أنه حقق من هذه الأهداف (106) أي بقي منها (21) هدفاً.
لنحدّد ما هي أهدافنا؟ ـ مئة هدف مثلاً ـ ونحاول أن نسير باتجاه تحقيق هذه الأهداف؛ فصاحب الأهداف الكبيرة لا يشعر بالتعب ولا يشغل نفسه بالجانب المظلم من الحياة؛ لأنّ أهدافه تشدّه إليها.
لِم يشتغل الإنسان بالسلبيات؟ لأنه لايوجد لديه عمل.
حتى الأطفال عندما لا يكون لديهم عمل في البيت، يبدؤون بالتخريب ـ عادة ـ أما الطفل الذي عنده برنامج فيشتغل ببرنامجه. هكذا هي طبيعة النفس.
يقول أحد المفكرين: إنّ من نعم الله علينا أننا عندما نستيقظ من النوم صباحاً نجد أمامنا أعمالاً لا تنتهي.
لاتقولوا لماذا لاينتهي هذا الخطّ؟ لماذا لاينتهي علم الفقه؟ لماذا لا ينتهي علم الأصول؟ فهذه من نعم الله علينا؛ وإنّ الإنسان المتذمّر من هذه النعمة قد يصبح في يوم من الأيام عاطلاً، والإنسان العاطل يدمّر نفسه ويدمّر الآخرين.
كنا نقرأ في هوامش كتاب (جامع المقدّمات) أن نصير الدين الطوسي كان يضع أمامه كتباً مختلفة في فنون متعّددة وينكبّ على دراستها أو مطالعتها من أول الليل إلى السحر، وعندما يتعب من علم معيّن ينتقل إلى علم آخر، فكان إذا تعب يغسل وجهه أو يرشّ على وجهه الماء، وإذا توصل إلى حلّ معضلة علمية أو كشف علميّ قال: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذّة؟! لوعرفوها لقاتلونا عليها.
حقاً أين لذّات الملوك من هذه اللذّة؟ الملوك نائمون في بيوتهم ليلاً، ومشغولون بالصيد في الغابات نهاراً، فما هي قيمة لذّاتهم إزاء هذه الفتوحات العلمية؟
المحور الثاني البرامج التي ينبغي وضعها
نحن الآن على أبواب العطلة، فما هو البرنامج الذي ينبغي أن نضعه لأنفسنا ـ طبعاً ـ مضافاً إلى البرامج التقليدية؟ هنالك ثلاث نقاط:
البرنامج الأول: تهذيب النفس
يقول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في هذا الصدد: «كلما ازداد علم الرجل زادت عنايته بنفسه وبذل في رياضتها وصلاحها جهده»(3).
الاهتمام بالنفس ههنا يرتبط بالعلم. فالشخص الجاهل لا يعرف ما هي خطورة هذه النفس وأنّه في مواجهة أيّ خطر كبير؟ ألا ترون الأطفال لايشعرون بالخطر كثيراً لأنّهم يجلهون مصدره. فمثلاً لو كنتم في حافلة تسير في طريق جبلي وتكاد تخرج عن السيطرة وتقع في الهاوية، فإن الطفل لايشعر بالخطر، وعدم شعوره بالخطر نابع من جهله.
لعلّ إشفاق أولياء الله تعالى الذي تصرّح به الآية الكريمة «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ»(4) نابع من إحساسهم بالخطر وأنّهم يخشون الوقوع في هاوية الشقاء الأبدي والعياذ بالله إن انحرفوا عن جادّة الحق ومسير السعادة الأبدية. فحقيقة هنالك خطر كبير يشعر به الأولياء فيشفقون.
نقل شخص عن أحد العلماء أنه كان يقول: كلما يزداد عمري أشعر بالخطر أكثر. وهذا يعني: أنه كلما ازداد علم الرجل زاد شعوره بما حوله من المخاطر والمخاوف، فتزداد عنايته بنفسه ويهتمّ أكثر ويبذل في رياضتها وصلاحها جهده.
في كل لحظة يحتاج الإنسان إلى العناية كما في هذه الرواية.
