منتظر نعيم
11-07-2009, 10:03 PM
http://www.h-marafi.org/AmooNasser/background/gif/z-besm.gif
قالوا في نهج البلاغة
البلاغة
مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ
تمام نهج
ظهير الدين علي بن زيد البيهقي:
هذا الكتاب النفيس « نهج البلاغة » مملو من ألفاظ يتهذّب بها المتحدث، ويتدرّب بها المتكلّم، فيه من القول أحسنه، ومن المعاني أرصنه، كلام أحلى من نغم القيان، وأبهى من نعم الجنان، كلام مطلعه كسنة البدر، ومشرعه مورد أهل الفضل والقدر، وكلمات وشْيُها خبر، ومعانيها فقر، وخطب مقاطعها غرر، ومباديها درر، استعاراتها تحكي غمرات الألحاظ المراض، ومواعظها تعبّر عن زهرات الرياض، جمع قائل هذا الكلام بين ترصيع بديع، وتحنيس أنيس، وتطبيق أنيق.
فللّه درّ خاطر عن مخائل الرّشد ماطر، وعين الله على كلام إمام ورث الفضائل كابرا عن كابر، ولا غرو للروض الناضر إذا انهلّت فيه عزالي الأنواء أن يخضرّ رُباه، ويفوح ريّاه، ولا للساري في مسالك نهج البلاغة أن يحمد عند الصباح سراه، ولا لمجيل قداح الطهارة اذا صدّقه رائد التوفيق والإلهام أن يفوز بقدحي المعلّى والرقيب، ويمتطي غوارب كل حظّ ونصيب.
ولا شك أن أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب عليه السلام كان باب مدينة العلوم، فما نقول في سقط انفضّ من زند خاطره الوادي، وغيض بدا من فيض نهره الجاري، لا بل في شعلة من سراجه الوهّاج، وغرفة من بحره الموّاج، وقطرة من سحاب علمه الغزير، ولا ينبّئك مثل خبير.
إبن أبي الحديد:
كثير من أرباب الهوى يقولون : إن كثيرا من « نهج البلاغة » كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن أو غيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بينات الطريق[1]، ضلالا وقلّة معرفة بأساليب الكلام.
وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول:
لا يخلو إما أن يكون كلّ « نهج البلاغة » مصنوعا منحولا، أو بعضه.
والأول باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحة استناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدّثون -كلّهم أوجلّهم-، والمؤرّخون كثيرا منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدلّ على ما قلناه، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفا من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد. وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاما لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقين، ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفسه، وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه في الشعر وكذلك حذفوا من شعر أبي نوّاس كثيرا، لمّا ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصة.
وأنت إذا تأملت « نهج البلاغة » وجدته ماء واحدا، ونفسا واحدا، وأسلوبا واحدا، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز، أوّله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبدا، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذا ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والآداب وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي وآله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسلين والخطباء، فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من « نهج البلاغة » وغيره، وهذا واضح.
الشيخ محمود شكري الآلوسي:
هذا كتاب « نهج البلاغة » قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهيّ، وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبويّ.
الأستاذ محمد حسن نائل المرصفي:
« نهج البلاغة » ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن عليا كان أحسن مثال حيّ لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته.
إجتمع لعليّ في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربّانيّين، من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر.
خاض عليّ في هذا الكتاب لجّة العلم، والسياسة والدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرّزا، ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس في وسع الكاتب المترسّل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق، أن يبلغ الغاية من وصفه، أو النهاية من تقريظه.
وحسبنا أن نقول: أنه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.
الشيخ ناصيف اليازجي يوصي ولده الشيخ إبراهيم:
إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن و« نهج البلاغة ».
