عاشق الامام الكاظم
23-07-2009, 01:57 PM
الصفة الخامسة والسادسة التي وصف الله بهما نبيه(صلى الله عليه و آله) في الآية قوله تعالى: (يأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ). يجوز أن تكون هاتان الصفتان والصفات الثلاث التي بعدهما موصوفا بها في التوراة والإنجيل، فيكون الكلام متصلا بما قبله، ويجوز أن تكون ابتداءً من قول الله تعالى مدحا للنبي(صلى الله عليه و آله) بأنه (يأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ...الخ.
معنى المعروف والمنكر
المعروف: هو اسم جامع لكل عقيدة وفعل وقول يعرف حسنه بالعقل والشرع، وهو توحيد الله وطاعته، ومنها الإحسان إلى خلقه.
والمنكر: ضده. أي هو اسم جامع لكل عقيدة وفعل وقول يعرف قبحه بالعقل والشرع، وهو أنواع: الشرك بالله وعصيانه، ومنه الإساءة إلى خلقه.
فالمعروف صفة شريفة معروفة بالعقل والشرع، وهي الحق. والمنكر صفة رديئة منكرة بالعقل والشرع، وهي الباطل. فلا شئ من المعروف بمنكر، ولا شئ من المنكر بمعروف.
المثل الأعلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مما لا ريب فيه أن جميع الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم واقتدى بهديهم وهداهم من المصلحين قد قاموا بهذا الواجب المقدس تجاه أممهم: آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وهذا سبيلهم ومنهاجهم. وفي طليعتهم المفضل عليهم في ذلك وغير ذلك، هو نبينا محمد(صلى الله عليه و آله) الذي جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من جهات:
من حيث أن دينه هو دين الإسلام – بكتابه وبسنته – هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما يسعه من روح الحياة، لأنه الدين الخالد وشريعته الغراء اشمل واجمع من الشرائع السابقة للأمر بكل أنواع المعروف والنهي عن جميع أنواع المنكر كانا ويكونان حتى قيام الساعة وذلك باعتبار أنها شريعة الأبد.
أن نبينا قد طبق على نفسه المقدسة التحلي التام بكل معروف جاء به عن الله واجبا ومندوبا، عزيمة ورخصة، والتخلي عن كل منكر، محرما أو مكروها وبلغ في ذلك – منذ نشأته الأولى حتى النهاية – الذروة العالية التي فاق بها العالمين والتي استحق من اجلها أن يخاطبه الله العظيم بقوله العظيم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم/ 5] وبقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران/160]. قال شيخنا الطبرسي: "وفي هذه الآية دلالة على تخصيص نبينا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره(صلى الله عليه و آله) انه كان أجمع الناس لدواعي الترفع، ثم كان أدناهم إلى التواضع، وذلك انه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم .. وهذه كلها من دواعي الترفع. ثم كان من تواضعه انه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من غير زأر(1) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#1) ولا كهر ولا زجر. ولقد احسن من مدحه في قوله:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها*** ابر وأوحي ذمة من محمد(2) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#2)
انه(صلى الله عليه و آله) قد قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مع الشفقة والرافة والرحمة- بكل عزيمة وهمة وثبات وصبر ونشاط ومضاء في حين كانت الأرض مليئة من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والسخافات واختلاف الديانات والاتجاهات. وكلها باطلة ومنكرة، فكان قيامه بالدعوة إلى الله ودينه في وجه العالم كله مشمرا عن ساق الجد، حاسرا عن ساعد الاجتهاد، لتهذيب عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الفاسدة، وتكميل عقولهم الناقصة، وتكبير نفوسهم الصغيرة متحملا منهم في سبيل هدايتهم أنواع الأذى حتى قال(صلى الله عليه و آله) في الثابت الصحيح: "ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت به" وبلغ من همته العظيمة أن قال قولا لا يزال يرن صداه في أذان عظماء الرجال وأبطال العالم "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن اترك دعوتي هذه ما تركت"(3) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#3).
إن الجهود العظيمة التي بذلها الرسول الأعظم(صلى الله عليه و آله) في هذا السبيل لا يدانيها أي جهد مهما عد عظيما في أنظار الناس اللهم إلا إذا تذكرنا المواقف الجريئة، والتضحيات الجسيمة، والأعباء الثقيلة التي تحملها أهل بيته، الأئمة المعصومون لإحياء دين الرسول، ونشر أحكامه، وبث فضائله... وهي بحق، قدوة طيبة لكل المؤمنين والمصلحين في هذه الأمة.
فلذلك وغير ذلك وصف الله رسوله بهاتين الصفتين(يأمر هُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ) لظهورهما فيه وفي شريعته الشاملة وقيامه بهما على اكمل وجه.
وينبغي لكل مسلم مؤمن أن يقتدي بنبيه ويتأسى به في هاتين الصفتين، بان يكون آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر قدر استطاعته. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب/ 22]. خصوصاً في هذا الزمان الذي عاد فيه الناس إلى جاهليتهم الأولى ففشى فيهم المنكر بكل أنواعه وقل المعروف بكل أشكاله .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في المجتمع
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرعان مهمان من فروع الدين وركنان أساسيان من أركانه، وهما فريضتان واجبتان بإجماع المسلمين أجمعين. بل هما من أهم الفرائض والواجبات التي تسعد بها الأمم وتبلغ أعلى مرتبة من الرقي والكمال حتى جاء في الحديث عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال :"أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم وتعمر الأرض، وينتصف من الاعداء، ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فان اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى/ 43]، هنالك(4) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#4) فجاهدوا بأيديكم وابغضوا بقلوبكم، غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا، ولا مريدين بالظلم ظفرا (5) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#5) حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته.