هناك بعض الأشياء قد يحتاجها الإنسان في كلّ عام مرّة كالدواء، وهناك بعض الأشياء يحتاج إليها الإنسان في كل يوم مرة أو مرتين أو ثلاث مرات كالغذاء، وهناك بعض الأشياء يحتاج إليها الإنسان في كل دقيقة كالهواء الذي نستنشقه، فلو انقطع الهواء دقائق معدودة عن الإنسان فإنّه ينتهي، فالمخ يحتاج الى الأوكسجين بصورة دائمة، فإن انقطع عنه شيء من هذا الأوكسجين تحوّل صاحبه الى فرد معوّق، كما يحدث أحياناً في حالات الطوارئ في الولادة إذ ينقطع الأوكسجين عن الوليد لحظات فيبقى معوّقاً إلى آخر حياته ـ ولقد شاهدت بعض المعوّقين من هذا القبيل ـ أو يموت.
فالحاجة للعناية بالنفس كالحاجة إلى الهواء، فربما أدّى إهمال رياضتها وصلاحها مرّةً واحدة بأن ينتهي للشقاء والعياذ بالله.
ثمّ إنّ الإنسان الذي يعيش في حالة رتيبة وسياق اجتماعي مُعيّن، يغفل ـ عادةً ـ عن الرؤية الكلّية، لذلك تلاحظون أنّ الشرع يأتي ويغيّر ببعض تعليماته وأوامره كلّ نظام حياتنا دفعة واحدة، فعندما يأتي شهر رمضان يتغيّر كلّ نظام حياتنا، فالليل يتحوّل إلى نهار، والنهار يتحوّل إلى ليل، ووضع الوجبات ووضع العمل كلّه يتَغير. وهذا أثره الخروج من العادة والسياق المعيّن؛ ومن ثم إتاحة المجال للتفكير والتأمل والوقفة مع الذات.
وهكذا الحجّ فهو تغيير في نمط حياة الفرد العادية. فشهر رمضان تحوّل زماني، والحجّ تحوّل مكاني. يعيش الحاجّ في رحلة الحجّ في حالة أخرى، حيث يذهب إلى بلد آخر ويعيش معادلات ثانية، وتفرض عليه أمور غير مفروضة طيلة أيام السنة وفي مكان آخر، فمثلاً: لايجوز له النظر إلى المرآة، وكثير من الأمور التي كانت محلّلة عليه تتحوّل إلى محرّمات، وهذا يعني حصول تغيّر. في هذا التغّير يتمكن أن يعيد النظر في حياته وفي مسيره وفي مصيره.
العطلة أيضاً تعطينا هذا المجال، لأن الإنسان يخرج من إطاره المعتاد ويدخل في حال آخر وفي معادلات أخرى؛ فبوسعه أن يذهب إلى العمرة، وهي بدورها تغيّر في نظام حياة الفرد. كثيرون من الأفراد الذين تابوا، إنما تابوا في الحجّ أو في العمرة. أو يذهب إلى مشهد الإمام الرضا صلوات الله عليه أو إلى مزارات الأولياء في سوريا، فكلّ مزار له إيحاء معيّن، فمرقد الصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنهما في سوريا له إيحاء معيّن، ومرقد جعفر بن أبي طالب صلوات الله عليهما في الأردن له إيحاء معيّن، وهكذا مرقد أخت السيدة المعصومة صلوات الله عليها في آذربايجان و... و...
وهكذا تعدّ هذه الزيارات تجديداً في الحياة.
كما أن بوسع الفرد في العطلة أن يطالع بعض الكتب الأخلاقية، وإذا وجد ـ مع ذلك ـ مربّياً فهذه غاية المنى؛ إذ لا يتيسّر ذلك في كثير من الأحيان. لا ينبغي الاستهانة بالحاجة إلى المربّي، فكلّ علم بحاجة إلى المربّي، فكما أنّ علم الفقه وعلم الأصول وعلم الهيئة كلّ منها يحتاج إلى مدرّس ومربٍّ، فكذلك علم الأخلاق يحتاج إلى مربٍّ، فإذا وجده الإنسان فليشدّ الرحال إليه، فهذه غاية المنى، وإلاّ فليطالع أحوال الأخلاقيين الكبار كالشيخ الأنصاري والمقدّس الأردبيلي والسيد بحر العلوم، فالمطالعة مؤثّرة جدّاً.