الشيخ أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي:
« نهج البلاغة » الكتاب المشهور الذي جمع فيه السيد الرضي الموسوي خطب الأمير كرّم الله وجهه، وكتبه، ومواعظه، وحكمه، وسمّي « نهج البلاغة » لما أنه قد اشتمل على كلام يخيّل أنه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق عزّ وجلّ، قد اعتنق مرتبة الإعجاز، وابتدع أبكار الحقيقة والمجاز. ولله درّ الناظم حيث يقول فيه:
ألا إن هذا السفر ( نهج البلاغة ) لمنتهج العرفان مسلكه جليّ
على قمم من آل حرب ترفّعت كجلمود صخر حطّه السيل من « علي »
الدكتور زكي مبارك:
لا مفرّ من الاعتراف بأن « نهج البلاغة » له أصل، وإلاّ فهو شاهد على أن الشيعة كانوا من أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ. إني لأعتقد أن النظر في كتاب « نهج البلاغة » يورث الرّجولة والشهامة وعظمة النفس، لأنه من روح قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود.
الأستاذ أمين نخلة:
إذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقُبل عليه في « النهج » من الدفّة إلى الدفّة وليتعلّم المشي على ضوء « نهج البلاغة ».
الأستاذ عباس محمود العقّاد:
في كتاب « نهج البلاغة » فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتّسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكم التوحيد.
الأستاذ محمد أمين النواوي:
حفظ علي القرآن كلّه، فوقف على أسراره، واختلط به لحمه ودمه، والقارئ يرى ذلك في « نهج البلاغة » ويلمس فيه مقدار استفادة علي من بيانه وحكمته، وناهيك بالقرآن مؤدّبا ومهذّبا، يستنطق البكيء الأبكم فيفتق لسانه بالبيان الساحر، والفصاحة العالية، فكيف إذا كان مثل عليّ في خصوبته، وعبقريته، واستعداده ممن صفت نفوسهم، وأعرضوا عن الدنيا، وأخلصوا للدين، فجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، متدفقة على ألسنتهم، كالميحطات تجري بالسلس العذب من الكلمات ؟.
وهل كان الحسن البصري في زواجر وعظه، وبالغ منطقه إلا أثرا من علي، وقطرة من محيط أدبه، ففتن الناس بعبادته، وخلّب ألبابهم بجمله، فكيف يكون الأستاذ العليم، والإمام الحكيم، علي ابن أبي طالب؟.
لقد كان عليّ في خطبه المتدفّقة يمثل بحرا خضما من العلماء الربّانيّين وأسلوبا جديدا لم يكن إلاّ لسيّد المرسلين، وطرق بحوثا من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلا لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه وسلست في منطقه وأدبه.
وخاض في أسرار الكون، وطبائع الناس، وتشريح النفوس، وبيان خصائصها وأصنافها، وعرض لمداخل الشيطان ومخارجه، وفتن الدنيا وآفاتها، في الموت وأحواله، وفي بدء الخلق، ووصف الأرض، وفي شأن السماء وما يعرج فيها من أملاك، وما يحفّ بها من أفلاك، كما عرض لملك الموت، وأطال في وصفه.
وخطب عليّ في السياسة، وفي شؤون البيعة والعهد والوفاء، واختيار الأحقّ وما أحاط بذلك من ظروف وصروف، كتحكيم صفّين وما تبعه من آثار سيئة وتفرّق الكلمة.
ولم يفته أن ينوّه في خطبه بأنصار الحقّ، وأعوان الخير، والدعوة إلى الجهاد، وفيها محاجّه للخوارج، ونصحه لهم ولأمثالهم باتّباع الحق، وغير ذلك مما يكفي فيه ضرب المثل، ولفت النظر.
وغير أن ناحية عجيبة امتاز بها الإمام، هي ما اختصّ بها الصفوة من الأنبياء ومن على شاكلتهم، كانت تظهر في بعض تجلّياته، وأشار إليها في بعض مقاماته، ولم يسلك فيها سواه إلاّ أن يكون رسول الله صلوات الله عليه، فقد ذكر كثيرا من مستقبل الأمّة، وأورد ما يكون لبعض أحزابها كالخوارج وغيرهم، ومن ذلك وصفه لصاحب الزنج وذكر الكثير من أحواله، وذلك من غير شكّ لون من الكرامات.