(قال): وأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي(عليه السلام) أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم فقال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟ فأوحى الله تعالى إليه: داهنوا أهل المعاصي(6) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#6)، ولم يغضبوا بغضبي"(7) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#7).
وإذا أمعنت النظر وأمعنت التدبير في هذا الحديث الوارد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) رأيت أن عليه مسحة من أنوار النبوة، وعبقة من ارج الرسالة، حديث يؤيد مضامينه العقل والوجدان، ويدل على صدقه الكتاب والسنة الثابتة عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه و آله) الذي قال: "لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر. فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"(8) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#8). وقال(صلى الله عليه و آله): "إذا رأوا الناس منكرا فلم يغيروه عمهم الله بالعقاب"(9) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#9).
ومن تأمل في الأخبار والآثار، واطلع على التواريخ والسير، وقصص الأمم السالفة وما حدث لهم من العقوبات، وضم ذلك إلى التجربة المشاهدة في عصره، من ابتلاء الناس ببعض البلايا السماوية والأرضية، من الطاعون والوباء والقحط والغلاء، وحبس المياه والأمطار، وتسلط الظالمين والأشرار، ووقوع القتل والغارات، وحدوث الصواعق والزلزال، وأمثال ذلك من أنواع الأهوال، يعلم أنها كلها عقوبات مسبوقة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن تركهما يؤدي حتما إلى تفسخ الأخلاق وتكالب الناس بعضهم على بعض، بل هو علة العلل في تدهور الأمم وسقوطها في الدنيا، عدا ما هنالك من عذاب أخروي لتاركي هذه الفريضة المهمة.
ومن هنا قال رسول الله(صلى الله عليه و آله) منذرا أمته: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف: فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك ؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا"(10) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#10).
وفي رواية: " وعند ذلك يبتلى الناس بفتنه، يصير الحليم فيها حيران"(11) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#11).
ويقول أمير المؤمنين في وصيته للحسن والحسين بعد ما ضربه ابن ملجم المرادي بسيفه "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم"(12) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#12). ونظير هذا ما ورد أيضاً عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) انه قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم"(13) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#13) فهل للمؤمن المسلم عذر بعد هذا في التهاون بهذه الفريضة والتقاعس عن القيام بها؟
لا عذر له: بل المؤمن حقا هو الذي يغضب عند انتهاك حرمات الله، ويضحي بما لديه في سبيل إعلاء كلمة الله. وطوبى لنفوس اتعظت بنصائح أهل البيت العصمة فاتخذت منها منارا للعروج إلى حيث الطمأنينة والخلود، والكمال المنشود.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان كفائيان
ولكي نكون على بصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بهذا الواجب المقدس، نذكر بعض أحكامه وشرائطه فنقول:
أن وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يختص بصنف من الناس دون صنف آخر(14) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#14). بل كما يجب على العلماء مثلا عند اجتماع الشرائط التي سنذكرها، كذلك يجب على سائر الناس، وكما يجب على العادل الورع، كذلك يجب حتى على الفاسق العاصي، وهكذا يجب على الراعي والرعية، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء … كل بحسبه.
قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): »كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته«(15) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#15). نعم وجوبه على هذه الطبقات إنما هو على نحو الوجوب الكفائي بمعنى: أن قام به من تحصل الكفاية بهم سقط الوجوب عن الآخرين وان لم يقم به واحد آثم الجميع واستحقوا العقاب. وإذا رأى جماعة منكرا من شخص وقام بالإنكار أحدهم، فإن كان بإنكاره كفاية في الارتداع عن المنكر فبها ونعمت، وإذا ظن الآخر أن لمشاركته آثرا في الارتداع عن المنكر وتأييد وانتصارا للسابق بالإنكار وجب عليه أيضاً لان الغرض إيقاع المعروف وارتفاع المنكر، من شخص كان أو من شخصين أو من أشخاص.
هذا والواجب إنما هو الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر المحرم، وأما الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه فمستحب، ويكون القائم به مستحقا للثواب، وإذا تركه لم يكن عليه آثم وعقاب .
شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور:
معرفة المعروف والمنكر، تفصيلا أو إجمالاً، ليأمن من الغلط ن ولئلا يأمر بمنكر وينهي عن معروف من حيث لا يدري، كما هو شان بعض عوام الناس، تراهم ربما يأمر ون بأشياء بل يحثون عليها وهي بالحقيقة منكرة ومحرمة، أو لا ينبغي الإتيان بها، وبالعكس ربما ينهون عن أشياء، بل يشددون النكير عليها وهي في الحقيقة غير منكرة لا يمنعها العقل، والشرع يقرها ويبيحها أو يأمر بها ويوجبها، ولكنهم في آرائهم انهم أمروا بمعروف ونهوا عن منكر… والحال أن الدين لا يؤخذ بالرأي، بل أما بالاجتهاد والدليل، أو بالتقليد للمجتهد الجامع للشرائط والمبين للأحكام.