ينقل أنه كان للشيخ الأنصاري مربٍّ وهو تلميذه السيد علي الشوشتري، فهو كان يتتلمذ عند الشيخ الأنصاري في الفقه والأصول ولكنه كان أستاذاً للشيخ في الأخلاق، وتنقل عنه كرامات وقضايا عجيبة لست الآن في صدد بيانها وتفصيلها، المهمّ كان يحضر عنده الشيخ في كلّ أسبوع مرة ويتتلمذ عنده.
أيضاً بعض الأشياء المستحبّة حبّذا يبدأها الإنسان في العطلة، وهي موجودة في كتبنا الفقهية وفي مفاتيح الجنان، إذا عمل بها الفرد رفعته إلى مستويات كبيرة.
البرنامج الثاني: برنامج للعودة إلى الأصول
ما هي أصولنا؟ إنها ما أوصى به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي»(5) هذه هي الأصول والبقية فروع.
فما المقصود بالتمسّك بالقرآن الكريم؟ القرآن الكريم نظام للحياة، فإذا لم يعرف الشخص القرآن الكريم وكان بعيداً عنه فهل يمكنه أن يتمسّك به؟
هناك تأكيد على الارتباط بالقرآن وأهل البيت صلوات الله عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وآله يشكو إلى الله المسلمين الذين هجروا القرآن «يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا»(6).
لقد كان الإمام الرضا صلوات الله عليه يختم القرآن في كلّ ثلاثة أيام ختمة كاملة، فهل نحن نقرأ في اليوم والليلة صفحة واحدة منه؟ إنّ من لايقرأ القرآن هل يمكنه أن يتمسّك به؟ ومن لا يفهم معاني القرآن هل يمكنه أن يتمسّك به؟
القرآن مُهمل مهجور عندنا كأفراد وكأمّة. لقد تحوّل القرآن الكريم ـ مع الأسف ـ إلى إحدى الكتب الهامشية.
الشيء نفسه نقوله حول العترة ووجوب التمسك بها: إن من لايعرف سيرة العترة وأحاديثها كيف يتمسّك بهم؟ الواقع مؤسف في هذا المجال أيضاً.
جرّبوا الأمر بأنفسكم، سلوا تجمّعاً فيه ألف فرد مثلاً، هل يعرفون عشرة أحاديث عن الإمام الهادي صلوات الله عليه؟ وانظروا كم بالألف يعرفون؟ لقد تحوّلت العترة إلى شيء هامشي.
هل عندنا أعظم من القرآن والنبيّ الاعظم وعترته الطاهرة؟ وكلّها على الهامش!
نُقل لي أنّ كتاباً علمياً يوجد عليه حتى الآن مئة وخمسون شرحاً مع أنه يمضي على عمره مئة عام تقريباً، هذا ونهج البلاغة يمضي عليه حوالي ألف عام ولا أظنّ أنّه يوجد عليه مئة وخمسون شرحاً، أليس هذا معناه إهمال نهج البلاغة؟
القرآن على الرفّ، ونهج البلاغة على الرفّ، والصحيفة السجادية على الرفّ، وكتاب الكافي على الرفّ.
إن من لا يعرف أحاديث العترة وسيرتهم لا يمكنه أن يتمسّك بالعترة كما ينبغي؟ فإذا لم نجعل للقرآن مرجعية ولم نجعل للعترة مرجعية، فهذا معناه أننا نعمل باجتهاداتنا أو نتلقى من المجتمع.
ولذلك صرنا نشهد هذه الأيام نظريات نُسجت في المجال الاجتماعي وفي المجال الأخلاقي والديني أو تلقّت من المجتمع، أي كان المجتمع ملاكاً لها. وهذه الاجتهادات البعيدة عن القرآن والعترة، وهذا التلّقي من المجتمع، البعيد في كثير منه عن القرآن والعترة، معناه الضلال والتيه.