هذا إلى أنه طرق نواحي من القول كانت من خواصّ الشعر إذ ذاك، ولكنه ضمّنها خطبه، فوصف الطبّ، وعرض للخفّاش وما فيه من عجائب، والطاووس وما يحويه من أسرار، وما في الإنسان من عجائب الخلق، وآيات المبدع الحق، وأحيلك في ذلك كله على « نهج البلاغة ».
وهكذا تجد في كلام علي، الدين والسياسة، والأدب، والحكمة، والوصف العجيب، والبيان الزاخر.
هذا كتاب علي إلى شريح القاضي يعظه، وقد اشترى دارا، ويحذّره من مال المسلمين، في معان عجيبة، وأسلوب خلاّب.
وهذا كتابه إلى معاوية يجادله في الأحقّ بالخلافة، وقتل عثمان، في معان لا يحسنها سواه.
وتلك كتبه إلى العاملين على الصدقات يعلّمهم فيها واجباتهم في جميع ملابساتهم.
وذلك عهده إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر، [ وعهده للأشتر ].
وتلك وصيته الى الحسن عند منصرفه من صفّين لم يدع فيها معنى تتطلّبه الحياة لمثله إلاّ وجّهه فيها أسمى توجيه، في فلسفة خصيبة، وحكم رائعة مفيدة، وكل تلك النواحي والأغراض في معان سامية مبسّطة، يعلو بها العالم الربّاني الغزير، والروح السامية الرفيعة، وتدنو بها القوة الجبّارة على امتلاك أزمّة القول، كأنّما نثل كنانته بين يديه فوضع لكل معنى لفظة في أدقّ استعمال.
ولقد يضيق بي القول فأقف حائرا عاجزا عن شرح ما يجول بنفسي من تقدير تلك المعاني السامية، فيسعدني تصوير الإمام له وهو يقدّم « نهج البلاغة »، فكان يخيّل إليّ في كل مقام أن حروبا شبّت، وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة.
أما ألأسلوب فيتجلى لك بما يأتي:
( 1 ) الثروة من الألفاظ العربية في مفردها وجمعها، ومذكّرها ومؤنّثها، وحقيقتها ومجازها.
( 2 ) المجازات والكنايات في معرض أنيق، وقالب بديع.
( 3 ) الإيجاز الدقيق مع الإطناب في مقامه، ويظهر ذلك في فقره، وسجعاته الفريدة، التي يجمل بكل أديب أن يحفظ الكثير منها، ليكون بيانه التكوين العربي السليم.
( 4 ) المحسّنات البديعة في نمط ممتاز، من جناس إلى طباق وترصيع، وإلى قلب وعكس، تزدان بجمالها البلاغة، ويكمل بها حسن الموقع.
( 5 ) الجرس والموسيقى، وجمال الإيقاع، مما يدركه أهل الذوق الفني.
ويحسن قبل الختام أن أشير إلى ما نوّه به صاحب « الطراز » الإمام يحيى اليمني، فقد تكرر ذلك في عدة مناسبات وأولها تمثيله للبلاغة في أول كتابه، قال -وهو في ذلك الصدد-:
« فمن معنى كلامه ارتوى كل مصقع خطيب، وعلى منواله نسج كل واعظ بليغ، إذ كان عليه السلام مشرّع البلاغة، وموردها، ومحطّ البلاغة ومولدها، وهيدب مزنها الساكب، ومتفجّر ودقها الهاطل، وعن هذا قال أمير المؤمنين في بعض كلامه: نحن أمراء الكلام، وفينا تشبثت عروقه، وعلينا تهدّلت أغصانه، ثم أورد مثالا من أول خطبة في « نهج البلاغة »، وقال: العجب من علماء البيان والجماهير من حذّاق المعاني كيف أعرضوا عن كلامه وهو الغاية التي لا مرتبة فوقها، ومنتهى كل مطلب، وغاية كل مقصد، في جميع ما يطلبونه، من المجازات والتمثيل والكنايات؟.