فالآمر أو الناهي يشترط أن يكون عارفا على بصيرة بما يأمر به أو ينهي عنه، وان لم تكن له الإحاطة بكل أنواع المعروف والمنكر، لكنه حينما يأمر بشيء، يجب أن يعلم انه معروف وحينما ينكر شيئا يجب أن يعلم انه منكر، وإلا فإن ضرره بأوامره ونواهيه سيكون اكثر من نفعه. قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف/109].
احتمال تأثير الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر في الشخص المأمور بالمعروف أو المنهي عن المنكر. فإذا لم يحتمل ذلك، بان علم أن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر والنهي ولا يكترث بهما، ولا يتقبل نصح الناصح له، فانه يسقط الوجوب عن الأمر أو الناهي حينئذ لعدم تقبل المأمور للأمر والنهي واستفادته بهما.
نعم، يجوز للآمر من باب إلقاء الحجة على المأمور، ومن باب الدعوة إلى الدين أن يأمره وينهاه ويعّرفه فائدة المعروف الذي تركه وأضرار المنكر الذي عمله من طريق الرفق واللين وإظهار الشفقة، والمحبة، وله على ذلك الأجر العظيم، ولكنه لا يجب عليه ولا يعاقب على تركه، على ما هو المشهور بين الفقهاء.
وفي هؤلاء الذين لا يتقبلون الأوامر والنواهي يقول عز من قائل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أولئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء/61-64].
أن يكون المأمور والمنهي مصرا على ترك المعروف وارتكاب المنكر. فحينئذ يجب أمره ونهيه على ما فعل وأصر عليه، أما إذا كانت هناك أمارة على إقلاعه وعدم إصراره على ترك المعروف وارتكاب المنكر لظهور آثار الندم عليه مثلاً، أو الانصراف عما خالف به فانه لا يجب. لان الإنسان في الحياة معرض للأخطاء، تصدر عنه الزلات وتظهر منه العثرات، لأن الكمال لله وحده، والعصمة للأصفياء من عباده وحدهم لا يشاركهم فيها مشارك، ولا ينازعهم فيها منازع. أما الباقون من الناس فهم يذنبون ويسيئون ويخطئون، وخيرهم اقلهم زللا وأهونهم خطا وخطلاً، وأولئك النبلاء الذين تعّد هفواتهم، وتحصر زلاتهم، كما قال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها*** كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه
فإذا صدر منكر من إنسان مؤمن واظهر الندم على ذلك أو اعتذر إلى من أساء إليه واعتدى عليه، فينبغي للإنسان الآخر أن يقبل عذره ويعفو عنه، ويعفو عنه، لا أن يبقى مؤنبا له ساخطا عليه، يحاول الانتقام منه، كما هو شأن الكثير من الناس ،وقد قيل ما من مسيء من اعتذر والمثل المشهور يقول: (والعذر عند كرام الناس مقبول).
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): »اقبل عذر أخيك، وان لم يكن له عذر فالتمس له عذراً«(16) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#16) وقال الشاعر:
إذا اعتذر الصديق إليك يوما*** من التقصير عذر أخ مقر
فصُنه عن جفائك وأعف عنه*** فان الصفح شيمة كل حّر
بل حتى لو علمت بكذب من يعتذر إليك، فالأولى لك أن تقبل عذره إبقاء للمودة، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): »لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وان علمت انه كاذب«(17) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#17) بل قال رسول الله(صلى الله عليه و آله) في وصيته لعلي(عليه السلام): »يا علي من لم يقبل العذر من متنصل صادقا كان أو كاذبا لم ينل شفاعتي«(18) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#18).
وروي أن موسى بن جعفر الكاظم? احضر ولده يوماً فقال لهم: »يا بني أني موصيكم بوصية، من حفظها انتفع بها: إذا أتاكم آت فاسمع أحدكم في الأذن اليمنى مكروها ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم اقل شيئاً، فاقبلوا عذره«(19) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#19).
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت/35-36].
أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس أو العرض أو المال على الأمر أو على غيره من المسلمين. أما إذا لزم الضرر عليه أو على غيره من المسلمين لم يجب، إذ لا ضرر ولا ضرار في الدين، ولقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة/ 196].
نعم، إلا إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب الجهاد والدفاع بالسيف للكافرين والباغين والمبتدعين، وهذا مشروط بإذن الإمام ونائبه المطاع الجامع للشرائط. وهو أعلى درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): »من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد اجر وهو افضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين«(20) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#20).
لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمن لا يتقيد بهما
هذه شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يجب عند توفرها القيام به، وإلا فلا يجب وهي كما تراها شرائط منطقية يؤيدها العقل ويدل عليها كل من الكتاب والسنة النبوية وأقوال أهل بيت العصمة(عليهم السلام).
