امير الرافدين البصراوي
06-08-2006, 06:14 AM
رؤية في أسلوب نهج البلاغة
خصوصية النص :
إنّ القيمة الأساسية للنص في خطب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ورسائله ، ماثلة في حضور الإبداع النصّي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويَين : الشفهي والتحريري ، وتلك ميزة نادرة يتفرّد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة .
وهي مزيّة تجعله في المقدّمة من جميع كتّاب النصوص المبرَّزين ، ذلك لأنّ أولئك الكتّاب مثلهم مثل الرسّامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم بعد طول تأمل وتخطيط وممارسة ، وبعد مراجعات نقدية متواترة ، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية على صعيد العمل .
وكان الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعفويته الثاقبة ، يباشر عمله الإبداعي الفوري ، فيأتي النص المرتجل ، مثل النص المكتوب ، آيةً في الإتقان والروعة .
ومن الثابت أنّ جريان خطب علي ( عليه السلام ) على نحوه الباهر في طوله وقصره ، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع موهوب ، هو السيّد المؤكّد في عالم العقول .
لا يمكن أن تتوفّر تلك الخصوصية لقوّة النص في المخاطبة الارتجالية ، وفي الكتابة لشخص آخر غير علي بن أبي طالب ، الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة ، تتلاقح فيما بينها بجدليةٍ خِصبة .
ورغم أنّ الخطاب عند علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) خطاب سياسي ، وفقهي ، وتربوي ، ووعظي في إطار معرفي مُحكم ، إلاّ أنّه ذو سمة رياضية ، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصّاً مغنياً .
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين :
الأولى : هي في صُلب بنية الخطاب وعلاقاته الداخلية .
والثانية : في خفاء المنهج ، أي في تنظيم فضائه .
المقوّم الأوّل : هو المقوّم النحوي الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرّر الإنساني ، وبعض مظاهر اللانحوية التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة والارتجال ، وخاصّة في الخطاب الشفهي .
إنّ أساس الخطاب في فعالية الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي ، ذلك لأنّ علياً ( عليه السلام ) هو واضع النحو العربي في منطلقه الأوّل .
قال لأبي الأسود الدؤلي حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي : ( اكتُب ما أُملي عليك ) ، ثمّ أملى عليه أصول النحو العربي ، ومنها أنّ كلام العرب يتركّب من اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل ، ثمّ أملى عليه أنّ الأشياء ثلاثة : ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر .
وفي خاتمة التوجيهات قال الإمام علي : ( يا أبا الأسود انحُ هذا النحو ) ، وهكذا أصبح عند العرب علم النحو .
من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب الإمام علي بن أبي طالب ، يُؤمّن القاعدة المادّية لشبكة العلاقات الداخلية للنص ، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص .
ولا شك في أنّ تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص ، وهو محور المعاني والدلالات .
وإذ يستكمل الخطاب ( العَلَوي ) شروطه المادّية اللغوية ، وجماع علاقاته الداخلية ، فإنّه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص ، أي إنّ النص يتوفّر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامّة .
المقوّم الثاني : فهو المقوّم الرياضي الذي يُستدلُّ عليه استدلالاً ، لأنّه لا يعبّر على نحو مباشر ، إلاّ بالنسبة إلى المتلقّي النابه .
إنّ الذهنية الرياضية النشطة ، والمبادِهة لعلي ( عليه السلام ) ، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية ، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار ، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب ، فالاتّساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره ، وفي عظمة منطقه ، وبلاغته .
ومردُّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب ؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية .
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة ، حينما سُئل عن ميّت ترك زوجة وأبوين وابنتين ، فأجاب من فَوره : ( صار ثُمنها تُسعاً ) .
وشكّت ـ مرّةً ـ امرأة أنّ أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يُقسم لها من ميراثه غير دينار واحد ، فقال لها بسرعة : ( لعلّه ترك زوجة وابنتين وأمّاً واثني عشر أخاً وأنتِ ) ؟ وكان الأمر كذلك .
فمعرفته ( عليه السلام ) بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرّف في معضلات المواريث ، لأنّه كان سريع الفطنة إلى طُرقه التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلّها العقول .
وإنّ الدلالة المشتركة للمفردات وللتعبيرات ، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس ، مثقفين وغير مثقفين ، هي توكيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية .
وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها ، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية ولكن أساسية .
والفارق بين الكلام العادي والأسلوب الأدبي ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط ، بل هو فارق في دقة الاختيار على المعاني ، ومن ثمَّ التعبير عنها .
فأُنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات ، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم .
ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع ، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية ، ومن جمالية أسلوبية .
قد انتقد ابن قتيبة في مقدّمة ( أدب الكاتب ) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه فقال : ( رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة ، واستوطأوا مراكب العجز ، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر ، وقلوبهم من تعب الفكر ، حين نالوا الدَرَك بغير سبب ، وبلغوا البُغية بغير آلة ) .