وقد أثر عن فارس البلاغة، وأمير البيان، الجاحظ، انه قال: ما قرع سمعي كلام بعد كلام الله، وكلام رسوله إلاّ عارضته، إلاّ كلمات لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فما قدرت على معارضتها، وهي مثل قوله: « ما هلك امرؤ عرف قدره » و « استغن عمّن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ».
الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد:
« نهج البلاغة » هو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الكتاب الذي ضمّ بين دفّتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة، ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منطقا، وأشدهم اقتدارا، وأبرعهم حجّة، وأملكهم للّغة يديرها كيف شاء، الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه، والخطيب الذي يملأ القلب سحر بيانه، والعالم الذي تهيّأ له من خلاط الرسول، وكتابة الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته، ما لم يتهيأ لأحد سواه.
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
قد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب « نهج البلاغة » مصادفة بلا تعمّل، فتصفّحت بعض صفحاته، وتأملت جملا من عباراته، فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبّت، وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة، وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الدرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج بروّاضع الحجج، فتقلّ من دعارة الوساوس. وتصيب مقاتل الخوانس. فما أنا إلاّ والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج الشكّ في خمود، وهرج الريب في ركود، وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصّولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد: فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها، وتنفّر بها عن مداحض المزالق، إلى جوادّ الفضل والكمال.
وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح النمور، ومخالب النسور، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها وأخذت الخواطر دون مرماها، واختالت فاسد الأهواء، وباطل الآراء.
وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي، واتّصل بالروح الإنساني، فخلع عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب، ويحذّرهم مزالق الأضراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة، ويصعّدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير.
ذلك الكتاب: الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي -رحمه الله- من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرّقه وسمّاه « نهج البلاغة »، ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيّته فوق ما أتي به صاحب الاختيار.
ولو أردنا أن نأتي بكل ما قيل في نهج البلاغة لطال بنا المقام، وحسبك يا قارئ الكتاب ما ذكرنا شهادة وبرهانا.
[1] البنيّات : أصله الطرق الصغار تتشعب من الجادّة، ثم أطلقت على الترهات
قالوا في نهج البلاغة
البلاغة
مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ
تمام نهج
ظهير الدين علي بن زيد البيهقي:
هذا الكتاب النفيس « نهج البلاغة » مملو من ألفاظ يتهذّب بها المتحدث، ويتدرّب بها المتكلّم، فيه من القول أحسنه، ومن المعاني أرصنه، كلام أحلى من نغم القيان، وأبهى من نعم الجنان، كلام مطلعه كسنة البدر، ومشرعه مورد أهل الفضل والقدر، وكلمات وشْيُها خبر، ومعانيها فقر، وخطب مقاطعها غرر، ومباديها درر، استعاراتها تحكي غمرات الألحاظ المراض، ومواعظها تعبّر عن زهرات الرياض، جمع قائل هذا الكلام بين ترصيع بديع، وتحنيس أنيس، وتطبيق أنيق.
فللّه درّ خاطر عن مخائل الرّشد ماطر، وعين الله على كلام إمام ورث الفضائل كابرا عن كابر، ولا غرو للروض الناضر إذا انهلّت فيه عزالي الأنواء أن يخضرّ رُباه، ويفوح ريّاه، ولا للساري في مسالك نهج البلاغة أن يحمد عند الصباح سراه، ولا لمجيل قداح الطهارة اذا صدّقه رائد التوفيق والإلهام أن يفوز بقدحي المعلّى والرقيب، ويمتطي غوارب كل حظّ ونصيب.
ولا شك أن أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب عليه السلام كان باب مدينة العلوم، فما نقول في سقط انفضّ من زند خاطره الوادي، وغيض بدا من فيض نهره الجاري، لا بل في شعلة من سراجه الوهّاج، وغرفة من بحره الموّاج، وقطرة من سحاب علمه الغزير، ولا ينبّئك مثل خبير.
إبن أبي الحديد:
كثير من أرباب الهوى يقولون : إن كثيرا من « نهج البلاغة » كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن أو غيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بينات الطريق[1]، ضلالا وقلّة معرفة بأساليب الكلام.
وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول:
لا يخلو إما أن يكون كلّ « نهج البلاغة » مصنوعا منحولا، أو بعضه.
والأول باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحة استناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدّثون -كلّهم أوجلّهم-، والمؤرّخون كثيرا منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدلّ على ما قلناه، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفا من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد. وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاما لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقين، ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفسه، وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه في الشعر وكذلك حذفوا من شعر أبي نوّاس كثيرا، لمّا ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصة.
وأنت إذا تأملت « نهج البلاغة » وجدته ماء واحدا، ونفسا واحدا، وأسلوبا واحدا، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز، أوّله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبدا، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذا ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والآداب وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي وآله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسلين والخطباء، فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من « نهج البلاغة » وغيره، وهذا واضح.
الشيخ محمود شكري الآلوسي:
هذا كتاب « نهج البلاغة » قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهيّ، وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبويّ.
الأستاذ محمد حسن نائل المرصفي:
« نهج البلاغة » ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن عليا كان أحسن مثال حيّ لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته.
إجتمع لعليّ في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربّانيّين، من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر.
خاض عليّ في هذا الكتاب لجّة العلم، والسياسة والدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرّزا، ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس في وسع الكاتب المترسّل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق، أن يبلغ الغاية من وصفه، أو النهاية من تقريظه.
وحسبنا أن نقول: أنه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.
الشيخ ناصيف اليازجي يوصي ولده الشيخ إبراهيم:
إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن و« نهج البلاغة ».
الشيخ أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي:
« نهج البلاغة » الكتاب المشهور الذي جمع فيه السيد الرضي الموسوي خطب الأمير كرّم الله وجهه، وكتبه، ومواعظه، وحكمه، وسمّي « نهج البلاغة » لما أنه قد اشتمل على كلام يخيّل أنه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق عزّ وجلّ، قد اعتنق مرتبة الإعجاز، وابتدع أبكار الحقيقة والمجاز. ولله درّ الناظم حيث يقول فيه:
ألا إن هذا السفر ( نهج البلاغة ) لمنتهج العرفان مسلكه جليّ
على قمم من آل حرب ترفّعت كجلمود صخر حطّه السيل من « علي »
الدكتور زكي مبارك:
لا مفرّ من الاعتراف بأن « نهج البلاغة » له أصل، وإلاّ فهو شاهد على أن الشيعة كانوا من أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ. إني لأعتقد أن النظر في كتاب « نهج البلاغة » يورث الرّجولة والشهامة وعظمة النفس، لأنه من روح قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود.
الأستاذ أمين نخلة:
إذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقُبل عليه في « النهج » من الدفّة إلى الدفّة وليتعلّم المشي على ضوء « نهج البلاغة ».
الأستاذ عباس محمود العقّاد:
في كتاب « نهج البلاغة » فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتّسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكم التوحيد.
الأستاذ محمد أمين النواوي:
حفظ علي القرآن كلّه، فوقف على أسراره، واختلط به لحمه ودمه، والقارئ يرى ذلك في « نهج البلاغة » ويلمس فيه مقدار استفادة علي من بيانه وحكمته، وناهيك بالقرآن مؤدّبا ومهذّبا، يستنطق البكيء الأبكم فيفتق لسانه بالبيان الساحر، والفصاحة العالية، فكيف إذا كان مثل عليّ في خصوبته، وعبقريته، واستعداده ممن صفت نفوسهم، وأعرضوا عن الدنيا، وأخلصوا للدين، فجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، متدفقة على ألسنتهم، كالميحطات تجري بالسلس العذب من الكلمات ؟.
وهل كان الحسن البصري في زواجر وعظه، وبالغ منطقه إلا أثرا من علي، وقطرة من محيط أدبه، ففتن الناس بعبادته، وخلّب ألبابهم بجمله، فكيف يكون الأستاذ العليم، والإمام الحكيم، علي ابن أبي طالب؟.