أما ما يقال على أفواه بعض الناس، بل وما وجدناه في بعض الكتب أيضاً من أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر يشترط أن يكون مؤتمرا بما يؤمر به من المعروف ومنتهيا عما ينهى عنه من المنكر وإلا يسقط عنه الأمر والنهي، فهو غير صحيح. وذلك لإطلاق الأدلة وعدم تقييدها بهذا الشرط، ولأن الواجب على فاعل المنكر المشاهد فعله غيره أمران: تركه المنكر في نفسه، وإنكاره المنكر على الغير. ومعلوم انه لا يسقط – بترك أحد الواجبين – الواجب الآخر، وإذا تركهما معا كان معرضا نفسه للعقابين: ارتكابه المنكر بنفسه، وتركه النهي عنه .
ثم لو اشترط هذا الشرط المزعوم لاقتضى عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كثير من الناس لعدم توفر هذا الشرط فيهم، وهو معلوم البطلان.
توبيخ من لا يأتمر بما يأمر به، ولا ينتهي عما ينهي عنه
فان قيل: إذا ما معنى الإنكار والتوبيخ من الله سبحانه بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة/ 45].
قلنا: لم يوبخهم الله وينكر عليهم أمرهم بالبر وقولهم به، وإنما وبخهم وأنكر عليهم نسيانهم أنفسهم من البر، مع انهم يأمرون به ويعرفونه لأنهم يتلون الكتاب، لذلك استحقوا هذا التوبيخ، حيث أن ترك البر الواجب ممن يأمر به ويعرفه اقبح ممن لا يأمر به ولا يعرفه أو يجهل حسنه ودليله، وهذا واضح عند كل عاقل، لذا قال تعالى في ذيل الآية مخاطبا لهم: (أفلا تعقلون).
وعلى هذا يحمل كل ما ورد في هذا الباب من التوبيخ و الإنكار في الكتاب والسنة بآيات عديدة، وأحاديث كثيرة… أما الآيات فمنها قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف/ 2-4].
فالله تعالى ينكر بهاتين الآيتين على هؤلاء، الإنكار الشديد، ويمقتهم المقت الكبير لمخالفة أفعالهم أقوالهم، ذلك لأن الله يريد من المؤمن أن يكون صادقا مستقيما على طريق الحق وان يكون باطنه كظاهره وأن يطابق فعله قوله، وإلا يكون منافقا غي مؤمن إيماناً صادقاً حقيقياً.
فإنكاره ومقته لهم من حيث نفاقهم وعدم فعلهم المعروف لا من حيث قولهم به.
وهكذا قوله تعالى منددا بالمنافقين، مخاطبا رسول(صلى الله عليه و آله) يُعلمه بمخالفة أفعالهم لأقوالهم: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء/ 82].
ينبئ الله تعالى رسوله(صلى الله عليه و آله) بهذه الآية أن المنافقين يظهرون منتهى الطاعة لك، بحيث يخلص جوابهم كله للنبي بكلمة (طاعة) كأن لم يقولوا سواها لشدة تظاهرهم بمدلولها، ولكنهم إذا خرجوا من مجلسه(صلى الله عليه و آله) راح جماعة منهم يبيتون، أي انهم يدبرون في خفية كالذي يدبر في ظلام الليل، راحوا يبيتون غير الذي قال لهم، وغير ما اظهروا من الطاعة، وبينما هم في تبييتهم يظنون انهم في خفية، إذا النص القرآني يفاجئهم بأن الله رقيب عليهم يكتب ما يبيتون في الظلام.
ومنها قوله تعالى : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة/ 206]. وهذا هو المنافق الذي يتحدث فيصور لك نفسه انه خلاصة من الخير والإخلاص، شديد الرغبة في إفاضة البر والسعادة على الناس، لذا يعجبك حديثه عن الخير البر والصلاح، وتعجبك ذلاقة لسانه وتعجبك نبرة صوته (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أي يستشهد الله ويحلف به أن أقواله موافقة لما في قلبه (وَهُوَ) في الحقيقة (أَلَدُّ الْخِصَامِ) أي اشد الخصوم خصومة، فهو الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره، وهو الذي يتقن الكذب والتمويه، ويتفنن في التأثير والخداع ليكسب رضا الأكثرية من الناس.
وقد قال(صلى الله عليه و آله): »آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا أؤتمن خان«(21) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#21). وعن هؤلاء وأمثالهم حّدث النبي(صلى الله عليه و آله) واخبر عنهم في حديث الإسراء(22) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#22) حيث قال(صلى الله عليه و آله): »رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار وكلما قرضت وفت، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا (أو قال: خطباء من أمتك) تقرض شفاههم لأنهم يقولون ما لا يفعلون، أو قال: لأنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم«.
فكل هذا التوبيخ والإنكار، والوعيد بعذاب النار في حديث الإسراء، إنما استحقه هؤلاء، لأنهم لا يأتمرون بما يأمرون به من المعروف، ولا ينتهون عما ينهون عنه من المنكر... فهم منافقون، و (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء/ 146-147].
ولقد أجاد الشاعر أبو الأسود الدئلي حيث يقول:
وإذا جريت مع السفيه كما جرى*** فكلاكما في جريه مذموم
وإذا عتبت على السفيه ولمته*** في مثل ما تأتي فأنت ملوم
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله*** عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها*** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى*** بالعلم منك وينفع التعليم
تصف الدواء وأنت أولى بالدوا*** وتعالج المرضى وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا*** أبدا وآنت من الرشاد عديم
قال بعض الأكابر قدس سره: "إن من اعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها و أتقنها وأشدها، خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهة، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة. فان ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف ونزعهم المنكر، خصوصا إذا اكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والرهبة. فإن لكل مقام مقال، ولكل داء دواء، وطب النفوس والعقول اشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة... وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(23) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#23).