يقول الله في القرآن الكريم: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»(7) والأمثلة على ذلك كثيرة. فكم عانس اليوم في بلادنا؟ هذه الأرقام المهولة التي نسمعها سببها الابتعاد عن القرآن والعترة؛ فإنّ الله تعالى يقول: «وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ»(8) والمجتمع يرفض الاستجابة. وهذه مفردة صغيرة طبعاً، والسبب أنّ عندنا ثقافة معيّنة ، فهناك عُمر معيّن وضعناه وشرائط معيّنة اشترطناها ما أنزل الله بها من سلطان.
يقول النبي صلى الله عليه وآله «إذا جاءكم من ترضَون دينه وخُلقه فزوّجوه»(9) ونحن ـ في المجتمع ـ عندنا مقايس ثانية لا ننحاز عنها.
النبي صلى الله عليه وآله يقول: «خير نساء أمتي أقلّهن مهراً»(10)، وقد تزوج صلى الله عليه وآله جميع نسائه بمهر السنّة وهو خمسمائة درهم(11)، وهكذا كان حال أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم، ونحن ـ في مجتمعاتنا ـ لا نتعامل بثقافة مهر السنّة، والنتيجة ملايين من العوانس والعزّاب في البيوت؛ فأيّ ظلم هذا وأيّ ضلال!
وفي الحياة العامّة يرشدنا الله تعالى إلى الطريق الصحيح ويقول: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(12) ـ في غير منطقة النص طبعاً، فقضيّة الإمامة كالنبوّة بالنص وليس كلامنا في منطقة النصّ الالهي ـ في حين ابتعدت كل أنظمتنا السياسية والحاكمة على مدى التاريخ عن هذه الآية الكريمة. المهمّ ليس للشورى وجود في حياتنا السياسة اليوم، ولذلك نعيش في التخلّف ونبقى فيه، فيما الغرب حقّق بعض التقدّم لأنه أخذ بجانب من جوانب هذه الآية وهو قانون الشورى، كما عمل بقانون الحريات وقوانين إسلامية أخرى مثل: «الأرض لله ولمن عمّرها»(13) وقانون «من سبق إلى من لا يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به»(14).
كلّ هذه القوانين ملغاة عندنا اليوم، وإنما نحن ـ كدول وكمجتمعات وكأفراد ـ نعمل بآرائنا. قال الله ونقول.
يقول الله: بكّروا في الزواج. ونقول كلا.
يقول الله: «إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ»(15) ونقول: من أين؟
يقول الله على لسان نبيّه: «من جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه»(16) ونحن نرفض. فصرنا نشهد هذه المشكلات التي تعجّ بها مجتمعاتنا.
مثلاً: امرأة يموت زوجها وهي شابّة فالمجتمع يفرض عليها أن تبقى إلى آخر عمرها خليّة؛ فأيّ نوع من الضلال في الواقع والضياع في المجتمع هذا؟!
يروى عن الإمام الباقر عليه السلام أنه كان يقول: «لا أحبّ أن لي الدنيا وما فيها، وأني أبيت ليلة ليس لي زوجة»(17).
انظروا في تاريخ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أيّما مرأة مات زوجها كان يتزوّجها شخص آخر.
وهكذا كان علماؤنا رضوان الله تعالي عليهم.
كان يحضر درس الشيخ جعفر كاشف الغطاء ـ هذا العالمِ الكبير ـ شابّ قد أتى من إصفهان يقال له الشيخ محمد تقي وكان شابّاً غريباً، فسأله الشيخ كاشف الغطاء في يوم من الأيّام: هل عندك زوجة؟ قال: لا فمن يزوّج شخصاً غريباً فقيراً؟ فقال الشيخ كاشف الغطاء لتلاميذه: انتظروني ريثما أعود، ثم اصطحب الشيخ محمد تقي إلى بيته وقال له: عندي بنتان، بنت في غاية الجمال، وبنت في غاية الكمال، فاختر إحداهما، فقال الشيخ محمد تقي: أختار التي في غاية الكمال. ثم رجع الشيخ إلى البحث، وبعد أخذ الموافقة من البنت زوّجها منه.