لقد كان عليّ في خطبه المتدفّقة يمثل بحرا خضما من العلماء الربّانيّين وأسلوبا جديدا لم يكن إلاّ لسيّد المرسلين، وطرق بحوثا من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلا لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه وسلست في منطقه وأدبه.
وخاض في أسرار الكون، وطبائع الناس، وتشريح النفوس، وبيان خصائصها وأصنافها، وعرض لمداخل الشيطان ومخارجه، وفتن الدنيا وآفاتها، في الموت وأحواله، وفي بدء الخلق، ووصف الأرض، وفي شأن السماء وما يعرج فيها من أملاك، وما يحفّ بها من أفلاك، كما عرض لملك الموت، وأطال في وصفه.
وخطب عليّ في السياسة، وفي شؤون البيعة والعهد والوفاء، واختيار الأحقّ وما أحاط بذلك من ظروف وصروف، كتحكيم صفّين وما تبعه من آثار سيئة وتفرّق الكلمة.
ولم يفته أن ينوّه في خطبه بأنصار الحقّ، وأعوان الخير، والدعوة إلى الجهاد، وفيها محاجّه للخوارج، ونصحه لهم ولأمثالهم باتّباع الحق، وغير ذلك مما يكفي فيه ضرب المثل، ولفت النظر.
وغير أن ناحية عجيبة امتاز بها الإمام، هي ما اختصّ بها الصفوة من الأنبياء ومن على شاكلتهم، كانت تظهر في بعض تجلّياته، وأشار إليها في بعض مقاماته، ولم يسلك فيها سواه إلاّ أن يكون رسول الله صلوات الله عليه، فقد ذكر كثيرا من مستقبل الأمّة، وأورد ما يكون لبعض أحزابها كالخوارج وغيرهم، ومن ذلك وصفه لصاحب الزنج وذكر الكثير من أحواله، وذلك من غير شكّ لون من الكرامات.
هذا إلى أنه طرق نواحي من القول كانت من خواصّ الشعر إذ ذاك، ولكنه ضمّنها خطبه، فوصف الطبّ، وعرض للخفّاش وما فيه من عجائب، والطاووس وما يحويه من أسرار، وما في الإنسان من عجائب الخلق، وآيات المبدع الحق، وأحيلك في ذلك كله على « نهج البلاغة ».
وهكذا تجد في كلام علي، الدين والسياسة، والأدب، والحكمة، والوصف العجيب، والبيان الزاخر.
هذا كتاب علي إلى شريح القاضي يعظه، وقد اشترى دارا، ويحذّره من مال المسلمين، في معان عجيبة، وأسلوب خلاّب.
وهذا كتابه إلى معاوية يجادله في الأحقّ بالخلافة، وقتل عثمان، في معان لا يحسنها سواه.
وتلك كتبه إلى العاملين على الصدقات يعلّمهم فيها واجباتهم في جميع ملابساتهم.
وذلك عهده إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر، [ وعهده للأشتر ].
وتلك وصيته الى الحسن عند منصرفه من صفّين لم يدع فيها معنى تتطلّبه الحياة لمثله إلاّ وجّهه فيها أسمى توجيه، في فلسفة خصيبة، وحكم رائعة مفيدة، وكل تلك النواحي والأغراض في معان سامية مبسّطة، يعلو بها العالم الربّاني الغزير، والروح السامية الرفيعة، وتدنو بها القوة الجبّارة على امتلاك أزمّة القول، كأنّما نثل كنانته بين يديه فوضع لكل معنى لفظة في أدقّ استعمال.
ولقد يضيق بي القول فأقف حائرا عاجزا عن شرح ما يجول بنفسي من تقدير تلك المعاني السامية، فيسعدني تصوير الإمام له وهو يقدّم « نهج البلاغة »، فكان يخيّل إليّ في كل مقام أن حروبا شبّت، وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة.
أما ألأسلوب فيتجلى لك بما يأتي:
( 1 ) الثروة من الألفاظ العربية في مفردها وجمعها، ومذكّرها ومؤنّثها، وحقيقتها ومجازها.