معنى المعروف والمنكر
المعروف: هو اسم جامع لكل عقيدة وفعل وقول يعرف حسنه بالعقل والشرع، وهو توحيد الله وطاعته، ومنها الإحسان إلى خلقه.
والمنكر: ضده. أي هو اسم جامع لكل عقيدة وفعل وقول يعرف قبحه بالعقل والشرع، وهو أنواع: الشرك بالله وعصيانه، ومنه الإساءة إلى خلقه.
فالمعروف صفة شريفة معروفة بالعقل والشرع، وهي الحق. والمنكر صفة رديئة منكرة بالعقل والشرع، وهي الباطل. فلا شئ من المعروف بمنكر، ولا شئ من المنكر بمعروف.
المثل الأعلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مما لا ريب فيه أن جميع الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم واقتدى بهديهم وهداهم من المصلحين قد قاموا بهذا الواجب المقدس تجاه أممهم: آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وهذا سبيلهم ومنهاجهم. وفي طليعتهم المفضل عليهم في ذلك وغير ذلك، هو نبينا محمد(صلى الله عليه و آله) الذي جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من جهات:
من حيث أن دينه هو دين الإسلام – بكتابه وبسنته – هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما يسعه من روح الحياة، لأنه الدين الخالد وشريعته الغراء اشمل واجمع من الشرائع السابقة للأمر بكل أنواع المعروف والنهي عن جميع أنواع المنكر كانا ويكونان حتى قيام الساعة وذلك باعتبار أنها شريعة الأبد.
أن نبينا قد طبق على نفسه المقدسة التحلي التام بكل معروف جاء به عن الله واجبا ومندوبا، عزيمة ورخصة، والتخلي عن كل منكر، محرما أو مكروها وبلغ في ذلك – منذ نشأته الأولى حتى النهاية – الذروة العالية التي فاق بها العالمين والتي استحق من اجلها أن يخاطبه الله العظيم بقوله العظيم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم/ 5] وبقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران/160]. قال شيخنا الطبرسي: "وفي هذه الآية دلالة على تخصيص نبينا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره(صلى الله عليه و آله) انه كان أجمع الناس لدواعي الترفع، ثم كان أدناهم إلى التواضع، وذلك انه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا، وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم .. وهذه كلها من دواعي الترفع. ثم كان من تواضعه انه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من غير زأر(1) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#1) ولا كهر ولا زجر. ولقد احسن من مدحه في قوله:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها*** ابر وأوحي ذمة من محمد(2) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#2)
انه(صلى الله عليه و آله) قد قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مع الشفقة والرافة والرحمة- بكل عزيمة وهمة وثبات وصبر ونشاط ومضاء في حين كانت الأرض مليئة من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والسخافات واختلاف الديانات والاتجاهات. وكلها باطلة ومنكرة، فكان قيامه بالدعوة إلى الله ودينه في وجه العالم كله مشمرا عن ساق الجد، حاسرا عن ساعد الاجتهاد، لتهذيب عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الفاسدة، وتكميل عقولهم الناقصة، وتكبير نفوسهم الصغيرة متحملا منهم في سبيل هدايتهم أنواع الأذى حتى قال(صلى الله عليه و آله) في الثابت الصحيح: "ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت به" وبلغ من همته العظيمة أن قال قولا لا يزال يرن صداه في أذان عظماء الرجال وأبطال العالم "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن اترك دعوتي هذه ما تركت"(3) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#3).
إن الجهود العظيمة التي بذلها الرسول الأعظم(صلى الله عليه و آله) في هذا السبيل لا يدانيها أي جهد مهما عد عظيما في أنظار الناس اللهم إلا إذا تذكرنا المواقف الجريئة، والتضحيات الجسيمة، والأعباء الثقيلة التي تحملها أهل بيته، الأئمة المعصومون لإحياء دين الرسول، ونشر أحكامه، وبث فضائله... وهي بحق، قدوة طيبة لكل المؤمنين والمصلحين في هذه الأمة.
فلذلك وغير ذلك وصف الله رسوله بهاتين الصفتين(يأمر هُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ) لظهورهما فيه وفي شريعته الشاملة وقيامه بهما على اكمل وجه.
وينبغي لكل مسلم مؤمن أن يقتدي بنبيه ويتأسى به في هاتين الصفتين، بان يكون آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر قدر استطاعته. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب/ 22]. خصوصاً في هذا الزمان الذي عاد فيه الناس إلى جاهليتهم الأولى ففشى فيهم المنكر بكل أنواعه وقل المعروف بكل أشكاله .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في المجتمع
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرعان مهمان من فروع الدين وركنان أساسيان من أركانه، وهما فريضتان واجبتان بإجماع المسلمين أجمعين. بل هما من أهم الفرائض والواجبات التي تسعد بها الأمم وتبلغ أعلى مرتبة من الرقي والكمال حتى جاء في الحديث عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال :"أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم وتعمر الأرض، وينتصف من الاعداء، ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فان اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى/ 43]، هنالك(4) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#4) فجاهدوا بأيديكم وابغضوا بقلوبكم، غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا، ولا مريدين بالظلم ظفرا (5) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#5) حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته.