هذه هي الثقافة القرآنية، لكن للمجتمع اليوم ثقافة ثانية غير ثقافة القرآن وثقافة أهل البيت عليهم السلام. فما قام به الشيخ كاشف الغطاء يعدّ اليوم من أكبر العيوب في نظر المجتمع، والنتيجة التي يجنيها المجتمع من بُعده عن الكتاب والعترة هي الضلال السياسي والضلال الاقتصادي والاجتماعي والضلال في كلّ الأبعاد.
إن حكوماتنا في ضلال، ومجتمعاتنا في ضلال، وأفرادنا في ضلال. إننا لا نقصد الجميع بالطبع، لكن هذه هي الصبغة العامة.
إن مجتمعنا مصاب بأمراض نفسية، والقرآن رؤية. قال تعالي: «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ»(18) وهو «فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ»(19). ورد في نهج البلاغة: «ويستشيرون به دواء دائهم»(20) وفي دعاء كميل أيضاً: «يا من اسمه دواء وذكره شفاء»(21). وهذا ملموس لمن يقرأ القرآن ويستشفي به.
إنّ بعض علماء النفس الجدد يعتقدون أنّ أفضل علاج للأمراض النفسية هي الكلمة، فكيف إذا كانت كلمة الله؟!
هذا في حين إن إحدى الأشياء المهمّة المهملة اليوم هي كلمات الله المتمثّلة بالقرآن الكريم والأحاديث القدسية، وهي مؤثرة إلى أبعد الحدود. وهذا هو الحرمان الحقيقي.
نقلوا عن المحدّث القمي رحمة الله عليه (مؤلف كتاب مفاتيح الجنان) قصّة عجيبة بهذا الشأن. لقد أفنى المحقّق القمي عمره في مطالعة أحاديث أهل البيت. قرأت في أحد الكتب أنّه قضى لكتابة «سفينة البحار» في مجلدين، خمسة وثلاثين عاماً من عمره، وهو كتاب عظيم قيل إن بعض العلماء الغربيين عندما رأى هذا الكتاب قال: إنه عمل لجنة فكيف قام به فرد واحد!
وقيل إنه طالع بحار الأنوار مرّتين لهذا الغرض ـ أي مئتين وعشرين مجلداً تقريباً ـ فكان كتاب «سفينة البحار» من أفضل الكتب النافعة.
قالوا: إنه استيقظ من المنام ذات يوم وإذا بعينه تؤلمه. يقول ابنه: رأيته غير مشغول بعمله وقال: اليوم عيني تؤلمني ولا أتمكّن أن أطالع أحاديث أهل البيت. وأضاف (المحدّث القمي) والألم باد على وجهه: أخاف أن أكون قد طُردت من ساحة أهل البيت عليهم السلام لأنّي اليوم محروم من مطالعة وكتابة أحاديثهم.
أجل إن من لايقرأ القرآن مطرود من رحمة الله، ومن لا يقرأ احاديث أهل البيت عليهم السلام مطرود من رحمة الله، ومن لا يقرأ نهج البلاغة والصحيفة السجادية مطرود من رحمة الله.
قال: أنا أخاف أن أكون قد طُردت. وكان متألّماً جداً.
يقول ابنه: ذهبت ثم عدت إلى البيت ورأيت الكتب والأوراق محيطة به وهو في حال الكتابة أو المطالعة فقلت له: ما الذي حدث؟ قال: في الواقع بعدما خرجت أنت ذهبت أنا وتوضّأت وجلست مستقبل القبلة وأخذت كتاب الكافي(22) ومسحته على عيني بنيّة الاستشفاء، وشُفيت وأنا الآن مشغول بالكتابة.
كتبوا في أحوال المحدّث القمي بعد ذلك أنه لم يعد إليه وجع العين إلى آخر حياته.
انظروا هذه العقيدة ولاحظوا هذا التوفيق، فهل نحن كذلك؟ إنّ كتاب الكافي إما غير موجود في بيوتنا أو على الرفّ يغطّيه الغبار.