( 2 ) المجازات والكنايات في معرض أنيق، وقالب بديع.
( 3 ) الإيجاز الدقيق مع الإطناب في مقامه، ويظهر ذلك في فقره، وسجعاته الفريدة، التي يجمل بكل أديب أن يحفظ الكثير منها، ليكون بيانه التكوين العربي السليم.
( 4 ) المحسّنات البديعة في نمط ممتاز، من جناس إلى طباق وترصيع، وإلى قلب وعكس، تزدان بجمالها البلاغة، ويكمل بها حسن الموقع.
( 5 ) الجرس والموسيقى، وجمال الإيقاع، مما يدركه أهل الذوق الفني.
ويحسن قبل الختام أن أشير إلى ما نوّه به صاحب « الطراز » الإمام يحيى اليمني، فقد تكرر ذلك في عدة مناسبات وأولها تمثيله للبلاغة في أول كتابه، قال -وهو في ذلك الصدد-:
« فمن معنى كلامه ارتوى كل مصقع خطيب، وعلى منواله نسج كل واعظ بليغ، إذ كان عليه السلام مشرّع البلاغة، وموردها، ومحطّ البلاغة ومولدها، وهيدب مزنها الساكب، ومتفجّر ودقها الهاطل، وعن هذا قال أمير المؤمنين في بعض كلامه: نحن أمراء الكلام، وفينا تشبثت عروقه، وعلينا تهدّلت أغصانه، ثم أورد مثالا من أول خطبة في « نهج البلاغة »، وقال: العجب من علماء البيان والجماهير من حذّاق المعاني كيف أعرضوا عن كلامه وهو الغاية التي لا مرتبة فوقها، ومنتهى كل مطلب، وغاية كل مقصد، في جميع ما يطلبونه، من المجازات والتمثيل والكنايات؟.
وقد أثر عن فارس البلاغة، وأمير البيان، الجاحظ، انه قال: ما قرع سمعي كلام بعد كلام الله، وكلام رسوله إلاّ عارضته، إلاّ كلمات لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فما قدرت على معارضتها، وهي مثل قوله: « ما هلك امرؤ عرف قدره » و « استغن عمّن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ».
الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد:
« نهج البلاغة » هو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الكتاب الذي ضمّ بين دفّتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة، ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منطقا، وأشدهم اقتدارا، وأبرعهم حجّة، وأملكهم للّغة يديرها كيف شاء، الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه، والخطيب الذي يملأ القلب سحر بيانه، والعالم الذي تهيّأ له من خلاط الرسول، وكتابة الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته، ما لم يتهيأ لأحد سواه.
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
قد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب « نهج البلاغة » مصادفة بلا تعمّل، فتصفّحت بعض صفحاته، وتأملت جملا من عباراته، فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبّت، وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة، وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الدرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج بروّاضع الحجج، فتقلّ من دعارة الوساوس. وتصيب مقاتل الخوانس. فما أنا إلاّ والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج الشكّ في خمود، وهرج الريب في ركود، وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصّولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد: فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها، وتنفّر بها عن مداحض المزالق، إلى جوادّ الفضل والكمال.
وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح النمور، ومخالب النسور، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها وأخذت الخواطر دون مرماها، واختالت فاسد الأهواء، وباطل الآراء.
وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي، واتّصل بالروح الإنساني، فخلع عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب، ويحذّرهم مزالق الأضراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة، ويصعّدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير.
ذلك الكتاب: الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي -رحمه الله- من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرّقه وسمّاه « نهج البلاغة »، ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيّته فوق ما أتي به صاحب الاختيار.
ولو أردنا أن نأتي بكل ما قيل في نهج البلاغة لطال بنا المقام، وحسبك يا قارئ الكتاب ما ذكرنا شهادة وبرهانا.
[1] البنيّات : أصله الطرق الصغار تتشعب من الجادّة، ثم أطلقت على الترهات