(قال): وأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي(عليه السلام) أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم فقال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟ فأوحى الله تعالى إليه: داهنوا أهل المعاصي(6) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#6)، ولم يغضبوا بغضبي"(7) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#7).
وإذا أمعنت النظر وأمعنت التدبير في هذا الحديث الوارد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) رأيت أن عليه مسحة من أنوار النبوة، وعبقة من ارج الرسالة، حديث يؤيد مضامينه العقل والوجدان، ويدل على صدقه الكتاب والسنة الثابتة عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه و آله) الذي قال: "لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر. فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"(8) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#8). وقال(صلى الله عليه و آله): "إذا رأوا الناس منكرا فلم يغيروه عمهم الله بالعقاب"(9) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#9).
ومن تأمل في الأخبار والآثار، واطلع على التواريخ والسير، وقصص الأمم السالفة وما حدث لهم من العقوبات، وضم ذلك إلى التجربة المشاهدة في عصره، من ابتلاء الناس ببعض البلايا السماوية والأرضية، من الطاعون والوباء والقحط والغلاء، وحبس المياه والأمطار، وتسلط الظالمين والأشرار، ووقوع القتل والغارات، وحدوث الصواعق والزلزال، وأمثال ذلك من أنواع الأهوال، يعلم أنها كلها عقوبات مسبوقة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن تركهما يؤدي حتما إلى تفسخ الأخلاق وتكالب الناس بعضهم على بعض، بل هو علة العلل في تدهور الأمم وسقوطها في الدنيا، عدا ما هنالك من عذاب أخروي لتاركي هذه الفريضة المهمة.
ومن هنا قال رسول الله(صلى الله عليه و آله) منذرا أمته: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف: فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك ؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا"(10) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#10).
وفي رواية: " وعند ذلك يبتلى الناس بفتنه، يصير الحليم فيها حيران"(11) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#11).
ويقول أمير المؤمنين في وصيته للحسن والحسين بعد ما ضربه ابن ملجم المرادي بسيفه "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم"(12) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#12). ونظير هذا ما ورد أيضاً عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) انه قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم"(13) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#13) فهل للمؤمن المسلم عذر بعد هذا في التهاون بهذه الفريضة والتقاعس عن القيام بها؟
لا عذر له: بل المؤمن حقا هو الذي يغضب عند انتهاك حرمات الله، ويضحي بما لديه في سبيل إعلاء كلمة الله. وطوبى لنفوس اتعظت بنصائح أهل البيت العصمة فاتخذت منها منارا للعروج إلى حيث الطمأنينة والخلود، والكمال المنشود.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان كفائيان
ولكي نكون على بصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بهذا الواجب المقدس، نذكر بعض أحكامه وشرائطه فنقول:
أن وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يختص بصنف من الناس دون صنف آخر(14) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#14). بل كما يجب على العلماء مثلا عند اجتماع الشرائط التي سنذكرها، كذلك يجب على سائر الناس، وكما يجب على العادل الورع، كذلك يجب حتى على الفاسق العاصي، وهكذا يجب على الراعي والرعية، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء … كل بحسبه.
قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): »كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته«(15) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#15). نعم وجوبه على هذه الطبقات إنما هو على نحو الوجوب الكفائي بمعنى: أن قام به من تحصل الكفاية بهم سقط الوجوب عن الآخرين وان لم يقم به واحد آثم الجميع واستحقوا العقاب. وإذا رأى جماعة منكرا من شخص وقام بالإنكار أحدهم، فإن كان بإنكاره كفاية في الارتداع عن المنكر فبها ونعمت، وإذا ظن الآخر أن لمشاركته آثرا في الارتداع عن المنكر وتأييد وانتصارا للسابق بالإنكار وجب عليه أيضاً لان الغرض إيقاع المعروف وارتفاع المنكر، من شخص كان أو من شخصين أو من أشخاص.
هذا والواجب إنما هو الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر المحرم، وأما الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه فمستحب، ويكون القائم به مستحقا للثواب، وإذا تركه لم يكن عليه آثم وعقاب .
شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور:
معرفة المعروف والمنكر، تفصيلا أو إجمالاً، ليأمن من الغلط ن ولئلا يأمر بمنكر وينهي عن معروف من حيث لا يدري، كما هو شان بعض عوام الناس، تراهم ربما يأمر ون بأشياء بل يحثون عليها وهي بالحقيقة منكرة ومحرمة، أو لا ينبغي الإتيان بها، وبالعكس ربما ينهون عن أشياء، بل يشددون النكير عليها وهي في الحقيقة غير منكرة لا يمنعها العقل، والشرع يقرها ويبيحها أو يأمر بها ويوجبها، ولكنهم في آرائهم انهم أمروا بمعروف ونهوا عن منكر… والحال أن الدين لا يؤخذ بالرأي، بل أما بالاجتهاد والدليل، أو بالتقليد للمجتهد الجامع للشرائط والمبين للأحكام.