وينقل أيضاً في أحوال المحدّث القمي رحمة الله عليه أنه كان عنده طفل عمره ثلاثة أعوام فمرض فجاءوا إليه بدواء، فوضع المحدّث القمي إصبعه في الإناء وأخذ يعطيه للطفل، فقالت له زوجته: اصبر لكي أجلب لك الملعقة. قال: كلا إنما وضعت يدي للاستشفاء لأني كتبت بهذه الإصبع آلافاً من أحاديث أهل البيت عليهم السلام. فاليد التي تكتب أحاديث أهل البيت عليهم السلام تكون شفاء، كما أنّ القلب الذي هو محلّ معارف أهل البيت يكون قلباً نورانياً.
روي عن الامام الباقر صلوات الله عليه أنه قال: «إعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا»(23)، فإن المعرفة هي الدراية للرواية. كم نعرف نحن من الروايات لنعرف منزلتنا؟!
في هذه العطلة ينبغي أن نعود إلى الأصول: القرآن الكريم وتفسيره، نهج البلاغة، الصحيفة السجادية، كتاب الكافي، بحار الأنوار وغيرها من الكتب. هذا هو البرنامج الثاني.
البرنامج الثالث: برنامج للمساهمة في عملية التغيير الاجتماعي
نحن نعيش اليوم واقعاً متخلّفاً في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والدينية، فلنعدّ برنامجاً للمساهمة في عملية التغيير.
أما هل نتمكن فهذا أيضاً يعود لنظام القناعات.
هنالك ثلاث كلمات أذكرها على نحو الاختصار تنفع في هذا المجال.
الكلمة الأولى: كان أحد العلماء ينقل عن مفكّر أنه كان يقول إنني أؤمن بالواحد، أي الواحد يتمكن أن يشتغل كثيراً.
الكلمة الثانية: كان يقولها أحد العلماء أيضاً وهي أن كثيراً من التحولات التاريخية كان وراءها أفراد، أي فرد واحد وراء تحوّل تاريخي.
من الذي أوجد التحوّل في الهند؟ فردان: الملاّ عناية الله ورفيقه.
من الذي أوجد التحوّل في الفليبين؟ فرد كان يسمى عبد الله المكّي.
من الذي أوجد التحوّل في تايلند؟ فرد واحد هو أحمد القمي الذي كان يعيش هنا في قم.
من الذي أوجد التحوّل في ايران؟ فرد واحد هو العلامة الحلّي.
وهكذا فإنّ كثيراً من التحوّلات التاريخية كان وراءها أفراد.
الكلمة الثالثة ـ أضيفها إلى هاتين الكلمتين المأثورتين ـ : هي أن كثيراً من هؤلاء الأفراد كانوا أفراداً مستضعفين.
نقل لي أحد الخطباء قال: جاء أحد العلماء إلى طهران وكان العلامة الأميني ـ الذي خدم الأمة تلك الخدمة الكبرى بتأليفه كتاب الغدير ـ هناك فلم يُضيّفه. وعندما سأله: لِم لم تضيّفني؟ قال: في الواقع لم أكن أملك ثمن ضيافتك.
هنالك تعريف مشهور للعلامة الأميني وهو: الرجل الذي ألّف الغدير، وهذا تعريف ثانٍ له: الرجل الذي لم يكن يملك ثمن ضيافة زميله.
أجل، الذين كانوا وراء التحوّلات التاريخية الكبرى لعلّ أكثرهم أو كثيراً منهم كانوا أفراداً مستضعفين، ولكن بالهمّة وبالقناعة وبالتوكّل على الله تمكّنوا أن يحقّقوا هذه التحوّلات.
نحن أيضاً إن شاء الله إذا توكّلنا على الله واستمددنا منه ومن أوليائه، نتمكّن بإذن الله أن نساهم في صناعة التحوّلات التاريخية.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
--------------------------------------------------------------------------------
* ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ 22/ جمادى الأولى، وكانت آخر محاضرة ألقاها قدس سره الشريف قبل أن يلبي نداء ربه في 26/ جمادى الأولى 1429 هـ

شبل الامام السيستاني
09-07-2009, 04:51 PM
http://shup.com/Shup/184137/-%C7%CE%ED.gif