خصوصية النص :
إنّ القيمة الأساسية للنص في خطب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ورسائله ، ماثلة في حضور الإبداع النصّي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويَين : الشفهي والتحريري ، وتلك ميزة نادرة يتفرّد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة .
وهي مزيّة تجعله في المقدّمة من جميع كتّاب النصوص المبرَّزين ، ذلك لأنّ أولئك الكتّاب مثلهم مثل الرسّامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم بعد طول تأمل وتخطيط وممارسة ، وبعد مراجعات نقدية متواترة ، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية على صعيد العمل .
وكان الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بعفويته الثاقبة ، يباشر عمله الإبداعي الفوري ، فيأتي النص المرتجل ، مثل النص المكتوب ، آيةً في الإتقان والروعة .
ومن الثابت أنّ جريان خطب علي ( عليه السلام ) على نحوه الباهر في طوله وقصره ، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع موهوب ، هو السيّد المؤكّد في عالم العقول .
لا يمكن أن تتوفّر تلك الخصوصية لقوّة النص في المخاطبة الارتجالية ، وفي الكتابة لشخص آخر غير علي بن أبي طالب ، الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة ، تتلاقح فيما بينها بجدليةٍ خِصبة .
ورغم أنّ الخطاب عند علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) خطاب سياسي ، وفقهي ، وتربوي ، ووعظي في إطار معرفي مُحكم ، إلاّ أنّه ذو سمة رياضية ، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصّاً مغنياً .
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين :
الأولى : هي في صُلب بنية الخطاب وعلاقاته الداخلية .
والثانية : في خفاء المنهج ، أي في تنظيم فضائه .
المقوّم الأوّل : هو المقوّم النحوي الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرّر الإنساني ، وبعض مظاهر اللانحوية التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة والارتجال ، وخاصّة في الخطاب الشفهي .
إنّ أساس الخطاب في فعالية الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي ، ذلك لأنّ علياً ( عليه السلام ) هو واضع النحو العربي في منطلقه الأوّل .
قال لأبي الأسود الدؤلي حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي : ( اكتُب ما أُملي عليك ) ، ثمّ أملى عليه أصول النحو العربي ، ومنها أنّ كلام العرب يتركّب من اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل ، ثمّ أملى عليه أنّ الأشياء ثلاثة : ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر .
وفي خاتمة التوجيهات قال الإمام علي : ( يا أبا الأسود انحُ هذا النحو ) ، وهكذا أصبح عند العرب علم النحو .
من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب الإمام علي بن أبي طالب ، يُؤمّن القاعدة المادّية لشبكة العلاقات الداخلية للنص ، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص .
ولا شك في أنّ تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص ، وهو محور المعاني والدلالات .
وإذ يستكمل الخطاب ( العَلَوي ) شروطه المادّية اللغوية ، وجماع علاقاته الداخلية ، فإنّه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص ، أي إنّ النص يتوفّر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامّة .
المقوّم الثاني : فهو المقوّم الرياضي الذي يُستدلُّ عليه استدلالاً ، لأنّه لا يعبّر على نحو مباشر ، إلاّ بالنسبة إلى المتلقّي النابه .
إنّ الذهنية الرياضية النشطة ، والمبادِهة لعلي ( عليه السلام ) ، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية ، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار ، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب ، فالاتّساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره ، وفي عظمة منطقه ، وبلاغته .
ومردُّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب ؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية .
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة ، حينما سُئل عن ميّت ترك زوجة وأبوين وابنتين ، فأجاب من فَوره : ( صار ثُمنها تُسعاً ) .
وشكّت ـ مرّةً ـ امرأة أنّ أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يُقسم لها من ميراثه غير دينار واحد ، فقال لها بسرعة : ( لعلّه ترك زوجة وابنتين وأمّاً واثني عشر أخاً وأنتِ ) ؟ وكان الأمر كذلك .
فمعرفته ( عليه السلام ) بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرّف في معضلات المواريث ، لأنّه كان سريع الفطنة إلى طُرقه التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلّها العقول .
وإنّ الدلالة المشتركة للمفردات وللتعبيرات ، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس ، مثقفين وغير مثقفين ، هي توكيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية .
وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها ، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية ولكن أساسية .
والفارق بين الكلام العادي والأسلوب الأدبي ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط ، بل هو فارق في دقة الاختيار على المعاني ، ومن ثمَّ التعبير عنها .
فأُنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات ، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم .
ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع ، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية ، ومن جمالية أسلوبية .
قد انتقد ابن قتيبة في مقدّمة ( أدب الكاتب ) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه فقال : ( رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة ، واستوطأوا مراكب العجز ، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر ، وقلوبهم من تعب الفكر ، حين نالوا الدَرَك بغير سبب ، وبلغوا البُغية بغير آلة ) .