فالآمر أو الناهي يشترط أن يكون عارفا على بصيرة بما يأمر به أو ينهي عنه، وان لم تكن له الإحاطة بكل أنواع المعروف والمنكر، لكنه حينما يأمر بشيء، يجب أن يعلم انه معروف وحينما ينكر شيئا يجب أن يعلم انه منكر، وإلا فإن ضرره بأوامره ونواهيه سيكون اكثر من نفعه. قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف/109].
احتمال تأثير الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر في الشخص المأمور بالمعروف أو المنهي عن المنكر. فإذا لم يحتمل ذلك، بان علم أن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر والنهي ولا يكترث بهما، ولا يتقبل نصح الناصح له، فانه يسقط الوجوب عن الأمر أو الناهي حينئذ لعدم تقبل المأمور للأمر والنهي واستفادته بهما.
نعم، يجوز للآمر من باب إلقاء الحجة على المأمور، ومن باب الدعوة إلى الدين أن يأمره وينهاه ويعّرفه فائدة المعروف الذي تركه وأضرار المنكر الذي عمله من طريق الرفق واللين وإظهار الشفقة، والمحبة، وله على ذلك الأجر العظيم، ولكنه لا يجب عليه ولا يعاقب على تركه، على ما هو المشهور بين الفقهاء.
وفي هؤلاء الذين لا يتقبلون الأوامر والنواهي يقول عز من قائل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أولئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء/61-64].
أن يكون المأمور والمنهي مصرا على ترك المعروف وارتكاب المنكر. فحينئذ يجب أمره ونهيه على ما فعل وأصر عليه، أما إذا كانت هناك أمارة على إقلاعه وعدم إصراره على ترك المعروف وارتكاب المنكر لظهور آثار الندم عليه مثلاً، أو الانصراف عما خالف به فانه لا يجب. لان الإنسان في الحياة معرض للأخطاء، تصدر عنه الزلات وتظهر منه العثرات، لأن الكمال لله وحده، والعصمة للأصفياء من عباده وحدهم لا يشاركهم فيها مشارك، ولا ينازعهم فيها منازع. أما الباقون من الناس فهم يذنبون ويسيئون ويخطئون، وخيرهم اقلهم زللا وأهونهم خطا وخطلاً، وأولئك النبلاء الذين تعّد هفواتهم، وتحصر زلاتهم، كما قال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها*** كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه
فإذا صدر منكر من إنسان مؤمن واظهر الندم على ذلك أو اعتذر إلى من أساء إليه واعتدى عليه، فينبغي للإنسان الآخر أن يقبل عذره ويعفو عنه، ويعفو عنه، لا أن يبقى مؤنبا له ساخطا عليه، يحاول الانتقام منه، كما هو شأن الكثير من الناس ،وقد قيل ما من مسيء من اعتذر والمثل المشهور يقول: (والعذر عند كرام الناس مقبول).
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): »اقبل عذر أخيك، وان لم يكن له عذر فالتمس له عذراً«(16) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#16) وقال الشاعر:
إذا اعتذر الصديق إليك يوما*** من التقصير عذر أخ مقر
فصُنه عن جفائك وأعف عنه*** فان الصفح شيمة كل حّر
بل حتى لو علمت بكذب من يعتذر إليك، فالأولى لك أن تقبل عذره إبقاء للمودة، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): »لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وان علمت انه كاذب«(17) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#17) بل قال رسول الله(صلى الله عليه و آله) في وصيته لعلي(عليه السلام): »يا علي من لم يقبل العذر من متنصل صادقا كان أو كاذبا لم ينل شفاعتي«(18) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#18).
وروي أن موسى بن جعفر الكاظم? احضر ولده يوماً فقال لهم: »يا بني أني موصيكم بوصية، من حفظها انتفع بها: إذا أتاكم آت فاسمع أحدكم في الأذن اليمنى مكروها ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم اقل شيئاً، فاقبلوا عذره«(19) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#19).
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت/35-36].
أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس أو العرض أو المال على الأمر أو على غيره من المسلمين. أما إذا لزم الضرر عليه أو على غيره من المسلمين لم يجب، إذ لا ضرر ولا ضرار في الدين، ولقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة/ 196].
نعم، إلا إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب الجهاد والدفاع بالسيف للكافرين والباغين والمبتدعين، وهذا مشروط بإذن الإمام ونائبه المطاع الجامع للشرائط. وهو أعلى درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): »من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد اجر وهو افضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين«(20) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#20).
لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمن لا يتقيد بهما
هذه شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يجب عند توفرها القيام به، وإلا فلا يجب وهي كما تراها شرائط منطقية يؤيدها العقل ويدل عليها كل من الكتاب والسنة النبوية وأقوال أهل بيت العصمة(عليهم السلام).
أما ما يقال على أفواه بعض الناس، بل وما وجدناه في بعض الكتب أيضاً من أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر يشترط أن يكون مؤتمرا بما يؤمر به من المعروف ومنتهيا عما ينهى عنه من المنكر وإلا يسقط عنه الأمر والنهي، فهو غير صحيح. وذلك لإطلاق الأدلة وعدم تقييدها بهذا الشرط، ولأن الواجب على فاعل المنكر المشاهد فعله غيره أمران: تركه المنكر في نفسه، وإنكاره المنكر على الغير. ومعلوم انه لا يسقط – بترك أحد الواجبين – الواجب الآخر، وإذا تركهما معا كان معرضا نفسه للعقابين: ارتكابه المنكر بنفسه، وتركه النهي عنه .
ثم لو اشترط هذا الشرط المزعوم لاقتضى عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كثير من الناس لعدم توفر هذا الشرط فيهم، وهو معلوم البطلان.
توبيخ من لا يأتمر بما يأمر به، ولا ينتهي عما ينهي عنه
فان قيل: إذا ما معنى الإنكار والتوبيخ من الله سبحانه بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة/ 45].
قلنا: لم يوبخهم الله وينكر عليهم أمرهم بالبر وقولهم به، وإنما وبخهم وأنكر عليهم نسيانهم أنفسهم من البر، مع انهم يأمرون به ويعرفونه لأنهم يتلون الكتاب، لذلك استحقوا هذا التوبيخ، حيث أن ترك البر الواجب ممن يأمر به ويعرفه اقبح ممن لا يأمر به ولا يعرفه أو يجهل حسنه ودليله، وهذا واضح عند كل عاقل، لذا قال تعالى في ذيل الآية مخاطبا لهم: (أفلا تعقلون).
وعلى هذا يحمل كل ما ورد في هذا الباب من التوبيخ و الإنكار في الكتاب والسنة بآيات عديدة، وأحاديث كثيرة… أما الآيات فمنها قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف/ 2-4].
فالله تعالى ينكر بهاتين الآيتين على هؤلاء، الإنكار الشديد، ويمقتهم المقت الكبير لمخالفة أفعالهم أقوالهم، ذلك لأن الله يريد من المؤمن أن يكون صادقا مستقيما على طريق الحق وان يكون باطنه كظاهره وأن يطابق فعله قوله، وإلا يكون منافقا غي مؤمن إيماناً صادقاً حقيقياً.
فإنكاره ومقته لهم من حيث نفاقهم وعدم فعلهم المعروف لا من حيث قولهم به.
وهكذا قوله تعالى منددا بالمنافقين، مخاطبا رسول(صلى الله عليه و آله) يُعلمه بمخالفة أفعالهم لأقوالهم: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء/ 82].
ينبئ الله تعالى رسوله(صلى الله عليه و آله) بهذه الآية أن المنافقين يظهرون منتهى الطاعة لك، بحيث يخلص جوابهم كله للنبي بكلمة (طاعة) كأن لم يقولوا سواها لشدة تظاهرهم بمدلولها، ولكنهم إذا خرجوا من مجلسه(صلى الله عليه و آله) راح جماعة منهم يبيتون، أي انهم يدبرون في خفية كالذي يدبر في ظلام الليل، راحوا يبيتون غير الذي قال لهم، وغير ما اظهروا من الطاعة، وبينما هم في تبييتهم يظنون انهم في خفية، إذا النص القرآني يفاجئهم بأن الله رقيب عليهم يكتب ما يبيتون في الظلام.
ومنها قوله تعالى : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة/ 206]. وهذا هو المنافق الذي يتحدث فيصور لك نفسه انه خلاصة من الخير والإخلاص، شديد الرغبة في إفاضة البر والسعادة على الناس، لذا يعجبك حديثه عن الخير البر والصلاح، وتعجبك ذلاقة لسانه وتعجبك نبرة صوته (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أي يستشهد الله ويحلف به أن أقواله موافقة لما في قلبه (وَهُوَ) في الحقيقة (أَلَدُّ الْخِصَامِ) أي اشد الخصوم خصومة، فهو الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره، وهو الذي يتقن الكذب والتمويه، ويتفنن في التأثير والخداع ليكسب رضا الأكثرية من الناس.
وقد قال(صلى الله عليه و آله): »آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا أؤتمن خان«(21) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#21). وعن هؤلاء وأمثالهم حّدث النبي(صلى الله عليه و آله) واخبر عنهم في حديث الإسراء(22) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#22) حيث قال(صلى الله عليه و آله): »رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار وكلما قرضت وفت، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا (أو قال: خطباء من أمتك) تقرض شفاههم لأنهم يقولون ما لا يفعلون، أو قال: لأنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم«.
فكل هذا التوبيخ والإنكار، والوعيد بعذاب النار في حديث الإسراء، إنما استحقه هؤلاء، لأنهم لا يأتمرون بما يأمرون به من المعروف، ولا ينتهون عما ينهون عنه من المنكر... فهم منافقون، و (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء/ 146-147].
ولقد أجاد الشاعر أبو الأسود الدئلي حيث يقول:
وإذا جريت مع السفيه كما جرى*** فكلاكما في جريه مذموم
وإذا عتبت على السفيه ولمته*** في مثل ما تأتي فأنت ملوم
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله*** عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها*** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى*** بالعلم منك وينفع التعليم
تصف الدواء وأنت أولى بالدوا*** وتعالج المرضى وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا*** أبدا وآنت من الرشاد عديم
قال بعض الأكابر قدس سره: "إن من اعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها و أتقنها وأشدها، خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهة، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة. فان ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف ونزعهم المنكر، خصوصا إذا اكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والرهبة. فإن لكل مقام مقال، ولكل داء دواء، وطب النفوس والعقول اشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة... وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(23) (http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/aqaed/qapsmnabi/14masom/01/mktba1/book10/part4.htm#23).